تقديم كتاب: "التجربة الدينيّة بين الوَحدة والتنوّع" لتوفيق بن عامر


فئة :  قراءات في كتب

تقديم كتاب: "التجربة الدينيّة بين الوَحدة والتنوّع" لتوفيق بن عامر

أ/ التقديم المادّي:

صدر عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، ومؤسسة "مؤمنون بلا حدود" للدراسات والأبحاث، سنة 2013، الطبعة الأولى من كتاب "التجربة الدّينيّة بين الوَحدة والتنوّع" لــتوفيق بن عامر[1]، ويتألّف الكتاب من مئتين وثمان وثلاثين صفحة توزّعت على؛ توطئة، وثلاثة أبواب، وفهرس للمحتويات، وقد تفرّع كلّ باب إلى فصول متفاوتة العدد والحجم والعناصر، وذلك على النحو الآتي:

توطئة: (من ص 5 إلى ص8 = 4 ص).

الباب الأوّل: في القراءة والتأويل (من ص 9 إلى ص 42 = 33 ص).

وقد تفرّع الباب إلى فصلين: "كيف نقرأ التراث؟" (من 11 إلى ص 24 = 14 ص)، و"التجربة التأويليّة في الإسلام" (من ص 25 إلى ص 42= 17 ص).

الباب الثاني: في تنوّع التجربة الدينيّة (من ص 43 إلى ص 152 = 110 ص).

وقد توزّعت صفحات الباب على أربعة فصول: "الخطاب الوعظي" (من ص 45 إلى ص 58 = 14 ص)، و"بين الفقهاء والصوفية" (من ص 59 إلى ص 124= 65 ص)، و"التجربة الطرقيّة" (من ص 125 إلى 152= 28 ص)، و"الوظيفية الطرقية؛ نماذج من الفتوة الرّحمانيّة" (من ص 153 إلى ص 166= 14 ص).

الباب الثالث: التجربة بين الفكر والإبداع (من 167 إلى ص 233= 67 ص).

تكوّن الباب من أربعة فصول: "في الإبداع الصوفي جلال الدين الرومي وجليل الكلام" (من ص 169 إلى ص 196= 27 ص)، و"جلال الدين الرومي ورسالة الإنسان" (من ص 197 إلى ص 211 = 14 ص)، و"في الأدب المنقبي: مدخل إلى دراسة أدب المناقب بإفريقيا في العهد الحفصي" (ص 213 إلى ص 221= 9 ص)، و"في الدرس الصوفي" (من ص 223 إلى ص 233 = 11 ص).

فهرست المحتويات: (من ص 235 إلى ص 238= 4 ص).

ب/ إطلالة على محتويات الكتاب:

إنّ الناظر في توطئة الكتاب وما تبعها من فصول، يلاحظ أنّ: المقدّمة/التوطئة تنزّل منزلة قطب الرحى الذي تدور عليه أبواب الكتاب وفصولها؛ ففيها حدّد المؤلّف الدلالات الموصولة بالمفاهيم الرئيسة للبحث؛ إذ بيّن ما يقصده بـ "التجربة الدينية"، وألمع إلى مستويات التعدّد في الوحدة، وأشار إلى أنّ البحث في مظاهر التعدّد في الوَحدة، يصطدم باعتقاد ثابت مؤدّاه أنّ: "الحقيقة الدينيّة لا تقبل التعدّد والتنوّع"[2]، وفي ما يتعلّق بهذه المسألة، بيّن الباحث أهمّ النتائج المترتّبة على هذا الاعتقاد الذي انتهى بالتجربة الدّينية إلى التحجّر والانغلاق.

وبهذا المعنى؛ فإنّ البحث في مظاهر التّعدّد ضمن الوحدة، ينطوي على رهان معرفي يتجاوز البرهنة على وجود التنوّع في التجربة الدينية، إلى الإقرار بضرورة وضع أسس قراءة تأويلية معاصرة، وهو ما عبّر عنه المؤلّف في الفصل الأول: "كيف نقرأ التراث؟"، من الباب الأول: "في القراءة والتأويل"؛ ففي هذا الفصل، حدّد نوع المقاربة التي يعتمدها في مُساءلة التراث من جهة، ومن جهة أخرى، بيّن المقصود بالتراث، فهو: "ثقافة الماضي، والثقافة: هي ما تفرزه الحضارة من نتاج الفكر والوجدان والسّاعد"[3]. وقد اقتضى ذلك من الباحث الوقوف على أهم مناهج قراءة ذلك التراث التي حصرها في خمسة أنواع، هي:

1/ القراءة السلفيّة التمجيديّة المتعصّبة للتراث.

2/ القراءة التحديثيّة التي تسعى إلى القطع مع التراث، باعتباره أحد أهمّ عوائق الحداثة.

3/ القراءة التوفيقيّة الساعية إلى الملاءمة بين التراث ومتطلّبات الحداثة.

4/ القراءة التوظيفية النفعيّة.

5/ القراءة المعيارية الانتقائية.

وهي قراءات دارت على الثالوث: الذات والتراث والحداثة. ولم يخف المؤلّف ما انطوت عليه جميع تلك القراءات من نقائص، مؤكّدًا أنّ تلك الـ "مناهج [اعتمدت في التعامل] مع التراث [أساليب] لم تكن ملائمة لمفهومه وطبيعته، ولم توفّق، تبعًا لذلك، إلى جعله عنصرًا فاعلًا في مشروع النهضة"[4].

وانطلاقًا من ذلك، عمل "توفيق بن عامر" على اتباع مسلك سادس هو: "مسلك القراءة التاريخية النقديّة، الذي يقوم على تفكيك بنية الثقافة، وإعادة تركيبها، والتأليف بين عناصرها"[5]، وهو بذلك، يكون قد تدرّج من واقع القراءات المعاصرة، إلى القراءة التفهّميّة النقديّة التاريخيّة التي تنأى بنفسها عن المفاضلة بين التراث والحداثة.

ونحسب أنّ الفصل الثالث: "في الأدب المنقبي: مدخل إلى دراسة أدب المناقب بإفريقيا في العهد الحفصي"، والفصل الرابع: "في الدرس الصوفي: إضافات محمّد مفتاح إلى الدراسة الصوفية"، من الباب الثالث: "التجربة بين الفكر والإبداع" خير مثال على المقاربة التي يراها المؤلّف قادرة على تمثّل أبعاد التراث، ويعدّ المفكّر المغربي "محمّد مفتاح" في تقدير "توفيق بن عامر" خير نموذج؛ فقد ولج مفتاح في كتابه "الخطاب الصوفي مقاربة وظيفية" مناطق مجهولة من التراث الصوفي، وذلك بالاستفادة من مكتسبات المقاربات المعاصرة (الأنثروبولوجيا، السيميائيات، ...)، فبفضلها استطاع تنزيل الظاهرة الصوفية في سياقاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، واستطاع التمييز بين مختلف ضروبها (التصوف الفلسفي، التصوف السّني، التصوف الشعبي) من جهة، ومن جهة أخرى؛ فإنّ "محمّد مفتاح" قدّم نموذجًا للبحث العلمي الصارم الذي لا يقوم على نظريات مسقطة، وإنّما يستند إلى بنية الأوضاع الاجتماعية والثقافية والتاريخية الحافّة بالظاهرة المدروسة.

وهي مسألة تحتاج، في تقدير الباحث، إلى آليّات عديدة منها؛ القدرة على نفض الغبار عن المدوّنات التراثية القديمة، وتحقيقها "التحقيق العلمي" وهو مشروع لن يحقّق نتائج مهمّة ما لم تتضافر جهود الباحثين، وتتكامل (وَحدات بحث، مخابر، ...)[6]، وهو بذلك، يقف على بعض نقائص البحث العلمي في البلاد العربية التي لم تستطع بناء رؤية واضحة لتراثها.

وقد توسّع المؤلّف في أبعاد هذه المسألة في الفصل الثاني: "التجربة التأويلية في الإسلام" الذي بيّن فيه أهم تجليات القراءة التي يسعى إلى اعتمادها؛ ففي هذا الفصل بيّن أنّ القراءة التأويلية قراءة متأصّلة في الثقافة العربية الإسلامية، بدءًا من النص القرآني. وقد تتبّع الباحث تجليات التأويل في جملة من مجالات الثقافة، مشيرًا إلى أنّ الممارسة التأويلية في الإسلام موصولة بــ "الجانب الشرعي"، والجانب "العقائدي"، والجانب "الوجودي الماورائي".

وقد خلص في هذا المجال إلى نتيجتين مهمّتين، في تقديرنا، هما عماد البحث؛ تتمثل الأولى في: "أنّ الثقافة الإسلامية [... هي] ثقافة تأويلية"[7]، وأمّا الثانية فهي: "أن الظاهرة التأويلية [... هي] بمثابة جسر الانتقال بالتجربة الدينية من الوَحدة إلى التنوّع"[8].

انطلاقًا من هاتين النتيجتين، نقول: "إنّ الباحث لم يشأ الخوض في قضايا التجربة الدينية بين الوحدة والتنوع، قبل تحديد الأفق المعرفي المؤطّر للقراءة، والاستفادة من لبنات الممارسة التأويلية التي أقرها الموروث الثقافي الإسلامي القديم".

وهو ما جعل من الباب الأول، بفصليه، امتدادًا للتوطئة، وتمهيدًا نظريًّا للفصل الثاني الذي تحوّل فيه المؤلّف من المستوى النظري إلى المستوى التطبيقي؛ إذ عالج فيه جملة من التجارب الدينية في الثقافة العربية الإسلامية، وهي: تجربة الخطاب الوعظي، والتجربة الفقهية، والتجربة الصوفية، والتجربة الطرقية؛ فهذه التجارب تقدّم قراءة تأويلية للإسلام باعتباره الوَحدة الجامعة لمختلف تلك الأشكال المتباعدة في أسسها ومقوّماتها؛ فمنها ما اتخذ العقل أصلًا من الأصول في بناء التجربة الدينية، ومنها ما قام على الوجدان، وهو ما أنتج موروثًا فكريًّا وإبداعيًّا متنوّع المشارب والرؤى، على أنّ الاعتقاد بوَحدة الحقيقة، والتمسّك بأنّ المسلك إليها واحد، قد نتج عنه بروز مواقف احترازية (الفقهاء/المتصوفة، ...)، وإدانات متبادلة، انتهت إلى إقصاء كل طرف للآخر. ورغم محاولات المصالحة بين التجارب الدينية (الغزالي= الجمع بين رؤية الفقهاء ورؤية المتصوفة)؛ فإنّ النزعة الإقصائية الرافضة للآخر المختلف قد بسطت سلطانها على الفكر الديني، مما ضيّق حيّز الوعي بأهمية التنوّع والاختلاف في التجربة الدينية الواحدة. وقد نبّه "توفيق بن عامر" في هذا المجال إلى وجود موقفين داخل الدائرة السّنية: "اتّسم الأول، رغم معارضته، بالتسامح، بينما عُرف الثاني بالتشدّد"[9].

وبحكم تخصّص المؤلّف في التراث الصوفي والتجربة الدينية الطُرُقيّة، فإنّ اهتمامه بــ "التجربة الدينية بين الوحدة والتنوّع" يمثّل امتدادًا للمشروع البحثي الذي أطلقه منذ عقود، بدءًا من: "دراسات في الزهد والتصوّف، والتصوّف الإسلامي إلى القرن السادس الهجري"[10].

لقد اعتبر الباحث "التجربة الطرقية" خير مثال يكشف عن الروافد المتعددة للتجربة الواحدة؛ فهذه التجربة جمعت بين الرافد الديني، والرافد الاجتماعي، والرافد التاريخي المتمثل في الانفتاح على الآخر. وفي ما يتصل بالتجربة الدينية الطرقية، يؤكّد قيامها على "عوامل ذات طابع محلي؛ فهي نابعة من صميم الحياة الإسلامية [.. من جهة ومن جهة أخرى، فإنّ المسألة لا يجب أنْ تحجب عنّا أهمية البحث، كذلك، عن العوامل الدخيلة والمؤثرات الخارجية؛ إذ إن المسلمين لم يكونوا، في أيّ طور من أطوار تاريخهم، يعيشون بمعزل عن الثقافات والحضارات الأخرى في هذا العالم"[11].

وبهذا الشكل، يشير الباحث إلى أنّ التعدّد قَدَرُ التّجربة الدينيّة، ومخطئ من يعتقد بوَحدة التّجربة، فكلّ تجربة هي صدى لتجارب وروافد متنوّعة، يتمّ صياغتها على شكل تجربة دينية واحدة.

إنّ الخطابات الإسلامية، على اختلاف أنواعها ومرجعياتها، ظلت تتحرك في فضاء الاعتقاد بالوَحدة التي لا تقبل التعدد، وخير مثال على ذلك؛ الخطاب الصوفي الذي انتهى مع "جلال الدين الرومي" إلى القول: "إنّ مسألة التعدد والكثرة [..] من أوهام العقل، فما يراه العقل اثنين تراه الروح واحدًا"[12].

ج/ التنوّع والتعدّد بين متطلّبات التجربة الدينية ومقتضيات الوجود الإنساني:

أقام المؤلّف أبواب الكتاب وفصولها على منطق مخصوص، جمع فيه بين التنظير والقراءة التطبيقية، والقراءة النقدية للجهود المبذولة (محمد مفتاح، ..) في حقول مخصوصة.

وقد سعى المؤلّف في جميع الأبواب إلى تقديم قراءة تأليفية، وذلك بالاستناد إلى تعريفات واضحة ودقيقة للمفاهيم التي انطلق منها الباحث، وهي: التجربة الدينية، الوَحدة، التنوّع. فالتجربة الدينية: "هي تفاعل الفرد والمجموعة عبر التاريخ مع الظاهرة الدينية ذات المرجعية الواحدة، سواء على صعيد الرؤية والتمثل، أو التعاطي والممارسة"[13]. أمّا التنوع؛ فليس مجاله "التّجارب الدينية ذات المرجعيات المختلفة [... وإنّما المقصود بالتنوّع تعدّد] التجارب الدينية ذات المرجعية الواحدة [... وهي] حقيقة موضوعية لا يمكن جحدها"[14].

إنّ التراث الديني قام على مفارقة واضحة بين الممارسة الدينية (التجربة الدينية، ...)، وما دعا إليه النص التأسيسي؛ فالتعدّد والاختلاف قاعدتان من قواعد الوجود الإنساني وفق الرؤية القرآنية، والنصّ القرآني أقرّ بالاختلاف داخل العقيدة الواحدة، وبين أتباع الأديان المختلفة[15]؛ إذ إنّ المبدأ الرئيس الّذي قام عليه "القرآن الكريم" في تحديد علاقة الإسلام والمسلمين ببقية الأديان وأتباعها، مداره أن: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ"[16].

وفي هذا السياق، نشير إلى أنّ العنف ارتبط في النص القرآني بأوضاع مخصوصة، تكون فيها الجماعة المسلمة مهدّدة في وجودها، فدم الآخر في الأوضاع العادية محرّم على المسلم مثلما هو محرّم عليه دم المسلم[17].

وتعود المسألة، في تقديرنا، إلى سطوة الممارسات التاريخية التي جعلت من الإقصاء قاعدة، وبمقتضى ذلك التصوّر، قوّضت أهم المبادئ التي قامت عليها الأديان التوحيدية (الدعوة إلى التعايش)، فكان التعصّب ماهية الدين، وكان سفك دم الآخر شكلًا من أشكال التقرّب إلى الله.

ولا تخرج عن هذا الأفق مواقف الفرق والمذاهب وأصحاب التجارب الدينية المنتمية إلى العقيدة الواحدة، ولا غرابة في ذلك، فجميع الأديان تأسست، كما لاحظ "محمّد أركون"، على مبدإ واضح مفاده أنّ: "المسلمين كالمسيحيين، قد شرّعوا وسنّوا القوانين باسم مزعم امتلاك حقيقة الوحي الفريدة والمطلقة"[18].

فإذا بالعلاقة بين المذاهب والتيارات الدينية في اليهودية (الفريسيون، الصّـدوقيين، ...)، وفي المسيحية (الكاثوليكية، البروتستانية، ....)، وفي الإسلام (المتصوفة، الفلاسفة، السنة، الشيعة، ...)، لم تقتصر على رفض الاختلاف، وتكفير المخالف؛ وإنّما أصّلت للفكر الاستئصالي الذي جعل من اقتلاع المغاير قاعدة، وذلك بحجّة خروجه عن الملّة. وفي هذا المستوى نتبيّن أهم وجوه الاختلاف بين الفكر الديني التنويري، والفكر الديني المتحجّر الذي يقيس إيمان الآخرين بمدى مطابقته لما أقره مذهبه، وهو ما أدى إلى انغلاق التجارب الدينية، وعجزها عن التطوّر والتجدّد، بالنظر إلى عدم اتصالها ببقية التجارب الدينية المنتمية إلى العقيدة نفسها، أو المنتمية إلى عقائد أخرى. ويعود السبب الرئيس في انغلاق التجارب الدينية إلى أمرين متداخلين؛ يتمثل الأول: في الإقرار أنّ الحقيقة واحدة، وأنّ الطريق إليها واحد، وأمّا الأمر الثاني: فقوامه عدم وعي أرباب تلك التجارب بأنّ التجربة هي "تأويل للحقيقة" التي متى كفّتْ عن كونها متعددة، انقلبت إلى حقيقة جامدة لا حياة فيها، وعادت على الإنسان بالوبال والشرّ.

بناءً على ذلك، نقول: إنّ التنوّع والتعدّد الأصل، الذي غُيّب واستبدل بالوَحدة، التي تعني في ما تعني "محو الخصوصية، وانعدام الذات المؤمنة في تمثّلها للوجود ومكوّناته"، وما يقوم بينه وبين العوالم المرئية وغير المرئية من علاقات.

د/ في نعيم التّنوع والتّعدّد:

يصيب القارئ لكتاب "التجربة الدينية بين الوحدة والتنوع" متعةً، وهي ليست حكرًا على الباحث المختص في الحضارة العربية الإسلامية فقط؛ فالكتاب صيغ بأسلوب سلس وواضح، وفي فصوله بسّط المؤلّف القضايا بما يتيح للقارئ، غير المختصّ، قدرة على تفهّم مقاصد الباحث وغايات بحثه، وفي ما يتعلّق بهذه المسألة، بذل الباحث جهدًا واضحًا في مستويين؛ إذ إنّه لم يكتفِ بالتحليل، وتفكيك النصوص واستقرائها؛ بل ألفيناه يلخّص الآراء، ويقدّم قراءة تأليفية لها (محمّد مفتاح).

ولا غرابة في ذلك؛ فالتجربة الثرية للباحث في مجال التدريس بمختلف مستوياته، والإشراف على البحوث الأكاديمية، جعلت من الأستاذ "توفيق بن عامر" صاحب رؤية مخصوصة في البحث في الدرس الحضاري في الجامعة التونسية، تجلّت أبعادها في أعماله المتعددة، وفي أنشطة وندوات الوَحدة التي يديرها "وَحدة البحث في حوار الثقافات"[19].

فالبحث في "صورة الآخر في الثقافة العربية الإسلامية"، وفي "التراث العربي والحوار الثقافي"[20]، يُعتبر من المباحث المهمة التي أولاها الباحث عنايته؛ ذلك أنّ الحديث عن التنوّع داخل التجربة الدينية، يستدعي الوقوف على مختلف وجوه استحضار الآخر، باعتباره "الآخر المختلف والآخر الشبيه"[21]، وباعتباره أيضًا "جزءًا "من الذات، يعيش في خلجاتها وهواجسها؛ بل هي مدينة له بوجودها [إليه. زد على ذلك] أنّ التعدد ليس موجودًا في الآخر فقط؛ بل التعدد والتغيّر موجود في الذات أيضًا"[22].

ولا مخرج من مآزق تلك الثنائية، التي حفّت بها خطابات هدّامة حوّلت الآخر وخطاب التعدّد والتنوّع إلى خطر محدق بالذات، وكأنّ العالم لا يسع الذات والآخر، ولا اختلاف في ذلك بين خطاب العولمة والخطاب الديني المتشدّد؛ فكلاهما يحرص على اختزال العالم في وَحدة قاتلة.

ومن شأن اتباع هذا الاتجاه الفكري أنْ يهدد سعادة الإنسان؛ فالشكّ والريبة والخوف من الآخر المختلف، ينغصون رغد الحياة على الذات.

وهي رؤية قدّر المؤلّف أنّها تنطوي على مخاطر عديدة أهمّها؛ "أنّ الثقافة التي لا تؤمن بالتنوّع والتعدّد [...] هي ثقافة هشّة، وضعيفة، وخائفة، وناكصة على أعقابها، وليس لها ثقة في ذاتها"[23].

وبهذا المعنى؛ فإنّ التعامل مع التنوّع واتخاذه قاعدة يضمن للثقافات والأديان الحياة والبقاء، ولا يهدد وجودها، كما يروّج لذلك دعاة العولمة، وكما يعتقد أنصار الفكر السلفي وأتباعه.

إنّ البحث في "التجربة الدينيّة بين الوَحدة والتنوّع" يشارك مشاريع بحثية عديدة الهواجس والأسئلة، منها؛ مشروع "الإسلام واحد ومتعدّد"[24]، ومشروع "عبد الوهّاب بوحديبة"[25]، وهي مشاريع بينها وشائج قربى عديدة لا تعدّ ولا تحصى، من أهمّها؛ حرص أصحابها على تأسيس قراءة معاصرة تقطع مع القراءات التقليديّة الجامدة.


[1] الأستاذ الدكتور توفيق بن عامر: أستاذ التعليم العالي في الجامعة التونسية، ويُعدّ من أهم الأسماء المختصة في الدراسات الحضارية في تونس وفي العالم العربي، وهو مدير وحدة البحث "حوار الثقافات" في جامعة تونس. عُرف باهتمامه بالبحث في الحضارة العربية الإسلامية، لا سيما في مجالات؛ التصوّف، وأصول الفقه، وأصول الدين، وتجديد الفكر الديني.

[2] راجع ابن عامر (توفيق): التجربة الدّينيّة بين الوَحدة والتنوّع، المركز الثقافي العربي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، ط 1، الدار البيضاء (المغرب)، بيروت (لبنان)، 2013، ص 6

[3] المصدر نفسه، ص 14

[4] المصدر نفسه، ص 23

[5] المصدر نفسه، ص 24

[6] انظر المصدر نفسه، ص ص 220 - 221

[7] المصدر نفسه، ص 36

[8] المصدر نفسه، ص 42

[9] المصدر نفسه، ص 114

[10] نشير إلى أنّ الأستاذ توفيق بن عامر: هو مؤسس "الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة".

[11] المصدر، ص 151

[12] المصدر نفسه، ص 187

[13] المصدر نفسه، ص 5

[14] المصدر نفسه، ص 6

[15] الإيمان والكفر في وفق القرآن مسألتان متعلقتان بالفرد.

[16] سورة البقرة: 2/ 256

[17] حدّد النص القرآني في آيات عديدة العلاقات التي قامت بين الجماعات الدينيّة، فكانت متحاربة حينًا، ومتعايشة في فضاء واحد بطمأنينة وسلام حينًا آخر. وما يلفت الانتباه في ما يتعلق بالوضع الأوّل (الحرب) أنّ الدعوة إلى قتل الآخر واستباحة دمه، كانت قصاصًا وردّ فعل على العنف الممارس ضد الجماعة المسلمة، وهو ما يتجلّى في الآيات القرآنية الآتية: "َاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [...] وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ [...] حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [...] فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ [...] وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ"، سورة البقرة: 2/ 191- 194

[18] راجع أركون (محمّد): الفكر الإسلامي نقد واجتهاد، تعريب هاشم صالح، دار السّاقي، ط 1، لندن إنجلترا، 1990، ص 115

[19] تنشط هذه الوَحدة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، جامعة تونس.

[20] العنوانان هما: ندوتان نظمتّهما "وَحدة البحث: حوار الثقافات"، وانعقدت الندوتان في أبريل ونوفمبر سنة 2007، وقد صدرت الأولى سنة 2007.أمّا الثانية، فصدرت دون تاريخ.

[21] ابن عامر (توفيق): صورة الآخر في الثقافة العربية الإسلامية، منشورات وحدة البحث "حوار الثقافات"، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، المطبعة الرسمية، تونس، 2011، ص 4

[22] المرجع نفسه، ص 3

[23] المرجع نفسه، ص 4

[24] صدر هذا المشروع في شكل كتب أنجزها جملة من الباحثين في الجامعة التونسية بإشراف من الأستاذ عبد المجيد الشرفي.

[25] نشير بالأساس إلى عملين مهمّين للأستاذ عبد الوهاب بوحديبة، وهما: القصد في الغيرية: بحث حول التجارب العربية الإسلامية، الوسيطي للنشر، ط 1، صفاقس تونس، 2001. وL’Homme en islam, Ed Sud Editions, Tunis, 2006