ثورة في قلب القسطنطينية


فئة :  مقالات

ثورة في قلب القسطنطينية

كلّما زرت إسطنبول لذّ لي التجوال في الساحة المحاذية لمسجد السلطان أحمد، وحينما أقمت في المدينة واصلت زيارتي لذلك الميدان المستطيل، والجلوس في مقهى يحاذي جدار الجامع الأزرق، والنظر إلى المارّة، وقد ملأوا الميدان أمامي رائحين وغادين من كل لون وعرق، وقد ارتفعت في وسطه النصب التذكارية، ومنها المسلّة المصرية التي جاء بها الإمبراطور "ثيودوسيوس" من معبد الأقصر، وتعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، والنافورة الألمانية التي أمر بها الإمبراطور الألماني وليم الثاني في نهاية القرن التاسع عشر، ثم العمود الأفعواني الذي جلبه الإمبراطور قسطنطين من معبد دلفي في اليونان بعد أن اختار المدينة عاصمة له. قبل فتح القسطنطينية في عام 1453م كان هذا الميدان يعرف بـ""الهيبودروم" ويعود بناؤه إلى حوالي القرن الثالث الميلادي، وخلال العصر البيزنطي كان مضمارا للخيل، ومكانا للألعاب والكرنفالات الجماعية، وفيه اندلعت أول ثورة شعبية في شتاء عام 532م.

كان حدث التمرّد في الهيبودروم غائما في ذاكرتي، لا أتبيّن منه إلا خطوطا واهية، لكنني أعرف أن هذا المكان كان ميدانا لتمرّد استمر أسبوعا كاد يطيح بالإمبراطور جوستينيان، الذي كنت أطلعت على مدوّنته القانونية في أوائل تسعينيات القرن العشرين، حينما شرعت في تأليف كتابي "المركزية الغربية". رحت استجمع خيوط تلك الثورة من المصادر التاريخية، وتخيلت الميدان وقد تزاحم فيه الثائرون ينادون بخلع إمبراطور. في البدء أسعفني "رنسيمان" بكتابه "الحضارة البيزنطية" بما أريد، فحالما انتقل المُلك من روما إلى القسطنطينية، حتى جرى الاهتمام بهذه العاصمة البديلة، وبنيت فيها الكنائس، والقصور، وبني الهيبودروم، أي ساحة الألعاب الكبرى، واستقطبت العاصمة الناس إليها من أطراف الإمبراطورية، فاختلطت الأجناس والأعراق، وحسب المؤرخ "ويلمان" فإن القسطنطينية مدينة تلاصقت بيوتها، وتمازج سكانها، وهم ينطقون بلغات كثيرة، منها اللاتينية، ومنها اليونانية، ولم تبخل المدينة على أحد من ساكنيها، ففيها الأثرياء والشحاذون، والعاملون والعاطلون، والأحرار والعبيد، والنبلاء والانذال، والمؤمنون والجاحدون، وتفترش المدينة هضبة مرتفعة كأنها مطوقة بأذرع البوسفور، والقرن الذهبي، وقد تزينت بثروة الدنيا كلها، ورفلت بالخيلاء، وانطوت على الجاذبية، وفيما بدت من جانب وقورة محتشمة، بدت من آخر لاهية ومستهترة، ففيها الرقة القاسية، والتحضّر المتوحش.

اقترنت لقسطنطينية بالإمبراطور "قسطنطين"، فما أن آل الحكم إليه في مطلع القرن الرابع الميلادي، واستمر لأكثر من ثلاثين عاما، حتى آمن بالمسيحية، وفرضها دينا للإمبراطورية، وكان أن اختار عاصمة رديفة لروما، فوقع اختياره على "بيزنطة" الواقعة على اللسان الأقصى لأوروبا، حيث تظهر آسيا وراء مضيق البوسفور على مرمى البصر. وكان أن حملت المدينة اسم الإمبراطور، ومنح اسمها القديم للإمبراطورية الجديدة. وعلى هذا أصبحت الإمبراطورية الرومانية بعاصمتين؛ هما: روما والقسطنطينية، وقد استمرت الحال إلى أن اتخذ الإمبراطور "ثيودوسيوس" الأول قبيل ختام القرن الرابع، قرارا بشق الإمبراطورية الموحّدة إلى شطرين: غربي وشرقي لكل منهما عاصمته، فكانت الغربية، وعاصمتها روما لابنه "هونوريوس" فيما آلت الشرقية، وعاصمتها القسطنطينية لابنه "أركاديوس" فانقسمت الإمبراطورية الأم إلى إمبراطوريتين، بعاصمتين، وإمبراطورين.

استمرت حال الازدواج في جسد الإمبراطورية قرابة قرن إلى أن انقضّت القبائل الجرمانية على الغربية، وخرّبت روما، فانهارت في عام 467، وبذلك آلت وراثة الحكم إلى القسطنطينية، وتوالى عليها القياصرة إلى أن وصل جوستنيان إلى سدة الحكم في عام 527م، وحسب "رنسيمان" فإن فترة حكم جوستينيان هي "الذروة التي تسنّمتها الامبراطورية الرومانية المسيحية". ومعلوم بأنه هو "الذي بنى أعظم درة نصر حازها فن العمارة في العالم إلى اليوم، وهي آيا صوفيا، كنيسة الحكمة المقدسة" وقد تباهى مفاخرا بأنه فاق بها سليمان الحكيم. وقد وصفها "توينبي" في كتابه "الفكر التاريخي عند الإغريق" بأنها "تحفة معمارية".

وكأية عاصمة مترفة لابد أن تغزوها التناقضات، وتشيع فيها الانقسامات، وكانت فترة حكم جوستنيان نموذجا لذلك، وقد اعترف هو بالأمر في فقرة من مدونته التشريعية بقوله "امتلأت مدينتا بالتناقضات البشرية". ولأنها اجتذبت إليها الناس، فقد أصبحت موطنا للتحيزات الثقافية والاجتماعية والعرقية، وظهرت الفوارق الطبقية، ولم ينعدم الصراع السياسي، وقد أصبح الهيبودروم المكان الذي يتجسّد فيه الوئام والانقسام، فبجوار الغنى يظهر الفقر، وبجوار التقوى يربض التهتك. وكانت المدينة قد أمست موطنا للكرنفالات التي يكون هذا الميدان مركزها، فضلا عن سباقات الخيل، والألعاب العنيفة والخفيفة.

إن القسطنطينية مدينة تلاصقت بيوتها، وتمازج سكانها، وهم ينطقون بلغات كثيرة، منها اللاتينية ومنها اليونانية

وكان الجمهور يجلس على جانبي الساحة المستطيلة يتسلّى، وهو يرى ضروب الألعاب، أو يعلن عن تحيّزه لتشجيع هذا الفريق أو إحباط عزائم ذاك، فتلك هي الروح الشعبية إذ تغزوها الميولات الفردية والجماعية لأسباب دينية أو سياسية أو طبقية، ولأنها قبلة الإمبراطورية فقد تجمعت فيها كل تلك الأمور، وانقسم الناس إلى فئتين متضادتين في تشجيع سباقات الخيل، وبما أن الفرق كانت ترتدي ملابس بألوان مميزة لها، كما تفعل الفرق الرياضية اليوم، فإن المشجيعين يناصرون الفرق بحسب ألوان ملابسهم، وكلما اشتدّ التنافس يتناقص عدد الألوان، وما لبث أن أصبح الفريقان الحاملان للونين الأخضر والأزرق أشهر فريقين ينتافسان في سباق العربات في الهيبودروم، ولم يتأخّر الأمر حتى انقسم الجمهور إلى جمهور أخضر، وآخر أزرق، وكانت مدارج الساحة تمتلئ بهم، ويؤدّي التنافس بين الفرق إلى خصام بين الجمهور، ولطالما وقع الاقتتال بينهما، وكان يمتد أحيانا إلى أزقة المدينة، ويتّخذ طابعا عنيفا.

وفصّلت "برناردين كلتي" في كتابها "فتح القسطنطينية" القول في ذلك، فقد اختير الميدان ليكون مركزا للمدينة منذ عهد قسطنطين، وأصبح ميدانا للألعاب، ومضمارا للعجلات، وساحة لعرض الأبطال العائدين من الحروب، ومحلّا لتجمّع الجماهير الثائرة، وساحة لتنفيذ أحكام الإعدام، وبذلك انعكس فيه المجد والمأساة، وهو بيضوي الشكل بمساحة اثني عشر فدانا ونصف، وفي منتصفه وضعت المسلّة المصرية، وفي إحدى نهايتيه عرش الإمبراطور، وقد أحيط بالتماثيل الضخمة، ومن تلك التماثيل تمثال عذراء ضخم، وهي تحمل براحة يدها اليمنى فارسا وجواده بحجمهما الطبيعي، وتمثال نحاسي لهرقل بولغ في ضخامته حدّا يكاد فيه الرجل الواقف بجواره أن يبلغ مستوى ركبته، فضلا عن تمثال لفيل هائج، وآخر لهيلين التي أوقدت شرارة حرب طروادة، وتماثيل تتوزع على أشكال لأبي الهول، وذئاب، وضباع، صنعت من رخام، ونحاس، وبرونز، ولعلّ أشهر ما زيّن الميدان مجموعة من أربعة جياد مربوطة معا في عدو سريع، وهي ذاتها التي سُرقت من القسطنطينية خلال الحملة الصليبية الرابعة خلال 1201- 1204م، ومازلت تزيّن مدخل كنيسة القديس ماركو في البندقية. ذلك ما كان قسطنطين قد زيّن به القطسنطينية حينما جعلها عاصمة لإمبراطوريته، فالتماثيل كانت ذات وظيفة جمالية تتصل بالفخامة والقوة، وليس لها وظيفة دينية، فالقسطنطينية، كما قالت برناردين كلتي "تفتخر بأنها مدينة لم تلوثها عبادة الأصنام قط".

أشار جان- كلود شينيه، في كتابه "تاريخ بيزنطة" إلى ذلك بقوله "إن القسطنطينية أخذت تجتذب إليها الفقراء والمعدمين، وقد تكاثر نفوس المدينة، حتى أنها قاربت نحو نصف مليون في القرن الخامس الميلادي، مما يدلّ على أنها مدينة مزدحمة محاطة بالأسوار والمياه، وفي القرن اللاحق تكاثر السكان بالهجرة من الأقاليم إلى المدينة، وكان الجمهور يتأـثّر بالشائعات، وينخرط في أعمال الشغب أحيانا لمناصرة هذا الطرف أو ذاك، وانتظم كثير منهم في زّمر حسب المناطق التي يسكنونها، وانتهى الأمر بانقسام ميزه اللونان الاخضر والأزرق، لتأييد سائق العربات في سباق الخيل في الهيبودروم، وكان على الإمبراطور أن يختار لونا من اللونين، ويُفهم من ذلك أن التسلية، ومتابعة الألعاب الرياضية متاحا لأهل العاصمة".

وصف "ميناندر الحارس"، وهو من مؤرخي القرن السادس، وقريب عهد بالأحداث التي وقعت في الهيبودروم، ما كان يجري من أحداث في الألعاب الرياضية، وهو وصف شاهد عيان، وقد اشترك في الاضطرابات التي وقعت فيها، فبعد أن أخفق في جني ثمرة دراسته للقانون، ولم يجد عملا في محاكم القسطنطينية، انصرف إلى "مواصلة الاستهتار والتبذير بشكل كبير غير مرغوب فيه، ولقد كان قلبي ينتظم في الفرق الملوّنة، واضطرابات السباق ومنظر الباليه. وقد دخلت الحلبة أيضا، وقمت بحماقتي بصعوبة على الصخور حتى أنني نزعت عني معطفي، ومعه الذوق العام، وآداب الحياة".

وتوسّع "ديورانت" في وصف تلك الكرنفالات الرياضية "وكان السكان الأحرار يخرجون من أعمالهم في مواسم معينة، ويجتمعون في ميدان السباق، فيغُص بهم على سعته. وكان في هذا الميدان مدرج طوله خمسمائة وستون قدما وعرضه ثلثمائة وثمانون، وتتسع مقاعده لعدد من النظّارة يتراوح بين ثلاثين ألفا وسبعين". وخلال الاستراحات التي تتخلّل الألعاب يمكن للجمهور أن يتنزّه في ممر ظليل طوله نحو ميلين، وعلى الجانبين صُفّت التماثيل "وقامت في وسطه مسلّة من مسلات الملك تحتمس الثالث جيء بها من مصر. وكان في طرفه الجنوبي عمود مكوّن من ثلاث جهات من البرونز ملتوية بعضها على بعض" جيء به من معبد دلفي تخليدا لذكرى معركة "بلاتيه" التي وقعت في عام 479 ق.م. أما مقصورة الإمبراطور، فقد ازدانت بتماثيل لأربعة جياد من البرونز المذهب". وفي هذا المضمار، كان يحتفل بالأعياد القومية العظيمة، فتسير فيه المواكب، وتقام المباريات الرياضية، والألعاب البهلوانية، وتقتتل الحيوانات وتصاد، وتعرض الوحوش والطيور الأجنبية الغربية".

غير أنه بسبب انتشار المسيحية فقد كانت مظاهر اللهو أقل عنفا من نظائرها في روما، ومع ذلك فإن أشواط سباق الخيل البالغة أربعة وعشرين شوطا، وهي الجزء الأهم من منهاج الاحتفالات، كانت تثير في نفوس الجماهير ما تثيره حفلات الأعياد الرومانية في نفوس الرومان من حماسة بالغة. وكان ركاب الخيل والعربات المحترفون يقسّمون إلى فئات زرق، أو خضر، أو حمر، أو بيض، حسب من يستخدموهم من أصحاب الخيل والعربات، وحسب ما يرتدون من ثياب، وعلى هذا النحو أيضا ينقسم النظّارة، بل وينقسم سكان المدينة على بكرة أبيهم، وكان الحزبان الرئيسان- الزرق والخضر- يقتتلان بالخناجر في المضمار، وأحيانا في شوارع المدينة. ولم يكن في وسع السكان أن يعبّروا عن مشاعرهم إلا في أثناء هذه الألعاب، ففيها كانوا يطالبون بحقّهم في أن ينالوا رعاية الحكّام، أو فيما يريدونه من ضروب الإصلاح، أو في الشكوى من ظلم الحكّام، وكانوا في بعض الأحيان يعتبون على الإمبراطور نفسه، وهو جالس في مقعده الأمين الرفيع الذي يتّصل بقصره بمخرج يقوم عليه حراس مدجّجون بالسلاح".

لم تكن الألوان دلالة مجردة عن فرق رياضية متنافسة إنما تجاوزت ذلك فأصبح اللون الأخضر علامة على الباعة والبحارة والفقراء، فيما كان الأزرق علامة على المُلاك والنبلاء والطبقة العليا في الدولة، فظهر الانقسام الطبقي على خلفية من الألعاب الرياضية، ولم يخل الانقسام من الانتماءات الدينية والثقافية لكل طرف، وبمرور الأيام اعتاد مجتمع القسطنطينية على الخصومات بين المشجّعين، ومن خلال ذلك انكشفت نقمة الناس على الحكم، أو في الدفاع عنه، إلى أن تخمر النزاع عن ثورة شهدتها الساحة بين 11-18 يناير من عام 532 م.

بدأت الأحداث يوم الأحد 11 يناير قبيل الأشواط الأخيرة من سباق الخيل حينما علا صوت من جهة الخضر يلتمس من الإمبراطور جوستنيان الجالس في المقصورة يشهد السباق أن يرفع عنه اعتداء أحد أتباعه، فكان أن نفى المتحدّث باسم الإمبراطور أن يكون قد حصل أيّ اعتداء، وتجاوز ذلك بأن اتّهم صاحب الشكوى وأتباعه من الخضر بأنّهم لم يحضروا من أجل مشاهدة السباق، إنما لإظهار السخط، والتطاول على الإمبراطور، ثم زاد بأن اتّهم الخضر بأنهم "يهود، وسامريون، ومانويّون"، فاستنكر الخضر ذلك، وزاد غضبهم من تُهم جزاف رموا بها على مرأى ومسمع القيصر. وطبقا للمؤرخ "ثيوفانس" فقد ظهرت كراهية الخضر للسلطة الحاكمة؛ لأنها وقفت إلى جانب الزرق، إلى درجة شعروا فيها أنهم فوق القانون؛ لأنهم محميّون من العرش الإمبراطوري، قد أجمل المؤرخ "بروكوبيوس" ذلك بقوله: "إن تأييد جوستنيان لحزب الزرق جعل الدولة الرومانية تجثو على ركبتيها لتخرّ راكعة كما لو قد هزّها زلزال، أو اجتاحها طوفان، كما لو كانت كل مدينة من مدائنها قد سقطت بيد العدو. لقد انقلب كل أمر إلى فوضى، ولم يعد شيء على حاله، لقد ديست القوانين، ولم يعد للنظام أي وجود".

وبإنكار الفئة المناصرة للزرق، ومنها جوستنيان، الاعتراف بالاعتداء، بلغ حنق الخضر مبلغه، حينما وقف قائدهم قبالة المقصورة الإمبراطورية، وتمنّى ألّا يكون القيصر قد ولد. فاندلع جدل عال بين زعيم الخضر والناطق باسم القيصر، كشف عمق الانقسام بين الطرفين، وخلاله لم يدّخر الزرق تُهما إلا ولصقوها بالخضر، حتى نُعتوا بأنهم أعداء الله. فكان أن قال زعيم الخضر، وهو وهو يقف أمام جوستنيان "سوف نصمتُ أيها الإمبراطور إذا كان هو ما تريد، لكنّه صمت الكارهين لا المقتنعين، إننا نفضّل أن نكون يهودا على أن نكون من الزرق"، ورثى العدالة المفقودة في البلاد، وغادر الساحة يتبعه جمهور الخضر بكامله، وتلك إهانة للإمبراطور حيث تقضي التقاليد إلا يغادر أحد المضمار قبل انصرافه.

إن فترة حكم جوستينيان هي الذروة التي تسنّمتها الامبراطورية الرومانية المسيحية

استاء جوستنيان من الإهانة، فأصدر أمرا باحتجاز مثيري الشغب، فقُبض على سبعة منهم، وقطعت رؤوس أربعة منهم على الفور، وقضي بإعدام ثلاثة، وحينما علّقوا على المشانق سقط اثنان منهم على الأرض لانقطاع الحبال، وحسب التقاليد فينبغي العفو عن هذين الرجلين، لكنّ حاكم المدينة أصدر أمرا جديدا بالإعدام، فهاج الجمهور وحال دون ذلك، واقتيد الرجلان إلى كنيسة مجاورة، فلم يتردّد الحاكم في محاولته الانتقام منهما، فأصدر أمرا للجنود بمحاصرة الكنيسة. وسرعان ما تبيّن أن أحدهما من الخضر والآخر من الزرق، مما فضح أن حاكم المدينة، واسمه "يودايمون" قد أخذ الناس اعتباطا، وليس لأنهم اقترفوا ذنبا، مما قرّب الفريقين بحيث ظهرا معا ضد سلطة غاشمة، وهي سلطة أعلن الإمبراطور صراحة دفاعه عنها، ورفض التماس الطرفين للعفو عن الرجلين.

مرّ اليوم الثاني بسلام مشوب بالقلق، وفي اليوم الثالث استؤنف سباق الخيل، لكن جوستنيان فوجئ بأن أنصار الطرفين يخاطبونه من المدرجات العفو عن الرجلين المحاصرين في الكنيسة، فيما صمّ هو أذنيه عن النداءات العالية، وبدل أن يهتف الجمهور عندما احتدّ التنافس باسم القيصر هتفوا للوحدة بين الخضر والزرق، ثم تركوا المدرجات معا، وهاجموا مقرّ الحكومة، واشعلوا فيه النار التي امتدت إلى المباني المجاورة، وصولا إلى بوابة القصر الإمبراطوري، وكنيسة آيا صوفيا. بدل أن ينظر جوستنيان في الحال أمر باستئناف السباق لليوم التالي، كأن شيئا لم يكن، على الرغم من أن النيران التهمت أهم مباني العاصمة، وهذا ضرب من التجاهل المقصود، وعدم الاعتراف بالتمرد، الذي ما زالت أدخنة ناره تغطي سماء المدينة، وبهذا آل التمرد إلى ثورة شعبية لم يكن الإمبراطور قادرا على كبحها. أما الثائرون، فتخطّوا مطلبهم الأول، وصاروا ينادون بعزل حاكم المدينة ومعه طبقة كاملة من بطانة الإمبراطور.

سرعان ما توسّع الاحتجاج، وارتسم الخوف، فهرب بعض أنصار جوستنيان عبر البوسفور إلى البر الآسيوي. واجتمع الثائرون في ساحة "قسطنطين" وأعلنوا خلع الطاعة عن الحكومة، وتطوّر الأمر إلى خلع الإمبراطور نفسه، وإعلان "برويوس" عاهلا للإمبراطورية، لكن "برويوس" آثر السلامة، فهرب من المدينة، فيما كانت النيران تلتهم منزله. وهنا أدرك جوستنيان أن الثورة تقصده، فأعفى الأشخاص الذين طالب الثائرون بإبعادهم عن الحكم، وعيّن سواهم لامتصاص النقمة، لكن الثوار مضوا إلى مزيد من المطالب، بما فيها إبعاد الإمبراطور، الذي قرّر المواجهة، وإخماد الثورة بالعنف، فأصدر أمرا لقوّاده بقمع الثائرين، فشهدت العاصمة خلال الأيام الثلاثة اللاحقة حربا أهلية طاحنة بين الطرفين، وجرى تخريب كثير من المباني الكبيرة، وحرقها، ومنها دير القديسة "إيرين". ولما أخفقت القوات العسكرية في أطفاء الشغب، لاذت بالقصر الإمبراطوري، فأمست المدينة في قبضة الثائرين.

شعر جوستنيان أنه أصبح هدفا للثورة، وفي17 يناير، أراد خداع الجمهور بالاعتراف بأنه يتحمّل مسؤولية ما جرى عساه يجتذب عطف الجمهور، فظهر في الهيبودروم، وأعلن مسؤوليته الكاملة عن كل ما حدث، وعليه وحده تقع تبعة الفوضى التي حلّت بالعاصمة، نتيجة عدم استجابته للعفو عن الرجلين اللذين نجيا من حبل المشنقة، ، وقرّر العفو العام عن المشتركين في الثورة عامة، متوهّما أنه يكسب ودّ الجمهور بالنزول عند مطالبهم، لكن الجمهور بدل أن يقبل اعتراف الإمبراطور بالخطأ، ويغفر له الزلّة، رماه بالحجر، وسبّه بأقذع الألفاظ، بل اتّهمه بالكذب والخيانة والغباء، فانسحب جوستنيان مسرعا إلى قصره بعد أن أحس بخطورة الموقف، فقرّر الثائرون مطاردته في معقله، وذهب بعض زعمائهم إلى قصر "هيباتوس" ابن أخ الإمبراطور الأسبق، واقتادوه إلى ساحة قسطنطين، ومنها إلى الهيبودروم، حيث نادوا به إمبراطورا، وأجلسوه في مقصورة جوستينيان.

لم يكن الإمبراطور الجديد مقداما، ولا طامعا في الحكم، واتّسم موقفه بالتردّد، ولم تتح له الأحداث المتسارعة أن يختار ما يريد، إنما دُفع دفعا إلى دور ما كان يرغب فيه، وإلى كل ذلك فقد كان مدينا لجوستنيان، لأنه عاش في حمايته، فما كان منه إلا أن أرسل سرّا يطلب من جوستنيان سرعة مهاجمة الهيبودروم ليأخذ الثائرين المبتهجين على حين غرّة، وهم في نشوة شعورهم بالانتصار، لكنّ رسالته لم تبلغ هدفها، إلا أنّ الغاية قد تحقّقت منها، فمن حيث لا يعلم جوستنيان بالرسالة، وبناء على تحريض بالثبات جاء من زوجته "ثيودورا"، التي وصفها "رنسيمان" بأنها من من أبرز نساء عصرها، وأنبههنّ ذكرا "لشجاعتها، وصفاء ذهنها، وعدم تمسّكها بالمُثل، كانت عونا له لا يقدر بثمن، بل إن قوتها كانت تفوق قوته هو وسلطانه"، أصدر أمرا بمهاجمة الهيبودروم، فجرت مذبحة مروّعة ذهب ضحيتها نحوا من ثلاثين ألف شخص، بما في ذلك الرجل الذي أُعلن إمبراطورا في الساحة، وجرى تصفية كبار المؤيدين لها، وعلى هذا قضى جوستنيان على الثائرين، فاستعاد زمام الحكم لثلاث وثلاثين سنة بعد ذلك.