الثقافي والسياسي في عملية التحديث في البلدان المغاربية


فئة :  قراءات في كتب

 الثقافي والسياسي  في عملية التحديث في البلدان المغاربية

 جدلية الثقافي والسياسي: في عملية التحديث في البلدان المغاربية

قراءة في كتاب: "الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"


يتجه اهتمامنا غالباً إلى تاريخ المشرق العربي، خاصة مصر وبلاد الشام، عندما نتناول مفاهيم التحديث أو الإصلاح أو التجديد، نستشهد بأحداثه السياسية وتفاصيل تحولاته الثقافية وتأثيراتها على مجموع البلاد العربية. ربما لأنّ المشرق كان مركز التحولات السريعة والمتتالية، ومركزاً لبوادر الحركة القومية، وما يُسمّى النهضة العربية.

لهذا يأتي كتاب "الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"، (وهو مؤلف جماعي لمجموعة من الباحثين من البلاد العربية وغيرها لهم اهتمام بتاريخ المنطقة)، ليذكّرنا بأنه يوجد في المنطقة المغاربية قطب أساسي من أقطاب التحديث في العالم العربي بعد اسطنبول والقاهرة، ويعني به بلاد تونس التي كانت المبادرة في عملية الإصلاح والتحديث، وكان لها الدور الكبير في التأثير في محيطها المغاربي، وخاصة المغرب والجزائر. فما هي ركائز التحديث في هذا المحيط؟ ومن خلالها، ما دور المثقف في عملية الإصلاح والتجديد؟

I- حال الإصلاح في تونس

لم تكن الإصلاحات التي بوشرت في تونس بمعزل عن الإصلاحات التي بدأت في اسطنبول والقاهرة. فقد كان التفاعل حاضراً بقوة بيـن هاته المراكز مــن خلال عملية الإصلاح. بدأت عملية الإصلاح في مصر على عهـد محمــد علــي، وإصلاحات ابنه إبراهيم باشا في الشام. وفي تونس على عهد البايات المصلحين (أحمد باي، ومحمد باي، والصادق باي)، وبدأ الإصلاح في اسطنبول مع الإعلان عن ميثاقين رئيسيين: ميثاق خط شريف كلخانة الصادر سنة 1839م، وميثاق خط همايون الصادر سنة 1856م. يُعدّ هذان الميثاقان في نظر أندري ريمون A.raymond (في دراسته: الإصلاح في الإمبراطورية العثمانية إبان القرن التاسع عشر: التأثيرات المتقاطعة لنماذج إستنمبول والقاهرة وتونس) بمثابة انتشار لجهود الإصلاح في أطراف الإمبراطورية، وخاصة في تونس "حيث ازدهر أكثر من خلال جهود أحمد باي التحديثية في المجالين العسكري والصناعي، ومع الإعلان عن عهد الأمان سنة 1857م، ثم مع الإصلاحات الأساسية اللاحقة التي بلغت ذروتها مع الإعلان عن دستور 1861م"[1].

كما كان لإصلاحات محمد علي في مصر أثر كبير على مجهودات الإصلاح في تونس وعلى البلدان المغاربية، بفضل "الروابط القوية التي كانت بين مصر وتونس وكذلك البلدان المغاربية، ساهمت فيها بشكل كبير اللغة المشتركة"[2] بالإضافة إلى ما كانت تمثله مصر باعتبارها نقطة عبور وطريقاً رئيسية نحو الحج، حيث كان الحجاج المغاربيون، وخاصة العلماء منهم في نظر أندري رمون، يستغلون هذه الرحلة لزيارة نظرائهم من رجال العلم، والحضور في حلقات بعض الدروس.

ولم تكن لإصلاحات محمد علي تأثيرات على تونس فحسب، بل كانت تأثيراتها قوية على السلطة المركزية في اسطنبول، وقد لاحظ روبرت منتران (Rebert Montran) أنه "خلال السنوات الخمس والعشرين الأولى من ولايته، تمكن محمد علي من إنجاز قدر كبير من الإصلاحات يفوق كثيراً ما حققه السلطان"[3]، وأنّ السلطان محمد الثاني "عمد إلى الاقتداء به في مختلف المجالات"[4].

ويعطينا روبير ماتران مثالاً معبراً عن المنافسة من أجل التحديث، بين محمد علي والسلطان في اسطنبول في مجال إصدار الصحف والمجلات: ففي عام 1829م أصدر محمد علي في القاهرة أول صحيفة تحت اسم (الوقائع المصرية). وبعدها بسنتين قرر السلطان محمود إصدار صحيفة باللغة التركية أسماها (تقويم وقائع)، وبعد بضعة أيام صدرت في اسطنبول طبعة فرنسية من مجلة تحت عنوان مونيتور أوتمان (Moniteur Otman)، ولم يتطلب الأمر مرور أكثر من سنتين، ليصدر محمد علي العدد الأول من طبعة مصرية مماثلة، باسم مشابه تماماً وهو مونيتور إجبسيان (Moniteur Egyphien).

هذه الحركية في إصدار الصحف والمجلات والاهتمام بالطباعة، كان لها بالغ الأثر على الحركة الثقافية في البلدان المغاربية في ارتباطها بالتحولات السياسية والاجتماعية كما سنرى فيما بعد.

إنّ إشارتنا لعملية التحديث في القاهرة واسطنبول يأتي من باب التذكير بأقطاب الإصلاح الثلاثة في العالم العربي تحت السلطة العثمانية، حيث مثلت تونس القطب الثالث من خلال قيام البايات بإصلاح الجيش، وافتتاح المدرسة العسكرية في باردو سنة 1840، اقتداء بمثيلاتها في مصر (مدرسة الخيالة والمشاة)، والتركية (مدرسة العلوم العسكرية)[5]. وقد تزامن مع تحديث الجيش جهود التصنيع خاصة الصناعات المرتبطة بالميدان العسكري، مصنع للبارود، وفرن للسباكة، ومصنع للنسيج.

وفي خضم هذه الإصلاحات سمح لمجموعة من الإصلاحيين التونسيين، وخاصة ابن أبي الضياف وخير الدين، بالسير قدماً في تطوير الإصلاح على نحو متسارع. ولم تكن هذه الإصلاحات في نظر A.Raymond رغبة ذاتية في التحديث فقط، بل كانت كذلك نتيجة للضغوطات التي مارستها فرنسا وبريطانيا، لما كانت تقتضيه مصالحهما وأطماعهما الاستعمارية الواضحة[6].

في هذه الظروف بدأت تصل بعض الأفكار التحديثية الغربية إلى تونس والأقطار المغاربية، عن طريق الصحافة المشرقية منذ منتصف القرن التاسع عشر، ومن بينها صحيفة (وقائع مصرية) من تحرير رفاعة الطهطاوي. و(حديقة الأخبار) البيروتية من تحرير خليل الخوري، ثم (الجوائب) التي كان يصدرها فارس الشدياق من اسطنبول. تزامنت هذه الحركية في النشر والطبع بانتشار حركة إصلاحية في تونس مع الإعلان عن دستور سنة 1861م، وصدور كتاب خير الدين سنة 1867م "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك".

وقبل أن نقوم بإطلالة على هذا الكتاب ودوافعه التحديثية، يجدر بنا الوقوف على أهم المقومات التي جاء بها دستور 1861م، الذي يعتبر أول دستور في العالم العربي والإسلامي. ويتألف هذا الدستور من ثلاثة عشر فصلاً، ومائة وأربع عشرة مادة، وهو بمنزلة القانون للدولة التونسية، حيث أقام تقسيماً للسلطة بين الباي وبين وزرائه ومجلس الشورى المتكون من 60 نائباً. ويضمن الدستور الأمن الكامل للأشخاص، والممتلكات، وشرف كل سكان المملكة، بصرف النظر عن ديانتهم، وجنسيتهم، وعرقهم، ومن أهم بنوده:

- إنّ كل السكان خاضعون للضريبة التناسبية لثرواتهم.

- إنّ المسلمين وسكان البلاد الآخرين متساوون أمام القانون.

- إنّ المحكمة التجارية متكونة من أعضاء مختارين من المسلمين وأعضاء من الدول الصديقة.

- إنّ حرية التجارة مكفولة للجميع بدون استثناء، ولا تحرّم الحكومة أي نوع من التجارة، ولا يمنع أي إنسان من ممارستها.

- إنّ الأجانب بإمكانهم ممارسة كل الصناعات والمهن، شريطة أن يمتثلوا للقانون المشترك.

تبين هذه القوانين الدستورية المنحى التحديثي الذي ابتغاه أصحاب هذا الدستور، وهو شبيه بالإصلاحات التي قام بها محمد علي في مصر، ويبين لنا هذا مدى التأثيرات المتبادلة بين القاهرة وتونس. وإذا كانت إصلاحات محمد علي قد أعطت زخماً ثقافياً من خلال كتّاب إصلاحيين مثل الطهطاوي والكواكبي والأفغاني ومحمد عبده...إلخ، فإنّ دستور تونس ساهم بدوره في إيجاد ديناميكية ثقافية، تتمثل في ظهور مصلحين ينادون بتحديث الدولة والمجتمع، نذكر من بينهم خير الدين ومحمد قبابو. هذا الأخير حسب جوليا كلانسي سميت في دراستها، كان شاعراً وأستاذاً للدراسات القرآنية، طرح في مصنف حرره حوالي 1850م فكرة مفادها أنّ العلم الأوروبي هو أساس قوة الغرب، فيما شدد على أنّ هذا العلم ليس بممنوع على المؤمنين[7].

بالنسبة إلى خير الدين يمكن اعتباره العقل المدبر لعملية التحديث في تونس، على المستويين الثقافي والسياسي معاً، فعلى المستوى السياسي يعتبر من المقربين من أصحاب القرار، حيث تقلد مناصب عليا في الدولة، كان أهمها تعيينه وزيراً أول مكان خزندار، حيث قام بعدة إصلاحات تمثلت في تجديد الإدارة، وتونسة الكوادر، وإعادة تنظيم القضاء، وإصلاح التعليم في جامع الزيتونة الكبير، وتأسيس المدرسة الصادقية لتعليم العلوم الحديثة، واللغات، وإنشاء مكتبة وطنية.

كانت كل هذه الإصلاحات بالنسبة إليه نابعة من قناعة أنّ طريق أوروبا هي طريــق التقدم والمدنية في العصر الحاضر بالنسبة إلى البلدان الإسلامية، الأمر الذي يقتضى الاقتباس من أفكاره ومؤسساته وإيديولوجيته، لأنّ أسباب تمدنه وتقدمه تكمن في نظره في دور المجتمع المدني، ودور مؤسسات الدولة الليبيرالية وسيادة القانون. وتظهر هذه القناعة جلياً من خلال كتابه "أقوم المسالك" الذي يمكن تلخيصه في فكرة أنّ الاقتباس من النموذج الغربي واستلهام أفكاره ليس معادياً للإسلام، ولا قطيعة مع المرجعية الإسلامية، بل كان يهدف إلى التخلي عن الارتباط بالموروث الإسلامي التقليدي الذي هو من أسباب التخلف.

كانت تونس في نظر جوليا كلانسي سميت تلعب دور البوتقة المستقبلة للمعرفة، والأخبار والمعلومات والشائعات العابرة لأرجاء حوض البحر المتوسط[8].

II- المغرب ودواعي الإصلاح

لم تكن عملية الإصلاح والتحديث في المغرب كمثيلاتها في تونس، فقد عرف المغرب بعض الإصلاحات تحت ضغط الدول الأوروبية، خاصة في عهد السلطان المولى عبد الرحمن، وسيدي محمد بن عبد الرحمن، والمولى الحسن. فبعد هزيمة المغرب أمام فرنسا في معركة إيسلي 1844م، وهزيمة أمام الإسبان في حرب تطوان سنة 1859م، وتوقيع معاهدات معهما من موقع ضعف، بدأ المغاربة تحت وقع الهزائم في إصلاح نظامهم العسكري، حيث تمّ إرسال بعثات طلابية إلى الخارج لتكوين ضباط مغاربة وتدريبهم على الأسلحة الحديثة، كما استعان الحسن الأول بضباط وخبراء فرنسيين وإنجليز لتدريب الجيش المغربي، وقام بإنشاء معامل لإنتاج الأسلحة في فاس ومراكش، واقتنى أسلحة من أوروبا ومراكب حربية لحراسة السواحل لمنع تجارة التهريب.

ولم تكن هذه الإصلاحات كافية، حيث تدخل الممثل البريطاني بالمغرب جون دراموند هاي بتقديم مذكرة طويلة إلى المولى عبد الرحمن سنة 1855، كانت هذه المذكرة توضيحاً مبسطاً لأساسيات الاقتصاد الليبرالي، كان يرمي من ورائها دعوة المخزن لقبول اعتماد مقترحاته لإصلاح الهياكل الاقتصادية للدولة المغربية، كما جاء في دراسة خالد بن الصغير "الاستراتيجيات الاقتصادية والإصلاحات الليبرالية في مغرب ما قبل الاستعمار".

وإذا كانت الإصلاحات السياسية والاقتصادية بطيئة في المغرب، ففي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، بدأت تظهر بوادر الدعوة للإصلاح بشكل جدي خاصة مع الرعيل الأول للحركة الوطنية.

ولا يمكن الحديث عن هذا الجيل دون أن نقف على أحد أعلام الإصلاح في المغرب أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن الماضي، ويتعلق الأمر بمحمد حسن الحجوي الذي لم تعطه بيتينا دانر لاين في دراستها (الاستملاك الفكري للإصلاح عند أحمد بن خالد الناصري بين "التجديد" و"إعادة التنظيم") قيمته العلمية والسياسية من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي، فقد انطلق الحجوي من السؤال النهضوي التالي: "لأي شيء تقدموا وتأخرنا؟ " ويقصد الحجوي من طرح السؤال، لماذا تقدم الغرب وتأخرنا نحن؟ وهو سؤال كان محور الكتابات في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع ما يُسمّى بمفكري النهضة.

ولم يكن جواب الحجوي مخالفاً لجلّ الكتابات آنذاك، حيث أرجع سبب تقدم الغرب إلى العلم والتعليم، وسبب تأخر العرب والمسلمين هو انتشار الأميّة، لذا يقترح نشر التعليم في جميع أنحاء البلاد، وتحصيل العلوم من طب وهندسة وطبيعيات وحقوق، وواضح أنّ الحجوي يعطي الأولية لدراسة العلوم التي هي في نظره مفتاح التقدم، كما دعا إلى ضرورة تعليم المرأة، ويعتبر الحجوي أحد قلائل جيله ممّن اهتموا بقضية المرأة وتعليمها[9].

لم يكن لمفهوم الإصلاح في المغرب، حسب بتينا دانر لاين في أواخر القرن التاسع عشر، المعنى نفسه للإصلاح عند السلفية المشرقية، وذلك: "لأنّ مجهود المنادين بالإصلاح أو التجديد (الديني) من بين العلماء الصوفية أو حتى السلاطين، ونضالهم كان يقف عند حدود انتقاء "البدعة"[10]. وتضيف في السياق نفسه "إنّ تجديد (الدين) في الخطاب السلطاني، كما هو عليه الشأن عند بعض العلماء، غالباً ما يرتبط بالحفاظ على الموروث السياسي، الذي يظل مطابقاً على نطاق واسع للتقاليد المعيارية المتعارف عليها في الإسلام. أمّا الإصلاح الاجتماعي والمؤسساتي فيتلخص في الخطابات العالمة والسياسة، وفي التدابير الإدارية والمالية المتخذة على مستوى إعادة التنظيم (...) وليس في الإصلاح"[11].

ويتضح ذلك من خلال كتاب "الاستقصا" لأحمد الناصري، حيث أعطى الأهمية الكبرى لإصلاح الجيش، وذلك من أجل الحفاظ على النظام الداخلي وليس للدفاع عن البلاد من الأطماع الخارجية. ويبقى الإصلاح والتجديد عنده في مجال الدين محصوراً في مواجهة الصوفية والباطنية باعتبارهما بدعاً، أمّا الإصلاح السياسي والاجتماعي فيبقى غائباً عن مشروع التجديد أو إعادة الإحياء الديني.[12].

بدأ المغاربة يتفاعلون بشكل قوي مع تطور الأحداث في المشرق مع بداية القرن العشرين، نذكر من بينها تفاعل النخبة المغربية مع ثورة كمال أتاتورك كما هو الحال في العالم العربي[13]، حيث كان تأثيرها كبيراً عليهم، باعتبارها نموذجاً يجب أن يحتذى به، فبدأ إقبال كبير من الأسر في نظر عبد الرحمن المودن[14] على تسمية أبنائهم الذكور باسم مصطفى. وظهر هذا الإعجاب بالثورة الكمالية واضحاً في أشعار الجازولي[15]، وفي الانخراط في العمل الصحفي. ويعطينا عبد الرحمن المودن حالة بدر الدين بن الفاطمي البدراوي، الذي كان متحمساً للأفكار الاشتراكية والثورة الكمالية، حيث أسس صحيفة سنة 1922 تحت اسم "الأخبار المغربية" [16]. ولم يكن موقف العلماء المغاربة من إلغاء الخلافة من قبل مصطفى كمال، في نظر المودن يتسم بالقساوة والشدة بل كان يتسم بالمرونة والاعتدال، والموقف نفسه تبناه ابن عبد الكريم الخطابي بل كان معجباً بالثورة الكمالية والإصلاحات التحديثية التي جاءت بها[17]، واعزاً هزيمته واستسلامه إلى التعصب الديني والطرق الصوفية التي كانت ترفض التحديث[18].

III- الجزائر بين الأمّة والتجنيس

اعتبرت الدراسة المعنونة "الممارسات الثقافية وشبكات نقل المعرفة: مساهمة السان ـ سيمونيين في الجزائر لأوناسا سياري - تنكور، أنّ السان ـ سيمونيين استفادوا كثيراً من مهامهم كمستشارين، وهو ما سمح لهم بالتموقع في "المحور المفصلي المتحكم في سياسات الدولة"، ومن ممارسة تأثيرهم على السلطات المدنية والعسكرية بغية التمكن من توجيه القرارات[19].

بدأ السان- سيمونيون بنشر أفكارهم على أعمدة الصحافة، فأسسوا عدداً من الصحف لذلك الغرض. جريدة (La République) التي أصدرها جوردان سنة 1848. وجريدة (le spectateur Republicain) وجريدة (le credit)، وأيضاً جريدة المباشر (Mobacher) المعروفة أكثر، والتي تولى أوربان (من كبار السان ـ سيمونيين في الجزائر) السهر عليها منذ 1847.

وكان السان-سيمونيون يرون في الصحافة الوسيلة المثلى لنشر أفكارهم والذود عنها[20]. ولم يقتصروا على الصحافة، بل منهم من تعلم اللغة العربية واعتنق الإسلام وتزوج مسلمة، أمثال (أوربان ـ جان براكس- فرانسوا دونيفو)، ممّا أتاح لهم إمكانية الاندماج مع العرب ومعرفة عاداتهم وتقاليدهم. وكما يقول ميشيل لـوفالــوا (M.Levalois) إنّ من شأن هذا أن يمنحهم "الحق والسلطة اللازمة لحملهم تدريجياً على قبول الممارسات الجديدة، الزراعية منها والصحية والتعليمية، وقواعد العيش الجديدة في المجتمع، دون الحاجة إلى انقلابات أو إكراهات لا طائل منها"[21].

ومن جهة أخرى شارك السان ـ سيمونيون في تكوين العديد من الجمعيات، وتمكنت أول هذه الجمعيات التي اتخذت مقرها في قسنطينة سنة 1853 من نشر أولى مقالاتها في دليل سُمّي (مجموع خاص بجمعية الإركيولوجيا بقسنطينة).

كما أقدم بيير بروكير على إنشاء متحف ومكتبة الجزائر سنة 1858، في البناية التي كان يقيم فيها مصطفى باشا. وقد أودع بين جدرانها ما جمعه من الأشياء والمخطوطات أثناء مرافقته لمختلف الحملات[22]

كما اهتم السان سيمونيون بمجال التربية كأحد المجالات المناسبة لنشر أفكارهم. وكانوا من المؤيدين لفتح أبواب التعليم الابتدائي أمام الجميع. حيث أنشؤوا مدارس عربية - فرنسية فتحت أبوابها في المدن الرئيسة مثل الجزائر ووهران وقسنطينة والبليدة وعنابة، ثم في وقت لاحق وبالضبط سنة 1857 قاموا بإنشاء ما سُمّي بالثانويات الإمبراطورية في كل من الجزائر وقسنطينة ووهران. وتكمن خصوصيات هذه المؤسسات التعليمية في اعتمادها على أساس تعليمي مزدوج تُستخدم فيه اللغتان العربية والفرنسية[23].

وسعى هذا التعليم إلى تكوين الفتيات المسلمات من خلال تجربة السيدة Aylix lucie بمدينة الجزائر، فتمكنت أكثر من سبعين تلميذة في السنوات الخمسين من القرن التاسع عشر من متابعة دراستها من خلال تشجيعهم على الحضور والمواكبة.

بجانب السان- سيمونيين ودورهم في نشر التعليم، يرى ألان المسعودي في دراسته "المستعربون الفرنسيون و"الإصلاح" في شمال إفريقيا" أنّ المستعربين لعبوا من خلال علاقتهم مع مصر من جهة، ومع الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى، الدور الهام للمساهمة في نشر المعلومات المتعلقة بالإصلاحات في المشرق[24].

كان الاعتماد على المستعربين الذين يتقنون اللغة العربية من طرف المحتل الفرنسي مركزياً، باعتبارهم وسطاء من أجل القيام بإصلاح المؤسسات الدينية والقضائية، وبالعمل على إصلاح التعليم، وقد أشار لوران شارل فيرو (laurant- Charles Feraud) إلى أنّ "اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن نتعلم بواسطتها كيفية التوصل إلى معرفة العادات وخصوصية المزاج والمقومات المكونة لمجتمع دون أرشيف"[25].

فكان بذلك معرفة اللغة العربية - ولا يخفى على أحد أهدافها الاستعمارية - شرطــــاً لا مناص من توفره لدى الراغبين في العمل بأسلاك الوظيفة، وكان لوي ماشويل من أهم الشخصيات في المشروع الإصلاحي، باعتباره كان يتقن اللغة العربية بحكم دراسته وتربيته في أحضان المؤسسة التعليمية ـ العربية- الفرنسية في الجزائر. إنّ مشروع ماشويل في نظر ألان المسعودي يندرج في "سياق النفس التنويري للتيار السان-سيموني"[26].

كان الشغل الشاغل بالنسبة إلى الإصلاحيين الجزائريبين، كما يرى جيمس ماكدوكال في دراسته "الدولة والمجتمع والثقافة عنـد مفكـري الإصـلاح المغاربييـن (الجزائر وتونس 1890-1940)، هو الحفاظ على عروبة بلدهم والتأكيد على الوجود التاريخي للجزائر بوصفها أمّة، وهذا هو "معنى كتاب الجزائر لصاحبه توفيق المدني (نشر بمدينة الجزائر سنة 1932)، أو الكلمة الصريحة الشهيرة حول "الشخصية الجزائرية" الصادرة عن العلماء، والموجهة قصداً إلى فرحات عباس"[27].

ففي نظرهم، من يقبل بالسلطة المباشرة للقانون المدني الفرنسي (مسألة التجنيس) معناه التخلي عن انتمائهم إلى جماعة المؤمنين، وبالتالي فهم يتبرؤون من الشريعة الربانية، وهذا بمثابة إعلان عن الردّة[28]. يعبر عنه بجلاء النداء الذي أطلقه مجموعة من المثقفين، ومن بينهم الإصلاحي الجزائري فضيل الورتيلاني، وهو نداء موجّه إلى الشعب المغاربي: "اعلموا أنّ الحياة في كنف الآخرين [...] أسوأ من الموت. وإذا ما افترضنا أنه وقع إدماجنا في فرنسا، فسيبدو الأمر كما لو كان قد دخلنا في بطن أسد [...]، ما هي قيمة الفرد الذي يتنكر لأصله ليدعي أنه أصبح شخصاً آخر؟ سيكون له وجود بين السماء والأرض، ولكنه ليس من الحياة ولا الموت في شيء"، [29] واضح من خلال هذا النص دعوته إلى التشبث بالانتماء إلى الوطن، وعدم التنكر للأصول، والانسياق وراء التجنيس الفرنسي.

ومع ذلك فالجيل الأول للإصلاحيين في نظر جيمس ماكدوكال، أي جيل ما قبل الحرب العالمية الأولى، ارتبط كله بالتزام مهني مع الدولة، وهم من أصول حضرية، ينتمون إلى الأعيان، وكلهم نتاج المدرسة الكولونيالية "إنهم من أنجال القواد، والتراجمة العسكريين أو الموظفين العاملين في الإدارة الكولونيالية"[30]. ومن أمثال هؤلاء: المفتي محمد بن كندورة، ومصطفى كمال، الإمام بالمسجد الذي يوجد به ضريح عبد الرحمن الثعالبي. الذي قال عنه جاك بيرك إنه كان "عقلاً جدّ متفتح"، وكذلك محمد بن شنب الذي يقول في حقه بيرك كذلك إنه "يتمتع بسلطة كبيرة لدى المسلمين والأوروبيين على حد سواء"[31].

يرى جيمس ماكدوكال أنّ الإصلاحيين المغاربيين كانوا ينظرون نحو الدولة والدين إلى الشرق في اتجاه مصر بغرض استمداد إلهاماتهم منها، فكانت مصر والإصلاحيون بها الموجه الرئيس للإصلاحيين المغاربيين، وذلك لعدم أخذ مسافة بينهم وبين التصور الكولونيالي للإصلاح. يقول جيمس ماكدوكال: "إنّ رؤية المجتمع والثقافة على المستوى المغاربي، بل وعلى النطاق الإسلامي بمفهومه الأوسع، كما نجدها لدى هؤلاء المثقفين بالحداثة الإصلاحية، لم تتخذ في طراز تزيينها إلا ديكوراً واحداً (يشكل الإطار، أو الخلفية، أو اللباس) يتمثل في تصوراتها لطريقة هذه الرؤية وكيفياتها، والتي لا يمكنها أن تكون غير تصورات الرؤية الكولونيالية"[32].

إنّ الارتباط بالتصور الكولونيالي يمكن أن نستخرجه من هذا القول لابن باديس الذي كتبه في جريدته: "نحن نعمل ولا عمل إلا بالصدق والصراحة والصرامة لسعادة الأمّة الجزائرية، ولا سعادة لها إلا بالإصلاح الديني والدنيوي، وبمساعدة فرنسا الديمقراطية، الأمّة التي كانت نهضتها أساساً لكل نهضة إلى اليوم"[33].

هذا الارتباط كان نابعاً من قناعة أنّ الإصلاح في الدين لن يتأتى إلا بمقاومة الجهل والتعصب، يقول المولود بن الموهوب، أحد الدعاة للفكر الإصلاحي: "المسلمون جاهلون، ولا نستطيع نكرانه [...] إنّ تاريخ التعصب الديني عند المسلمين يعود فقط لفترة الحروب الصليبية. هؤلاء الجهلة [شيوخ الزوايا]، شغلهم الشاغل هو أن يلصقوا بالإسلام الغاية في نفوسهم، ما هو يتعارض معه تماماً وهم جاهدون وحدهم في التعريف بذلك، وما يسوقونه من البراهين [...] لا يعدو أن يجعل من الإسلام ديناً متزمتاً همجياً، أمّاً للجهل، وأختاً للقساوة، وابنة للكسل [...] يا للحسرة! إنّ أبناء الإسلام اليوم هم من يمثلون أكثر أعدائه"[34].

ما يمكن استخلاصه من هذه القراءة أنّ الإصلاح في البلدان المغاربية يمكن تقسيمه إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها. لم يكن الإصلاح قبل الحرب برغبة ذاتية للخروج من دوامة التخلف، بل كان نتيجة لضغوطات البلدان الأوروبية من خلال معاهدات بغرض توفير بنية تحتية لأهداف اقتصادية وعسكرية استعمارية.

بعد الحرب، وخاصة مع تنامي الحس الوطني مع حركات الاستقلال، طرح مفهوم الإصلاح والتحديث كآلية لمواجهة التخلف الاجتماعي والاقتصادي، وفي الآن نفسه آلية للخروج من براثن الاستعمار من الناحية السياسية.

وإذا استثنينا تونس التي كانت سباقة لعملية الإصلاح والتحديث، فإنّ الجزائر والمغرب تختلف مقاصد الإصلاح لدى كلٍّ منهما. ففي الجزائر كان رواد الإصلاح من خارج أهل البلد من مستعربين وسان- سيمونيين خدمة للمستعمر وتسهيلاً لتغلغله داخل المجتمع، قبل أن يظهر الجيل الأول للحركة الوطنية.

وكانت وتيرة الإصلاح في المغرب، الذي كان خارج دائرة سلطة الخلافة العثمانية، بطيئة ومرتبطة بآلية المخزن الذي كان يسير بها في اتجاه الحفاظ على موقعه السياسي، حتى ظهور الرعيل الأول للحركة الوطنية، حيث سيأخذ الإصلاح منحاً آخر مرفوقاً بحسٍّ نضالي في مقاومة المحتل الإسباني والفرنسي.

كان تكوين أغلب الإصلاحيين المغاربيين في المدارس والجامعات الفرنسية. فكان تأثير الثقافة "الليبيرالية" واضحاً عليهم بحكم تكوينهم المفرنس، لذا نجد في الحكومات الأولى بعد الاستقلال وزراء التعليم العمومي من المستعربين الذين كونتهم المدارس الفرنسية، كمحمد الفاسي في المغرب، ومحمود المساعدي في تونس، بخلاف أحمد طالب الإبراهيمي الذي كان المدافع عن مشروع التعريب في الجزائر[35].

لا يمكن فصل مفهوم التحديث في البلدان المغاربية عن الحركية الثقافية والسياسية في مشرق العالم العربي في القرنين الماضيين، يقول عزيز العظمة: "ليس من شك في أثر مجلة المنار في المغرب الأقصى، أو الأصول المشرقية لسلفية أبي شعيب الدكالي، كما كان أثر الإصلاحية المشرقية واضحاً - بل مباشراً- لدى عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وأبي القاسم الشابي وغيرهم من الزيتونيين التونسيين".[36] إنّ القاسم المشترك بين الإصلاحيين المغاربيين كان مرتبطاً بإشكالية التخلف على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة، ومقاومة الأطماع الاستعمارية من جهة ثانية.

هذا المشترك - وهو يشمل مجموع البلدان العربية - هو الذي جعل الثقافــي والسياســي لا ينفصلان في الخطاب العربي، لأنّ منطلق إشكالياته النظرية بقيت مرتبطة بتطور الأحداث السياسية والتحولات الاجتماعية، حتى في خطابات ما بعد الاستقلالات السياسية، وفي خطابات ما بعد فشل الدولة الوطنية، ومآلات ما يُسمّى "الربيع العربي".

 

المراجع:

ـ الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشـر والعشرين. إشراف: أوديل مورو. ترجمة: خالد بن الصغير، دار أبي رقراق، الطبعة الأولى 2014

ـ مجلة المغرب، السنة الرابعة، غشت وشتنبر 1935

ـ عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1992


[1] الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. إشراف: أوديل مورو. ترجمة: خالد بن الصغير، دار أبي رقراق. الطبعة الأولى 2014، ص 31

[2] المرجع نفسه، ص 34

[3] المرجع نفسه، ص 35

[4] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[5] المرجع نفسه، ص 38

[6] المرجع نفسه، ص 40

[7] المرجع نفسه، ص 228

[8] المرجع نفسه، ص 231

[9] مجلة المغرب، السنة الرابعة غشت وشتنبر 1935

[10] الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين". إشراف: أوديل مورو. ترجمة: خالد بن الصغير، دار أبي رقراق. الطبعة الأولى 2014، ص 260

[11] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[12] المرجع نفسه، ص 271

[13] عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1992، ص 200

[14] عبد الرحمن المودن، دراسة: مقاومة الاستعمار وبزوغ البنية السياسية للدولة الحديثة: بين ابن عبد الكريم ومصطفى كمال.

[15] المرجع السابق، ص 186

[16] المرجع السابق، ص 187

[17] المرجع نفسه، ص 207

[18] نص لابن عبد الكريم الخطابي أورده عبد الرحمن المودن، مرجع سابق ص ص 206-207

[19] الحركات الإصلاحية وإصلاح نظم الدولة في بلدان المغارب خلال القرنين التاسع عشر والعشرين"، مرجع سابق، ص 294

[20] المرجع نفسه، ص 295

[21] المرجع نفسه، ص 296

[22] المرجع نفسه، ص 299

[23] المرجع نفسه، ص 300

[24] المرجع نفسه، ص 313

[25] المرجع نفسه، ص 316

[26] المرجع نفسه، ص 319

[27] المرجع نفسه، ص 380

[28] المرجع نفسه، ص 381

[29] المرجع نفسه، ص 380

[30] المرجع نفسه، ص 388

[31] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[32] المرجع نفسه، ص 390

[33] المرجع نفسه، ص 391

[34] المرجع نفسه، ص 392

[35] انظر: آلان المسعودي، دراسة سابقة، ص 336

[36] عزيز العظمة "العلمانية من منظور مختلف"، مرجع سابق، ص 195