بوهيميا الخراب أو خارطة لما بعد الكارثة


فئة :  مقالات

بوهيميا الخراب أو خارطة لما بعد الكارثة

قد تبدو رواية الكاتب العراقي صلاح صلاح تحت عنون "بوهيميا الخراب" (بيروت: دار التنوير، 2009) مجرّد قصّة أخرى عن الفرد المعاصر الذي يرزح تحت نير العصر الدكتاتوري كما عبّر عن نفسه بشكل نموذجي في صورة الحاكم الهوويّ الذي يملك العقول والأجساد، ويستهلكها استهلاكا نسقيّا كأنّها مزرعة أخلاقية لنزواته الأكثر فظاعة. لكنّ الفرد ليس هو المشكل الرئيس هنا، بل الأمر يتعلق بنوع من السيرة الذاتية للحرب، بنوع من أوتوبيوغرافيا الموت الخاص الذي يحمله الناس تحت جنوبهم ويكتمونه بحرص فظيع، مع كل تفاصيل الجحيم اليومي للّحم الحيّ. لا تخلو صفحة (على مدى 474 ص) في هذه الرواية من مبضع التشريح المرعب لهشاشة الحيوان البشري ومن ملاحقة متمرّسة لآلة الضغينة التي تنبني عليها كلّ أنواع السلطة الحقودة على ما هو حميمي في أيّ ركن من الجسد الإنساني.

هذه الرواية هي أكبر تاريخ نسقي للخراب الداخلي في أفق أنفسنا الحديثة؛ الخراب الذي لا يكون الدمار الخارجي غير سطحه الساخر فحسب؛ نحن نرى دوما تدمير المدن؛ لكنّ تحطيم الناس في هياكل أنفسهم إنّما يظلّ مخفيّا لزمن طويل. وإنّ هذه الملكة- ملكة النزول إلى الجحيم الصامت والقبض السردي عليه تحت أفئدة العابرين في مدن الحرب على الإنسان التي تقودها الدولة العاجزة عن التاريخ- هو ما تمتاز به رواية "بوهيميا الخراب" كأفظع هديّة أدبية يمكن أن يقترحها العرب المعاصرون على القارئ الحالي.

يوحي لك الكاتب بأنّه كان يبحث عن الله، وأنّه لم يجده حيث كان الجميع يوصون بالبحث عنه. وهذا كلّ ما في الأمر. إنّ اللاّمكان حيث يوجد الله ليس "الكتب"، كما ظنّت كلّ حضارات الشرق، بل في "نغمات الطيور ومن خلال الوجع الساكن في قلوب المجروحين"(ص9). وفجأة تختلط الكتابة بالوجع كطينة داخلية للسرد مهما كان. تتحوّل الرواية إلى تاريخ للوجع بوصفه شكل الموت الوحيد الذي يترك السرد ممكنا. ومنذ البداية، نرى بطل الرواية وهو يجمع انتماءاته (الزوجة، الأطفال، البيئة..) ويحوّلها إلى محاور ثانوية بالمقارنة مع إمكانية موته التي تقول نفسها بكل تعابير الحياة اليومية. وهو لا يتعامل مع الموت باعتباره معضلة تقليدية؛ بل يحرص مبكّرا على بناء علاقة سردية استثنائية معه. قال:"لقد متّ لكني لم أعرف أنّ للموت هذه الروعة الخيالية"(ص11). يبدو السرد هنا بمثابة مواصلة للموت بطرق أخرى. وأعلى أنواع مواصلة الموت بطرق أخرى، لن تكون شيئا آخر سوى الحياة نفسها، الحياة التي صارت مستحيلة منذ وقت طويل. وتحوّلت إلى قصة. - حين ينتصب الحاكم الهووي في أرض ما يحوّل كلّ ما عداه إلى احتفاليّة فظيعة باستحالة الموت. قال:" هيهات أن أموت، هكذا كنت أقول لنفسي.." (ص12). لكنّ ذلك يعني رأساً أنّ من لا يمكنه الموت هو فقط من لا يمكنه الحياة إلاّ في شكل الاستحالة. وحين تصبح الحياة غير قابلة للحياة تبدأ زمنيّة من نوع آخر. في الشرق هناك مستبدّون، ولكن ليس ثمّة دول. وعندئذ، فإنّ الزمن الوحيد أو المكان الوحيد الذي يبقى هو بُعد السرد، لا نسرد في الشرق غير ما لم يعد يمكن احتماله، كلّ ما هو محتمل هو لا يستحق أن نحكيه للأجيال. ورواية صلاح صلاح هي تجميع مرعب لكلّ ما لا يمكن احتماله. ومن ثمّ ما لا نملك عنه مساحة سردية في تاريخ الهوية الرسمي. ولكن من السارد عندئذ؟ قال:"أنا، بكل معاني الانحطاط."(ص13)

لا ينحطّ الأنا قبل أن تنحط الهوية التي يتكئ عليها؛ ربما تكون المدينة. وصلاح صلاح يجعل من بغداد أو من بعقوبة وثيقة هوويّة مؤلّهة، ولكن بلا مؤمنين. بين المكان والأبجدية صلة قرابة مطموسة. ولذلك، يعترف المؤلّف أنّ الذاكرة النائمة في المكان يمكن أن تكون ملجأ مناسبا للوعي. كلّ مدينة تمنحك "ولادة كونية أولى"(ص14). وتُشعرك بأنّ "شعوبا مرت من هنا"(ص15). وأنّ لهجات الناس طبقات متراكمة من الحياة التي ينبغي حراستها. قال:" ضاعت بغداد إلى الأبد بين اللهجات"(ص14). إنّ هشاشة مدينة ما تُقاس ليس فقط بعدد اللهجات فيها، بل بذلك التناغم المرعب بين لهجات تُصنّف خارج نفسها عادة: كأن تتجاور صرخات المومسات مع شطحات الصوفية: رائحة الحياة لا تفرّق بين الأجساد، ليس فقط في الحاضر بل في كلّ طيات الزمن الذي يرقد في المكان: "حينما تدوس بقدمك على ظاهر الأرض يجب أن تتذكّر أن الجنيد البغدادي..ووكلاء المهدي المنتظر كلهم، غرقوا مثلك في الأماكن والزمن والقراءات والأدعية والتسابيح"(ص17).

كلّ ردهات الرواية عبارة عن سقطات متتالية في الزمن. ثمّة بحث عن الزمن المفقود، ولكن من دون أيّ نوع من الحنين. فحين طُرد الراوي- وهو صلاح صلاح نفسه (ص123)- من الجامعة فرح بالمكسب الجديد غير المسبوق: أنّه فقد "الهوية الجامعية" لكنه ظفر بنوع من "الحرية الشخصية"(ص18)، نوع غير هوويّ، قال:" تحوّلت إلى شيء مخصيّ هائم"(نفسه). والإخصاء تيمة متواترة جدّا في هذا النص. لقد انتقل الحنين من الأشخاص إلى الأشياء. لقد طال الإخصاء كلّ ما هو شخصي. ولذلك، فإنّ حريّة المطرودين ليست هويّة؛ إنّها حالة إخصاء بلا توقيع. قال:" أكثر الأشياء الحميمية في العالم هي حينما تمسد وجه كتاب، تفتحه، تلقي عليه نظرات متسرعة وهشة"(نفسه).

لكنّ الحاكم الهووي لا يخصي فقط، بل هو يسرق أيضا أيّ منابع سابقة لأنفسنا، ويحوّل أيّ كبرياء شخصي إلى سرقة. وأفضل مثال سردي يقدّمه المؤلف هو اعتقال الأمّ (لأنّها شيوعية). ويطرح المؤلف هنا مفارقة تميّز دولة الحاكم الهووي بامتياز: إنّه يعتقل الأمّ لكنّه يعتبر الحزب الحاكم حزبا لا يمكن الاستقالة منه. يشعر بطل الرواية بأنّهم أهانوا منابع ذاته دون أن يكون له الحق في الدفاع عن نفسه. الحاكم الهووي آلة مرعبة للفصل بين الذات ومنابع ذاتها، وهو يعمل على تحويل المحكومين إلى وضعيات بشرية لا تملك حنينًا خاصا يمكنها أن تعوّل عليه. ولذلك بمجرد أن يغضب الحاكم ينقلب المحكوم إلى عارٍ يعاني من الوحدة؛ عار أن تكون بلا أمّ. هذا الوضع الذي يقوم على اعتقال الأمّ يجعل أيّ نوع من الفحولة سرقة. من هنا تنشأ الصلة المريبة بين الفحولة المسروقة والاغتصاب: في هذه الحالة الإخصائيّة التي ينصّبها الحاكم الهووي في قلوب المحكومين، يشعر الراوي برغبة في أن يرى "المرأة" (روز)، قال:"كنت أريد أن أغتصبها. شعرت أني تواق إلى مضاجعات مفاجئة" (ص21). منذ اعتقال الأمّ صار الاغتصاب ممكنا. الاغتصاب هو جنس هشّ، مفاجئ، ولكن بلا فحولة، وهو الردّ الذي اختاره الراوي كي يقاوم حالة الإخصاء الرسمي الذي يمارسه الحاكم الهووي على ذاته. حين تجثم الدولة الهووية على ورقة الروح الضئيلة لدى أحدهم، فإنّ ما يحدث ليس مجرّد فقدان للحرية اليومية، بل حسب عبارة المؤلف فقدان "بوصلة الدم"(ص22). – وحده الدم يواصل الانتماء إلينا من دون وصايا أخرى.

لكنّ الحاكم الهووي لم يكن يطلب أقلّ من ذلك: إنّه يحرص على تسليط "خشونة ذكورية" على المحكومين هي بمثابة الخيط الشرقي السرّي بين الآلهة والمستبدّين، إذا لا يطمع الحاكم في أقلّ من التماهي مع ألوهية ما، دون أن تكون مقدّسة بالضرورة. هذا التألّه العدمي هو سرّ المستبدّين. وطموحه الأعلى هو تحويل كلّ من تقع عليه عينُه الفولاذية إلى "حيوانات نافقة"(نفسه) أو إلى "شيء زجاجي" (ص24) يمكن تحطيمه بأدنى أمر هووي. وفي غياب ذلك، تتكفّل "الفاشية الداخلية" التي يمارسها الناس على أنفسهم بتأمين استمرار الدولة على قلوبهم كغيمة من الصفيح. ما ينصّبه الاستبداد هو "ذاكرة منبعجة" من ثقوبها يصبح الإنسان صدفة أو حدثا نادرا. قال:" ثمة إحساس بالخراب كان يهيمن على روحي"(ص25). ليس خراب المدن هو الذي يقتل الناس، بل خراب الأرواح الذي تعوّل عليها دول الخراب. الخراب هو "عالم التوحش" الذي تخفيه الدولة تحت حالة الأمن الهووي الأعمى لحرّاس الخراب.

وفي ثنايا الفتات السردي الذي يسترجع ركام عالم انسحب دون مواساة أحد، يعمل صلاح صلاح على استدعاء الأنثى تحت عناوين شتّى كمادة نموذجية للضحية التي تقف خارج إمكانية إنقاذها بلا رجعة. كيف تتآمر مخابرات الدولة على جسد. وكيف تبتزّ "المناضلين" أمنيّا من أجل اغتصاب "المناضلات" جنسيّا. وكيف أنّ حبّ فتاة تمّت خيانتها من طرف من يحبّها لصالح الدولة يمكن أن يكون كافيا للتحوّل إلى "حيوان خنثى ينكح نفسه"(ص28) أو إلى كائن "مخصي وملعون إلى الأبد" (ص30). هذا التراوح الفظيع بين الجنسي والأمني في سردية الجسد هو ما منح النص نكهة مريبة. إنّها نكهة الخراب، ليس الخراب الذي "تعيشه" بل الذي "تساهم فيه"(ص31)، وأنت تعرف أنك موجود بعد الكارثة بلا رجعة. لا يعاف المؤلف أيّ طارئ على الجسد مهما كان جارحا للياقة الحديثة، وليس ذلك لأسباب فقهية. قال:" كان مستحيلا أن تضرط ضرطة واحدة دون أن تصل إلى الحزب وإلى الأجهزة الأمنية"(ص32). الضرطة والدولة؛ أيّة علاقة سردية هذه؟ هذا لا يدخل في باب الرسائل الجامعية في فقه الضراط في أيّة كلية دينية في الشرق الأوسط. لكنّ القصد هو أنّ الدولة تحصي كلّ ما يطرأ على الجسد المحكوم وكأنّه مزرعة مقدّسة للسلطة. أنّ أبسط حاجة بشرية يمكن أن تصبح لعنة أو معلومة مخابراتية تضع الدولة في خطر. طبعا، كان أفلاطون من قبل قد نبّه إلى أنّ أقلّ اختلال في الموسيقى داخل المدينة يمكن أن يضعها في خطر؛ أيّ نشاز هو خطر على تصوّر الدولة لنا. قال:" الهدف 12 أكل شوربة في مطعم ججو بصحبة الهدف 13..."(ص34). أن يأكل الجسد هو طبعا مشكل خطير ويهمّ الدولة. لكنّ التبليغ عنه أهمّ من الغذاء. وفي حالة دخول الدولة الهووية في حرب ضدّ عدوّ هلامي بلا ملامح، هي تبدأ في إعدام مواطنيها لأنّهم تحوّلوا إلى أجساد تصعب مراقبتها بشكل جيّد.

إنّ إعدام الأمّ بوصفها عدوّة الدولة يجعل الراوي- المنخرط في حزب الدولة والمطالب بالوفاء التراجيدي الذي ذكره سوفوكليس في أنتغون- يقف في تلك المنطقة المستحيلة من الانتماء: إنّه يكره السلطة لكنّه يحبّ "العَلم". وحين يتمّ استدعاؤه لتسلّم جثّة أمّه التي تمّ إعدامها، هو يتسلّم موته ولكن بلا هويّة مناسبة. قال:" في غرفة جانبية كتبت ورقة تعهد بأن لا أقيم مناحة ولا أنصب عزاء. مراسيم الجنازة كانت أن أبكي وحيدا، ثم أن لا أفتح النعش. بأصابعي المتجمدة والليلكية وقعت التعهد واستلمت النعش بعد أن دفعت ثمن إطلاقات الإعدام"(ص46). بعض الجنائز أكبر من طيف الحاكم، ولذلك هو يحرص على تحجيم الحدث الذي يثيره بعض الموتى. يتعهّد الجسد السياسي بأن يمتنع عن أيّة مناحة قد تُحرج الدولة، لأنّ بعض البكاء يمكن أن ينقلب إلى مظاهرة أخلاقية ضدّ شرعيّة ما. لكنّ نصب العزاء هو أكثر خطورة من كل ذلك: إنّه عمليّة تنصيب لدولة أخلاقية من نوع آخر. من يقبل العزاء يقبل نوعا من التكريم الذي يزعج الدولة. ما تتركه الدولة للموتى هو أن يتحوّلوا إلى مناسبة خاصة للبكاء، ليس البكاء العمومي، بل البكاء المتوحد. أن تبكي وحيدا هو اعتراف بأنّ الجثة التي ترثيها هي عار أخلاقي على المجتمع وبأنّه لا أحد يمكن أن يشارك أو يتقاسم هذا العبء الأخلاقي الذي لا يُحتمل. ولكن لأنّ الميت ليس جثة فقط، بل قدرا معيّنا من حرمة الجسد، فإنّ الدولة تحرص حرصا مثيرا على تغليق النعوش وتحويلها إلى صندوق أسود. بعض الجثث يمكن أن تتحوّل إلى نصّ أو إلى شفرة سياسية. ولذلك، يجب أن تبقى محجوبة عن أنظار المتطفلين ولو كانوا أهل الميّت. بل أكثر من ذلك: ربما كانت الجثة جثة جسد آخر مجهول الهوية. وأنّ البكاء عليه كان مضيعة أخلاقية لا تُغتفر. أو ربما كان الصندوق فارغا، وأنّ النعش كان تقنية هويّة بيو-سياسية لعقاب الأحياء بوصفهم مسئولين أيضا عن انتمائهم إلى أيّ قريب منهم. مسئولون إلى حدّ ضرورة دفع ثمن الرصاصة التي تقتلهم. إنّ دفع ثمن الرصاصة يجعل إعدام الأمّ حدثا يهمّ الدولة، وبالتالي حدثا تاريخيا أو "جزءً من التاريخ"، قال.

هذا المواطن الذي أُعدم القسم الهووي من ذاته، هو الذي يُرسَل إلى الحرب، دفاعا عن الوطن. قال:"لكن الوطن يحتاج إلى شراسة وقوة وأنا هش للغاية" (ص58). ولذلك ينقلب المواطن إلى هارب من الجبهة. إنّه يسيء التوجّه في الوطن. ويصبح متّهما. كلّ من لا يواصل الحاكم الهووي في أيّ اتجاه هو متهم. و"عندما تتحول إلى متهم يبدأ المكان بأكلك"(نفسه). إنّ المكان ليس جغرافيا فقط؛ بل هو مساحة انتماء إلى أنفسنا. والدولة هي آلة الانتماء بلا منازع. تُعدم الأمّ وتطالب ابنها بمواصلة الوطن بوصفه الشكل الوحيد من الانتماء. إنّ المكان يأكل المتهمين بأن يحوّل الأرض من تحتهم إلى "لا-مكان" عليهم أن يسكنوه باعتباره "ثيمة عدمية"(ص64)، أي بساطا مناسبا لإجراء "ميتات متتالية" (ص65) على جسد وحيد، دون أن يكون واحدا دوماً.

بقي أن يقوم السارد باختيار أخير: إمّا أنّ الموت حقيقي أو أنّه مجرد مشكل سردي. وحين جلس إلى قبر الأمّ مرة أخرى، حاول أن يفصل بين موتها وبين ذاكرتها. قال:" جلست أمامها مباشرة حالماً أنها لم تمت لكنها اختارت أن تكون تحت التراب"(ص68). الموت واقعة مختلفة عن الغياب. يموت الناس من المرض؛ لكنّ الدولة لا تقتل مرضاً، بل تستعمل موت الناس كطريقة غياب مناسبة لها. من يرفض التحوّل إلى مسمار في عجلة لا تراه يمكن أن يُقتل، لكنّه لم يمت. إنّه غاب فقط. أي اختار أن يكون تحت التراب، وليس فوقه. أكثر الذين صنعوا أفقا للتاريخ هم الذين غابوا عن نظر الدولة كي يروا أنفسهم؛ الغياب هو حدث للذاكرة، وليس للموتى.

في هذا السياق الذي يرشح بالموت يقدّم المؤلف بطل روايته، باعتباره كاتبا فاشلا أو يعاني من ألم الكتابة. كاتبًا حزينًا. هذا الحزن يقوده إلى نوع من القراءات. إنّه يقرأ كتاب فوكو "الجنون في العصر الكلاسيكي"، ويتساءل:" لم أعرف لماذا يهاجمني الحزن بهذه الكثافة"(ص73). إنّ الكتابة هي قراءة حزينة. ومن يكتب هو يشعر فقط بتحسّن في حالة حزنه. فقط لأنّ أبطال روايته التي ينوي كتابتها هم أموات يسكون في توابيت مستلفة من أحد الجوامع، بل هم أموات مدفونون فوق أموات آخرين، "فوق القبور القديمة وتتضح المأساة ويضيع منكر ونكير وتبدأ كوميديا إلهية"(ص77). الموت الروائي هو مكافأة الكاتب الذي هرب من جبهات الموت كي لا يُقتل من أجل وطن لا يراه. لكنّه عاد إلى تجريب موت يبدو متتاليا ومنزوع الهوية: إنّه موت الذين لا مكان لموتهم. ويشعر أنّ مراسيم عذاب القبر لن تتمّ. فقط لأنّ هويات الموتى قد اختلطت وتبعثرت فوق بساط إلهي كوميدي من دون سابق إنذار. في الشرق الآلهة جدّيون بشكل شرس؛ لكنّ المشكل الجديد هو أنّ الموت قد أصبح "موتا مجانيّا" (ص78). موت لا يغطي تكاليفه الأخلاقية. ولذلك يخالج الراوي ما خالج كافكا:" كم تمنيت لو أني أتضاءل وأصبح عبارة عن حشرة"(ص79). وحدها الحشرة يمكنها أن  تسخر من دولة الخراب. وفي هذا المقام علينا أن نقرأ رغبته الجامحة:" أريد أن أكون بدويا من جديد وأغرب مرتحلا عن هذه الفجيعة"(ص82).

لا يتعلق الأمر بمجرد حلم روسوي بالعودة إلى الطبيعة. أن ترغب في أن تصبح بدويا مرة أخرى هو موقف ما بعد-تاريخي. إنّه لا يعني أقلّ من وضع وجود الدولة الحديثة بأكملها في أفق العرب الحاليين  موضع سؤال، الارتحال لم يعد ممكنا. نحن في اللامكان، ربما يكون دولوز على حق حين بسط فكرة "بدو أو رحّل المدن"، فكرة جذمور ينتثر في كل اتجاه بحثا عن عشب الروح دون أيّ مزاعم عمودية حول من يكون. لكنّ الإنسان في الشرق لئن خاب ظنّه في الدولة؛ فهو لا يزال يعوّل على الله. قال:" كلّنا خونة وسقط متاع ليس لنا إلا الله. لكن الله لا يعيرنا اهتمامه القليل"(ص83).

يخيّم على كلّ ردهات الرواية تعاون عدمي مع الله الشرقي على احتمال الخراب. ولكن ليس على تجاوزه أو الخلاص منه. تشبه الرواية كلها نوما "فوق أسمال العالم"(ص84). والخراب هو خارطة فقط، خارطة ألم لا يجب التخلص منه مقابل أيّ بؤس مريح. الخراب هو عنوان تحوّل العالم إلى مسكن رثّ، حيث تبدو السماء وكأنّها لا تدير شؤون نفسها بشكل مناسب، وحيث يشعر الناس أنّ المطر هناك هو "مطر غبي" (ص85)، وليس وعداً بأيّ ربيع. الخراب هو خارطة اللامكان. قال:" لم أكن أعرف إلى أي مكان يمكنني التوجه، ليس هناك مكان أصلا"(نفسه). لكنّ أملا شرسا سرعان ما يبعث الحياة في رفات الروح التي يئست من العالم لكنّها مازالت تحتفظ بقدر مخجل من الانتماء. قال:"بغداد كائن حيوي"(ص87): كل حجر فيها يحتمل كمّا من التاريخ لا يُحتمل. ولذلك يردّد الرواي:" الآلهة تريدنا أن نكتب"(ص93). ويعترف في مرح ميتافيزيقي:" ليس للموت معنى راديكاليّ"(ص99)، لأنّ تشيّؤ الزمن لا يجعل منّا حشرات بالضرورة. ولذلك تبدو الحياة، التافهة، اليومية، الوسخة بأدران القبح العاري، بمثابة ثأر مرح وراقص من واقعة الموت. وإذا كان مطلب الإنسانية يتخطى قدرات الإنسان الشرقي، فإنّه أيضا ليس حشرة. "إنّه يعسوب يسير على أربع في الحياة الفانية"(ص100). هذا الوضع الوسط هو الراحة السردية التي نصّبها المؤلف في أفق أبطاله: على الأجساد أن تترك السماء لنفسها وأن تسكن الزمن الرديء بلا ادعاءات تتجاوزها. "المصلون يخرجون من الجوامع ونحن نتبول في الطرقات، زرافات ووحدانا، كل يسعى إلى شيئيته وخواصه الفلسفية"(ص101). هذه المساواة الأنطولوجية بين الصلاة والتبوّل لا تهدف إلى التجديف على أيّة شعيرة دينية؛ بل فقط إلى التذكير بما يحتوي عليه الجسد البشري من حالات أخلاقية متساوية. ولذلك سرعان ما يردف الراوي:" الشهداء أكرم منا جميعا"(نفسه). وحدهم الشهداء يقفون ما وراء آداب الجسد.

ثمّة مفارقة تخرم روح الراوي وربما الإنسان الشرقي بعامة: إنّه يحبّ الله لكنّه يكره المتديّنين. ينزعج من صوت المؤذّنين لكنّه يريد "مشاهدة الله"(ص104). وهذا الازدواج الفظيع لا يقتصر على النزوات الطقوسية، بل هو يخترق ماهية الشرقي. قال: "نحن شعب، كنت أفكر، همجي، متنور. قدرة الهمجية تعادل قدرة الاستحواذ على مصائر الآلهة"(ص107). الإله والجنس يتجاوران في كل ركن من الجسد. أمّا ما يضفي على هذا الركح نكهة خاصة، فهو تيمة الوطن الذي يقدّم وجبة واحدة: الموت العاري. قال:" لكن الوطن كان يكرهنا"(ص108). كذا، ينصّب المؤلّف في كل مرة كرهاً غير شخصيّ يوشك القارئ على التعاطف معه. كلّ يتضافر مع هذا الوطن من أجل تأمين وجبة الموت اليومي: "رايات الشهداء المتخمة بالوجع القصديري"(ص105) و"قصص مفجعة عن الموت المتعدد"(ص108) و"الجبهة بحاجة إلى أموات جدد"(نفسه). يتعلق الأمر عندئذ بوصف "فوضى روحية" (ص109) هي مكافأة الحيوان السياسي على مشاركته الحثيثة في وطن لا يحبه. وهكذا حين يلبّي نداء الوطن هو يلبّي نداء الموت. يدعو الحاكم الهووي إلى الموت من أجله فقط، لأنّه استولى على الوطن وحوّله إلى مزرعة داخلية لتدريب البشر على قتل "الخارج" مهما كانت طبيعته. ما عدا ذلك هم مادة مناسبة وشهية للموت الخاص. وعلى الجبهة كلّ ما يتحرك هو "شيء" فقط. قال:" الشخص الواقف أمامي، بعيدا وضمن مدى النار يتحول إلى شيء فقط. شيء لا إنساني. وكنت في اللحظة المناسبة ألتقط الرأس وأطلق عليه الرصاص"(ص110). حرب الحاكم الهووي ليست حربا ضد عدوّ حقيقي. هي تمرين إضافي على الموت. ولكن بوسائل أخرى، حرب للتشيّؤ فقط. هي مراقبة حثيثة للانتقال من الشخص إلى الشيء؛ ولكن تحت اسم الإنسان. وهكذا ينجح الحاكم الهووي في قطع صلة البشر ببشريّته عبر قتل الآخر مجاناً. قال:" كنت أقتل. لكنه قتل مجاني لا يحاسبك عليه أحد. الجندي المقابل لي في الساتر الترابي لا يشكل لي حالة إنسانية. إنه رقم. شيء يتحرك، لعبة كمبيوترية وعلي اصطياده قبل أن يهرب"(نفسه).

تجري مقايضة أخلاقية بين الموت والتشيؤ. والهدف هو طرد الإنسان من أفق ذاته وتحويله إلى ما أطلق عليه الفيلسوف الإيطالي أغمبن "الإنسان المهدور"(homo sacer). ما يدعو إليه الحاكم الهووي هو معاملة بعض البشر على أنّه موضوع مناسب لقتل مجاني، وهو مجاني في معنى أنّه مهدور ليس فقط قانونيا كما هو حال الرومان، بل أخلاقيا أيضا. لنقل: إنّه مهدور إنسانيّا أيضا. ولذلك هو لا يشكّل "حالة إنسانية"، لأنّه "رقم" أية علامة اعتباطية على حالة كمّية. وعندئذ لا يبقى من البشرية غير "الحركة" و"البعد الافتراضي" و"فرصة الصيد" وخط "الهروب". هذا التحويل النسقي لوجه "العدو" – عدو الحاكم الهووي- إلى "لا-هوية"، إنّما يؤدّي إلى تفريغ القتل من محتواه المعياري: إنّه قتل "بريء" تماما ممّا وقع. القتل البريء هو مكافأة الحاكم الهووي لأعوانه في مقام يحوّله إلى إله شرقي نموذجي: يستبدّ بواسطة الغفران. قال:" لم أكن أشعر أني قاتل...لم أشعر بإنسانية الطرف المقابل"(ص110). وفجأة يفرض علينا الراوي أن نميّز بين الموت والقتل: إيقاع الموت بالأشياء ليس قتلا. القتل لا يصبح مذنبا إلاّ ضدّ البشر. لكنّ استعمال الموت كتقنية وطن إجباريّة ضد أشياء تتحرّك في أفق الوطن هو لعبة كومبيوترية أو صيد بشري لا تحرّمه دولة الهوية بل تفرضه على مواطنيها.

لكنّ الموت ليس حكرا على الآخر. فمن يهرب من الجبهة ينقلب سريعا إلى موضوع للقتل. قال: "أحد الجنود من فصيلي هرب، لم يكن قادرا على الموت، على صنع الموت...كنت أخشى من النائب الضابط أو العريف أن يلمحه وهو يصوب البندقية ويرمي المساحات الفارغة من الإنسانية...كان ينبغي له أن يقتل من أجل أن يعيش"(ص111). الموت تقنية وطن، ومن لا يتقن قتل الآخر يُتّهم في وطنيّته ويُقتل. صناعة الموت جزء من أدب الانتماء. هكذا تعلّم دولة الهوية الحديثة. ولذلك، هي تعاقب كل من يهدر رصاص الوطن في الرمي على "مساحة فارغة من الإنسانية"؛ فمن يفعل ذلك يهدّد الفرق الصارم الذي تضعه دولة الهوية بين استعمال الموت والقتل. مجرد إطلاق الرصاص هو استعمال للموت ولكن من دون قتل. توجيه الموت نحو المساحات الفارغة من البشر هو إذن خيانة. وتستحق القتل؛ لأنّ القتل أكثر من توجيه الموت نحو عدوّ ما. إنّه إطلاق الرصاص على مساحة الإنسانية بما هي كذلك. وحده الإنسان يجب أن يُقتل. أمّا الشيء، فهو يموت. ولا يشعر الراوي بأيّ تعاطف مع الشيء اللا-إنساني الذي يموت. ورغم ذلك، فإنّ حدودا ما لم يستطع أن يتخطّاها في معاملة الموت.

قال:"...وقع بين أيدينا أسرى...وأدهشني أحد الجرحى الصغار في العمر حينما اندلقت مصارينه خارج جسده...كان ميتا إلا أنّه لملم مصارينه ووضعها في بطنه الجريحة..نشأ بيننا حوار مكتوم. لكني أريد قتله من أجل تخليصه من العذاب...كان طفلا...بعد إطلاق النار شعرت برغبة كبيرة في أن أموت أنا أيضا"(ص112-113).

ينجح المؤلف بشكل مزعج هنا في بيان كيف أنّ الموت لا يعرف الحدود بين القاتل والمقتول. إنّه حالة عبور فظيعة من مساحة إنسانية إلى أخرى. وفجأة يسقط الفرق الفولاذي بين من يحمل البندقية ومن يسكن جسماً مشوّها بالموت. الموت يعتدي على هويات الأشياء. ويسخر من الحدود الأخلاقية التي يدسّها الوطن بين الأجساد. ثمّة "تخريب للروح" لا يراه الوطن، لأنّه ينتمي إلى مساحة إنسانية أوسع من هويته. وتيمة الرواية كلّها هي ضرورة المسارعة إلى كتابة تاريخ الخراب، خراب العالم من حولنا، قبل أن ينجح حاكم هوويّ آخر في تنصيب لافتة ما بعد الكارثة. وتلقين الأجيال وصفة النسيان المميتة.

وإنّ من أكثر صفحات الرواية روعة هي أكثرها كلبيّة. لكنّها كلبيّة إنسانية هذه المرة، حيث إنّ الجسد الإنساني قد ظلّ يمنع الراوي من مشاركة كلاب بغداد مرحهم الليلي. إنّ جسم الكلب يستعمل كل المكان ولا يخشى أيّة مراقبة أخلاقية. قال:" روح الكلاب تسكنني لكني أتمتع بجسد إنساني وهذا ما حز في روحي"(ص116). حتى لو عرفنا أنّ العالم مساحة كلبيّة واسعة النطاق؛ فنحن لن نستطيع التمتع بها. إنّ "تساؤلات الخراب" ظلّت معلّقة على وجه الطفل الذي أطلق عليه الرصاص كي يخلّصه من الحياة التي لم تعد ممكنة. قال:" كان يحيل كل شيء في حياتي إلى خراب رائع"(ص117). لكنه "ليس خراب جميلا. ليس منعشا ولا جميلا أن تقتل إنسانا وجدت في جيبه صورة أمه"(ص118). الرائع يواصل الاحتفاء بالعالم الذي تحوّل في الأثناء إلى "بيت الأموات الكبير" (ص117) لكن الجميل لم يعد ممكنا. الجميل يحتاج إلى كمّية هشّة تماما من الإنسانية، ليس أكثر خطرا عليها من عبور الموت بيد أصابعك.

وهكذا يمضي بنا المؤلف قدماً إلى الحدّ الذي تصبح فيه كتابة الرواية نفسها الدواء الوحيد المتبقي لمن عبره الموت بلا رجعة. تتبلور صورة مثيرة عن قدر الكاتب: إنّه ذاك الذي عبره الموت ولم يعد يمكنه الرجوع إلى عالم الحياة من الجهة المناسبة. قال:" لن أكتب"(ص125). لكنّ "الشعور بأن العالم لم يزل بخير" (ص128) يزعج الكاتب ويعيده إلى نقطة الانفجار الكبير. كان لا يزال يردّد دوما أنّه في حاجة إلى إجازة في بعقوبة من أجل التفرغ للكتابة، لكنّه لم يعثر على هذا المكان في أي مكان. إنّ دخول اللامكان كان بلا رجعة. وفي خضمّ هذا اللامكان، يأخذ المرء قراره بأن يصير كاتبا. قال:" فاجأت الجميع بأن قلت إني سأكون كاتبا. كلهم عض شفتيه. قالوا لي لماذا؟ أتريد أن تكون جوعا؟"(ص132). هل غيّر الموت هويته؟

حين يتحوّل المرء إلى كاتب فهذا ليس قرارا مهنيّا عاديا. إنّه لا أقلّ من تغيير العلاقة مع موته. لن يكون الوطن هو أفق الروح هذه المرة، بل الكتاب. ليس هذا الكتاب أو ذاك، بل الكتاب باعتباره إمضاء ميتافيزيقيا خاصا بنوع من البشر. هم سكّان الشرق. لكنّ منزلة الكتاب قد انفجرت في زمن ما بعد الكارثة. ربما لا يزال الكتاب مقدّسا في وعي الناس. لكنّه صار "مسروقا". وهكذا بدلا من أن يكون الراوي كاتبا لرواية تحمل إمضاءه هو قد تحوّل سريعا إلى سارق يومي للكتب الرائعة. قال:" الكتاب المسروق دائما كان متعة لا توصف...عرفت كل مكتبات بغداد الضخمة وسرقت من كل تلك المكتبات، كتب غارسيا ماركيز ..ونيتشه..وتفسير الجلالين والنفري والطواسين..كل الأنبياء كانوا في مكتبتي"(ص133).

لا يتعلق الأمر بالسرقة كجريمة اجتماعية، بل بالسرقة كموقف روحي من الكتب. والسؤال هو: كيف يمكن الولوج مباشرة إلى روح الكتب دون المرور بالعلاقة العمودية والجبانة مع المدرسة ؟ قال:" كنت أشعر أن المدرسة هي عبارة عن عار شخصي"(نفسه). ولكن لماذا غادر الكتابُ المدرسةَ؟ ما أزعج الراوي هو أنّ المدرسة تحول دون مواصلة "مسيرة الاندهاش من العالم" (ص134). إنّ المدرسة الحديثة هي وسيلة الهوية بامتياز، إذ يعمل الحاكم الهووي على تعليب وعي الأطفال، حيث يحتاجون إلى الوطن، ومن ثمّ يحوّلهم إلى مادة استهلاكية للهوية. إنّ وظيفة المدرسة الحديثة هي إخراج العالم من أفق الأطفال وتدريبهم على الحياة اليومية في وطن بلا عالم. المدرسة تقنع الطفل بأنّه حيوان مدجّن عليه أن يحترس من أيّ رفع للبصر أعلى من الوطن. قال:" كنت أشعر أني شيء مختلف، نبي مشرد. إله جديد"(ص142).الاختلاف والنبوة والتألّه علامات على تشرد ميتافيزيقي لا تحتمله المدارس.