حريّة التفكير وسلطة التكفير: أيّ مصير؟


فئة :  مقالات

حريّة التفكير وسلطة التكفير: أيّ مصير؟

إنّ الحديث عن محاكم التفتيش في أوروبا ومحاسبة المفكّرين على آرائهم الهرطوقيّة ليعدّ من سجلاّت العصور الوسطى التي تحالفت فيها السلطة السياسيّة مع سلطة رجال الدين من أجل مقاومة حركات التجديد ورفض كلّ ما يهدّد الأرثوذكسية بكلّ فروعها المعرفيّة. ولعلّ رحلة النضال الفكريّ التي دفع ضريبتها كثير من المفكّرين والعلماء، وهم يواجهون رجال الدّين وأعوانهم من رجال السلطة لتعطي الدليل على أنّ كلّ تجديد يظلّ في التاريخ محفوفا بالمنع والمواجهة والعنف. وليس غريبا أن يقوم ذلك الحلف بين رجل الدين ورجل السلطة؛ فالمصلحة مشتركة بينهما: الأوّل يفرض هيمنته بالقوانين السماويّة التي يوظّف فيها القول الإلهيّ الفصل من أجل فرض الطاعة ومنع الاختلاف سعيا إلى خلق كائن انضباطيّ متماثل في طقوسه وشعائره وتصوّراته. ولذلك، عدّ الاختلاف جنونا ومروقا وهرطقة. وأبعد المختلفون أو عوقبوا وسجنوا وعنّفوا، لأنّهم فكّروا بشكل مغاير وخالفوا القوانين المقدّسة التي تحصّن بها رجال الدين وسيّجوا بها فكرهم وتأويلهم. أمّا رجل السلطة، فقد وجد في ذلك الحلف حماية لمصالحه وفرضا لطاعته وحلفا حاميا لسلطته، فكانت علاقته برجال الدين علاقة قائمة على الجدل. كلّ طرف يحمي الطرف الآخر ويذود عنه، سواء أكان بالكلمة أو بالسيف.

وقد نشأت الآداب السلطانيّة لتحدّد طقوس الطاعة وأسباب الولاء. وأنشئت مؤسسة الحسبة التي تستوجب أن يكون واليها "ذا رأي وصرامة وخشونة في الدين وعلم بالمنكرات الظاهرة."[1] وأن يتولّى وظيفة الأمر بما اتفق الفقهاء على أنّه معروف والنهي عمّا أجمعوا بأنّه منكر. ولذلك، فقد كان جهاز الحسبة الذي يتداخل فيه الديني والسياسيّ وجها من وجوه تحالف السلطتين من أجل رسم مسلك واحد للتأويل وطريق وحيدة للحقيقة. ولعلّ خطورة هذا الجهاز في كونه رسّخ الحلف بين صاحب السلطة السياسيّة والفقيه في استعلاء قانونيّ على عامّة الناس من أجل فرض الطاعة ومنع كلّ أشكال المروق عن السلطة. وإنّ الناظر في مفاصل الحسبة من أمر بالمعروف أقسامه حقوق الله وحقوق الآدميين والحقوق المشتركة بينهما. فمؤسّسة الحسبة "إنتاج تاريخيّ متمثّل للنصوص اللاحقة بالنصوص التأسيسيّة، تمثّلا يعبّر عن صورة من التديّن ليست بالضرورة وفيّة للدين ولمقاصد النصّ القرآنيّ من كلّ أمر ونهي، ذلك أنّ الدين إلهيّ والتديّن بشريّ، وإذا تماثلا وتماهيا صارا ثيوقراطيّة ورهبانيّة، وإذا تباعدا وتمايزا صارا صورة اجتماعيّة للدين."[2]

إنّ لتلك الأحكام معقوليتها في زمن منح رجل الدين سلطة الإفتاء ومنع رجل السياسة الحق المطلق في تقرير المعروف والمنكر، انطلاقا من الأحكام التي عدّت مقدّسة وأضحى الخروج عن بعضها خروجا عن حقوق الله. ولم تختلف تلك المحظورات عن الانحرافات التي تعرّض لها الإيمان المسيحيّ وسمّيت هرطقة، وهي الهرطقات الدوغمائيّة (أو المتعلّقة بمبادئ الإيمان) والهرطقات المناهضة للكهنوت والهرطقات البيزنطيّة.[3]

فالجامع بين الحسبة وقوانين الهرطقة أنّها تحتكر السلطة بيد فئة محدّدة تمتلك سلطة دينيّة وسياسيّة تمكّنها من بسط نفوذها على الآخرين وتحديد مسالك الإيمان ومعاقبة المارقين عن السلطة.[4]

بيد أنّ ذلك الحلف الذي مكّن السلطة من بسط نفوذها ورسّخ تقاليد الطاعة العمياء لأولي الأمر ومنع الخروج عنهم، قد ولّد ثقافة تمنع رجل الدين سلطة غير متناهية. فتنحسر مجالات الفكر وتضيق، لتصير في يد زمرة مقرّبة من السّلطة لها تأثيرها المباشر في الأحكام ونفوذها في إدانة المخالفين وتبرئة الموالين. وولّدت بسلطتها ذهنيّة قائمة على التحريم والتكفير. وقد أضحت بحكم اعتقاد أصحابها في ثبات أحكامها تواجه كلّ جديد بالمنع والإقصاء، باعتبار كلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النار. تلك النار التي لم تكن مجرّد وعيد بالجزاء الأخرويّ، وإنّما كانت أيضا نارا دنيويّة أحرقت كتب المختلفين وأبادت ما قدّر الفقهاء أنّه مخالف لكتاب الله وسنّة رسوله. ولعلّ أحكام التكفير التي وضع كثير من أئمة الإسلام قواعدها، مثل الغزالي تظّل خزّان عنف قابل للتوظيف لقابليتها المزج بين الخلافات السياسيّة والاختلافات الدينيّة. فنصّ "التكفير يبقى ويستخدم ويولّد نصوصا أخرى، ويجعل الاختلافات السياسيّة حالة عداء لا تنتهي."[5]

لقد رسّخت هذه الأعمال ذهنيّة الخوف من كلّ ما هو مختلف. وأضحى الرأي أشبه بالنار التي تهدّد كيان المنظومة السلطويّة بكلّ مقوّماتها الدينيّة وأسانيدها التأويليّة؛ ذلك الخوف إن كان على الذات الإلهيّة، فهو غير مبرّر لأنّ المنطق الداخلي للإيمان (إن صحّ أنّ روافده دينيّة) يقضي بإطلاقيّة القدرة الإلهيّة وعجز البشر أمام قدرته المطلقة وعبثيّة أن ينتصب البشر حماة لله. أمّا إن كان خوفا على السلطة، فهذا يقيم الدليل على هشاشتها وقيامها على منطق القوّة بدل سلطة القانون الذي يكون استجابة لمبادئ العقد الاجتماعي.

لقد كان أثر السلطويّة الدينيّة عميقا في نظم التربية العربيّة. ولذلك، فقد أوّل المشاريع الإصلاحيّة التي نادى بها المفكّرون مقاومة الاستبداد من داخل المنظومة الدينيّة ذاتها: وقد نبّه الكواكبي (ت 1882م) إلى "أنّ الإسلاميّة مؤسّسة على أصول الحريّة برفعها كلّ سيطرة وتحكّم، بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والإخاء وبحضّها على الإحسان والتحابب."[6] وقد عدّد خير الدين التونسي (ت 1890م) أشكال الحريّة كالحرية الشخصيّة والحريّة السياسيّة وحريّة المطبعة، وبيّن فضلها من خلال الحديث عمّا اجتباه الأوروبيون من دوحة الحريّة مبيّنا عدم تعارضها مع الدين. "وبالجملة فالحريّة إذا فقدت من المملكة تنعدم منها الراحة والغنى، ويستولي على أهلها الفقر والغلاء، ويضعف إدراكهم وهمتهم كما يشهد بذلك العقل والتجربة."[7]

عدّد خير الدين التونسي أشكال الحريّة كالحرية الشخصيّة والحريّة السياسيّة وحريّة المطبعة، وبيّن فضلها من خلال الحديث عمّا اجتباه الأوروبيون من الحريّة

لقد كانت تلك التجارب الأولى التي انفتح بها العقل العربيّ الإسلاميّ على العقل الكونيّ، وأدرك من خلال اتساع الآفاق ضيق أفقه وأدرك في مرآة التقدّم تخلّفه. فكان ّلا بدّ إذن من هزّ الكوجيتو العربي وخلخلة أوهامه عن الشفافيّة والوضوح والتميّز وإقلاق راحته وإيقاظه من سباته الخادع والطفوليّ؛ أي لا بدّ من الانفتاح على اللامفكّر فيه l’impensé."[8]

إنّ تلك الجرأة التي وسمت كثيرا من الدّراسات الفكريّة وأعقبت المحاولات الأولى لنقد العقل العربي الإسلاميّ قد افتتحت عصر الصّدام بين من ظلّوا متشبثين بثوابت الفكر الدّيني المتحصّن بمقولات الفقه وثبات الأحكام وبين حركة النقد التي حاولت هزّ عرش الدوغمائيّة، وطرح ما لم يعهد من الأسئلة المحرّمة. وكانت مجالات المواجهة عديدة. فحين كتب علي عبد الرازق كتابه "الإسلام وأصول الحكم" نافيا الأصول الدينيّة للخلافة لقي معارضة شديدة وكفّر بسبب آرائه. وحين قدّم طه حسين رؤية جديدة للشعر الجاهليّ واجهة حماة المقدّس بنفس السلاح. وتواصلت فصول المواجهة بين من آمنوا بحريّة الفكر، ومن عدّوا أنفسهم حماة المقدّس. ولعلّ الفرق الجوهريّ بين الفريقين أنّ للمؤمنين بحريّة الفكر جرأة في افتراع سبل جديدة وتقديم تأويلات لم يسبقوا إليها. فكانت ضريبة إبداعهم مواجهتهم أنصار الأرثوذكسيّة السنيّة ومواجهة المحاكم والتعرّض لخطر الموت بسبب فتاوى التكفير وإهدار الدم. أمّا الفريق الثاني، فقد كان يتحصّن وراء ترسانة من الأسلحة بعضها مادّي تمثّله أجهزة الدولة بكلّ مؤسساتها. فيكفي أن يستنفر رجل الدين السلطة كي تستجيب لدعواته وتحاسب "المارقين عن الدين" حفظا لسلطتها وخوفا من اكتساب أطراف أخرى من خارج دائرتها السلطويّة شرعيّة الإفتاء والتكفير. وبعض الأسلحة رمزيّ صاغته العادة وأملته الدوغمائيّة، حتّى صار من السنن القارة التي لا يجوز خرقها ولا مخالفتها. ولذلك، تبرّر السلطة قمعها للفكر بحماية المقدسات وتقف أنظمة الاستبداد في وجه كلّ تجديد، لأنّ تجديد الفكر الديني يعني إعادة بناء الشرعيّة التي أقامت عليها السلطة بنيانها وهزّ أركان من عدتهم ناطقين رسميين باسم مقدساتها، ولكنّها بقمعها الفكر تعجّل بفنائها وتحفر بمعول الدوغمائيّة وسلطة القمع قبرها في الوقت الذي تتصوّر فيه أنها تحمي صرحها وتحصّن بنيانها. لعلّ ذلك ما عبّر عنه نصر حامد أبو زيد، وهو الذي ذاق مرارة التكفير وجلد بسياطها بقوله: "من المخجل أن يوصف بالكفر من يحاول ممارسة الفكر، وأن يكون "التكفير" هو عقاب "التفكير" هو مخجل في أيّ مجتمع وفي أيّة لحظة تاريخيّة... ولأنّ الأفكار لا تموت وإن طالت يد الغدر أصحابها وسمعتهم وحاولت مسّ كرامتهم، فإنّ الفكر أعظم ما كرّم الله به الإنسان على مخلوقاته كافة يواصل رحلته متصديا للتكفير كاشفا القناع عن وجهه القبيح: الجهل والخرافة والتزييف".[9]


[1] أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانيّة والولايات الدينيّة، ط1، القاهرة، مكتبة الوطن، 1298هـ، ص 316

[2] فيصل سعد، مؤسّسة الحسبة في الإسلام: أيّ مشروعيّة اليوم؟ ص15

انظر الرابط التالي:

https: //www.mominoun.com/pdf1/2015-06/55854b17e7aff890827059.pdf

[3] ج ويلتر، الهرطقة في المسيحيّة (ترجمة جمال سالم)، ط1، بيروت، دار التنوير للطباعة والنشر، 2007، ص 109

[4] انظر مثلا هيئة الأمر بالمعروف عند طالبان وداعش.

[5] علي أحمد الديري، نصوص متوحّشة: التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفيّة ابن تيميّة، ط1، بيروت، مركز أوال للدراسات والتوثيق، 2015، ص 85

[6] عبد الرحمان الكواكبي، الأعمال الكاملة، ط2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2004، ص 450

[7] خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ط1، تونس، بيت الحكمة، 1990، ص 225

[8] محمّد بن احمودة، مشروع الحداثة السياسيّة من خلال كتاب "الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق"، ضمن كتاب: أثر الثورة الفرنسيّة في فكر النهضة، ط1، تونس، دار محمّد علي الحامّي، 1991، ص 75

[9] نصر حامد أبو زيد، التكفير في زمن التفكير ضدّ الجهل والزيف والخرافة، ط3، مصر، مكتبة مدبولي، 1995، ص ص 13، 14