حسن حماد: الطائفية في الوطن العربي ومحنة العقل الإسلامي


فئة :  حوارات

حسن حماد: الطائفية في الوطن العربي ومحنة العقل الإسلامي

حوار مع الدكتور حسن حماد

الطائفية في الوطن العربي ومحنة العقل الإسلامي([1])


يوسف هريمة: قبل أن نتدارس المسألة الطائفية، لا بدّ أن أقف معكم على امتدادات هذا المفهوم، كيف كانت البدايات؟ وما هي عوامل نشأة فلسفة الطوائف؟ وكيف استقرّت مع الفكر الديني لتلقي بظلالها على هذا المشهد القاتم؟

ـ الدكتور حسن حماد: اسمح لي قبل أن أجيب عن سؤالك أن أطرح عدداً من الأسئلة: ما الذي يجعل الإنسان يتخندق وراء مجموعة من البشر ليعتبر هذه المجموعة بعينها هي عشيرته أو قبيلته أو طائفته؟ وما الذي يجعله أيضاً يناصب مجموعة أخرى من البشر العداوة والبغضاء والحقد وينظر إليها بوصفها عدواً؟ لماذا يوجد التعصب لـ...، والتعصب ضدّ...؟ ما الأسس التي ينبني عليها الموقف الطائفي؟ من هنا أبدأ إجابتي، فأقول إنّ الأساس الذي تقوم عليه الطائفية غالباً ما يكون لا معقولاً أو لا عقلياً مثل: اللون، الدين، العادات والتقاليد، ... إلخ، وكلها معطيات لا تبنى على أساس من حرية الإرادة أو الحرية الواعية، بل هي أمر عرَضي تماماً يقوم على المصادفة البحتة، فأنا حسن حماد لم أختر أبوي، ولم أختر موطني، ولم أختر ديانتي، فكلّ هذه الأمور تتمّ على مستوى عرَضي تماماً، بمعنى أنّه لو لم يحدث هذا اللقاء الجنسي بين رجل معين (أبي) وبين امرأة معينة (أمي) ما كنتُ وما كانت حياتي. هذا يسمّونه في الفلسفة الوجودية "العبث"، وهذا ما جعل فيلسوفاً وجودياً مؤمناً مثل "كيركيجارد" يصرخ معترضاً: لقد جاؤوا بي إلى هذه الحياة مثلما يجيئون بعبد من عند تاجر من تجار الرقيق.

أخلص من هذا إلى أنّ الطائفية سواء كانت عرقية أو دينية تقوم على أساس لا عقلي تماماً. وإذا كنت تسألني عن البدايات: بدايات نشأة الطوائف، فإنّني أعتقد أنّ الأساس الأنثروبولوجي للموقف الطائفي بدأ مع الإرهاصات الأولى للتفكير الديني، والتي يُجمع معظم علماء الأنثروبولوجيا على أنّ هذه الإرهاصات قد بدأت مع ميلاد العقائد التوتمية. وهذا ما يؤكد عليه "سيجموند فرويد" في كتابه "التوتم والتابو": مرحلة التوتمية تمثل نظاماً لجميع الحضارات، والتوتم عادة ما يكون حيواناً أو نباتاً يعتقد جميع أفراد العشيرة أو القبيلة أنّهم ينحدرون عنه، ومن ثم فإنّهم يتسمّون باسمه وينتسبون إليه. ويتبع ذلك أنّهم لا يصطادون حيوان التوتم أو يقتلونه أو يأكلونه، بل ويحظر أحياناً لمسه أو حتى النظر إليه. والنظام التوتمي ليس نظاماً اجتماعياً فحسب، بل هو نظام ديني أيضاً، إذ ينظر إلى توتم القبيلة على أنّه الأب الأصلي للفصيل المعني، ولذلك يصبح هذا التوتم معبوداً ومقدّساً.

والتوتمية تمثل البدايات الحقيقية للفكر الديني، ولأيّ نزعة تعصبية، لأنّ أفراد عشيرة التوتم هم أخوة وأخوات من خلال صلة الدم القائمة على ذلك الأصل المشترك، وهم ملزمون بمساعدة وحماية بعضهم بعضاً. وفي حالة مقتل أيّ فرد منهم على يد شخص غريب من عشيرة مغايرة يتضامن جميع أفراد العشيرة من أجل الأخذ بثأره، أو على الأقل المطالبة بالتعويض الملائم عن ذلك الدم المسفوح. وفي المقابل يتكفل كامل أفراد قبيلة القاتل بدفع الدية أو التعويض المطلوب. لقد كانت الروابط التوتمية من القوة والمتانة، ربما بصورة تفوق الروابط الأسرية بالمعنى المعاصر.

ما أريد قوله: إنّ التوتمية تقوم على فكرة تقديس الأب بمعناه الرمزي الميثولوجي، ولا يختلف الأمر كثيراً إن تجسّد هذا الأب في صورة الأب الإله، أو زعيم القبيلة أو القائد السياسي - العسكري أو الخليفة، أو الفقيه، أو الشيخ: آيات الله والملالي... وغيرهم. وبهذا المعنى نستطيع القول ّإن هناك رواسب توتمية كامنة في أيّ فكر تعصبي أو طائفي. فإذا كانت التوتمية كمرحلة ثقافية وحضارية قد انتهت بقيام المجتمع المدني وميلاد فكرة الدولة، إلا أنّ ضعف وانهيار الدول ورخاوة وهشاشة وتهرؤ المؤسسات يقترن دائماً بصحوة الطائفية، ويستدعي تلك الرواسب التوتمية من جذورها السحيقة. ومن خلال هذا الفهم أستطيع أن أحلل المشهد العربي - الإسلامي فى اللحظة الراهنة.

وقبل أن أترك هذه النقطة يجب أن أفرّق وأميز بين الطائفة والطائفية، فالطائفة ظاهرة طبيعية وتاريخية واجتماعية واقتصادية، كأن نتحدث عن طائفة الأطباء، العسكر، المهندسين، الشحاذين، المهمشين. فهذه الطوائف تقوم على أساس اقتصادي - ثقافي، لكنّها لا تتسم بالضرورة بالتعصبية أو العدوانية، بل يمكن لها بسهولة أن تندمج مع الطوائف الأخرى، وتتعاون معها دون أن تتخذ موقفاً سلبياً وإقصائياً تجاه الطوائف الأخرى، أمّا الطائفية بالمعنى الذي نقصده في هذا الحوار، فهي موقف أيديولوجي وثقافي متطرف ومنحاز (مع، وضد). وبهذا المعنى نتحدث عن جماعات أو طوائف عرقية متميزة مثل: السود، الموارنة، الدروز، الأمازيغ، وتزداد مشاعر الوعي بالطائفية لدى هذه الجماعات كلما كانت الأقل عدداً والأكثر ضعفاً في مقابل الطوائف الأخرى التي تمثل الأكثرية أو تمتلك السلطة. وتصل الطائفية إلى قمة تطرفها وإرهابها عندما يكون الأساس فيها هو الدين، ففي هذه الحالة غالباً ما تتخذ الطائفية موقفاً عدوانياً وتكفيرياً وإقصائياً تجاه الآخر. يتجلى هذا الأمر بدرجات متفاوتة في الصراعات الطائفية الدينية: السنّة، الشيعة، الكاثولويكية، البروتستانتية، الأرثوذوكسية.. إلخ، ولا شك أنّه في داخل هذه المذاهب والملل بوسعنا أن نتحدث عن عشرات الطوائف الفرعية الأخرى، ويظهر هذا الأمر بصورة صارخة داخل فصائل الإسلام السياسي المتناحرة في المشهد العربي - الإسلامي المعاصر، والتي تمثل الصورة الأكثر قتامة ورعباً بين مختلف الصراعات الطائفية.

يوسف هريمة: الكثيرون أشاروا إلى مفهوم العصبية في تاريخ تشكل الدولة في الفكر العربي الإسلامي. ومن إفرازات هذه العصبية انشقاق الفكر والجماعات إلى طوائف تدافع عن مشروعها السياسي أو الفكري، وتكرّس الطائفية بوصفها عنصراً لمقاومة التيارات المعادية، في حين أنّ مفهوم الطائفة يلغي الإنسان. هل توافقون على هذا الطرح؟ وما هي مقاربتكم لموضوع العصبية كفعل مواز لما نحن بصدد مقاربته، خاصة من خلال أعمال ابن خلدون والجابري وغيرهما؟

ـ الدكتور حسن حماد: تشكل القبيلة الأساس البنيوي الذي يقوم عليه المجتمع العربي - الإسلامي. وعادة ما تتأسس الروابط بين أبناء القبيلة على قرابة الدم، ولذلك فإنّ العصبية هي ما يوحد بين الأبناء، ويجعلهم يشعرون بالولاء والانتماء لقبيلتهم. هذه العصبية تشكل من جانب آخر مصدر وجذر الانقسامات الطائفية، ويعبّر "هشام شرابي" عن هذا التلازم بين القبيلة والعصبية والطائفية بقوله:

"تكمن الدينامية البارزة للبنية القبلية في العصبية، وهذا منحى سلبي، إذ تقوم بادئ ذي بدء بالفصل بين الأنا والآخرين ثم، وعلى مستوى أعلى، تقسم العالم إلى نصفين متعارضين: القرابة واللاقرابة، والعشيرة والعشيرة المعادية لها، والإسلام واللا إسلام وهكذا....، وبالنسبة إلى العصبية فإنّ التجاذب القائم على روابط الدم يتقدم على أيّة علاقة أخرى". (هشام شرابي: النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي، ترجمة: محمود شريح، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ١٩٩٢، ص ٤٧).

أمّا عن موقف "ابن خلدون" من فكرة العصبية، فهو موقف محيّر حقاً، فهو من جانب ينتقد العرب لغلظتهم وجلافتهم وهمجيتهم، وهي صفات تنشأ عن العصبية، وهو في الوقت نفسه يعتبر العصبية الرابط السسيولوجي والسيكولوجي لبناء أيّ نظام قوي ومتماسك. هذا الطرح يذكّرني بما أطلق عليه "جاك دريدا" في كتابه عن "صيدلية أفلاطون" "الفارماكون"، وهو مصطلح يعني الداء والدواء. فالعصبية هي مرض العرب، وهي أيضاً الوسيلة التي لا غنى عنها من أجل قيام دولتهم. وابن خلدون لا يكتفي بأن يجعل العصبية هي محرّك التاريخ، بل يتجاوز ذلك إلى القول إنّ العصبية وحدها لا تكفي، بل لا بدّ من وجود الدين حتى تستطيع هذه العصبية أن تستمر وتصمد ولا تنهار. فالوازع الديني يقوي العصبية، ويلعب دوراً إيجابياً في تماسك قوة الدولة، وصلة الإسلام بالعصبية لديه تشبه صلة الروح بالمادة. ابن خلدون إذن يضعنا أمام اختيار صعب، فهو يجرّد العرب من إمكانية أي استقلال عن الدين، ربما لأنّ جذورهم البدوية لا تسمح لهم بغير ذلك. فإمّا أن يقودهم وحي أو فكرة دينية، وإمّا أن ينقرضوا ويندثروا، ولا تقوم لهم قائمة. العرب في نظر ابن خلدون أكثر بدواة من سائر الشعوب، والدين هو الذي يوحدهم ويجعلهم ينقادون لنبي أو أمير يعالج أمراضهم الأخلاقية والسلوكية والعنصرية ويهذب وجدانهم ويمنحهم الدافع الحضاري لتأسيس دولتهم.

ولكن هل موقف ابن خلدون هنا يقتصر على العرب وحدهم أم أنّه ينسحب على الشعوب قاطبة؟ وهل يعبّر موقفه هذا عن رؤية واقعية محكومة بحتمية ثقافية وتاريخية محددة؟ أم أنّه يعبّر عن رؤية أيديولوجية متحيزة تؤمن بأنّ دولة الخلافة الإسلامية هي الحل؟

الواقع أنّ موقف ابن خلدون فيه الكثير من الغموض والالتباس، ويوقع أيّ باحث في نوع من الحيرة والارتباك، فبرغم دعوته لدولة الخلافة الإسلامية إلا أنّه يذكر في كتابه "المقدمة" واقعة تعبّر عن كراهية المسلمين للثقافة وللإبداع ورغبتهم في الحفاظ على تخلفهم وجمودهم. وفي هذا السياق يقول: "ولمّا فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منها، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله، فطرحوها في الماء أو في النار ...إلخ". إنّ هذه القصة التي أوردها ابن خلدون بالإضافة إلى اقتناعه بأنّ العرب أعرق في البداوة وأبعد عن العمران، وبأنّ حَمَلة العلم في الإسلام كان أكثرهم من العجم، يجعلني أكثر ميلاً إلى القول إنّ ابن خلدون كان يتحدث حصرياً عن القبائل العربية، وكانت لديه القناعة بأنّه لا أمل في إصلاح حال هؤلاء وترويض عصبياتهم الضيقة في اتجاه عصبية عامة (هي عصبية الدولة) سوى بالدين. وهو موقف يتسم بقدر عالٍ من الواقعية السياسية، لكنّها واقعية سكونية وجمودية، خاصة وأنّه لم يستطع أن يتخلص من مقولة العصبية بوصفها العامل المحرك لتاريخ العمران البشري، برغم أنّ العمران أو المجتمع المدني أو الحضري أمر يتنافى مع القبلية والعصبية والطائفية. فضلاً عن ذلك فإنّ ابن خلدون لم يستطع أن يتحرر من المزاج الأصولي العام المهيمن على ثقافته، والذي كان يعتبر دولة الخلافة هدفاً أسمى للحياة السياسية. ولم يتجاوز ابن خلدون بأيّة حال من الأحوال هذا التصور السائد، إذ يقرر في صراحة لا تقبل الشك أو تحتمل التأويل: أنّ الحكومة التي يجب أن تسوس شؤون مجتمع العمران هي الحكومة الإسلامية، وأنّ الخلافة الإسلامية تحديداً هي التي تصون للناس مصالحهم الدنيوية وحياتهم الأخروية، وهو ينظر إلى الخلافة بوصفها نظاماً دينياً واجتماعياً وسياسياً.

إنّ موقف ابن خلدون المدعّم للدين الإسلامي لا يتسق مع هجومه الحاد والشرس على العرب ونعتهم بأحط الصفات ومنها الهمجية، خاصة إذا تذكرنا أنّ الوازع الديني لا مبرر له ولا معنى خارج سياق العصبية، وابن خلدون نفسه يعترف بهذا. ولا يمكن لنا أن نفسر موقفه هذا إلا باعتباره نوعاً من المجاراة للأوضاع السائدة في عصره، خاصة أنّ الرجل قد ذاق مرارة السجن والأسر والتشرد وتعرّض للسجن لمدة عامين ممّا حدا به إلى اليأس من الناس واللجوء إلى العزلة.

من جانب آخر يمكن تفسير موقفه في ضوء ظروف عصره، فقد عاش في القرن الثامن الهجري، وهو قرن كثرت فيه النزاعات السياسية والمذهبية والاجتماعية، وأصبحت أمصار العالم الإسلامي في حالة من التفكك وعدم الاستقرار، ممّا أغرى الدول الغربية المجاورة لانتزاع أجزاء من تلك الأمصار. ومن الأمور المعروفة أنّ موجات المدّ الأصولي واللجوء إلى الحلول الدينية تزداد في لحظات الأزمات والانهيارات الحضارية، وأعتقد أنّ هذا الرأي الأخير هو الأقرب لتفسير موقف ابن خلدون المروّج للدولة الدينية.

أمّا موقف المفكر المغربي "محمد عابد الجابري" فهو يختلف عن موقف أستاذه ابن خلدون. الجابري الذي تعرّف على مناهج الفكر الغربي ومدارسه، وعايش لحظة تاريخية معاصرة كان من الطبيعي أن يتخذ موقفاً نقدياً من مفهوم العصبية، ولذلك فهو يذهب في كتابه: "العقل السياسي العربي" إلى أنّ القبيلة والغنيمة والعقيدة هي المقولات الحاكمة للعقل الإسلامي العربي، ولكن بعد أن دخلنا إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة يجب تفكيك هذه المفاهيم، فينبغي تحويل القبيلة إلى مجتمع مدني منظم سياسياً وحضارياً واجتماعياً، وتحويل الغنيمة إلى اقتصاد منتج، وتحويل العقيدة إلى عقل اجتهادي ونقدي. وبالتأكيد هذا كلام رائع وجميل، ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن لنا القيام بهذا التحول الجذري في مقولات مازالت تحكم العقل العربي المسلم حتى كتابة هذه السطور؟

أعتقد أنّ دعوة الجابري تظلّ مجرد دعوة مثالية ورومانتيكية ما لم يتمّ تفكيك النصوص المؤسسة وإعادة فهمها في ضوء اللحظة التاريخية، فمنذ حادثة الفتنة الكبرى قام التيارالأصولي المهيمن سياسياً بعملية اختطاف للنص الديني ومصادرته لحسابه الخاص، ومنذ ذلك التاريخ أصبحت التيارات السنيّة والسلفية هي المتحدث الرسمي باسم القرآن والسنّة، وتمّ إقصاء كلّ التفاسير العقلانية والعرفانية التي خلفها لنا تراث المعتزلة والفلاسفة والمتصوفة ومن سار على هديهم من المحدثين والمعاصرين، ولنا في الباحث الإعلامي "إسلام بحيري" أسوة حسنة لكل من أراد الاقتراب من النصوص، وهو لم يمس النص المؤسس القرآن، ولكنه تجاسر فقط على نقد أحاديث البخاري. هناك تحالف وتواطؤ صامت وخفي بين الأنظمة السياسة الاستبدادية الحالية وبين التيارات الأصولية التي نجحت في ظلّ غياب الإبداع الثقافي وانهيار المؤسسات التعليمية في أدلجة الجماهير وتعبئتها في اتجاه التشدد الديني الإسلامي الأصولي، ولا يحتاج الأمر سوى فتوى يصدرها أحد المتشددين من شيوخ الأزهر أو السلفية، أو دعوى قضائية يتكفل بها محامٍ أصولي مغمور ضدّ أي مثقف بائس في بلادي...، والواقع أنّ الممارسات القمعية ضدّ المفكرين والمثقفين ليست أمراً طارئاً أو جديداً، فالتاريخ الإسلامى مليء بما هو أبشع ممّا يمكن للإنسان أن يتصوره، والأمثلة كثيرة ومتعددة: فقد أعدم "غيلان الدمشقي" بسبب آرائه الفلسفية ولقوله بحرية الإرادة في عهد "هشام بن عبد الملك"، وبالتهمة نفسها قام القائد الأموي "خالد القسري" بذبح "الجعد بن درهم" يوم صلاة عيد الأضحى عام ٧٢٤م، فبعد أن خطب في المسلمين في البيت الحرام قال: "أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإنّي مضحٍّ "بالجعد بن درهم"، وهبط من على المنبر ثم قام بذبحه.

وفي عهد الخليفة العباسي "أبو جعفر المنصور" قُتل "عبد الله بن المقفع"، وقُطّع إرباً إرباً، ورُمي في تنّور مشتعل، وفي عام ٧٨٤ أصدر الخليفة العباسي الثالث "المهدي" حكماً بإعدام الشاعر "بشار بن برد" بتهمة الإلحاد، وكان عمره يقارب السبعين.

وفي عام ٩٢٢م قُتل المتصوّف الكبير "الحلاج"، بعد أن تمّ جلده، وقُطعت أعضاؤه، ثم صُلب، وأحرق بعد ذلك، ويقال إنّ الحلاج لم يهب الموت، وقال "وإن قتلت أو صلبت أو قُطعت يداي ورجلاي ما رجعت عن دعواي". وفي عام ١١٩١ قُتل "السهروردي" في عهد "صلاح الدين الأيوبي" بعد أن تمّ حبسه ومنع عنه الأكل والشراب حتى مات. وتذكر روايات أخرى أنّه مات خنقاً. وفي عام ١١٥٠م أمر الخليفة "المستنجد" بإحراق جميع كتب ابن سينا وإخوان الصفا الفلسفية. وفي عام ١١٩٤ أصدر الأمير "أبو يوسف يعقوب المنصور"، وكان وقتئذ في إشبيلية، أمراً بإحراق جميع كتب ابن رشد إلا عدداً قليلاً منها في التاريخ الطبيعي، وحرّم على رعاياه دراسة الفلسفة، وأمرهم بأن يلقوا في النار جميع كتبها أينما وجدت. وقد خضع العامة لتنفيذ هذه الأوامر، وفي ذلك الوقت أيضاً أعدم "ابن حبيب" لدراسته الفلسفة. وفي عصرنا الراهن يسعى الأصوليون والإرهابيون إلى إشاعة مناخ من التخويف والرعب والإرهاب بين جموع المثقفين من خلال رميهم بتهمة التكفير، حدث هذا مع "طه حسين"، و"علي عبد الرازق"، ومع المفكر السوداني "محمد محمود طه"، ومع "صادق جلال العظم" و"نجيب محفوظ" و"نصر حامد أبو زيد"، ومع الموسيقار "محمد عبد الوهاب" عندما غنى أغنية "من غير ليه"، ومع "مارسيل خليفة"، والقائمة تمتدّ ولا تنتهي، ومعركة الإرهاب مع الفكر والفن والإبداع لن تنتهي.

يوسف هريمة: في كتابه "الإنسان المهدور" يطرح مصطفى حجازي موضوع الدولة وفعل الهدر الإنساني من خلال استراتيجيات العنف المشروع، واستعمال القوة الناعمة، ولعل أهم ما يشير إليه الكتاب هو نظرية العصبيات والهدر الداخلي، وفيها تتجسد الطائفية من خلال ثقافة الولاء بدلاً من ثقافة الإنجاز، والتبعية وأخلاق الطاعة. وهذا ينتج عنه هدر خارجي يتمثل في غياب الوطن نفسه، لماذا تصرّ السلطة سواء المتمثلة في الدولة، أو الجماعة والقبيلة على تقسيم الجماعة إلى طوائف؟ ثمّ عزلها ثقافياً بعد ذلك ليسهل ابتلاعها؟ هل من مقاربة اجتماعية أو نفسية لموضوع السلطة والتفريق؟

ـ الدكتور حسن حماد: يطرح مصطفى حجازي في كتابه "الإنسان المهدور" مفهوماً أكثر جذرية من مفهوم الإنسان المقهور الذي قدّمه في الثمانينات. والإنسان المهدور هو الإنسان المستباح، العاري من أيّة قيمة، المُنتهك، الذي افتقد كلّ حق في الكرامة أو الوجود، وبالتالي أصبح مباحاً وبلا حصانة. وهو معنى يتجاوز مفهوم القمع أو القهر الذي يتضمن قدراً من الاحتفاظ بكرامة الإنسان ولا يلغي تماماً قدرته على الرفض أو التمرد أو الحريّة. أمّا الإنسان المهدور فهو إنسان مستأصل من إنسانيته وغير معترف به.

هذا المعنى يذكرني بمقولة شاعت لدى الجماعات الإسلامية الإرهابية في مصر في حقبة السبعينيات، هي مقولة - أو إن شئنا نظرية ـ "الاستحلال"، وقد طبّق الإرهابيون هذه النظرية ـ وما يزالون يطبقونها - على المسيحيين وعلى رجال الشرطة والجيش بوصفهم كفاراً. وطبقاً لهذه النظرية يصبح دم الكافر ونساؤه وأطفاله وماله أمراً مستباحاً بالنسبة إلى هذه الجماعات، وقد طبّقت هذه النظرية بصورة بشعة في السطو على محلات الذهب، خاصة التي يمتلكها المسيحيون، وفي القتل العشوائي لرجال الجيش والشرطة وللأجانب الذين يأتون إلى مصر لزيارة الآثار التي يعتبرها الإرهابيون أصناماً. ونظرية الاستحلال ليست اختراعاً جديداً وإنّما هي مستمدّة من الآراء المتشددة للأصولية، وأكتفي هنا بالاستشهاد بهذا النص لشيخ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: "وأمّا الكفار فلم يأذن الله لهم في أكل أي شيء، ولا أحلّ لهم شيئاً ولا عفا لهم عن شيء يأكلونه، بل قال: (يا أيّها الناس كلوا ممّا في الأرض حلالاً طيباً)، فشرط فيما يأكلونه أن يكون حلالاً، وهو المأذون فيه من جهة الله ورسوله، والله لم يأذن في الأكل إلا للمؤمنين به، فلم يأذن لهم في أكل شيء إلا إذا آمنوا، ولهذا لم تكن أموالهم مملوكة لهم ملكاً شرعياً، لأنّ الملك الشرعي هو المقدرة على التصرف الذي أباحه الشارع صلى الله عليه وسلم، والشارع لم يبح لهم تصرفاً في الأموال إلا بشرط الإيمان". (نقلاً عن رائد السمهوري: نقد الخطاب السلفي (ابن تيمية نموذجاً)، طوى للثقافة والنشر الطبعة الأولى ٢٠١٠، ص ص ٣٤-٣٥).

وعلى الرغم من أنّ الآية الكريمة التي يستشهد بها ابن تيمية تتوجه بندائها وخطابها إلى الناس جميعاً وليس للمؤمنين، إلا أنّ شيخ الإسلام يصرّ على فهمها بهذا المعنى بما يتناسب مع فتواه الملأى بالألغام والإرهاب، ويعاود القول عن استحلال أموال الكافرين، فيقول: "فكانت أموالهم على الإباحة...، والمسلمون إذا استولوا عليها فغنموها ملكوها شرعاً، لأنّ الله أباح لهم الغنائم ولم يبحها لغيرهم".

وغني عن القول إنّ أموال الكفار وأنفسهم وأولادهم ونساءهم وكلّ ما يمتلكون يُعدّ مباحاً بالنسبة إلى المسلم وفقاً لفتوى شيخ الإسلام.

إنّ العصبية التي هي أساس الطائفية أصولية، بمعنى أنّها ماضوية وتتسم بالجمودية والقطعية والتطرف والتصلب والعدوانية. وبالمثل فإنّ كلّ أصولية هي بدورها عصبية. بمعنى أنّها لا تعترف إلا بذاتها وتتنكر لكلّ ما عداها، بل وتحاول إقصاء وسحق كلّ من يخالفها أو يقاوم الامتثال لها، لذلك فإنّ أخلاق الطاعة أو القطيع هي ما يسود في كلّ الجماعات الأصولية أو الطوائف التعصبية. وبهذا المعنى فنحن أمام هدرين أو استباحتين: هدر تمارسه الطائفة على أفرادها فتنزع منهم كلّ صفات الاستقلال والتفرد والحرية والخيال والتمرد والرفض، وتحيلهم إلى كائنات سلبية مروّضة متقبلة لكلّ ما يقرّره شيخ القبيلة أو أمير الجماعة. والفرد هنا مجرد مسخ بشري يشبه العبد في الثقافات القديمة، فالسيد يستطيع أن يبيع العبد أو يقرضه أو يسجنه، أو يزوجه أو يطلقه أو يسلبه رجولته (يخصيه)... إلخ. وبالمعنى نفسه فإنّ الفرد داخل الجماعة الدينية يخضع تماماً لإرادة الشيخ أو الأمير أو الولي، والذي يجسّد في فكره وفي آرائه وفي قراراته إرادة مطلقة، ربما تكون إرادة التوتم (في الحضارات القديمة)، أو إرادة الرب (في الديانات الكتابية).

أمّا الهدر الثاني فهو يرتبط بالأغيار، بالآخرين، بهؤلاء الذين لا ينتمون لطائفتنا أو ديننا. إنّ هؤلاء الأغيار تسقط عنهم صفات المواطنة والحقوق الإنسانية والحرمة البشرية. إنّ كلمة الكفار عند ابن تيمية تشمل ثلاث طوائف: ـ كلّ من بلغتهم الرسالة وأنكروها وكذبوها، ـ وكلّ غافل عن الرسالة سواء بلغته أو لم تبلغه، ـ والمتردد أو الشاك...، كلّ هؤلاء مستباحون بهذا المعنى.

وبالتأكيد كما تقول في سؤالك المركّب إنّ هدر الإنسان واستباحته لا بدّ أن يرتبط بالهدر الخارجي، هدر الوطن. وهذه ملاحظة في غاية الأهمية، لأنّ فكرة الوطن بمعناه التقليدي غائبة تماماً عن مفردات قاموس الجماعات الأصولية مادام الانتماء سيكون فقط للعشيرة أو القبيلة أو الطائفة. ولقد كان الرئيس الأسبق لمصر "محمد مرسي" يستخدم في خطبه وفي حواراته مصطلح "أهلي وعشيرتي"، وكأنّه بذلك يسقط من حساباته بقية أفراد الشعب ممّن لا ينتمون لجماعة الإخوان. والواقع أنّ الرجل كان متسقاً تماماً مع منهجه الإخواني الذي يهدر فكرة الوطن بالمعنى الجغرافي، وهذا ما يقوله منظّر الإخوان الأكبر "سيد قطب" في كتابه "معالم في الطريق": "... فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله...، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في "الأمّة الإسلامية" في "دار الإسلام"، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله...". (معالم في الطريق، دار الشروق، مصر، ١٩٨٢، ص ١٥١).

ولا يختلف الأمر كثيراً لدى "حسن البنا" في رسائله، إذ يؤكد المعنى نفسه، أنّ الوطن هو العقيدة، أمّا الوطن بالمعنى الجغرافي فلا قيمة له، يقول البنا: "أمّا وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكلّ بقعة فيها مسلم يقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وطن عندنا، له حرمته وقداسته وحبّه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره. وكلّ المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخوتنا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحسّ بإحساسهم". (مجموعة الرسائل، طبعة دار الكلمة، مصر ٢٠١٢، ص ص ١٠٥-١٠٦).

بقي أن أشير إلى الجزء الأخير من سؤالك، وهو ما العلاقة بين الطائفية والاستبداد؟ ولا ريب في أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً فيما بينهما، وبما أنّنا اتفقنا أنّ جذر الأصولية هو جذر الطائفية الدينية، لذلك يمكننا أن نتحدث عن العلاقة بين الأصولية والاستبداد السياسي.

لقد قلت في السطور السابقة إنّ الطائفية أو الأصولية تقوم بإلغاء الإنسان وتحيله إلى مسخ، إلى عبد، إلى رأس في قطيع من الأغنام. فالجمهور الأصولي بالإضافة إلى عدوانيته الشديدة تجاه كلّ ما هو أجنبي أو غريب أو مختلف أو غامض فإنّه يتسم أيضاً بالسلبية والتصديق، والقابلية للإيحاء، ويميل إلى اللاعقلانية والعاطفية والإيمان المطلق بالغيب، والاعتقاد في السحر وفي الخوارق والمعجزات، والتسليم بالقضاء والقدر، ولديه عداوة شبه فطرية للتفكير المنطقي ولكلّ ما هو جديد أو مبدع أو حداثي... إلخ.

وإذا تصورنا هذه الصفات بوصفها صفات ملازمة لثقافة سائدة في مجتمع، فإنّ هذه الثقافة لا بدّ أن تنتج سلطة سياسية قمعية تتأسس على الحالة المعرفية للتعصب، وتعيد إنتاج هذه الحالة بواسطة أجهزتها الأيديولوجية والإعلامية. والمسافة قصيرة جداً بين التعصب بوصفه حالة معرفية سائدة في ثقافة من الثقافات، وبين التسلط بوصفه علامة من علامات المجتمعات القمعية المتخلفة التي تستأصل الحرية من قلوب شعوبها. فالتعصب الفكري هو الوجه الآخر للاستبداد السياسي. لكن يجب ألّا ننسى أمراً مهماً وخطيراً، وهو أنّ الأنظمة التي تستحوذ على شعوبها بالقمع والتسلط والاستبداد وإلغاء الحرية والعقل معرضة في كلّ لحظة لخطر الفوضى الشاملة، وهذا ما حدث في البلدان التي تعرضت لموجات الخريف العربي، والتي انهارت أنظمتها القمعية وكأنّها هياكل جليدية، لماذا؟ لأنّ قوة الأنظمة السياسية ليست في جبروتها، ولكن في قوتها المستمدّة من شعوب واعية وحرة.

يوسف هريمة: في قضايا الصراع الدائر حالياً تبرز إشكالية الهويّة الثقافية والدينية بوصفها محددات أساسية في تشكيل الطوائف. ما معنى الهويّة في عصر ما بعد الهويّة إذا صح التعبير؟ وهل المثقف العربي أو النخبة المثقفة ساهمت في تشكيل هذا الوعي بطرحها قضية الهويّة محدداً أساسياً للنهضة العربية المنشودة؟

ـ الدكتور حسن حماد: سؤال الهويّة سؤال إفلاس، سؤال ضياع. فالذي يسأل عن هويته يكون دائماً من الضائعين المفقودين أو ممّن افتقدوا القدرة في التعرّف على ذواتهم. على أيّة حال فإنّ الهويّة بمعناها الفردي، أو الجمعي ترتبط عادة في ذهن القائلين بها بمعاني الخصوصية، والأصالة، والتمايز، والاستقلال، فالهويّة بهذا المعنى تعني ببساطة المقدرة على أن نكون ذواتنا أو أنفسنا، وكأنّ هناك كياناً متجانساً ومتماسكاً وجاهزاً يُسمّى الذات. وهذه رؤية استاتيكية تماماً، وتنطلق من ثوابت المنطق الأرسطي الذي يعول على أهمية أنّ الشيء هو نفسه، ولا يمكن أن يتحول إلى غيره. وهذا منطق تجاوزه الفكر الجدلي الذي تأسس عند هيرقليطس، وتدعّم بفلسفة هيجل وماركس وفلاسفة الفكر المعاصر. إذن الحديث عن الهويّة بهذا المعنى هو حديث عن الثبات والجمود، حديث عمّا هو ميت.

إذا كان الحديث عن الهويّة يتم من خلال منطق السكون والثبات فهو وهم. فالهويّة الحضارية والثقافية بمعناها الجمعي والفردي ليست كهويّة هذه الطاولة أو هذا المقعد المستقر في أحد أركان الغرفة. إنّ الهويّة الثقافية تعكس التناقض، بمعنى أنّها تعكس جدل الثابت والمتغير معاً. والثابت لا معنى له إلا من خلال قدرته على المساهمة في حركة التغيير. أمّا الثابت المتكلس المحفوظ في ذاكرة الماضي، وفي أروقة المتاحف، وبين ثنايا الكتب الصفراء، فإنّه يمثل التراث الجثة أو التراث الميت.

أمّا إذا جئنا إلى الحديث عن الهويّة المرتبطة بالطائفية، فإننا سنجد أنّ جميع جماعات وتنظيمات الإسلام السياسي تختزل الهويّة في الدين، والهويّة بهذا المعنى نسق مغلق يسميه "عبد الصمد الكباص" في كتابه "الجسد والكونية، مبادئ ثورة قادمة" بنظام "الأحقية"، لأنّ الديانة التوحيدية لا تقدّم نفسها كحقيقة تنضاف إلى مجموعة حقائق قائمة، وإنّما تقدم نفسها باعتبارها الأحق الذي لا يقبل الدحض ولا يجوز أن يقبل المناقشة أو التشكيك، لأنّه أسمى من كل الحقائق. ومن ثمّ فإنّ ما يحدد نظام الأحقية هو امتلاك الحقيقة المطلقة والوحيدة. والأحقية بهذا المعنى تبنى على ضرورة نفي ما يخالفها، لأنّه ليس من حقه أن يوجد أو يكون.

وفي خطاب الهويّة الأصولي/الطائفي تتحول صفات التطابق والتماثل والإجماع إلى صفات مرادفة للتصديق والإذعان والإخضاع. فالتطابق هو إلغاء للوجود النقيض بما لا ترى معه الذات العارفة سوى نفسها فقط. والتماثل يعني ما تسقط به هذه الذات حضورها أو سلطتها على غيرها، فإذا به يصبح هو إياها. والإجماع هو إلغاء لكلّ هويّة فردية متميزة في سبيل نشدان هويّة واحدة تصبح بمثابة الهويّة الأصيلة أو المركزية، والتي تغدو أشبه بالعلة الأولى التي تتولد عنها كل الأفكار والمعلومات، وتنشأ منها كل الصور والأخيلة والتصورات.

والهويّة بهذا المعنى الأخير هويّة قاتلة، لأنّه ليس أمام الأصولي الطائفي سوى طريق من اثنين: إمّا أن يهزم أصحاب الهويّات الأخرى، أعداء الإيمان الحقيقي ويسحقهم، وإمّا أن يهديهم إلى الطريق الصحيح الذي يؤمن به، ليصبحوا جزءاً من هويته. فالحقيقة بالنسبة إليه واحدة والخطأ متعدد، ولأنّ الحقيقة واحدة، لذلك فهي لا تقبل منافساً على واحديتها وإلا ستكون غير كاملة. وعدم الكمال أو النقص لا تحتمله أيّ حقيقة تدعي الإطلاق.

إنّ الهويّة بهذا المعنى نوع من الوهم، وقد أكد معظم الفلاسفة المعاصرين على تهافت فكرة "الهويّة"، ومنهم "جاك دريدا" الذي يؤكد في العديد من مؤلفاته أنّ الهويّة لا معنى لها خارج وجود الآخر أو المختلف. فالهويّة لا تتكشف إلا عبر الاختلاف، فكلّ عنصر ينطوي على الآخر في اللحظة التي يتمتع فيها بكونه هو نفسه. فالآخرية أو الغيرية تحاصرني من كل اتجاه. وبالتالي ليس بوسع أي أحد أن يحدثنا عن جوهر أو حقيقة قبلية أو مطلقة أو سابقة على التجربة البشرية التاريخية استناداً إلى نزعة ميتافيزيقية أو لاهوتية دون الوقوع في شبكة الاختلافات والعلاقات التي تتحدد من خلال طيف أو شبح هذا الآخر.

إنّ كل تحديدات الهويّة - وفقاً لدريدا - تتشقق وتتهاوى بفعل هذا الحضور الطيفي لهذا الآخر الذي يجعل من هويّة العنصر أمراً ممكناً، كما يجعل من فرادته المعزولة أمراً مستحيلاً.

يوسف هريمة: المرض الطائفي في الوطن العربي وما أنتجه من أزمات اليوم يشعرنا بخطر وجودي يتهدد الجميع، حيث تضخم الوعي الطائفي، وبدأت الهويّات والخصوصيات تضيق إلى الحد الذي أصبح فيه شعار "تمزيق الممزق" شعاراً لسياسات إقليمية ودولية. ما رأيكم في من يرفع تعبير "العلمانية هي الحل" في مقابل تعبير آخر أكثر راديكالية منه "الإسلام هو الحل"، هل نحن أمام تحول تدريجي نحو حيادية الدولة على غرار ما جرى في أوروبا؟

ـ الدكتور حسن حماد: لا أستطيع أن أضع شعار "العلمانية هي الحل" في مقابل الشعار الذي يرفعه أنصار الإسلام السياسي: "الإسلام هو الحل"، الشعار الأخير للإسلام السياسي هو في اعتقادي مجرد صيغة سحرية، عودة للتفكير السحري الذي يجعل الكلمة مساوية للشيء وللفعل، ولذلك فشل الإخوان في السودان، وانتهى الأمر بإفقارها وتقسيمها وترسيخ بنى التخلف فيها. ولم يختلف مصير الإخوان في تونس عنه في السودان، إذ تفاقمت الأزمة الاقتصادية وتراجعت السياحة وازدادت العمليات الإرهابية ولم يقدّم حزب النهضة للحياة السياسية في تونس سوى الدمار والتخريب والانقسام، ولولا التراث العلماني لبورقيبة لانهارت تونس واختفت من الوجود. أمّا في مصر فقد نجح الإخوان في الوصول إلى سدة الحكم بعد انتفاضة ٢٥ يناير، ودانت لهم سيطرة شبه كاملة على مفاصل الدولة، ولكن يبدو أنّ الجماعة التي أدمنت العمل السري كانت تحكم مصر بمنطق الجماعة المحظورة، لذلك سعت إلى أخونة مؤسسات الدولة بدءاً من العمال وحتى الوزراء، وجرت عمليات تطهير سريعة لكل العناصر التي لا تنتمي إلى جماعة الإخوان، ممّا خلق حالة من الاستياء العام لدى الجماهير المتطلعة إلى فجر الحرية الجديد، ولذلك سرعان ما احتشد الملايين من المصريين، خاصة النساء والشباب، وامتلأت الشوارع والميادين بهؤلاء الرافضين لمرسي وجماعته، وكانت انتفاضة ٣٠ يونيه ٢٠١٣ إيذاناً بسقوط الإخوان وجماعات الإسلام السياسي. إذن شعار "الإسلام هو الحل" شعار ديماغوجي يخاطب جماهير محرومة سياسياً، وذات مزاج ديني أصولي، ومندفعة بيأسها إلى البحث عن مخلص وعن منقذ لها يأخذ بيدها إلى شاطئ الحرية وإلى برّ الأمان.

أمّا شعار "العلمانية هي الحل" فلن يكون سهلاً ومقبولاً في واقع ما زال يئنّ تحت وطأة أنظمة سياسية متخاذلة ما زالت تريد أن تخطب ودّ الدولة المسؤولة عن الإسلام الوهابي في المنطقة العربية (السعودية)، فضلاً عن رغبتها في إرضاء رجال الدين، وتغاضيها عن الجماعات السلفية التي ما زالت تمارس دورها بحرية في الشارع العربي، خاصة في المناطق الريفية والمناطق الفقيرة والمهمشة، تلك المناطق التي سقطت من حسابات تلك الأنظمة الرخوة.

دعني أحدثك عن مصر التي أعرفها جيداً: كيف ترفع شعار "العلمانية هي الحل" في مصر وفيها مؤسسة أصولية عاتية هي الأزهر، مؤسسة قوية تحتمي بمظلة ضخمة من الأموال والجامعات والمعاهد الدينية، وينتشر شيوخها في كافة ربوع مصر، ممّا يجعلها تلعب دوراً هائلاً في تشكيل الرأي العام للجماهير، بل وتمارس سلطة وصاية ومراقبة لكلّ ما ينشر من أفكار أو يمارس من إبداعات؟ كيف يُرفع شعار العلمانية في دولة تضع خانة للديانة في بطاقات هويّة مواطنيها، وتعلن في المادة الثانية من دستورها أنّ "الإسلام دين الدولة... ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"؟ تُرى هل للدولة ديانة؟ وإذا كان الأمر كذلك فلمن ينتمي أصحاب الديانات الأخرى؟

كيف ندعو للعلمانية في بلد يقوم جهاز شرطته بمطاردة المفطرين في شوارع القاهرة في مشهد يذكرنا بجماعة الأمر بالمعروف في المملكة السعودية؟ كيف نرفع هذا الشعار في ظلّ دولة مازالت ترفض إلغاء قانون ازدراء الأديان، في الوقت الذي تمنح فيه المشروعية لأحزاب دينية كحزب النور السلفي مثلاً؟

نعم العلمانية هي الحل، ولكن في ظلّ شروط ثقافية وسياسية وتعليمية مناسبة، فالمجتمع المصري ما زال حتى كتابة هذه السطور يتعامل مع العلمانية بوصفها اصطلاحاً مرادفاً للإلحاد. والسبب في هذا يعود إلى جهاز الإعلام الأبله وإلى ارتفاع نسبة الأميّة وفساد النظام التعليمي وانفراد الشيوخ بتشكيل عقل ووجدان الجماهير - في ظلّ غياب المؤسسات الثقافية والسياسية - حتى رجال السياسة في بلادنا يخشون من استخدام كلمة العلمانية ويفضلون عليها الدولة المدنية. إنّ هؤلاء وغيرهم يجهلون أنّ العلمانية ليست ديناً بديلاً وليست كفراً أو ضدّ الدين، إنّها ببساطة محاولة للفصل بين مؤسسات التعليم وبين المؤسسة الدينية على المستوى المعرفي، وهي أيضاً محاولة للفصل بين المؤسسات السياسية للدولة وبين الدين على المستوى الأيديولوجي. وبرغم أنّ الاهتمام ينصبّ لدى المثقفين على الدعوة إلى علمنة المؤسسات السياسية إلا أنّني أعتقد أنّ علمنة التعليم يجب أن تتزامن مع العلمنة السياسية.

وبعد عزل مرسي سيطرت المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة في مصر، وهي مؤسسة وطنية بلا جدال، ولكن يجب ألّا ننسى أمراً هاماً وهو أنّ المؤسسة العسكرية تلتقي بنيوياً مع المؤسسات الدينية في طبيعتها المحافظة ونظامها الصارم ونسقها الهيراركي. على الرغم من أنّه يفترض في المؤسسة العسكرية أن تكون علمانية تماماً وليس لها ديانة محددة خاصة، وأنّ جزءاً كبيراً من الشعب المصري يعتنق المسيحية، وبحسب الإحصاءات الرسمية، فإنّ عدد المسيحيين في مصر ٨ مليون فقط، وبحسب تصريحات البابا ١٥ مليوناً، ولا تعليق.

يفترض إذن أن تكون المؤسسة العسكرية مؤسسة علمانية، بل وبلا أيديولوجية سياسية محددة. ومع ذلك فإنّ رجال الجيش هم جزء من الشعب يتأثرون سلباً وإيجاباً بالثقافة الدينية والسياسية السائدة، ولذلك ليس مستغرباً أن يتم اغتيال الرئيس محمد أنور السادات في السادس من أكتوبر عام ١٩٨١ على يد عناصر من القوات المسلحة كانت تنتمي لتنظيم الجهاد وهم: خالد الإسلامبولي، وعبود الزمر، وحسين عباس، وعطا طايل، وعبد الحميد عبد السلام. وقد أعدموا جميعاً فيما عدا القيادي الجهادي عبود الزمر الذي تمّ الإفراج عنه مع أخيه طارق الزمر وآخرين بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مارس ٢٠١١ عقب قيام انتفاضة ٢٥ يناير ٢٠١١!!! ولا تعليق أيضاً.

نحن إذن أمام عقبة كؤود تُسمى الأصولية الدينية المتغلغلة في وجدان عدد لا يستهان به من أبناء الشعب المصري، المسألة تحتاج إلى كفاح ونضال مريرين، لأنّ زعزعة وخلخلة صخرة الأصولية الوهابية في العالم العربي ستستغرق وقتاً طويلاً، ونحن بحاجة إلى عشرات القيادات السياسية بقوة وجسارة ووزن "كمال أتاتورك" و"الحبيب بورقيبة"، والأخير هو العلماني الوحيد من بين زعماء العرب ممّن نجحوا في تأسيس ثقافة علمانية حقيقية ما زالت تونس تحيا على نورها وهديها، برغم كلّ ما حاق بها من أحداث ومتغيرات. وبالمثل نحن بحاجة إلى مفكرين لديهم جرأة وقوة "فولتير"، "ودي هولباخ"، و"هلفشيوس"، "وجون لوك" وغيرهم من ممثلي حركة التنوير الأوروبية، ونحن بحاجة أيضاً إلى إحياء أفكار رواد التنوير في العالم العربي "شبلي شميل" و"سلامة موسى" و"طه حسين" و"إسماعيل مظهر". الأسماء كثيرة والأفكار أيضاً كثيرة ولكن لا بدّ من توافر مناخ من الحرية ومن الديموقراطية. والديموقراطية بغير علمانية لا معنى لها، لأنّها ستتحول إلى غلبة الأكثرية في مقابل قهر الأقلية. وبعد مجيء الإخوان إلى السلطة تعامل الإسلاميون مع الديموقراطية بوصفها غنيمة من غنائم الغرب الصليبي، وأنّها وسيلتهم الناجحة للسيطرة على السلطة، ووضعوا في اعتبارهم أنّها ستُستخدم لمرّة واحدة، - والضرورات تبيح المحظورات - ثم بعد ذلك نلقي بها في الجحيم، ولذلك فمن الأمور المضحكة في هذا المشهد العبثي أن يصف أحد أشهر دعاة السلفية في مصر وهو الشيخ "محمد حسين يعقوب" استفتاء ٢٠١١ على التعديلات الدستورية (الذي وصلت فيه نسبة من قالوا نعم إلى ٧٧.٢٪) إنّه: "غزوة الصناديق"، وقال في خطبته متهللاً: "لقد قالت الصناديق نعم... نعم للدين!.

وأنا لا أملك في ختام إجابتي عن سؤالك سوى أن أقول نعم للعلمانية، ووجود هذه العقبات التي أشرت إليها في السطور السابقة لا يعني مطلقاً الخضوع للأمر الواقع. إنّ ما نقوم به الآن في هذا الحوار وما نقدمه من إسهامات فكرية في هذا المجال يحدث الكثير من الدوائر في هذه البركة الراكدة، وفي هذه المياه الآسنة. ولا تنسَ يا صديقي أنّ ضوء شمعة واحدة قد يبدد الكثير من الظلمات.

يوسف هريمة: مصطلح لبننة العالم العربي مصطلح رائج في الأدبيات السياسية، ويعكس حالة فريدة في العالم يسود فيها المنطق الطائفي، والتقسيم السياسي المبني عليها. كيف تقوّمون نموذج لبنان خاصة بعد الحرب الأهلية، ودستور الطائف؟ هل نحن سائرون إلى تعميم هذا النموذج خاصة في سوريا وليبيا واليمن والعراق؟

ـ الدكتور حسن حماد: النموذج اللبناني يصعب تعميمه على بقية الدول التي تعاني الآن من الطائفية، خاصة سوريا وليبيا واليمن والعراق، لأنّ الطائفية باختصار ليست نظاماً سياسياً، ولبنان ما زالت حالة استثنائية حتى إشعار آخر، وتظلّ الطائفية إحدى نقاط الضعف في الدولة اللبنانية، وتجعل من لبنان نظاماً آيلاً للسقوط في كلّ لحظة. والمفكر اللبناني "ناصيف نصار" في كتابه "نحو مجتمع جديد: مقدمات أساسية في نقد المجتمع الطائفي" يضع أيدينا على مكامن الخطر ونقاط الضعف في هذا النظام، والتي يمكن لي أن أجملها في هذه النقاط:

ـ النظام السياسي الحالي قام بتسوية ظاهرة أو سطحية، لم تستطع حتى الآن أن تحدث أيّ تقارب بين المسيحيين والمسلمين.

ـ الطائفية كانت وسيلة ونتيجة في الوقت ذاته: كانت وسيلة استخدمها الإقطاعيون والعثمانيون والغربيون لإثارة الفتن وتعميق الانقسام بين اللبنانيين، ومن أجل تأمين مصالحهم المختلفة، والطائفية كانت نتيجة لأنّ تحولها من النطاق الضيق لكلّ طائفة إلى نطاق الإدارة الموحدة للبلاد لم يكن حتمياً أو ممكناً إلى حد ما لولا اتفاق الدول المستعمرة والفئات المُستغِلة داخل البلاد.

ـ إحساس المواطن اللبناني بالمواطنة إحساس ممزّق ومنتقص، فهو يشعر بالانتماء لطائفته الصغيرة التي ينتسب إليها، وفي الوقت نفسه لا يحسّ مباشرة بأنّه مواطن يتمتع بكافة حقوق المواطنة وبالواجبات المدنية التي يتمتع بها المواطن الكامل.

إنّ الدولة اللبنانية ليست دولة علمانية، كما أنّها ليست دولة دينية، وفي هذه الازدواجية تكمن أزمتها، فهي ليست دولة دينية لأنّ دستورها يجعل حرية المعتقد مطلقة، وهي ليست دولة علمانية لأنّها تخضع قوانين الأحوال الشخصية للطوائف الدينية وتستخدم المقياس الطائفي في الحكم والإدارة. فهي دولة لم تفلح في الوصول إلى العلمانية بسبب نفوذ القوى الطائفية المتحالفة مع الزعامات التقليدية والقوى الرأسمالية. والحالة اللبنانية في اعتقادي وضع فرضه الأمر الواقع، أو إن شئنا هو حالة من البرجماتية السياسية، لكنّ هذه البرجماتية لن تستطيع انتزاع أو استئصال المشاعر الطائفية الخاصة التي تغذي ذاكرة أبناء كلّ طائفة على حدة، ممّا يجعل الواقع اللبناني مُهيّأ في كلّ لحظة للانفجار وقابلاً للاشتعال وإيقاظ الصراعات الطائفية البغيضة.

يوسف هريمة: رجوعاً إلى بدايات تشكل الدولة الإسلامية، يبرز لنا حديث الافتراق بوصفه تجلياً من تجليات عقلية آمنت بالأمّة المختارة والفرقة الناجية والطائفة المنصورة. وكلها عناصر مبثوثة على شكل روايات تمّت جميعها في ظروف تاريخية وسياسية معينة، تفرقت على إثرها الأمّة إلى فرق وطوائف ونحل وملل. ما هي قراءتكم لهذه الروايات؟ وما العناصر المتحكمة في عملية إنتاجها؟

ـ الدكتور حسن حماد: العصبية كما سبق وتحدثنا هي جزء من بنية المجتمع العربي بوصفه مجتمعاً قبائلياً، وبالتالي فإنّ الطائفية هي طابعه الأصيل. أمّا الطائفية الدينية تحديداً فقد ظهرت منذ أن تمّ توظيف النص الديني لخدمة أغراض دنيوية لا علاقة لها بالمقدّس الديني. وتبدأ هذه اللحظة مع انفجار الأحداث الدراماتيكية للفتنة الكبرى، والتي تُعدّ اللحظة الأكثر مركزية في تحديد مصائر الطائفية على الصعيدين السياسي والفكري. فحين طلب "معاوية بن أبي سفيان" من جنده الذين استشعروا الهزيمة أن يرفعوا المصاحف على أسنّة الرماح فإنّه كان بذلك يصوغ نوعاً من العلاقة مع القرآن بوصفه سلطة، وهو المفهوم الذي ساد وترسّخ إلى الآن. وهي العلاقة التي حضر فيها القرآن بما هو سلطة ناطقة بذاتها (على حد تعبير المفكر الراحل "علي مبروك")، ولا يمكن لجماهير المؤمنين في هذه الحالة سوى الخضوع والإذعان. وفي كلمة واحدة فإنّ القرآن أصبح منذ تلك الواقعة سلطة إذعان وإخضاع.

وبالطبع فإنّ الإمام عليَّاً راح يفضح الخديعة مؤكداً أنّ الأمويين ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وأنّهم يحتالون بذلك سعياً وراء الاستحواذ على السلطة السياسية، ومضى يؤكد أنّ القرآن ليس سلطة تمتلك لساناً ينطق به، بل الناس هم الذين ينطقون بلسانهم عنه، ويستخدمونه كسلطة يتخفون وراءها، وهذا ما قاله في مقولته الشهيرة التي يحاول الأصوليون أن يشككوا في صحة نسبها إليه وإلى مصدرها، والتي يقول فيها: "... هذا القرآن إنّما هو خط مستور بين الدفتين، لا ينطق بلسان، ولا بدّ له من ترجمان، وإنّما ينطق عنه الرجال".

إنّ حادثة الفتنة الكبرى وغيرها من الصراعات السياسية هي التي فجّرت الصراعات الطائفية العقائدية. فمن خلال هذه الصراعات ظهرت الفرق الإسلامية المختلفة مثل أهل السنّة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة والمعتزلة...إلخ، وراح كلّ فريق من هذه الفرق ينظر إلى نفسه بوصفه المستحوذ على الحقيقة المطلقة والمتحدث الرسمي باسم الدين. ويعتبر أهل السنّة أهمّ الفرق التي قامت بتوظيف النص الديني سواء القرآن أو السنّة لخدمة أغراضها ومواقفها السياسية ولتدعيم عقيدتها في مواجهة العقائد الأخرى. ولعلّ أهم الأحاديث التي وظفت أيديولوجياً لخدمة الطائفية وإقصاء الطوائف والفرق الأخرى، هو حديث "الفرقة الناجية". والذي يُعدّ أساساً نظرياً لأيّ ممارسة للعنف أو الإرهاب تجاه الآخر، وقد ورد الحديث بعدة صيغ مختلفة لعل أخطرها الصيغة التي تقرر أنّ أهل السنّة والجماعة هم الفرقة الناجية، وهذا يعني أنّ كل الفرق الباقية من الفرق الهالكة الكافرة، ومن أهل البدعة والضلالة.

وقد لعب هذا الحديث (كما يذكر أحمد سالم في كتابه عن إقصاء الآخر) دوراً بارزاً في مدونات الفرق والملل والنحل لأهل السنّة، فكان له دوره البارز فى إقصاء الآخر لدى أهل السنّة في مواجهتهم للفرق المخالفة أو الهالكة، وهي أربع فرق كبرى وهم: الخوارج، الشيعة، المرجئة، المعتزلة. وتحت هذه الفرق الكبرى هناك تعدد وتشعب، حتى ينطبق عليها حديث الفرقة الناجية، وهي بضع وسبعون فرقة. وقد حملت كتب الفرق بداخلها أحكاماً كثيرة بالتكفير تخصّ تلك الفرق المغايرة لأهل السنّة، وتحاول أن تجعل المذهب السنّي وحده هو الذي يملك الحقيقة المطلقة والصدق التام. والواقع أنّ جرثومة التكفير والإقصاء لم يسلم منها أصحاب أهل السنّة أنفسهم، ولذلك نجدهم يختلفون فيما بينهم حول من يملك الحديث باسم أهل السنّة والجماعة: الحنابلة يعتقدون أنّهم من يملك هذا الحق، والأشاعرة يقولون نحن، وابن حزم هو وأهل الحديث يرون أنّهم يعبّرون عن أهل السنّة. وقد وصل الأمر إلى حد أنّ هناك تكفيراً متبادلاً بين تلك التوجهات لأهل السنّة، حيث كفّر الحنابلة الأشاعرة، وكفّر ابن حزم الظاهري أعلام المذهب الأشعري، وبالتالي فإنّ سلاح تكفير الفرق الإسلامية الذي وظفه أهل السنّة في مدوناتهم عن الملل والنحل استخدمه أهل السنّة ضد بعضهم بعضاً. وذلك يكشف مدى خطورة سلاح التكفير والإقصاء الذي تمّ توظيفه في كتب العقائد في ترسيخ وتدعيم آفة الطائفية.

لا أريد أن أترك هذه النقطة دون أن أشير إلى أنّ جميع جماعات الإسلام السياسي بكلّ ألوانها وأشكالها وأطيافها، بدءاً من الجماعات الدعوية وحتى الجماعات الإرهابية العنيفة مثل داعش وبوكو حرام وأنصار بيت المقدس، تعتبر نفسها المتحدث باسم مذهب أهل السنّة والجماعة.

يوسف هريمة: وصولاً إلى ما نعيشه اليوم من تداعيات "خريف عربي" دمّر الأوطان والإنسان، أعيد تشكيل وإنتاج خطاب طائفي سنّي تارة، وشيعي تارة أخرى مدعوم من قوى دولية وإقليمية. هل نحن أمام مشهد تقسيم للمنطقة بلبوس طائفي يستحضر النعرات والحساسيات الدينية التي غذتها ثقافة سنّية وشيعية؟ وكيف نخرج من المأزق الحالي ونوقف شلالات الدم المهدور بعناوين طائفية ومذهبية؟

ـ تنتعش المشاعر الطائفية وتتأجج من خلال الشرط الخارجي. إنّها بمثابة القوة الكامنة التي تنتظر المحرك الخارجي لكي تعبر عن نفسها بصورة انفجارية غالباً ما تكون مدمرة لذاتها ولغيرها. فالطائفية نادراً ما تكون نتيجة لوعي تاريخي متطور، إنّها غالباً ما تنشأ كرد فعل للأزمات الاقتصادية ـ السياسية، وتستيقظ بفعل الشروط الخارجية، خاصة التي تتمثل في التغيرات العنيفة، والهزائم العسكرية، والانقلابات السياسية، وانهيار الأنظمة القائمة، والفراغ السياسي، وسقوط هيبة الدولة، وهشاشة المؤسسات، وعقب الثورات والانتفاضات، مثلما حدث بعد ما يُسمّى بانتفاضات الخريف العربي، التي لا أستطيع أن أسميها ثورات، لأنّها لم تحدث تغييراً كيفياً في شكل السلطة وفي قيم المجتمع، وإنّما قامت فقط بإسقاط أنظمة ديكتاتورية ولم تستطع حتى أن تأتي بالبديل الأفضل أو الأكثر حريّة، بل على العكس إنّ دولاً بأكملها سقطت تحت وطأة الصراعات الطائفية الدينية، وخاصة سوريا والعراق وليبيا، ولم ينقذ تونس من هذه المؤامرة سوى ميراثها العلماني الضارب بجذوره في مؤسسات الدولة. أمّا مصر التي تحمل حضارة ستة آلاف عام فلم يكن سهلاً أن تستسلم لطغيان جماعة فاشية. لكن في كلّ الحالات نجد أنّ حصيلة هذا الخريف العربي كانت لصالح الطائفية، ولصالح المصالح الصهيوأمريكية، ولصالح الرأسمالية العالمية التي تمتص دماء الشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها.

لا شك أنّ الأحداث العنيفة لانتفاضات الخريف العربي لعبت دوراً إحيائياً للنوازع والنعرات الطائفية، ولكنّي أعتقد أنّ صحوة الطائفيات قد بدأت قبل ذلك بعدة عقود، مع بداية انحسار المد القومي والتحرري الذي عرفه العالم العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي شهدت محاولات لبناء الدولة الوطنية المستقلة، والشروع في تنفيذ مخططات تنموية تهدف لبناء اقتصاد وطني مستقل، ومحاولات جادة للتحرر من التبعية الاقتصادية، ولكن جاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧ لتعصف بتلك الآمال وليبدأ عصر الانكسار وضعف الدولة الوطنية وتدهور إرادتها في مواجهة القوى الإمبريالية، وأصبح المناخ مُهيّأً لانبعاث الحركات الإسلامية السياسية التي حاولت بتياراتها وأجنحتها المختلفة أن تقدّم رؤيتها الخاصة لما حدث، وتعرض ما يعرف بالحل الإسلامي البديل. وقد بدأت عملية أدلجة الجماهير بخطاب أصولي متطرف منذ أن تولى السادات السلطة في مصر في ١٥ أكتوبر ١٩٧٠، ومنذ ذلك التاريخ سعى السادات إلى إقصاء الجناح اليساري من السلطة، وقام بتفكيك النظام الاقتصادي السياسي الذي أسسه عبد الناصر، وفي الوقت نفسه اتجه لتوظيف الإسلام السياسي كأيديولوجية سياسية مضادة للمشروع الناصري وللاستعانة به كسلاح لضرب وتصفية المثقفين واليساريين وكافة قوى الحرس القديم. وكان من نتيجة ذلك أن تفاقمت مظاهر التعصب الديني وانتشرت مظاهر التدين الزائف، وكثرت الاعتداءات على الكنائس والمسيحيين، واشتدت قوة جماعات الإسلام السياسي إلى الحد الذي فشلت معه كلّ محاولات النظام من أجل احتوائه أو ترويضه، وكانت النهاية الدامية في ٦ أكتوبر ١٩٨١، إذ مات السادات مقتولاً بأيدي الجماعات الإرهابية نفسها التي أوجدها واحتضنها وربّاها، وقد سار مبارك على نهج سلفه المقتول ولم يجد أدنى مشكلة في تقاسم السلطة مع الإخوان المسلمين والجماعة السلفية، فترك لهم الشارع والجامعات والمدارس والنقابات وتفرغ هو وأولاده وزوجته وحاشيته لنهب مصر وتحقيق حلم التوريث. وهذا ما يؤكد مرّة أخرى أنّ الأصولية الدينية والأنظمة الاستبدادية وجهان لعملة واحدة هي النظام الفاشستي.

بالتأكيد هناك أسباب أخرى إلى جانب هزيمة ٦٧ لعبت أيضاً دورها في صحوة الطائفية، منها سقوط الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بإدارة شؤون الكرة الأرضية، ولا شك أنّ سقوط الاتحاد السوفيتي كان معناه سقوط الحلم الماركسي الذي كان يتطلع أصحابه إلى مجتمع يخلو من الفقر والقهر والظلم والقسوة.

أيضاً كان لسقوط العراق دور خطير في ازدهار النوازع الطائفية، إذ غدا العراق بين ليلة وضحاها بنية خصبة لإعادة إنتاج كلّ أشكال الطائفية البغيضة والعفنة. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتوقظ المكبوت الديني من أعماقه السحيقة في اللاوعي الجمعي للجماهير سواء في الشرق أو الغرب. وأظهرت الأحداث المأساوية للحادي عشر من سبتمبر أنّ تلك المشاعر القديمة لم تندثر، وأنّها مازالت كامنة في ركن قصي من الأماكن المعتمة في الوعي التاريخي، وأنّها ما برحت تمارس دوراً حيوياً في توجيه الصراعات الطائفية الدموية.

أعود معك مرّة أخرى إلى الماضي القريب، وإلى أحداث الربيع العربي الذي أضحى خريفاً عصفت رياحه المتربة بكلّ أحلام وآمال الشباب الثوري الذي كان يحلم بفجر جديد يحمل بشارة الحرية ويتطلع للعيش الكريم. كلّ شيء تبدّد، والأحلام صارت كوابيس، وثورة الأمل أصبحت ثورة مضادة تقودها قوى رجعية وسلفية تحلم باستعادة دولة الخلافة وتستمد عناصر حلمها من ماض بعيد، فصارت الأحزاب مثل العصابات، واحتلت الطوائف الدينية مهمة الأحزاب السياسية، وأصبحنا نتحدث بسهولة عن الدولة الطائفة، والدولة القبيلة. حدث هذا بلا مبالغة بعد ٢٥ يناير ٢٠١١ عندما استولت جماعة الإخوان على السلطة وتحوّل محمد مرسي من رئيس حزب الحرية والعدالة الإخواني إلى رئيس أكبر دولة في العالم العربي، ولم يصدق الرجل نفسه، فراح يتعامل بمنطق شيخ القبيلة وعضو الجماعة الذي يُقبّل يد المرشد العام لجماعة الإخوان كما تقتضي طقوس الجماعة.

وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تنتاب قوى الإسلام السياسي رغبة محمومة ومسعورة من أجل المشاركة في غنائم السلطة السياسية، فراحت كلّ جماعة وكلّ طائفة تسرع لتأسيس حزبها الديني الجديد. وفي خلال عام واحد تأسس ما يزيد عن عشرة أحزاب دينية، لعل في مقدمتها "حزب الوسط الجديد"، وقد أسّسه المهندس أبو العلا ماضي، وكان عضواً سابقاً في جماعة الإخوان المسلمين. "وحزب البناء والتنمية" أسّسه كل من عبود الزمر وطارق الزمر وصفوت عبد الغني، وهو ائتلاف لقوى دينية من الجهاد والجماعة الإسلامية والسلفيين. وهي كلها قوى تتسم بالراديكالية والعنف، وشاركت في قتل السادات. و"حزب النور"، و"حزب التوحيد"، وهما من الأحزاب التي أسستها جماعات سلفية. و"حزب مصر القوية"، وقد أسسه القيادي السابق بجامعة الإخوان الدكتور "عبد المنعم أبو الفتوح" الذي ترشح لرئاسة الجمهورية، وكان في شبابه عضواً بالجماعة الإسلامية.

وبعد ٢٥ يناير نشطت التنظيمات الإسلامية وتحركت بحرية في الشارع المصري، فتأسست جماعة "حازمون"، وهي جماعة سلفية اتسمت بالعنف في ممارساتها، وتقدم مؤسسها "حازم أبو إسماعيل" لانتخابات رئاسة الجمهورية، لكنه رُفض، ممّا جعل جماعته تلجأ في ١ مايو ٢٠١٢ إلى دعوة الشعب المصري إلى اعتصام مفتوح أطلقوا عليه حينها مليونية "إنقاد الثورة"، وفي اليوم التالي قامت الجماعة بمحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامي، وقد ازداد الاختناق الطائفي في هذه الفترة، وتفاقم الإحساس بالعداء والكراهية تجاه المسيحيين، فأحرق الكثير من كنائسهم وبيوتهم، وأجبر بعضهم على التهجير القسري من بلادهم، فعلى سبيل المثال قام سلفيون في ١١ مارس ٢٠١١ في محافظة قنا بمعاقبة أحد الأقباط يدعى "أيمن أنور ديمتري" بقطع أذنه وإحراق بيته بحجة سوء سلوكه، وكالعادة تمّ احتواء الأمر والتعتيم عليه من خلال المجالس العرفية. باختصار كانت تلك المرحلة مرحلة فوضى شديدة في الشارع المصري، وتوارت القوى السياسية المدنية لتحتل تلك القوى الدينية المشهد بصورة مرعبة. وقد ساعد الغباء السياسي للإخوان والسلفيين في الإسراع بالتغيير والتفاف الجماهير حول الجيش لإنقاذ البلاد من هذا الكابوس المرعب، وكانت أحداث ٣٠ يونيو إيذاناً بالتخلص من حكم الإخوان وعودة الجماعات السلفية والجهادية إلى جحورها القديمة. لكن برغم أنّ التيار الإسلامي قد اختفى من المشهد إلا أنّ الخطر لم يزل قائماً، لأنّ الأزمة الاقتصادية ما زالت تمسك برقاب الجماهير، ومن المعروف أنّ فاتورة الغلاء وفاتورة الرفاهية التي ينعم بها الأغنياء يدفعها الفقراء والمهمشون، وهؤلاء يمثلون الغالبية الساحقة للجماهير في مصر. هذه الجماهير اليائسة يمكن أن تمثل جيشاً احتياطياً لأيّ جماعات دينية تمنحها وعداً بالخلاص من الخوف والفقر والمرض، وتقدم لها نوعاً من العزاء والسلوى والأمل، وتهبها عالماً بديلاً يكون عوضاً عن الواقع الأليم المليء بالحرمان والفساد والعجز والتعاسة والانسحاق.

أمّا عن النقطة الأخيرة في سؤالك فأعتقد أنّ منطقة الشرق الأوسط، وهي منطقة الأديان الإبراهيمية ستظل بؤرة مشتعلة للصراع، وربما يكون السيناريو القادم هو حرب دينية كبرى بين الكتلة السنيّة بقيادة السعودية والكتلة الشيعية بقيادة إيران، ولن تكون هذه الحرب قاصرة على هاتين الدولتين، فهناك دول ستنجر حتماً إلى هذا الصراع، ومنها مصر ودول الخليج والأردن واليمن، وأظن أنّ الدول التي لن تشارك ستصبح ساحة لهذا الصراع ولهذه الحرب المقدّسة.

أمّا عن الحل الذي يمكن أن نقترحه للخروج من النفق المظلم للطائفية فلا أظن أنّه سيكون سهلاً، خاصة وأنّ الشارع العربي يكاد يخلو من القوى السياسية الفاعلة، وما زالت معظم الأنظمة العربية ـ إن لم تكن كلها ـ أنظمة استبدادية لا تستمدّ سلطتها من إرادة شعوبها، وتسعى بكلّ ما تملك من قوة إلى تجريف الواقع الاجتماعي من أيّة معارضة سياسية، ممّا يحول دون وجود بدائل سوى هامش من المعارضة الدينية التي تستغل دور العبادة في الترويج لأفكارها، وهي وسيلة سهلة ومريحة وغير مكلفة، فضلاً عن أنّها تنفرد وحدها بصياغة أفكار ومعتقدات وتصورات الجماهير في ظل فقر ثقافي وغياب شبه كامل لأيّ ممارسة سياسية.

الحلول النظرية كثيرة وسهلة: الديموقراطية، العلمانية، ولكن كيف؟ لقد تعرضت فيما سبق لبعض العقبات التي تواجه العلمانية في مصر، وأعتقد أنّ هذه العقبات موجودة في معظم الدول العربية وبدرجات متفاوتة، وهي تقتضي منا جميعاً ألا نيأس، لأنّ اليأس معناه الموت، ومهما كان الواقع صعباً وقاسياً فيجب ألا نستسلم، وقد كتبت منذ فترة دراسة بعنوان "القمع المقدّس"، قلت فيها ما معناه إنّ أخطر أنواع القمع هو القمع الذي يمارس باسم الدين، لأنّك عندما تعارض حاكماً دينياً فأنت بصورة أو بأخرى تعارض الله، وبالتالي ستصبح كافراً، والعياذ بالله. ومازلت أصرّ على أنّ القمع المقدّس هو أخطر أنواع القمع، لأنّه قمع شامل يستهدف السيطرة على عقل الإنسان وجسده وإرادته ومشاعره وأفكاره وخيالاته، وهو قمع يدافع عنه ضحاياه، ويدفعون حياتهم ثمناً للذود عنه.

وهذا ما يدعوني في النهاية إلى التأكيد على أنّ الخطر الأكبر الذي ينبغي على كل مثقفي العالم العربي أن يتصدوا له هو الخطر الأصولي، فهو جذر كلّ نزعة تعصبية، وهو أصل الطائفية الدينية، وهو يستهدف دائماً إلغاء حرية التفكير وحرية الإبداع، ويقمع كلّ رغبة تستهدف تطوير الحياة والارتقاء بالإنسان، لماذا؟ لأنّ الأصولي حين يزعم أنّه قد امتلك النص المقدّس وامتلك بالتبعية تفسيره الأوحد، فإنّه بذلك يظن أنّه امتلك الحقيقة المطلقة، وأصبح ببساطة هو الأقرب إلى الله عزّ وجلّ. وحينئذ يكتسب الأصولي أمام ذاته وأمام جمهوره صفة القداسة، ويغدو سلطة مطلقة للتشريع والتنفيذ، وهذا مكمن الخطورة، لأنّ كلّ عضو في جماعة تطلق على نفسها إسلامية يعطي لنفسه الحق في أن يتحدث باسم الإسلام وباسم الله. ولذلك فإنّ أزمة الأصولي الحقيقية لا تكمن فقط في امتلاكه لحقيقة مطلقة، ولكن تكمن في أنّه يريد فرض مسلماته على الآخرين بالقوة. وليس أمامه سوى خيار من اثنين: إمّا أن يخضع الآخر لإرادته ليجعله يؤمن بما يؤمن به، أو يمحوه من الوجود ويقتله، لأنّ المطلق لا يقبل أن يكون اثنين، والحقيقة لا تقبل التعدد أو الاختلاف.


[1] تم نشره في ملف بحثي بعنوان الطائفية بتاريخ 27 يوليوز 2016، تنسيق أنس الطريقي.