انعكاسات جائحة كورونا على "القيمي" الجمعي والسياسي في مصر


فئة :  مقالات

انعكاسات جائحة كورونا على "القيمي" الجمعي والسياسي في مصر

انعكاسات جائحة كورونا على "القيمي" الجمعي والسياسي في مصر

د. عاصم طلعت[1]

شكل "وباء كورونا" حراكا فكريا بين النخب نتاج ما أردفه من تغيرات كبيرة في بنية التوجهات الأيديولوجية للمجتمعات كأحد المسارات الباحثة عن حلول رادعة لمواجهة الأزمة، والتي تنازعت ما بين السعي صوب الحلول المبتكرة التي تنوعت ما بين الاقتصادية لتخفيف تداعيات الأزمة عن كاهل معايش المواطنين، وسياسية لعبت على توطيد العلاقات الدولية لتعزيز الاستفادة من خبرات الآخر، وعلمية سعت إلى التنقيب عن إيجاد فرجة وقائية أو إشفائية من الفيروس، ومنها ما لجأت إليه بعض الدول، وخاصة النامية الممثلة في العودة إلى الإرث "القيمي" والعقدي كبديل لرفع البلاء الإلهي الممثل في الأزمة، وفي الأخير حاولت الدراسة رصد المظاهر الاجتماعية المؤكدة على هذا التوجه - الإرث القيمي - وفق منهج وصفي تحليلي يعلل التجاء بعض الدول إليه بديلا لمواجهة "جائحة كورونا" عبر روافد المعطيات الفكرية، العقدية، والإعلامية المتعاطية مع الجائحة.

تحديد الاصطلاح القيمي:

حرص الباحث - في مستهل الدراسة - على وضع إطار عام يحكم اتساع مفهوم "القيم" المنشودة، والمعنية في المقام الأول بالثقافة الأصلية التي تراكمت عبر الأجيال والقرون، وباتت سمة من سمات مكونها الأيكولوجي، ويخص الباحث بالذكر "القيم" الأصلية في المجتمع المصري، والتي باتت معبرة عن ثقافة تراكمية ساهم في بلورتها الإرث الديني، والاجتماعي الشعبي، والسياسي الوطني، ومن ثم بات مفهوم "القيم" في الدراسة محدد المعالم وواضح المقاصد.

الأزمات قد تكون انفراجة أيديولوجية لبعض المجتمعات:

تتطلع الدراسة إلى رصد الملامح السيكولوجية (الاجتماعية) التي ظهرت في المجتمعات النامية، ولاسيما مصر خلال فترات الأوبئة من واقع الخبرات التاريخية السابقة، والتي كانت مبعثا لتفهم العديد من الظواهر الاجتماعية التي عبرت عن ملابسات ظرفية كشفت عن علاقة الإرث "القيمي" بالتوجهات المؤسساتية الحكومية، وهذا ما دفع العديد من الباحثين للنظر إلى "جائحة كورونا" على أنها من الأزمات المبشرة بالانفراجة التي تنفع المجتمعات، إذا ما استفادت من تجربتها مع هذا الوباء. لهذا أطلق عليها علماء المستقبليات وإدارة الأزمات "القنديل الأسود Blak Gellyfish"؛ فبحسب تعريف "جون سويني" الذي أورده "ضياء الدين سردار" في كتابه "التوقع بالأزمات ما بعد العادية" للظواهر المصنفة تحت إطار "القناديل السوداء"، فإنها تكون ظواهر محتملة غير معروفة المعالم، حيث لا تعرف تفاصيل وقوع هذه الظواهر ومدى تأثيرها ؛ ومن ثم تضطرب - عادة - طرق وخطط الاستجابة لها، على الرغم من إدراجها في بعض خطط الطوارئ المؤسسية أو القومية التي لا تقوم فقط سوى بتحديد الأطر العامة للتعامل معها، الأمر الذي فرض على المجتمعات التعامل مع أمثال تلك الأزمات / الكوارث الطارئة وفق مقتضى "القيمي" الموروث؛ إذ إن المرجعيات العلمية تقف غير مجدية في التعامل معها، الأمر الذي فض علة الإعلاء من "القيمي" قِبل بعض المجتمعات النامية في تعاملها مع الأزمات بعامة و"جائحة كورونا" من خلال الاعتماد على الذات في رأب صدع مثل هذه الأزمات([2])

و بالرجوع إلى رأي "ستيوارت هو" الذي يفحص أثر العولمة في الهويات الثقافية، ويصل في أبحاثه إلى إثبات أن الاتجاهات الفكرية والأيديولوجية العالمية حين تنتشر وتسود، تتعرض إلى رفض الشعوب والجماعات الأكثر شعورا بخصوصيتها، في محاولة لإعادة إثبات اختلافها، وتصبح بالتالي أكثر تقاربا أو تلامسا مع محليتها([3])، ولاسيما أن "جائحة كورونا" كشفت وهن السياسات الصحية للدول الرأسمالية في تخفيف وطأة "كورونا" عن العالم وعدم تناسبها بأي حال من الأحوال مع قدرات العديد من المجتمعات، وأكدت أن الطبقات الدنيا ليست موجودة في الخطط الاستراتيجية لهذه الدول، وصار مصير الدول النامية مرتبطة بقدرتها الذاتية في مواجهة الأزمات بعد ثبوت أن التنظير العلمي الحديث - فقط - لم يكن في صالح انتصار حكوماتها في معركتها مع الأزمة، ليحل "الإرث القيمي" الجمعي فرس الرهان للخروج من هوة الأزمة، بعد أن بات مصائر الحكومات مرتهنا بقدرتها على احتواء الأزمة؛ إذ إن نجاح الحكومات في الحفاظ على أرواح مواطنيها يعني في المقام الأول نجاح سياساتها، وفشلها في الحفاظ على أرواح المواطنين يعني عدم استمراريتها في مزاولة سلطتها.

ومن ثم باتت توجهات أغلب الدول النامية مرتهنة في تعاملها مع الأزمة بمدى التوافق بين سياسات الحكومات وتوجهات المواطنين، حيث برهنت الأزمات الفائتة أن في التنافر والتضاد بينهما نتائج غير محمودة؛ فقد رأينا كيف أن الثورات التي عرفناها في السنوات الأخيرة، ونقصد بذلك ثورتي تونس ومصر تحديدًا، رغم استثنائية الحدث ومفاجأته لنا ولكل العالم، إلا أنها جانبت تحقيق مبتغاها؛ ذلك أن المشكلة الكبرى، تتمثل في أن الخطوات القليلة المهمة التي قُطعت في مجالات السياسية والصحة والتعليم وغيرها من المناحي الاجتماعية، جاءت غير مجدية بالشكل الذي يتوافق وتطلعاتها، وتعاني من أرضية "قيميّة" ثقافية هشة؛ لافتقادها - في الكثير من مساراتها - الاعتماد على "الأنا" الثقافية وسماحها لــ"الآخر" بالهيمنة والتشويه؛ فالحراك المجتمعي وخاصة في الدول النامية، ما لم يعضد بالرؤى المؤسساتية المؤطرة بالولاء والانتماء الوطني العام يؤدي إلى ضبابية المشهد وفقد الطريق تحت الظلال الفقيرة وقلة الثقافة التعليمية؛ ومن ثم أضحى وباء "كورونا" الجديد وفق هذه الفرضية وباء مجتمعيا بامتياز! ينقله المجتمع وينشره الجهل، ويقضى عليه بالوعي!)[4]).

ولست أخال أدري أهذا التوجه "القيمي" المعتمد لدى الدول النامية في مواجهة "جائحة كورونا" نابع عن توجيه مؤسساتي مركزي، أم هو خيار نابع عن إرث قيمي سعت إلى إحيائه الأزمات المتلاحقة التي عايشها الجمعي؟

وبإخضاع ذلك التصور على المكون الأيكولوجي المصري، يمكن تفهم علة انحياز الجمعي إلى "الإرث القيمي" بديلا مؤقتا في التعاطي مع الجائحة وفق رؤى استشرافية عنت سياسات الحكومة بترسيخها عبر روافد أيديولوجية يمكن رصدها والتدليل عليها من خلال المحاور التالية:

- المحورالأول: التوجه الفكري الجمعي

ويُعنَى هذا القسم من الدراسة بالتنقيب في السلوك المجتمعي مع تفشي الأوبئة؛ فتحت تأثير الأوبئة تشهد المجتمعات موجات من الخوف الجماعي، كما تحدث ثورة في التفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة الجماعية جراء الوباء، وتتسبب في موجة من التناقضات القيمية، وزخم من السلوكيات والاستراتيجيات؛ كمحاولات لمواجهة الوباء، خاصة وأن الأوبئة بطبيعتها تعد أمراضًا "جديدة" لا تتوفر بشأنها معلومات أو توقعات بكيفية انتشارها ومكافحتها، وبالتالي لا يوجد بالضرورة علاج لها، وكلّما كان الوباء خطيرًا من حيث تداعياته، زادت المدة الزمنية بلا علاج واضح، وباتت المساحة متروكة للاجتهادات الفردية والاجتماعية، بغية التمسك بأي أمل في الخلاص، حتى وإن كان ذلك يتمثل في ممارسات غير منطقية بالمطلق، ومن ثم باتت مواجهة الأزمات مرتهنة بنمطين أيديولوجيين:

أولها: تعميق الشعور بالخوف

إن في انتشار الأوبئة تهديدا بمفهومية البقاء الإنساني، والمدقق يجد أن "إدارة الخوف" هو مبدأ موجود لدى جميع الكائنات الحية، وهو مبدأ التنظيم الذاتي، ينظر إليه كمورد لـ "تصحيح المسار" وتوحيد العالم من خلاله؛ باعتباره الأجدر على مواجهة الأزمة وفق أسس التوجهات الشعبية القائمة على الإرث "القيمي"، والتي يمكن اعتبارها حقا ثورة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والوجود، ومن ثم يتداخل المكون الثقافي الأصيل مع الإرث "القيمي" في اللاشعور الجمعي للمواطن كأحد أبرز الحلول المبتكرة لمواجهة الأزمة، ولاسيما إذا ما عجز التنظير العلمي في إيجاد انفراجة لها.

ثانيها: تنازعية الاشتباك بين توجهات "الأنا" و"الآخر"

وأول الحلول المبتكرة التي يلتجئ إليها الفرد وقت الأزمات، ولاسيما في المجتمعات المتدينة لرأب الأزمات هو تفعيل الصراع القائم - في اللاشعور - بين "القيم" المحلية الممثلة في "الأنا"، والتوجهات الأجنبية الممثلة في "الآخر".

وباتت هذه الفرضية مرتهنة بمحاولة تفهم الانشغال بثنائية "الأنا" و"الآخر" الذي يندرج ضمن المقاربات الهادفة إلى بعض التوجهات الراهنة في بعض المجتمعات، ولاسيما المجتمعات النامية الساعية إلى العودة للهوية الأصيلة رادعا أيديولوجيا لكل طارئ بيئي، وقد كرست "جائحة كورونا" لهذا المضمون عبر إعادة إنتاج بعض المفاهيم القيمية المعبرة عن "الأنا" وفق مقتضى الإرث الثقافي، بعد أن أثبتت نتائج الممارسة فشل نظريات "الآخر" في خروج المجتمع من كبوته الراهنة.

ووفقاً لرؤية "توماس كون" الجامعة حول "بنية الثورات العلمية"، فإن "التغير في العلم يحدث عندما تعجز النظريات السائدة عن تفسير ظواهر العالم"، بما يدفع الدول النامية إلى البحث عن تفسيرات جامعة للظواهر المعيشة التي تحول دون فصامها عن الواقع وفق نمطية تعد استباقاً لآفاقها المستقبلية، عبر استثمار الناس في التفكير بطريقتهم الاعتيادية المعهودة حتى في غمرة أزمة مستجدة، وهذه طريقة مأمونة للتفكير، حتى وإن لم تكن مفيدة في كثير من الأحيان؛ متناقضة مع البيئة الأكاديمية التي ينظر علماؤها ومفكروها إلى الأزمة وفق المصطلحات العلمية التي أثبتت عدم جديتها أمام التوجهات "القيمية" الإنسانية للشعوب النامية.

المحور الثاني: التوجه الديني العقدي

لجأت العديد من المؤسسات إلى الإيمان بأن العودة إلى التوجهات "العقدية" هي المسلك الأمين للخروج من كبوة "جائحة كورونا، وفي هذا الصدد عُقدت العديد من الندوات والمؤتمرات الحاثة على تعظيم الرافد "العقدي" رادعا للأزمة، حيث أكدت منصة الحوار والتعاون بين القيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في العالم العربي التي يدعمها مركز الحوار العالمي (كايسيد)([5]) أهمية دور الأفراد والقيادات والمؤسسات الدينية المتنوعة في المنطقة العربية في نشر "قيم" التعاضد والتضامن والإخاء في مجتمعاتهم في ظل تفشي مرض فيروس "كورونا" عبر تعزيز التضامن الإنساني بمساعدة فئات المجتمع الأشد احتياجًا، ولا سيَّما الفئات الأشد ضعفًا وفقرًا، مع اتخاذ تدابيرَ وقائية وتقيُّدٍ بتعليمات الحماية الذاتية.([6])

وبالعودة إلى تاريخ الجائحات التي أصابت المجتمعات النامية؛ يجد المتأمل أن "العقدي" هو الذي تعامل مع تلك الأزمات في إطار التساؤل الكبير:

هل هذه النازلة عقوبة إلهية حلّت بنا بسبب سيئاتنا وذنوبنا وآثامنا؟ وهل يستحق بعضنا، على الأقل، الكفارة عن الذنب؟ وهل مآلات الأمور ومصائر المخلوقات برمَّتها قد اختص بها الخالق سبحانه وتعالي -رب العزة والجلال- وفق سننه الكونية؟([7])

وإذا ما سلمنا بأن حدود المعرفة التجريبية والتطبيقية في التعامل مع ما يقع بالفعل على حافة الخطر الداهم في المجتمعات النامية، ارتبطت بالمسلّمات "العَقَدِيَّة" التي تشكِّل المسار الأفضل صوب المستقبلي التي لا تعبأ بالحلول العلمية التنظيرية؛ بات من الضروري - أيضا - تفهم التغيرات "القيمية" وممارساتها في وقت الأزمات؛ إذ إن الرسالات السماوية شكلت ثورة "قيمية" عندما طرحت مشروع مساهمة الإنسان في صناعة التاريخ.

وحينما نخص بالذكر الحديث عن المجتمعات الأكثر تدينا، ولاسيما المجتمعات العربية؛ فإن الأمر يرتهن بالإشارة إلى الارتباط الوطيد بين "القيمي" و"الديني"، حيث بات انتشار الأوبئة مرتبط تمام الارتباط في اللاشعور العربي بالدين، ويمكن البرهنة على ذلك من خلال التسجيلات التاريخية التي عددت من المواقف التي تلازم فيها انتشار الأمراض وعلاقة المجتمع بالدين، وخاصة في ظلال تسيد الشعور بالخوف والرهبة المهددة بالبقاء؛ مسجلا نتيجة بحثية تؤكد أن الأمر ليس متوقفا على درجة التدين ولكن على طبيعته المعبرة عن الهوية و"القيمي" الجمعية التي تجيد التعامل مع الأزمات في ظرفيتها الجائحة.

وبإخضاع ذلك التصور على المكون الأيكولوجي المصري، ولاسيما إبان تفشي "جائحة كورونا" نجد أن قطاعا فئويا كبيرا من المواطنين المصريين نظروا إلى الأزمات بعامة على اعتبارها ابتلاءات إلهية، وأن المتسبب الرئيس فيها هو الإنسان ذاته كأحد دروب العقوبة الإلهية، الأمر الذي حرك في اللاشعور الجمعي حتمية إعادة النظر في الممارسات الذاتية، بغية تعديل تلك الممارسات إلى سلك المسار الصحيح من أجل الحصول على الرضا الإلهي الذي ينجيهم من تلك الجوائح؛ لتحل المرجعية "القيمية" المؤطرة بالديني بديلا لا خيار فيه لردع مخاطر الأزمات؛ ومن ثم فإن الطارئ البيئي قادر على إجبار الجمعي إلى إيجاد بدائل للخروج من الأزمة وفق إمكاناته المادية والمعنوية المتاحة، والتي يرجح فيه الثاني عبر الممارسات الحياتية في المجتمعات الأقل تقدما علميا والأكثر فقرا.

- تداخل العقدي مع السياسي:

قادت الفرضية - السالفة - الدراسة إلى الممارسات السياسية في بعض المجتمعات العربية، ولاسيما مصر إبان جائحة" كورونا" من خلال تحليل المباراة السياسية القائمة على أساس "قيمي" بين الحكومة المصرية والتوجهات الراديكالية؛ وقد بدا ذلك الصراع إبان ظرفية "جائحة كورونا" من خلال انحياز جماعة الإخوان المسلمين إلى منهجية ترويجية تسهم في إنماء حالة الهلع والذعر بين المواطنين، لتمييع رابط الثقة مع الحكومة، محاولة الرجوع إلى الساحة السياسية في إطار من الشرعنة المبررة بالقبول الجمعي، ويمكن رصد ذلك من خلال القرار التي اتخذته الحكومة المصرية، والذي نص على منع ممارسة المناسك التعبدية للمواطنين في أماكن العبادة كإجراء احترازي لمواجهة الجائحات الوبائية، تلك الفرصة التي حاولت استغلالها جماعة الإخوان المسلمين مسلكا سياسيا داعيا إلى إثارة أزمة سياسية بين الحكومة ومواطنيها، إلا أن المرجعية الدينية المؤطرة بـــ "القيم" المصرية هي التي حالت دون وقوع تصادم بين الشعب والحكومة، ولاسيما أنها تزامنت مع نمو الوعي الجمعي الداعي إلى حتمية مواجهة تنظيم الإخوان الذي حاول استغلال الجائحة عبر الاستثمار في مخاوف الناس للتحريض على الحكومة([8])، بغية الانتصار إلى مأمولها السياسي وإيجاد محل من الساحة السياسية.

والراصد لهذه المباراة يجد انحياز الجمعي إلى إجراءات الحكومة الاحترازية التي سعت إلى إعلاء "قيم" إنسانية عليا تعظم من البقاء الإنساني مقابل التوجهات الإخوانية الداعية إلى الترويج بنشر الفيروس بين المواطنين وبخاصة رجال الشرطة والجيش والقضاء([9])؛ والتي كشفت انحياز جماعة الإخوان المسلمين إلى "القيمي" الملتبس الذي يعظم من النفعية / الراديكالية الخادمة لمصالح التنظيم لا مصالح المواطنين.

الأمر الذي نجم عنه تخلي التنظيم عن التوجهات الترويجية مسارا نفعيا، منحازا إلى العودة إلى توجهات العنف بديلا استراتيجيا لزعزعة الاستقرار الأمني في مصر، وقد دلل على ذلك الحادث الإرهابي الذي وقع مساء الخميس من النصف الأول من شهر رمضان، بجنوب مدينة بئر العبد بمحافظة شمال سيناء؛ لتحل "جائحة كورونا" آذنة بصراع سياسي ديني قوامة التوجه "القيمي" الأصيل والملتبس لدى الجمعي.

- محور الثالث: توجه الذوق العام

إن ما نعيشه اليوم من تجاذبات أيديولوجية صارخة في مجتمعاتنا، تعكسها وسائل الإعلام بشكل أمين، إذ إن المادة الإعلامية المتداولة تكون خير معبر عن "القيمي" السائد في أي مجتمع، وتبدو أن علاقة الإعلام بالثقافة علاقة بنيوية وكثيرا ما يتداخلان؛ فالإعلام هو الجانب التطبيقي المباشر للفكر الثقافي السائد؛ ولذلك دشنت مدرسة فرانكفورت قضايا "الإعلام الجماهيري" ضمن التنظير الثقافي الحديث، وحينها رأى "تيوردو أدرنو" و"ماكس هوركهيمر" - مؤسسا مدرسة فرانكفورت - أن مؤسسة الإعلام الحديث ما هي إلا أداة للسيطرة الاجتماعية وإعادة إنتاج المجتمع بأنماطه السائدة([10]).

والمدقق في المضمون الإعلامي المصري- في الراهن - يجد تغييرا في خارطة المادة الإعلامية المقدمة عن ذي قبل، وباتت من الشواهد المبرهنة على إيذان تغير "القيمي" في المجتمع إبان "جائحة كورونا" عبر تغير مضمون وشكل المادة الإعلامية المقدمة المنحازة إلى الإعلاء لـ "القيم" الإنسانية العليا المعبرة عن الإرث الهوياتي للمكون الأيكولوجي المصري، إذ إن انفعال الجمعي إلى رفض كل ما هو مؤطر بالإسفاف كان خير دليل على ترسيخ مبدأ التغير، أو إن صح التعبير العودة إلى الأصيل "القيمي"، ويمكن التدليل على ذلك من خلال العديد من الأدلة التي يمكن الإشارة إليها كما هو تالٍ:

1- مضمون المادة الإعلانية المقدمة في شهر رمضان

لفت العديد من المشاهدين وقف مزاولة إعلان تلفزي لإحدى شركات الملابس([11])، الذي طل على شاشات التلفاز المصري في الأيام الأوائل من شهر رمضان؛ تريد إحدى الممثلات المعلنة عن منتج الشركة في شكل إثارة حفيظة الجمعي شكلا ومضمونا، وعلى الرغم من اتخاذ الإعلان - سالف الذكر - نمطية مهنية أعلت من الجودة في التصوير والموسيقى عبر منطوق شفهي يتميز من حيث الشكل بالإيقاعية الجاذبة، إلا أنه حوى مضامين لفظية يأبى المتلقي متابعتها تحت ظلال المفاهيم "القيمية" الموروثة.

وقد جاء قرار منع إذاعة الإعلان الصادر عن مجلس إدارة جهاز حماية المستهلك برقم 3/150 لسنة 2020، والذي ألزم رئيس مجلس إدارة شركة الملابس باتخاذ إجراءات وقف بث إعلان منتجه عبر القنوات الفضائية؛ لما يحمله من انتهاك واضح للكرامة الشخصية والعادات والتقاليد المجتمعية، فضلا عن مخالفته لأحكام قانون حماية المستهلك والمواصفات القياسية الخاصة باشتراطات الإعلان عن السلع والخدمات ومخالفة قانون العقوبات المصري.

والمدقق في النهج الإعلاني لتلك الشركة يجد أنها انحازت من خلال إعلاناتها الفائتة إلى نفس المنهجية الإعلانية المتخذ قرار بمنعها؛ الأمر الذي يثير تساؤلا عن الأسباب التي حالت دون استمرارية الإعلان الراهن للشركة كمثيلة في الأعوام الفائتة؟

لا شك وأن الراهن فرض خصوصية تسببت في هذا المانع التي فرضت على الجمعي الرجوع إلى الإرث "القيمي" الذي حال دون متابعة مثل هذا المادة الإعلانية إبان ظرفية أطرت بالارتهان على البقاء الإنساني.

2- مضمون المادة الدرامية المقدمة في شهر رمضان

ولم تكن النتيجة - السالفة - نابعة عن عبرة خصوص المادة الإعلانية، بل استندت على عموم سبب المنع؛ فالمدقق في التوجه الدرامي خلال شهر رمضان الحالي، يجد تغايرا ينحاز إلى الإعلاء من "القيم" الإنسانية المرتبطة بالإرث "القيمي" المصري؛ مخالفا للتوجهات الدرامية في المواسم الدرامية السالفة التي ارتهنت بالآليات الجاذبة للمتلقي دليلا على النجاح، والتي عنت بالصدمات الاجتماعية التي تعد إحدى ركائز الجذب في العمل الأدبي بعامة، والممثلة في الصدمات (الدينية - السياسية - الجنسية - الاجتماعية) وفي الأخير كان محلا لاهتمام صناعة الأعمال الدرامية عبر تجسيد الواقع في صورة كشفت عن المكنون الثقافي لبعض المكونات الأيكولوجية المنغلقة، رغم كونها لم تكن معبرا حقيقيا عن واقع الهوية المصرية في مطلقها، حيث اعتاد المواطن المصري متابعة الأعمال الدرامية في الأعوام الفائتة - من شهر رمضان - على سيطرة روح العنف مضمونا، والذي تسبب في الخروج عن الإطار العام للواقع الهوياتي المصري؛ الأمر الذي أثار حفيظة العديد من المتابعين العاديين والنقاد المتخصصين - في آنها - تحت شعار الحفاظ على "القيمي" والبعد عن الإسفاف تحت تبرير رصد الواقع في صورة درامية، وكان من أبرز الفنانين المتهمين بترويج مثل هذه الأعمال "محمد رمضان" الذي نال وابلا من النقد الفني والنقض السلوكي، لتريده لمثل هذه الأعمال الدرامية بغية تحقيق جماهيرية تعبر عن نجاح تلك الأعمال.

في شهر رمضان من عام 2020م المتزامن مع "جائحة كورونا"، نجد الفنان "محمد رمضان" قد طل على شاشة التلفاز من خلال عمل درامي "البرنس" كعادته منذ بضعة أعوام مخالفا التوقعات الدرامية والسردية المتنبئ بها قِبل المشاهدين؛ محطما إطلالاته السالفة المتضمنة لدراما العنف وإبراز الممارسات البيئوية لبعض المجتمعات المنغلقة قليلة الثقافة، نتاج تفلت أفرادها من التعليم؛ منحازا إلى بنية درامية تعليها روح المظلومية المؤطرة بالموروث "القيمي" المعبر عن الهوية المصرية؛ وإحالة البنية السردية للبطل من ممارساتها العدوانية والأخذ بالثأر والتباهي بما هو مخالف للأعراف القيمية المصرية إلى سردية تعظم من المذهب "الرومانتيكي التصادمي" من خلال روافد درامية عدة أعلاها التطهير النفسي من خلال إظهار "البطل البَكاء" في أكثر من مشهد من مشاهد العمل؛ لتحل الغريرة الفطرية البحتة المتأصلة في الجمعي مسارا بديلا للعودة إلى الرقي بالذوق العام وفق مقتضى الإرث "القيمي" المتفاعل مع العوامل الجيوسياسية المتوافقة حتماً مع الطبيعة الوبائية الطارئة.

والشاهد هنا:

إن العلاقة الرابطة بين التوجهات "القيمية" والإعلام باتت وطيد الصلة بينهما؛ لما كان بارزا من تعظيم الأول للثاني في ممارساته ومساراته؛ الأمر الذي قاد الدراسة إلى فرضية أكدت أن المادة الإعلامية والبنية الدرامية تتناسب طرديا مع السائد "القيمي" للمتابعين والمشاهدين ظرفيا، ولفتت المتأمل إلى نتيجة تبرهن على أن المعطيات الثقافية الوافدة قد تسبب حالة من اللبس للمواطن سرعان ما تزول، ويبقى "القيمي" الأصيل في وقت الأزمات، ولاسيما إذا ما كانت تهدد مفاهيم العقدي، أو الوطني، أو البقاء الإنساني.

- تضافر القيمي مع الولاء والوطنية

ويمكن التدليل على ذلك من خلال رصد انحياز جمهور المشاهدين إبان "جائحة كورونا" في مصر إلى الأعمال الدرامية المعظمة من التوجهات الوطنية، ولاسيما في فترة اتسمت بالصراع على مفهومية الولاء والانتماء الوطني والمتجلية من خلال الرحى السياسية الواقعة بين النظام المؤسساتي / الحكومة وبين مسارات العنف المنتهجة قِبل تنظيم الإخوان في مصر، حيث حقق العمل الدرامي "الاختيار" جاذبية جماهيرية كبيرة في شهر رمضان 2020م، نتاج بناء أحداثه الدرامية على واقع يلعب على أوتار الانتماء والوطنية، التي تدور أحداثه حول البطل الأسطوري المجسد للقائد العسكري الذي تصدى للأفكار الراديكالية العنيفة المتخذة من أرض سيناء مباراة عسكرية بين القوات المسلحة والتنظيمات المتطرفة، ورغم أن البطل في العمل الدرامي "أمير كرارة" لم يكن الأبرز جماهيريا بين الممثلين المتواجدين على الساحة الدرامية لهذا الموسم الدرامي، إلا أنه بات الأكثر مشاهدة؛ الأمر الذي أكد على نتيجة بحثية تبرهن على انتصار "القيم" الوطنية للمشاهد على آليات الجذب الدرامية الأخرى إبان ظرفية زمنية برهنت على أن الرجوع إلى الموروث "القيمي" الديني / الوطني هو الرهان الفائز في سباق الصراع بين "الأنا" الأصيل و"الآخر" الممثل في الوافد الأجنبي.

النتائج

-على الرغم من أن الأزمات التي تحل بالمجتمعات، ربما تعمل على هشاشة الاستقرار وزعزعة الأمان بين المواطنين، إلا أنها قد تكون مبعثا لتخليق انفراجة أيديولوجية، ربما تكون مبعثا لثورة "قيمية" تصنع ما عجزت عن إنتاجه النظريات العلمية الحديثة في مواجهة الأزمات.

-باتت توجهات أغلب الدول النامية مرتهنة في تعاملها مع "أزمة كورونا" بمدى توافق سياسات حكوماتها مع توجهات المواطنين، حيث برهنت الأزمات الفائتة أن في التنافر والتضاد بينهما نتائج غير محمودة؛ الأمر الذي يحتم على الحكومات اتباع سياسيات توافقية مع الإرث "القيمي" الجمعي، ولاسيما في ظلال هيمنة الأزمات العالمية التي تقف حيالها التنظيرات العلمية وتدابيرها عاجزة عن الحل.

-أكد التقاطع "القيمي" مع جائحة "كورونا" أن المجتمع يتفاعل إيجابا وسلبا بحسب التحولات المجتمعية الطارئة؛ ذلك لأن الفرد والجماعة تسعى إلى الانسجام قيميا مع الطارئ، ولاسيما في المجتمعات النامية التي تلتجئ في وقت أزماتها إلى تدبير القوانين المناسبة وفق ما هو إرث ثقافي تراكمي؛ ذلك أن الإنسان - في نظر العديد من المدراس الفكرية - عبارة عن نتاج لظروف الواقع بل ردة فعل للتغيرات الطارئة على أي مجتمع.

-أثبتت "جائحة كورونا" قدرتها على تحريك التوجه "القيمي" لأي مجتمع، ولاسيما مصر، من خلال الصراع ما بين الوافد القيمي "الآخر" والأصيلة منه "الأنا"؛ فعلى الرغم من تخبط المسار في بداية ظهور الجائحة نتاج سيطرة "الخوف" الدافع إلى عدم الثقة التامة في مآلات المستقبل وبخاصة في بعض القطاعات البيئوية المنغلقة؛ إلا أن الإرث "القيمي" الأصيل لعب دورا بارزا في إعادة بصلة التوجهات الأيديولوجية إلى مساره الصحيح وفق مقتضى الثقافة التراكمية للمكون الأيكولوجي، والذي بدا جليا من خلال روافد أيديولوجية تنوعت ما بين الأعمال الدرامية، والانحياز "العقدي" الذي انحاز إلى التوجهات السياسية المتخذة من الإرث القيمي الجمعي محلا من الاعتبار في سياساتها.

 

المراجع

- الإخوان في زمن الكورونا ...التحريض على الدولة والاستثمار في العنف - د/ عاصم طلعت - مركز مسبار.

- حول الهوية الثقافية، ستيوارت هول، ترجمة بول طبر، مجلة إضافات، العدد الثاني، ربيع 2008

- خطاب الخصوصية الثقافية ... جدلية المتن والهامش، د/عبد الغني عماد، مركز نهوض للدراسات والنشر، 2019

- نظام عالمي جديد أكثر اضطرابا، أنس القصاص، باحث في الشأن الاستراتيجي، موقع ذات مصر.

- نقطة تحول في التاريخ - آدم غارفينكل - مركز مسبار

كيسيد-تؤكد-أهمية-دور-المؤسسات-والقيhttps://alghad.com/

https://annabaa.org/arabic/views/22648

https://www.youtube.com/watch?v=4xktzICDTbk

https://www.youtube.com/watch?v=5dl-A2Lmd7s

[1] - باحث مصري

[2] - نظام عالمي جديد أكثر اضطرابا ، أنس القصاص ، باحث في الشأن الاستراتيجي، موقع ذات مصر .

[3] - حول الهوية الثقافية ، ستيوارت هول، ترجمة بول طبر ، مجلة إضافات ، العدد الثاني ، ربيع 2008 ، ص164

[4] https://annabaa.org/arabic/views/22648

[5] - "كايسيد" منظمة دولية تأسست عام 2012من قبل المملكة العربية السعودية وجمهورية النمسا ومملكة إسبانيا إلى جانب الفاتيكان بصفته عضوا مؤسساً مراقباً. يقع مقر المركز في مدينة فيننا، عاصمة النمسا، يُعدُّ المركز أول منظمة دولية تعمل على تفعيل دور الأفراد والقيادات والمؤسسات الدينية لمساعدة صانعي السياسات في بناء السلام والتعايش السلمي تحت مظلة المواطنة المشتركة؛ سدّا للفجوة بين القيادات الدينية وصانعي السياسات خاصة في المنظمات الدولية؛ وإيجادًا لحلول ناجعة، ومستدامة؛ وتحقيق نتائج إيجابية.

[6] - كيسيد – تؤكد – أهمية – دور – المؤسسات - والقيhttps://alghad.com/

[7] - نقطة تحول في التاريخ – آدم غارفينكل – مركز مسبار

[8] - الإخوان في زمن الكورونا ...التحريض على الدولة والاستثمار في العنف – د/ عاصم طلعت – مركز مسبار

[9] - https://www.youtube.com/watch?v=4xktzICDTbk

[10] - خطاب الخصوصية الثقافية ... جدلية المتن والهامش، د/عبد الغني عماد، مركز نهوض للدراسات والنشر، 2019، ص11

[11] - https://www.youtube.com/watch?v=5dl-A2Lmd7s