حفريات بحثية في المشروع السلفي لـ(حركة جهيمان): تقديم كتاب "حتّى لا يعود جهيمان"


فئة :  قراءات في كتب

حفريات بحثية في المشروع السلفي لـ(حركة جهيمان): تقديم كتاب "حتّى لا يعود جهيمان"

إذا كانت (صدمة الحداثة)، في مقدماتها الأولى مع غزو نابليون مصرَ، أفرزت، على الأقل، لائحةً من الاجتهادات العلمية لروّاد النهضة والإصلاح، بأفقٍ معرفي [إبستيمي] يتجاوز الأفق المعرفي للعديد من المشاريع الإسلامية الحركية الراهنة[1]، فقد شاء مكرُ التاريخ أن تتسبب بعض إفرازات صدمة الحداثة في تكريس الارتداد إلى الإصلاح السياسي في المنطقة، وهذا عين ما تجسّد في العقود الأخيرة من القرن الماضي في الشرق الأوسط أنموذجاً، من خلال منعطفين اثنين على الأقل: يتعلق المنعطف الأول بـ(الثورة الإيرانية)، التي يُصطلح عليها إعلامياً بـ(الثورة الإسلامية)، والمؤرخة في (1979م)، ويتعلق المنعطف الثاني بحادثة الحرمين، التي اقتحم فيها جهيمان بن سيف العتيبي الحرم المكي، في غضون السنة نفسها، يا للمفارقة.

أهمية الكتاب، الذي يحمل عنوان (حتى لا يعود جهيمان: حفريات إيديولوجية وملاحق وثائقية نادرة)[2]، لا تكمن، فحسب، في نوعية العمل[3]، وحساسية الملف الذي يتطرق إليه؛ بل تكمن، أيضاً، في بعض الخلاصات المهمة، التي تساعد الباحثين على قراءة بعض الآثار السلبية لقلاقل تدبير الملف الديني في المنطقة، وهو التدبير الذي يختلف بين هذه السياسة وتلك، والمتأثر بهذا السياق أو ذاك، بما يُفسّر، مثلاً، أنّ التفاعل مع الظاهرة الإسلامية الحركية يختلف بين مرحلة ما قبل وما بعد اندلاع أحداث ما اصطُلح عليه بأحداث (الربيع العربي).

سوف نتوقف، لاحقاً، عند أهمّ هذه الخلاصات الأشبه بمفاتيح مفاهيمية لفهم تفاعلات دينية، وتطورات سياسية، مرت بها المنطقة خلال الآونة الأخيرة.

والعمل، في الأصل، من تأليف الباحث النرويجي توماس هيغهامر، والباحث الفرنسي ستيفان لاكروا، وقام حمد العيسى بإضافة سبعة ملاحق وثائقية نادرة عن حادثة الحرم المكي عام (1979م)، هذا في الطبعات الأولى للعمل, أمّا الطبعة الرابعة، ضيفة هذا العرض، فتتضمّن فصليْن إضافييْن لكلٍّ من جوزيف كيشيشيان ورينيه فان ديمن، لتكون عناوين الفصول الأربعة كالآتي: تمرد مكة: قراءة جديدة لقصة جهيمان؛ تأثير الشيخ الألباني في تشكيل السلفية المعاصرة؛ رسالة جهيمان السياسية؛ وأخيراً: الدين والدولة في السعودية: من يُهيمن على من؟

المشروع الجهيماني لا يزال حيّاً

مُهمٌّ جداً التوقف عند أسباب نزول الكتاب، كما نقرأ ذلك في كلمة المترجم حمد العيسى، وقد جاء فيها بالحرف: «إن هدفي من اختيار هذا الكتاب، أنّ جهيمان أُعدِم، ومات، ونال ما يستحقه جرَاء فعلته النكراء، ولكنّه، كما يشرح مؤلفا الفصلين الأول والثاني في هذا الكتاب، ترك ذكرى، وبعض الأفكار الخطرة التي واصل حملها بعض خلفائه، مثل: أبي محمد المقدسي، الذي كان أكثر تطرّفاً من جهيمان؛ وعانينا من هذه الأفكار لاحقاً في تفجيرات الرياض عام (2003م) مثلاً»[4]، وفي غيرها من التفجيرات التي طالت العديد من الدول الإسلامية والغربية على حدّ سواء.

مضامين الفصل الأول (ص 51 ـ 99) مُخصّصة كليّاً لتسليط الضوء على واقعة اقتحام الحرم المكي، في حين خُصّص الفصل الثاني (ص 101 ـ 126) لاستعراض تأثير الشيخ الألباني (ت 1999م) على بزوغ الظاهرة السلفية، في نسختها المعاصرة. ومن أهمّ مضامين هذا الفصل أنّ الألباني وفّرَ المبدأ الأساس، الذي كان ضرورياً لبزوغ تيار (أهل الحديث الجدد)، عبر آرائه الفقهية الأصيلة، ومعارضته النفوذ المتزايد للإخوان المسلمين، وتيار الصحوة، في الفضاء الديني السعودي، وما بعده، مع رغبة في إعادة تشكيل وتجديد (السلفية) الوهابية، والمحافظة، في آنٍ، على موقفه القويّ ضدّ التدخل في السياسة.

ويخلص ستيفان لاكروا، في هذا السياق، إلى أنّ هذا التيار السلفي (الألباني المرجعية) يُعدُّ، اليوم، «مسيطراً داخل الحركة السلفية في العديد من الدول، كما أنّ له وجوداً قوياً جداً في العديد من الدول الأخرى، مثل: السعودية، والأردن، والكويت، واليمن، وفرنسا، والجزائر، التي أدركت أنظمتها الحاكمة، منذ فترة طويلة، فائدة هذا التيار لعمل توازن مع صعود أنموذج من السلفية السياسية، التي تشكّل تحدياً غير مسبوق لسلطانهم». ولهذا السبب تحديداً، وفي عالم ما بعد أحداث (11 أيلول/ سبتمبر 2001م)، فإنّ هذه «الأنظمة تعتبر هذا التيار ضرورياً، حيث لا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً، وهذا هو السبب -جزئياً على الأقل- الذي سيجعل هذا التيار يواصل الانتعاش والازدهار في السنوات القادمة، ليُصبح، من ثمّ، أحد أهم مكونات الإسلام السلفي»[5].

نحو مجتمع إسلامي يحمي الإسلام من الكفار

الفصل الثالث (ص 133 ـ 168) عبارة عن ترجمةٍ لدراسة مرجعيّة ونادرة جداً، وتترجم إلى العربية لأوّل مرة. مُحرّرها هو جوزيف ألبرت كيشيشيان، وهو عالم أمريكي من أصل أرمني؛ ومؤرّخ وعالم سياسة مرموق، ومتخصّص تحديداً في منطقة الخليج العربي. يُلخّص كيشيشيان واقعة اقتحام الحرمين في سطرين دالين: «كان العتيبي وإخوانه يريدون محاكاة المثال النبوي: الوحي، ثم الدعوة، ثم الاستيلاء على السلطة، لإسقاط الحكم، وإقامة المجتمع الإسلامي المتزمّت، الذي يحمي الإسلام من الكفار، ويبغض الأجانب»[6].

بالعودة إلى أهمِّ الخلاصات، التي جاءت في العمل، نخصّ بالذكر تلك الواردة في الفصل الرابع (ص 169 ـ 185) من الكتاب، وعنوانه (الدين والدولة في السعودية: مَن يُهيمن على مَن؟)، وتنطلق مُحرّرة الفصل الباحثة رينيه فان ديمن من نقضِ دعوى متداولة في أدبيات العلاقات الدولية، ومفادها: أنّ البلدان النامية تصبح، حتماً، أكثر علمانية خلال عملية التحديث. والحال أنّ دراسة التفاعل بين الدين والسياسة في المملكة العربية السعودية تُناقض هذا الافتراض، وذلك لاعتبارات عدّة أهمها أنّ طفرة السبعينيات النفطية، والتطوير اللاحق في المملكة لكلّ من البنية التحتية، والاقتصاد، وحتّى المجال الاجتماعي، لم يغيّر طبيعتها الدينية، بما يتطلّب التسليم بتعقيد العلاقة بين السلطة الزمنية الحاكمة والمؤسسة الدينية، ومن هنا دلالة عنوان الفصل: (أَتهيمن الدولة على الدين أم يهيمن الدين على الدولة؟).

حتى نأخذ فكرة أولية حول الآثار السلبية لحادثة الحرمين على مشروع التحديث في السعودية، حريّ بنا التذكير بلائحة من الإنجازات التي تحقّقت في العقود الأولى الموالية للطفرة النفطية، حيث تمّ التسريع من وتيرة تحديث المملكة، عبر إدخال التكنولوجيات الجديدة إلى المجتمعات البدوية، وبناء خطوط الاتصال، وطرق النقل، وتطوير البنية التحتية السعودية، بالإضافة إلى هذه التغيرات المادية، كما حظر الملك فيصل بعض الممارسات (السلفية) الوهابية، التي عفا عليها الزمن مثل الرقّ، وأدخل تعليم المرأة، وأطلق التلفزيون السعودي. كما شهدت الستينيات، ثم السبعينيات بالتحديد، ما اصطلحت عليه الدراسات الغربية بـ(سنوات تفجّر التنمية، والتجريب الليبرالي، والانفتاح على الغرب)، على الرغم من أنّ هذه التقنيات والتطورات الاجتماعية كانت تُعدُّ بِدعاً، وفقاً للمرجعية السلفية الوهابية.

اقتحام الحرم وإعاقة التحديث:

ما تخلصُ إليه الباحثة أعاق استيلاء جهيمان العتيبي وجماعته على الحرم المكي عام (1979م)؛ بل عرقل، بالفعل، مسار المملكة التدريجي نحو العلمانية لعقدين من الزمن على الأقل، حيث احتلت مجموعة من الأصوليين (السلفيين) الوهابيين، بقيادة جهيمان، الحرمَ المكي؛ لأنهم عدُّوا التغييرات التحديثية، التي تشهدها المملكة في جميع أنحاء البلاد، انتهاكاً لتعاليم الدين. وعلى الرغم من أنّ معظم السكان المسلمين شعروا بالرعب من الأعمال العدوانية للمتمردين على الحرم المكي، إلا أنّ نقد المتمردين للسلطة، ودعوتهم لوقف التغريب الثقافي للمملكة، حصلا على تعاطف مدهش عبر المملكة، كما أنّ مخاوف جهيمان كانت متفقة مع التزمّت الأخلاقي (السلفي) الوهابي، الذي كان يعادي النزعة الاستهلاكية، والانغماس في الملذات والمادية[7]، التي نتجت عن دمج الاقتصاد السعودي الريعي في نظام عالمي للعلاقات الرأسمالية.

مُجريات الأحداث، تفاعلاً مع صدمة الاعتداء على الحرمين، لم تعد سراً من أسرار الساحة، فقد كان أحد أبرز عواقبها إعادة توجيه التمويل السياسي لنشر المشروع السلفي الوهابي في الخارج، وكانت إحدى الوسائل، التي شكّلت هذه الهوية، تمرّ عبر دعم المنظمات، والجماعات، والمشاريع، التي تروّج لـ«إحياء الإسلام في المناطق الأكثر فقراً في العالم الإسلامي»[8].

هناك اختلافات جليّة بين الباحثين حول أسباب دعم وترويج المشروع السلفي الوهابي، بين اتجاه بحثيّ لخّصه ياروسلاف تروفيموف، الذي يُجادل بأنّ الحكومة السعودية وافقت على نشر (السلفية) الوهابية مقابل الدعم المحلي من العلماء أثناء وبعد حادثة مكّة، واتجاه يُمثّله جيفري هاينز، الذي انطلق من أطروحة جوزيف ناي عن (القوة الناعمة) (Soft Power)، للاعتراض على الاتجاه الأول بأنّ الحكومة أُجبرت على نشر الإسلام الوهابي لأسباب دينية بحتة، بقدر ما كان ترويج هذا النمط من التديّن يروم تعزيز الأهداف السياسية الخارجية عن طريق نشر قوتها الناعمة.

من مفاتيح الكتاب، أيضاً، تسليط الضوء على أنموذج عربي في (السياسات الدينية)، إذا سَلّمنا، جدلاً، بأن الدول العربية والإسلامية، كانت لديها سياسات عمومية دينية واضحة المعالم، والأفق، والأهداف.

فيما يتعلق بالحالة السعودية، اتّضح أنّ استخدام الدين في سياق إحداث نوع من التوازن السياسي والاجتماعي زاد من الصدع بين المحافظين والسلطة الحاكمة. ومن المفارقة المدهشة أنّ عودة النظام للتمسك بالسلفية الوهابية، وتطبيقها بقوة داخل المملكة، بعد تمرّد مكّة عام (1979م)، أنتج جيلاً جديداً من (الجهاديين) أكثر تطرفاً، بمعنى آخر، تدفق القوة الناعمة السعودية (أي تمويل المؤسسات الإسلامية)، ما أسهم، من حيث لا تشاء السلطات السعودية، في خدمة تطرف إسلامي (جهادي) قاده على الخصوص أسامة بن لادن.


[1] سواء تعلق الأمر بالمشاريع الإخوانية، أم بالسلفية الوهابية، وتستوي، في ذلك، المشاريع الدعوية، والسياسية، و(الجهادية).

[2] العيسى، حمد، حتى لا يعود جهيمان: حفريات إيديولوجية وملاحق وثائقية نادرة، تقديم محمد حامد الأحمري، دار مدارك، بيروت، الطبعة الرابعة، 2015م، 530 صفحة.

[3] لقد طُبِع منه، حتى حدود خريف (2015م)، أربع طبعات، والعرض المخصّص للعمل في هذه المقالة الطبعة الرابعة، التي جاءت موزعة على (530) صفحة، بخلاف الطبعات الأولى التي جاءت في (300) صفحة.

[4] العيسى، حمد، حتى لا يعود جهيمان، مصدر سابق، ص 21

[5] المصدر نفسه، ص 126

[6] المصدر نفسه، ص 159

[7] هذا رأي يتقاطع مع ما خلُصَ إليه الباحث الأمريكي سكوت أتران، في كتابه القيّم (الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم)، على هامش اشتغاله على بعض أسباب الاعتداء الذي طال جزيرة بالي الإندونيسية؛ حيث خلُصَ إلى أن (الجهاديين) رأوا أنّ «مشهد الجزيرة [بالي] يُجسّد فكرة العالم الغربي للجنة الدنيوية: [نحن إزاء] جزيرة متموجة لمنحنيات خضراء مهذبة، ونعمة إنسانية. كان للهجمة رسالة للبالية أنفسهم، ناس هِنديون ذوو تسامح كبير، [معتبراً أن] تساهلهم المتعجرف للشهوة الغربية، وشهوانيتهم الخاصة، تستحقّ العقاب بالموت من طرف مقاتلي السماء». انظر: أتران، سكوت، الحديث إلى العدو: الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم، ترجمة طاهر لباسي، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع، بيروت، ط1، 2015م، ص 134

ويضيف أتران أنّ تدريبات بعض (الجهاديين) في إندونيسيا كانت موزّعة على التدريب، والقتال، والدراسة أيضاً؛ نحو (70) في المئة من الوقت في الدراسات الدينية، ولاسيّما (العقيدة الطحاوية)، و(30) في المئة مخصصة للإعداد للمعركة. انظر: أتران، سكوت، الحديث إلى العدو، ص 124

ومعلوم أنّ دراسة (العقدية الطحاوية) من القواسم المشتركة في النهل العقدي والمذهبي لأغلب التيارات والجماعات السلفية الوهابية في العالم، وليس في الخليج العربي، أو الوطن العربي، فحسب.

[8] تقدّر بعض المصادر أنّ السعودية دفعت، في الإجمال، (70-90) مليار دولار، منذ السبعينيات، لهذه الأغراض. انظر: العيسى، حمد، حتى لا يعود جهيمان، مصدر سابق، ص 178