حوار مع محمّد الشّريف فرجاني العَلمانيّة: نحو استراتيجيّات جديدة


فئة :  حوارات

حوار  مع محمّد الشّريف فرجاني  العَلمانيّة: نحو استراتيجيّات جديدة

حوار[1] مع محمّد الشّريف فرجاني[2]

العَلمانيّة: نحو استراتيجيّات جديدة

د. نادر الحمّامي: الأستاذ محمّد الشّريف فرجاني، نلاحظ أنّك تركّز في مؤلّفاتك الكثيرة حول ثنائيّة الدّينيّ والسّياسيّ في المجال العربي على المقاربة العلمانيّة، فهل ذلك يعود إلى أنّ المسألة تتجاوز لديك مجرّد كونها خياراً إيديولوجيّاً إلى اعتبارها مقاربة منهجيّة في التّفكير والبحث؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: العلمانيّة ليست ديناً جديداً، وليست موقفاً إيديولوجيّاً، إنّما هي موقعٌ من كلّ الأديان، تحترم القناعات والانتماءات الدّينيّة، ولا تتحيّز لواحدة منها على حساب الأخرى، فتقف على المسافة نفسها منها جميعاً. أذكر أنّني زرت إندونيسيا في سنة 2008، وقدّمت العديد من المحاضرات في جامعاتها بما فيها الجامعات الخاصّة التّي تشرف عليها جمعيّات دينيّة، مثل «المحمّديّة» و«نهضة العلماء»، وفي إطار تلك المحاضرات فوجئ الحضور بأنّني كنت أتكلّم عن جميع الأديان بالطّريقة نفسها، فسألوني من أي موقع أنت تتكلّم؟ فقلت لهم إنّني أتكلّم من موقع الأستاذ الجامعيّ الّذي يتوجّه إلى طلبة لهم انتماءات مختلفة، ولا أعرف انتماءاتهم، ولا أريد أن أخاطبهم بلغة قبيلة من القبائل أو قرية روحيّة من القرى. لذلك، أردت أن أتوجّه إليكم بلغة يجد كلّ واحد منكم نفسه فيها، ولا تقصي أيّاً منكم. هذا الموقف هو ما أسمّيه العَلمانيّة؛ أي تلك المسافة المتساوية من كلّ القناعات الإيمانيّة أو اللّاإيمانيّة، الدّينيّة أو اللّادينيّة. ونحن إن لم نأخذ تلك المسافة، فإنّنا سننتهي إلى إقصاء البعض وإلى الحيف في حقّ البعض الآخر، وإلى تمييز البعض عن البعض الآخر، وسيكون موقفنا ضديداً للعلمانيّة.

د. نادر الحمّامي: هل يفقد الدّين بهذا المعنى مكانته داخل المجتمع، إذا اعتبرنا أنّ تنظيم المجتمع ينبغي أن يقوم على أساس المواطنة لا على أساس العقائد؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: كلّ مجتمع قامت فيه القوانين والنّظم السّياسيّة، والسّلطة على دين من الأديان أو مذهب من المذاهب داخل دين، أدّت إلى الإقصاء والتّمييز، ولذلك لا معنى للمواطنة المؤسّسة على مبادئ دين من الأديان، أيّاً كان تأويل ذلك الدّين؛ لأنّه سوف يؤدّي بالضّرورة إلى الإقصاء. والعلمانيّة ليست ديناً يقصي الأديان، إنّما هي طريقة إجرائيّة في تنظيم العلاقات داخل المجتمع، وهي تمثّل المسافة الضّروريّة بين ما يتطلّبه العلم من لغة ومن مناهج ومفاهيم مشتركة يلتقي حولها الباحثون، وبين قناعاتهم الشّخصيّة الدّينيّة أو اللّادينيّة. فالعلمانيّة لا تدعو النّاس أن يكونوا بلا قناعات، فنحن جميعاً لدينا قناعات مختلفة، إنّما هي تدعونا إلى تنسيب ما نؤمن به، وألّا نظنّ أنّنا أفضل من الآخرين المختلفين عنّا في أفكارهم وقناعاتهم. وهذا ليس خاصّاً بمجال البحث العلميّ أو النّظريّ، إنّما عامّ يطال المجتمع السّياسيّ والمدني؛ فالقوانين الّتي تحكم العلاقات فيما بيننا لا يجب أن تكون مبنيّة على قناعات طرف بعينه، وكلّ شخص عندما يصوّت على قانون سوف ينطلق من قناعاته، لكنّ القانون سوف يفرض انطلاقاً من التّوافق الواقع حوله، وهو ما يمثّل الإرادة العامّة أو الجمعيّة.

د. نادر الحمّامي: نذكر أنّك كنت سجيناً سياسيّاً يساريّاً (1975-1980)، وأنّك قد عايشت مع جيلك أصداء الثّورة الإيرانيّة (1979)، فهل أثّر ذلك في تبنّيك هذا الموقف الفكريّ إزاء العلمانيّة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الثّورة الإيرانيّة كانت منطلقاً لتحوّل في التّعامل مع الوقائع الإسلاميّة، سواء في مجال الدّراسات الإسلاميّة الاستشراقيّة بصورة عامّة، أو حتّى في الفضاءات الإسلاميّة المتأثّرة بالتوجّهات الاستشراقيّة أو المناهضة لها، وقد انطلقت تلك الدّراسات قبل الثّورة الإيرانيّة من أنّ الإسلام دين خنوع وقبول بأمر الله واستسلام له، وهي تعجّ بمفاهيم الرّكون والطّاعة، ولكن مع الثّورة تغيّرت مقاربة الوقائع الإسلاميّة؛ فأصبحت تعدّ الإسلام دين الثّورة على السّلطان الجائر، ويمكن أن نقول إنّ العلاقات فيما قبل كانت محكومة بمقولة «يزع الله بالسّلطان ما لا يزع بالقرآن»، و«أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم»، وأنّ الثّورة الإيرانيّة جاءت لكسر كلّ الآداب السّلطانيّة السّابقة في التّراث السّياسيّ الإسلاميّ، لتقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وأصبح هذا هو الموقف من العلاقة بالسّياسيّ، وأضحت نظريّات الحاكميّة لله، كما طوّرها أبو الأعلى المودوديّ وسيّد قطب هامشيّة. وبالتّالي لم يعد الإسلام دين الخضوع للسّلطة، إنّما أصبح دين الخروج، وهذا التّحوّل نتج عنه -في تونس- تغيّر في صفوف الجماعة الإسلاميّة الّتي تكوّنت في السّبعينيات على أساس توافق مع النّظام البورقيبيّ، على أنّها جمعيّة دعويّة لا تتدخّل في السّياسة إلّا من منظور ما يناسب مصالح النّظام، ومن ذلك: معاداتها لليسار، ومعاداتها للحداثة في شكلها الّذي يناهض بورقيبة، وسكوتها عن الحداثة في شكلها البورقيبيّ، ومعاداتها للشّيوعيّة والقوميّة، وغير ذلك ممّا كان يُسمح به في مجلة المعرفة، وفي جريدة المجتمع الّتي كانت تُطبع في مطابع الحزب الدّستوريّ الحاكم، لكن مع الثّورة الإيرانيّة، تغيّر اتّجاه الجماعة الإسلاميّة وقالت إنّ ذلك التّوافق مع النّظام البورقيبيّ قد انتهى، وأصبحت تطالب لنفسها بحزب سياسيّ يطمح إلى إنشاء الدّولة الإسلاميّة كما في إيران؛ هذا التحوّل كان له أثر علينا ونحن نشاهد صور الخميني عائداً إلى طهران من باريس وتلك المظاهرات العارمة، وقد تباينت المواقف في صلب الجماعة الّتي كنت أنتمي إليها، أي «آفاق العامل التّونسيّ»، وهي جماعة يساريّة ماويّة منذ نهاية السّتّينيات، وقد كانت في البداية يساريّة متنوّعة المشارب، وأصبحت بعد ذلك ماويّة في خط واحد في نهاية السّتّينات، وهذا ما أفرز تباينات فيما بعد، وأدى إلى ظهور اتّجاهات مختلفة بل ومتناحرة في آن... في السّجن كنّا معاً نشاهد تلك الصّور وقد تباينت أيضاً المواقف فيما بيننا؛ ففينا من رأى فيها ظاهرة طارئة لا مستقبل لها ولا تقتضي أن نكترث لها، ورأى أنّه يجب أن يتواصل تفكيرنا في إطار الفكر اليساريّ الماركسيّ، وكانت حينها الماويّة قد دخلت في أزمة في منتصف السّبعينيات، مع دخولنا السّجن، وكنت من أوّل مَن تباين مع الماويّة آنذاك، نظراً إلى موقف الصّين من انقلاب النّميريّ في السّودان، وتقتيله للشّيوعيّين، وموقفهم من انقلاب بينوشي على آلياندي في تشيلي، وهذه من الأشياء الّتي جعلتني أتباين مع الماويّة مبكّراً، لكن كان موقفي منذ ذلك الوقت، يميل إلى الاهتمام بالظّاهرة الدّينيّة، وكان منطلق اهتمامي نضالي ضدّ ظاهرة الإسلام السّياسيّ ودوافعه، فقد كنت أعتقد بضرورة الانتباه إلى هذا الإسلام السّياسيّ النّاشئ الّذي لا يمكن أن نستهين به، أو نعدّه ظاهرة طارئة لا تستحقّ الاكتراث.

د. نادر الحمّامي: وقد كانت هذه ريادة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لا أدري، فأنا أقول الأحداث فقط، ومنذ ذلك الوقت بدأت، وقد نشر لي أوّل مقال في هذا الاتّجاه، وهو «الدّين والدّولة وحقوق الإنسان» في مجلّة أطروحات سنة 1982، وهذا المقال قد سبّب لي مشكلات، ودخلت السّجن مرّة أخرى، وتباينت الآراء حول ذلك المقال؛ فقد رأى فيه اليساريّون ابتعاداً عن الأرثوذكسيّة الماركسيّة، في حين رأى فيه الإسلاميّون موقفاً ناقداً لهم، وكان موقفي؛ أنّنا إذا لم نكن علمانيّين، فلن ندافع بوفاء عن حقوق الإنسان، وقد كان ذلك هو المنطلق، فغادرت بعد ذلك إلى فرنسا سنة 1984 مضطرّاً، فقد كنت أستاذ فلسفة، ولم يقع ترسيمي بسبب سوابقي السّياسيّة، وهناك انتبهت إلى أنّ مقاربة الوقائع الإسلاميّة من منظور المقاومة للإسلام السّياسيّ قد يقع توظيفها من طرف دعاة معاداة الإسلام في الغرب، وقد انتشرت الإسلاموفوبيا هناك واستفحلت، وكنت قد نبّهت منذ ذلك الوقت إلى خطورتها، ولم يفهم ذلك الكثيرون، وقد رأوا في ما أدعو إليه موقفاً توفيقيّاً، وأنا أقول: إنّني ضدّ الإسلام السّياسيّ، لكنّني في الوقت نفسه، ضدّ عداء الإسلام والمسلمين، كما بدأ يتشكّل على أرضيّة مقولات كثيرة، خاصّة، مقولات برنار لويس الّذي أثّر في ذلك الوقت في التّحوّل الفكريّ الاستشراقيّ في مقاربة الوقائع الإسلاميّة.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أنّ للعامل الاستعماريّ أثرا في ظهور تيّارات الإسلام السّياسيّ، إضافة إلى ما يمكن أن نعتبره بذرة موجودة اجتماعيّاً وعقائدياً وموروثاً لتلك التّيّارات في مجتمعاتنا؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لدى دعاة الإسلام السّياسيّ موقف مفاده أنّ الحداثيّين هم استمرار للاستعمار والتّغريب، والواقع أنّ أوّل من نظّر للمقولات الأساسيّة للإسلام السّياسيّ؛ هم المستشرقون، فمقولة الشّريعة باعتبارها قانوناً قد نظّر لها جنرالات الجيش في فرنسا بمساندة فقهاء السّلطة في كلّ زمان ومكان، وأيّاً كانت السّلطة، فهم في حاجة إلى توسيع نفوذهم على المحاكم العرفيّة والعشائريّة والطّرقيّة، واعتمدوا، بالتّالي، على توحيد القوانين والمحاكم ليزيدوا قوّتهم؛ ومقولة الشّريعة الإسلاميّة هي النّتيجة أو التّرجمة القانونيّة للاستشراق؛ ففي الجزائر شُرّع لقانون إسلاميّ ولمجلّات قانونيّة وضعت على أساس أنّها من الشّريعة الإسلاميّة، وفي الهند أيضاً نجد أنّ السّلطات الاستعماريّة، هي الّتي وضعت القانون المحمّديّ، بتبرير من فقهاء السّلطة آنذاك، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الشّريعة تعني القانون.

د. نادر الحمّامي: ألم تكن الشّريعة تعني القانون قبل القرن التّاسع عشر؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لم تكن كذلك، اقرأ «فصل المقال في ما بين الشّريعة والحكمة من اتّصال» لابن رشد، وسوف ترى أنّه يتحّدث عن الشّريعة، باعتبارها ديناً ككلّ دين يعدّ نفسه طريقاً للخلاص، وفي لسان العرب وغيره، الشّريعة هي منبع الماء والطّريق المؤدّية إليه، باعتباره مصدر الخلاص ومنبع الحياة في الصّحراء؛ فعندما تذهب إلى الصحراء وتعيش في أجواء قاسية، ستبحث حتماً عن مصادر الماء، ويقال شرّع الإبل وشرّع الغنم؛ أي أخذها لترتوي، وهذا هو التّشريع، وهذا ما زال مستعملاً لدى قبائل البدو الرّحّل في جنوب المغرب، وفي اليمن، وفي الأردن، وبما أنّني من البدو الرّحّل فقد تربّيت على تشريع الإبل والغنم، وكنت صغيراً، يقال لي شرّع الإبل؛ أي خذها إلى عين الماء. ولكن هذا المفهوم أصبح يعني القانون منذ القرن التّاسع عشر. وأذكر ما يقوله الحنابلة، فابن قيّم الجوزيّة في «أعلام الموقعين على ربّ العالمين»، يقول: «إنّ الشّريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد»، ويضيف «والهدف من الشريعة؛ هو تحقيق العدل، فحيثما ظهرت أمارات العدل بأيّ وسيلة كانت، فثمّة شرع الله، والسّياسة العادلة من الشّرع، حتّى إن لم يأت بها». وقد ضمّن ابن أبي الضّياف في الجزء الأوّل من «الإتحاف» هذه المقولة لابن قيّم الجوزيّة. هكذا أصبحت الشّريعة تعني ذلك القانون الجاهز الّذي يجب أن يطبّق، الصّالح لكلّ زمان ومكان، وعندما تسأل القائلين بذلك أين هي هذه الشّريعة؟ يقولون لك توجد في القرآن، لكن ماذا يوجد في القرآن؟ يقولون نريد أن نطبّق ما جاء في القرآن حرفيّاً، وأقول لهم أتمنّى لكم حظّاً سعيداً، كيف وماذا ستطبّقون حرفيّاً؟ عندما تجدون أنفسكم أمام «اقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم»، و«من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، و«لا إكراه الدّين»؛ فماذا ستطبّقون؟ وهنا، سوف يضطّر أولئك إلى التّأويل، وسيعدّون هذا الأمر أساسيّاً، وذاك ثانويّاً، وهذا ناسخاً وذاك منسوخاً، وفي النّهاية، ما يقولون أنّه قانون ليس إلّا من اجتهاداتهم، وقد احتمل تدخّلاً كبيراً منهم، فبأيّ حقّ يقولون إنّه القانون؟ لذلك أصبح اهتمامي بالدّراسات الإسلاميّة منذ ذهابي إلى فرنسا، يحترز كثيراً، وهو على شفا سكّين، قد يسقط من ناحية في اتّجاه التّوظيف من طرف الإسلام السّياسيّ، وقد يسقط من ناحية أخرى في اتّجاه التّوظيف ضدّ الإسلام والمسلمين، وهذا موقف صعب جدّاً، ويقتضي الحذر.

د. نادر الحمّامي: إذن، أنت بين الإسلاموفوبيا من ناحية، والإسلام السّياسيّ من ناحية أخرى؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لذلك كانت كلّ الدّراسات الّتي قمت بها منذ الثّمانينيات في اتّجاه الاهتمام بالعلمانيّة والموقف العلمانيّ، والحذر حتّى لا أكون في هذا الصّفّ ضدّ ذاك الصّفّ، وحاولت أن أبتعد عن التّوظيف الحزبيّ السّياسيّ للدّراسات الإسلاميّة، وأن أقوم بعملي بصفتي باحثاً علميّاً، وبعد ذلك، فليفعل به السّياسيّون ما أرادوا، وقد بيّنت في هذه الدّراسات أنّ الاستعمار لم يأت بحقوق الإنسان، ولم يأت بالحداثة في المجتمعات الإسلاميّة، بل على العكس من ذلك؛ فقد علّق الإصلاحات الّتي كانت في القرن التّاسع عشر تريد التّحديث، وأجهضها وتصالح مع خصومها، وهو ما جعل مقاومة الاستعمار في بلد مثل تونس ترتبط بالعودة إلى الدّساتير القديمة، فتسمية الحزب الدّستوريّ القديم والحزب الحرّ الدّستوريّ، تركّز على كلمة دستور، وقد وجدت تلك الكلمة في كلّ البلدان الإسلاميّة، حتّى في إيران؛ فثورة سنة 1906، كانت تسمّى «الثورة المشروطة»؛ أي ثورة الدّستور.

د. نادر الحمّامي: هل ذلك بمعنى الشّرط، لأننا نجد أنّ الطّهطاويّ ترجم كلمة (la charte) بـ «الشَّرطة»؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لكنّهم ترجموها بعلاقة تلك الشّروط الّتي تقيّد الحاكم في سياسته، ولذلك سمّوها «المشروطة» في إيران، والغريب في الأمر أنّ الإيرانيّين استعملوا كلمة عربيّة للدّلالة على الدّستور، في حين أنّ العرب استعملوا كلمة الدّستور، وهي فارسيّة، فكأنّ الغريب يُستأنس به أكثر، سواء بالنّسبة إلى الإيرانيّين أو العرب، وقد كانت مقارباتي دائماً في هذا الاتّجاه؛ أي إنّنا لا نتصوّر أنّ من يناصر الحداثة هو استمرار للغرب وأن من يعاديها هو قطع مع الغرب؛ بل على العكس من ذلك؛ فالإسلام السّياسيّ هو الامتداد الطّبيعيّ للمقولات الّتي كبّل بها الاستعمار المجتمعات الإسلاميّة، ومنعها من النّهوض، ومن دخول الحداثة بالتّحالف مع القوى الرّجعيّة؛ وكان ذلك أساس اعتبار المسلمين استثناءً. لتظهر من ثمّ مقولة «الاستثناء الإسلاميّ»، وهي مقولة خطيرة سواء من حيث الاستعمال الغربيّ أو كذلك من حيث اعتبار المسلمين لأنفسهم بأنّهم استثناء.

حول مقولة «الاستثناء الإسلاميّ»

د. نادر الحمّامي: هل هناك التقاء بين الاستشراق الاستعماريّ المحقِّر للمجتمعات الإسلاميّة، وتيّارات الإسلام السّياسيّ حول مقولة «الاستثناء الإسلاميّ»؟ وهل لهذه المقولة علاقة بفكرة الخصوصيّة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لا بدّ من التّفريق بين الاستثناء والخصوصيّة؛ فالخصوصيّات موجودة في كلّ الظّواهر، لكنّ الاستثناء شيء آخر؛ أي إنّ التّطوّرات الّتي عرفتها ظاهرة من الظّواهر، لا يمكن أن تعرفها الظّواهر المشابهة لها بالضّرورة، فالتّطوّرات الّتي عرفتها الدّيانة المسيحيّة في تجاوز الرّبط بين السّياسيّ والدّينيّ، لا يمكن أن يعرفها الإسلام أبداً، بحكم خصوصيّة جوهريّة فيه تميّزه عن الدّيانة المسيحيّة، وعن غيره من الأديان، ونظريّة الاستثناء نجدها لدى المسلمين أنفسهم، وهم أوّل من قالوا بها، ولم يبتدعها المستشرقون، وهي تكمن في اعتقادهم أنّ الإسلام عقيدة وشريعة ودين ودولة. ونجد أساس ذلك حتّى لدى جمال الدّين الأفغانيّ؛ الّذي كان من أكثر مفكّري الإصلاح تفتّحاً، أكثر من محمّد عبده ومن الكواكبي ومن الآخرين، وقد كان ثوريّاً بحقّ في زمانه، لكن نجده في كتاباته السّياسيّة يتحدّث عن أنّ الفصل الّذي يتحقّق في الفضاءات المسيحيّة لا يقبل به الإسلام، ويعلّل ذلك بأنّ الإسلام يجمع بين السّيف والقلم، وبين المعاش والمعاد، وهذه الفكرة تنطلق من أنّه لا يوجد في الإسلام نظير للمقولة المنسوبة إلى المسيح في إنجيل متّى: «أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله»، كما لا يوجد في الإسلام نظير للمقولة المنسوبة إلى المسيح «مملكتي ليست من هذا العالم». وعندما انطلقتُ في دراساتي كانت فرضيّتي هي هذه: لماذا لا يوجد في الإسلام نظير لعمليّة الفصل الموجودة في المسيحيّة؟ وانطلقت من التّساؤل: هل مقولة «أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله»، تعني الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؟ وهل فُهمت دائماً على أنّها تعني الفصل؟ وإذا كان الأمر كذلك؛ فلماذا لم يقع هذا الفصل إلا مؤخّراً؟ وفي بعض المجتمعات المسيحيّة فقط، فهناك مجتمعات مسيحيّة مازالت لا تفهم الأمر بهذا المعنى إلى اليوم. وقد رجعت في بحثي إلى تاريخ الفكر المسيحيّ في تعامله مع هذه المقولة، ووجدت أنّها لم تكن تعني الفصل بين السّلطتين الرّوحيّة والدّنيويّة، لكنّها تعني شيئاً آخر؛ هو ما فسّره بولس في رسائله في نهاية الأناجيل، في قوله: «يجب طاعة ذي السّلطة؛ لأنّ كلّ سلطة مستمدّة من الله، ومن ذلك: يجب دفع الضّرائب لمن له الحقّ في استخلاص الضّرائب، ويجب أن يطيع العبد سيّده، ويجب أن تطيع المرأة زوجها»، وهذا مماثل لما لدينا، لكنّه سابق تاريخيّاً، وبعد أن فهمت هذا الأمر، قلت في نفسي: ما الّذي جعل هذه الآية تصبح مدخلاً للفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؟ والحال أنّها لم تكن تعني ذلك في البداية، ووجدت أنّ السّبب وراء ذلك هو أنّ الفصل تمّ من خارج المنظومة الدّينيّة، ولا علاقة لسلطة الكنيسة به، بل إنّها قد عارضته، وعدّته هرطقة، مثلما عدّت «الدّيمقراطيّة هرطقة الأزمنة الحديثة»، كما يقول رجال الكنيسة، ومثلما عدّت العلمانيّة مرتبطة بالمجتمع الّذي لا أخلاق له؛ لأنّه مجتمع لا يخضع لسلطة الله، لكنّ المسيحيّين لم يعارضوا العلمانيّة في كلّ المجتمعات؛ فالكاثوليك عارضوها في فرنسا، في حين أن البروتستانت ساندوها، لكن في هولندا، حيث البروتستانت هم الأغلبيّة، عارضوا الفصل، في حين أنّ الكاثوليك ساندوه وهم الأقليّة، وهذا طبيعيّ؛ لأن الخلط بين السّياسيّ والدّينيّ لا يستفيد منه إلّا الغالب والمسيطر. لذلك نجد أنّ اليهود في فرنسا وأمريكا وهولندا وألمانيا كانوا مع الفصل، إلّا في إسرائيل وهي دولة يهوديّة، فقد كانوا ضدّه. وسأعود إلى موقف المسلمين، ولكن قبل ذلك، أردت أن أبيّن أنّ مقولة «أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله» لم تتغيّر، وقد كانت تعني؛ تقديس السّلطة والخضوع لها، ثمّ أصبحت تعني الفصل، والمحدّد في ذلك هو السّياسيّ الّذي أرادها أن تكون تأسيساً لقداسة السّلطة، فوجد من رجال الدّين من يخلّص له المعنى، ويقدّم له التّفسير الّذي يسمح له بجعلها تخدم سلطته، ثم -بعد ذلك- لمّا فرض الفصل نفسه وأصبح لا مفرّ منه، اضطُرّوا إلى إيجاد تفسير جديد، وقالوا: إنّ المشكلة ليست في الدّين المسيحيّ الّذي يرفض الفصل؛ إنّما المشكلة في من فهموا المقولة «أعطِ لقيصر ما لقيصر..» فهماً خاطئاً، على أنّها تعني إضفاء القداسة، وهي تعني الفصل، وهذا موقف قارّ لدى كلّ رجال الدّين في كلّ الأديان، وفي كل الفضاءات، وعبر كلّ العصور، فكلّما ظهرت فكرة جديدة يقيّمونها على أساس أنّها هرطقة، وأنّها ليست صحيحة، وعندما يبَرهَن لهم على أنّها صحيحة، يقولون: إنّها مخالفة للدّين، وعندما تصبح فكرة مشاعة بين الجميع ومن المسلّمات، يبحثون لها عن تبرير، وهذه هي وظيفة رجال الدّين؛ إعطاء المؤمن ما يسمح له بالتّوفيق بين ما يحيا وما يعتقد، ونرى أنّهم لو عجزوا عن ذلك لانتهت وظيفتهم، ونلاحظ أنّ الأمر نفسه يحدث في المجتمعات الإسلاميّة، فقد كان لي ذات مرّة نقاش مع سهيل بن الشّيخ في فرنسا، فقال لي: «مصيبتنا نحن المسلمين أنّنا لم نكن قطّ أقلّيّة، حتّى يكون لنا مثل هذا الموقف مع الفصل»، فأجبته بأنّ هذا حكم مسبق؛ لأنّ المسلمين كانوا أقلّيّات دائماً؛ كان الشّيعيّ أقلّيّاً في مجتمع سنّيّ، وكان المعتزليّ أقلّيّاً في مجتمع سنّيّ أو شيعيّ، وكان الإباضيّ أقلّيّاً في المجتمعات الشّيعيّة والسّنيّة، وكان مضطهداً بسبب أقلّيّته، ثمّ إنّ المسلمين أنفسهم كانوا أقلّيّة في البداية، وكانوا يقولون: «لكم دينكم ولي دين»؛ وهم أيضاً أقلّيّة في الصّين وفي الهند، وأصبحوا أقلّيّة في إسبانيا بعد استعادتها من طرف المسيحيّين، وكانوا أقلّيّة في البلقان، وما زالوا كذلك، لكنّنا لم ننتبه إلى مواقفهم باعتبارهم أقلّيّة، وكنّا لا نأخذ بعين الاعتبار إلّا مواقف الأغلبيّة، وذكّرته أنّ المعتزلة لمّا تبنّى المأمون مذهبهم والمعتصم من بعده، كانوا يريدون فرض مقولة خلق القرآن على الجميع، ومحاكم تفتيش ومحن مع الحنابلة، لكنّهم عندما أصبحوا مضطهدين تغيّر موقفهم، فأبو علي الجبائي، يقول: «الدّار دار إيمان ما أمكن المرور منها أو الإقامة بها دون إظهار الكفر أو ضرب من ضروب الكفر».

د. نادر الحمّامي: نعم، وكان ذلك في ردّه على الحنابلة الّذين قالوا «الدّار إذا ظهر فيها القول بخلق القرآن، فهي دار كفر».

د. محمّد الشّريف فرجاني: عندما نقول دار إيمان؛ أي القبول بشرعية الحاكم في تلك الدّار، وأصل مقولة دار الإيمان ودار الحرب؛ هي الدّار الّتي يحكمها الخليفة الأمويّ أو العبّاسيّ، والمحكّمة هم أوّل من قالوا بدار الحرب؛ أي الّدار الّتي يحكمها العباسيّ أو الأمويّ، وتبرَّر فيها الثّورة على السّلطان، فقال الفقهاء هي دار حرب، لكنّ السّلاطين قالوا هي دار إسلام ولا تجوز فيها الحرب، ولا يجوز فيها إلّا الجهاد، والجهاد هو -كما قالوا- «نُصلّي خلف كلّ إمام برّاً كان أو فاجراً»؛ أي نصلّي وراءه ونجاهد معه، وإمام الحرمين الجوينيّ في «غياث الأمم في التياث الظّلم»، حين قيل له «وعندما يُغلب أمير المؤمنين؟» فأجاب «إذا غلب يصبح هو صاحب فتنة»، وهكذا، فالحرب ضدّ السّلطة تعدّ فتنة ما لم تنتصر، وإذا انتصرت تصبح جهاداً، ويصبح من كانت الحرب باسمه جهادا صاحبَ فتنة، وهذه مكيافيليّة قبل مكافيليّ؛ أي إنّها تنتهي إلى الإقرار بشرعيّة الحرب، وتعتبرها عادلة ما دامت غالبة، وتصبح جائرة إذا كانت ضدّ المنتصر.

د. نادر الحمّامي: إضافة إلى مسألة الأقلّيّات، ألا تعتبر أنّ عدم وجود مؤسّسة دينيّة واضحة في الإسلام على غرار مؤسّسة الكنيسة في المسيحيّة، كان عاملاً من العوامل المعطّلة للفصل بين السّلطة الدّينيّة والسّلطة السّياسيّة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: هذا صحيح، إذا كنا نعدّ المؤسّسات الدّينيّة هي الحاكمة في العلاقة بين السّياسيّ والدّينيّ، والحال أنّها تابعة دائماً في كلّ الفضاءات، فسلطة الكنيسة ظهرت لدى الكاثوليك متأخّرة نسبيّاً، وهي ليست موجودة عند البروتستانت. أمّا لدى المسلمين، فهي موجودة عند الشّيعة، ممثّلة في مؤسّسة الملالي بتراتبيّة هرميّة، وأعتقد أنّ المؤسّسة الدّينيّة ليست هي المحدّد في ظهور الفصل بين السّياسيّ والدّينيّ، إنّما المحدّد هو المجتمع والثّقافة السّياسيّة في المجتمع، فعندما انتصرت الدّيمقراطيّة، ولم تعد السّلطة في حاجة إلى المؤسّسة الدّينيّة لتعطيها الشّرعيّة الّتي ليست لها، عند ذلك تطوّرت الأمور وأصبحت السّلطة الدّينيّة تلاحق تطوّرات المجتمع والثّقافة والأخلاق والعلم، وبالعودة إلى جوهر مقولة الاستثناء؛ فقد لاحظت أنّه يوجد نظير لمقولة «أعط لقيصر ما لقيصر وأعط لله ما لله»، هي: ما يسمّيه الفقهاء أنفسهم آية الأمراء {يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النِّسَاء: 59]، وسمّوها آية الأمراء؛ لأنّها الآية الوحيدة الّتي اعتمدها ولاة الأمر لتبرير شرعيّتهم بقراءة الآية بصورة معكوسة؛ أي ما لم تطع أولي الأمر، فإنّك قد خرجت عن طاعة الله وطاعة رسوله، وتصبح حينئذ كافراً ومرتدّاً ومارقاً...، ويُستباح دمك، وعندما بدأت تظهر ضرورات الفصل عند المسلمين، سواء في وضع الأقلّيّات الّتي تحدثتُ عنها؛ في إسبانيا عند سقوط آخر الولايات الإسلاميّة، أو في البلقان، أو في الصّين، أو في الهند، وحتّى عندما استُعمِرت غالبيّة المجتمعات الإسلاميّة من طرف بريطانيا وفرنسا وهولندا، عند ذلك قرأوا هذه الآية على أساس أنّها تعني الفصل، لكنّهم لم يصرّحوا بذلك، وتركوا الآية جانباً وذهبوا إلى مقاصد الشّريعة، وقالوا «كلّ سلطة شرعيّة، ما لم تمنعنا من إقامة شعائرنا»؛ أي إنّ السّلطة الّتي لا تمنعنا من أن نكون مسلمين فإنّنا نقبل بها، وهل يمكن أن توجد سلطة تضمن هذا الأمر أكثر من الدّولة العَلمانيّة؟ كلّ سلطة دينيّة تحفظ الدّين الّذي تتبنّاه هي، وتستبيح بقيّة المذاهب والأديان، والنّاس على دين ملوكهم، والآخرون مستباحون حتّى لو كانوا مسلمين، فالفصل وُجد ولكنّنا لم نكن واعين به، وقد وجد تاريخيّاً في الدّولة العبّاسيّة عندما كان أمراء بني بويه، وهم إيرانيّون شيعة إماميّة لهم السّلطة السّياسيّة، في حين أنّ الخليفة العباسيّ العربيّ السّنّيّ له السّلطة الرّوحيّة الرّمزيّة، ثمّ وُجد هذا الفصل أيضاً بعد ذلك عندما تخلّصت الدولة العبّاسيّة من أمراء بني بويه، واستنجدت بالسّلاجقة الأتراك، فأصبح السّلطان السّلجوقيّ هو الّذي يعيّن الخليفة، وهو من يملك السّلطة السّياسيّة، وما للخليفة إلّا السّلطة الرّمزيّة الخاضعة، ثمّ نجد بوادر هذا الفصل مع دولة المماليك في مصر.

د. نادر الحمّامي: هل تتصوّر، مع عمليات الفصل هذه، أنّ المجتمعات العربيّة الإسلاميّة لو وصلت إلى تبنّي العلمنة، لكانت ستتحوّل الآية دلاليّاً من الجمع بين السّياسيّ والدّينيّ إلى الفصل بينهما؟

د. محمد الشريف فرجاني: نعم، وهكذا يطاع الله والرّسول في مجال سلطتهما، ويطاع السّياسيّ في مجال سلطته، ولقد بدأت هذه القراءة توجد فعلاً منذ علي عبد الرّازق ومحمّد عبده؛ الّذي كان يقول «كلّ السّلطات مدنيّة، ولا توجد سلطة دينيّة في الإسلام»، كان ذلك في إطار المناظرة مع فرح أنطون، وقد رأى أنّ القضاء سلطة مدنيّة، والخلافة سلطة مدنيّة، وكلّ السّلطات مدنيّة.

د. نادر الحمّامي: لكن إذا كان فرح أنطون يمثّل الجانب العَلمانيّ في تلك المناظرة، ومحمّد عبده يقول إنّ كلّ السّلطات مدنيّة، فما هو جوهر الخلاف حينئذ؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: المشكلة هي أنّ فرح أنطون (1874-1922) من أصل مسيحيّ، وكان يتبنّى مقولات أرنست رينان (ernest renan) (1823-1892)، وبذلك كان الجدل بينهما دينيّاً، ولم يكن جدلاً حرّاً، ولكن نجد أنّ علي عبد الرّازق بعد ذلك، قرأ هذه الآية على أنّها تعني الفصل؛ بل وذهب إلى أكثر من ذلك، فعدّ دلالة الحديث «ما كان من أمر دينكم فإليّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» على الفصل، وهكذا بدأت هذه القراءة توجد بعد أن ألغيت الخلافة من طرف كمال أتاتورك، وحتّى قبل ذلك، فقد عاد النّقاش حول شرعيّة الخلافة، وكان بمثابة إعادة فتح للملف من جديد، قبل أن يغلق من طرف المنظومات الفقهيّة الدّينيّة، عندما قالوا: «قُفل باب الاجتهاد، وعلينا أن نتبع مذهباً من المذاهب»، ولكن أعيد فتح الملف عندما أُلغيت الخلافة، وبدأ النّقاش من جديد حول «هل نحن في حاجة إلى الخلافة؟»، وهناك من قال: نحن في حاجة إليها، واقترب عند ذلك رشيد رضا من تلامذة محمّد عبده من الإخوان المسلمين، ومن فكرة الخلافة والإمامة العظمى، ووقع الرّبط بين الخلافة والإمامة، وقد قال علي عبد الرّازق: إنّ الخلافة استفادت من الإسلام، وليس الإسلام هو الّذي استفاد من الخلافة.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أنّ إيجاد حلول من داخل المنظومة الدّينيّة أمر غير ممكن؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: أنا أقول: إنّ كلّ شخص يجب أن يقوم بعمله في مجاله، وعلى السّياسيّ أن يقوم بعمله في مجاله، أذكر أنّه كان لي نقاش مع مفتي سلطنة عمان -وهو إباضيّ- فسألته عن موقف الإباضيّة من العديد من القضايا، وقد سألني بدوره: «ماذا عن الإسلام في فرنسا، فأنا أريد أن أعرف واقع الإسلام هناك؟»، فقلت له: إنّ هناك فصلا بين السّياسيّ والدّينيّ في فرنسا، والقانون يمنع السّلطة الدّينيّة من أن تتدخّل في السّياسة، ويمنع السّياسة أن تتدخّل في الدّين، فقال لي: «آه لو تبنّى حكّام المسلمين هذا الأمر...»، فقلت له: لماذا؟ وحسبت لأنّه إباضيّ، فقال لي: «لا، انظر الجرائم الّتي تُرتكب باسم الإسلام، والإسلام براء منها، ولو وجد مثل هذا الفصل لما وقع تدنيس الإسلام وتبرير جرائم باسم الإسلام، والإسلام براء منها»، وأعطاني أمثلة، فقال: «ألم تُضرب الكعبة بالمنجنيق بسبب خلاف بين عبد الله بن الزبير وعبد الملك بن مروان؟»، وذكر أيضاً ما حصل في زمن القرامطة، وقال لي: اليوم يقتتل الشّيعة والوهابيّة في المسجد الحرام، بينما كان علماء المسلمين يتساءلون إذا دخل حيوان مفترس في رحاب الكعبة؛ هل يجوز قتله أم لا؟، وقالوا بعد نقاش طويل، لا يجوز ذلك؛ لأنّ القتل عنف، ولا يمكن استعمال العنف داخل المسجد الحرام؛ بل يجب استعمال كلّ الوسائل لإخراجه ثم بعد ذلك يُقتل، وقال لي: «اليوم يقتتلون؛ بل يعطون فتوى للجنود الفرنسيّين، فينطقونهم بالشّهادة في الطّائرة، حتّى يستطيعوا الدّخول لفكّ الصّراع بين الوهّابيين والإيرانيّين»، وقال: «أليس في هذا تدنيس؟»، وقال في النّهاية: «نحن في حاجة إلى هذا الفصل، حتّى لا تُداس مقدّسات المسلمين».

د. نادر الحمّامي: لكن ما هي مستويات مثل هذا الوعي لدى المسلمين، كما تراها؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: هذا الوعي لا ينتشر إلّا بانتصار الدّيمقراطيّة والفكر الدّيمقراطيّ؛ ففي فرنسا لم يكفِ انتصار الثّورة، وقد حدثت بعدها انتكاسة لأكثر من قرن، وذلك بعودة الملكيّة والإمبراطوريّة مع نابليون الأوّل والثّالث... إلخ، وحتّى انتصار الجمهوريّة الثّالثة في نهاية القرن التّاسع عشر لم يكف، والّذين ناصروا الفصل قالوا: نقوم بوظيفتنا في إنشاء رابطة اجتماعيّة لا تقوم على الدّين، بنشر الثّقافة والمدرسة العَلمانيّة والخدمات الاجتماعيّة والحقوق الاقتصاديّة وحقوق الإنسان، وعلى الكنيسة أن تدخل في هذه الصّيرورة وإلّا فسيقضي عليها التّاريخ، فالعلمانية لم تنتصر إلّا بعد الحرب العالميّة الثّانية؛ أي بعد أن ثبت تورّط الكنيسة في فظائع الحرب، ومع نظام فيشي (régime de vichy)، وأصبحت بعد ذلك في موقف ذليل، إلى درجة أنّ الجنرال ديغول تحدّث عنها في مذكّراته، وقال: «لا أدري سبب هذا الموقف المتملّق للسّلطات الدّينيّة»، وكان ذلك بسبب تورّطها في مساندة حكومة فيشي، ولم يعد لها إلّا أن تقبل الخضوع للسّلطة السّياسيّة، وقد كتب فرانسوا مورياك (françois mauriac) (1885-1970)، وهو كاتب كاثوليكيّ، مقالاً في جريدة لوفيغارو (le figaro)، يقول فيه: «العلمانيّة، هذا مبدأ لا أحد يعارضه منذ انتهاء المسيحيّة السّياسيّة»، ومنذ ذلك الوقت، بدأت تظهر فكرة الدّيمقراطيّة المسيحيّة الّتي تقبل بعلمنة الدّولة الفرنسيّة، وهذا لم يتوفّر بعد في المجتمعات الإسلاميّة. فنحن اليوم في بداية الدّيمقراطيّة، وهي في نفسها صيرورة، وهذه الصّيرورة ما تزال في بداياتها في المجتمعات الإسلاميّة عموماً؛ أي إنّ الثّقافة الّتي تقوم عليها وتبنيها وتسندها مازالت في تعبيراتها الأولى الجنينيّة، وأعتقد أنّها موضوع معركة.

الحداثة: السّيرورة والصّيرورة

د. نادر الحمّامي: هذه المعركة حول العلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة لا تتأتّى من التّراث فحسب؛ لأنّ التّراث الإسلاميّ الّذي يتشبّث به خصوم الحداثة لا يمثّل استثناءً في هذا المجال؛ إنّما تتأتّى أيضاً من دعاة الحداثة أنفسهم، وقد أشرت إلى ذلك في كتابك «العولمة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة»، ومن الطّريف أنّك تعتبر أنّ دعاة العلمانيّة قد يكونون عائقاً أمام الدّعوة إليها في الفضاءات الإسلاميّة. فكيف ذلك؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: المشكلة ليست في مفهوم العلمانيّة فحسب، لكنّها في مفهوم الحداثة، أيضاً، فهناك مقاربة مذهبيّة للحداثة والعلمانيّة والدّيمقراطيّة، وهناك مقاربة تاريخيّة اجتماعيّة لهذه الظواهر باعتبارها صيرورة، وليست نموذجاً جاهزاً للتّطبيق، وهي لا تُطرح بالطّريقة ذاتها في جميع المجتمعات، بما في ذلك المجتمعات الإسلاميّة؛ فالأمر يختلف في المغرب حيث توجد مؤسّسة أمير المؤمنين، عنه في مصر حيث يمثّل الأزهر دولة داخل الدّولة، ويختلف عنه في تركيا ذات الإرث الأتاتوركيّ الّذي فرض على الإسلام السّياسيّ أن يقبل بمبدأ العلمانيّة، رغم أنّه يعمل على تقويضها، كما يختلف في إيران، حيث توجد مؤسّسة الملالي ونظريّة ولاية الفقيه، ويختلف في الجزيرة العربيّة، حيث يوجد نوع من التّحالف القائم منذ القرن الثّامن عشر، بين مؤسّسة آل سعود العسكريّة القبليّة وجماعة دينيّة وعقائدية من تلاميذ محمّد بن عبد الوهاب، ممثّلة في الحركة الوهابيّة؛ لذلك لا يوجد نسق منتظم تماماً للعلمنة بين مكان وآخر، وقد اهتمّ بذلك أحد طلّابي الّذي يعدّ أطروحة دكتوراه حول تيّار اللّيبيراليّين الجدد في العربيّة السّعوديّة، الّذين يعبّرون عن مواقفهم في مجلّة الشّرق الأوسط ومجلّة الحياة في لندن، وبيّن أنّهم يؤثّرون في السّياسة الخارجيّة، وأنّهم ممّن تعتمد عليهم السّعوديّة في علاقاتها بالغرب، وفي علاقاتها مع علماء الوهابيّة في الدّاخل، وهو ما يعبّر عن تناقضات عديدة. وهكذا فالعلمانيّة لا تُطرح بنفس الطّريقة دائماً؛ بل إنّها تأخذ بخصوصيّات المجتمعات كلّها، وهنا أقول خصوصيّات ولا أقول استثناءات، لذلك لا يمكن أن نتعامل معها على اعتبارها نموذجاً صالحاً لكلّ زمان ومكان. وحتّى في فرنسا ذاتها لا يمكن أن نتحدّث عن نموذج علمانيّ، حيث العلمانيّة كما تشكّلت قبل قانون 1905 تختلف عن العلمانيّة المطبّقة في مقاطعة الألزاس واللّورين مثلاً، وفي جزر القمر نجد العلمانيّة الفرنسيّة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّة الإسلاميّة، وفي جزر أخرى تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّة المسيحيّة الغالبة، إذن، العلمانيّة تحاول دائماً أن تتأقلم مع المكان الّذي تُطرح فيه.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أنّ الحداثيّين العرب قد تغافلوا عن هذه الخصوصيّة، وبقوا في حيز التّصوّر المذهبيّ للعلمانيّة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: هم بقوا في التّصوّر المذهبيّ العقائديّ للعلمانيّة الّذي يقابل تصوّر أرنست رينان القديم، وفي فرنسا هناك ما يسمّى بــــ (appellation d'origine contrôlé) (a.o.c) بالنّسبة إلى المنتوجات، ونحن نقول: إنّ من طرحوا تصوّراً دوغمائيّاً للعلمانيّة؛ هم (les a.o.c)؛ أي (les athées d'origine catholique) مثل أرنست رينان، فهؤلاء جاؤوا من منظومة كاثوليكيّة تقليديّة، لكنّهم قطعوا معها، واندرجوا في تصوّر عقائديّ آخر، وأصبحوا يتصوّرون أنّ العلمانيّة منظومة عقديّة، وهذا لا يتماشى مع اعتبار الصّيرورة الّتي تخضع لها التّصوّرات الإنسانيّة عموماً، والتي وجب أن نتفطّن لها وأن نتعامل مع العلمنة والحداثة باعتبارها جزءاً من ذلك؛ فلا يمكن أن تطرح العلمنة في فرنسا اليوم كما طُرحت في بداية القرن العشرين، لذلك فالفرنسيّ الّذي يتشبّث بقانون سنة 1905، ويرفض كلّ ما سواه أو ما هو لاحق عنه، يعتبر محافظاً ويمكن أن نقول إنّ هذا الطّرح الّذي يتمسّك به دوغمائيّ عقائديّ، لأنّ ذلك القانون كان نتاج توافق تاريخيّ للخروج بفرنسا من احتمال حرب بين الكاثوليك والعَلمانيّين، ولا يمكن أن يُعتبر ذلك العصر عصراً ذهبيّاً يُرجع إليه. لذلك، فالعلمنة والدّيمقراطيّة والحداثة يجب أن تُطرح في علاقة بالقضايا المستجدّة ضدّ كلّ معوقات الواقع الإنسانيّ المعاصر، وهي كثيرة وجديدة ومتنوّعة.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أنّ التّمسّك الدّوغمائيّ العقائديّ بالعلمنة في الغرب، هو ما يؤدّي إلى احتقار الشّعوب الأخرى، كما فعل أرنست رينان الّذي اعتبر المجتمعات الإسلاميّة بدويّة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، لأنّ هذا التّصوّر يرى أنّ الحداثة والعلمانيّة وأوربا والكاثوليكيّة جوهر ثابت، ونجد ذلك لدى أرنست رينان (ernest renan) (1823-1892)، وإميل كومب (emile combes) (1835-1921)، وهما من أصل كاثوليكيّ، ويعتبران أنّ الكنيسة معادية للحرّيّة ولا يمكنها أن تتطوّر، وقد أجابهما جيل فيري (jules ferry) (1832-1893)، وأريستيد بريون (aristide briand) (1862- 1932)، وجون جوراس (jean jaurès) (1859-1914) بأنّ ما يهمّ ليس الكنيسة إنّما هو المجتمع الفرنسيّ، وعندما يتطوّر المجتمع الفرنسيّ، فالكنيسة إمّا أن تقبل بذلك التّطوّر وتندرج فيه، وإمّا أن يلغيها التّاريخ، وأنّ المراهنة لا تكون على الكنيسة وإنّما على المجتمع وثقافته. هذا تماماً ما ينقص التّعامل مع العلمنة والعلمانيّة في الفضاءات الإسلاميّة عند العلمانيّين، وعند خصوم العلمانيّة على حد سواء؛ فقد قرأت كتابات راشد الغنّوشي، وكتاب «التّطرّف العلمانيّ في تونس وتركيا نموذجاً» ليوسف القرضاوي، وهما لا يقولان العَلمانيّة، إنّما العِلمانية؛ أي إنّهما يعتبرانها من العلم، ونجد هذا أيضاً لدى بعض العلمانيّين العرب؛ الّذين يرجعون العلمانيّة إلى العلم؛ أي بمعنى العلمويّة (scientisme). والحال أنّ التّصوّر الصّحيح هو الّذي يرجعها إلى العَالم؛ بمعنى أنّها تندرج في صيرورة الحياة والعقائد، أيّاً كانت. ومن هنا أتصوّر العَلمانيّة مقاربة تقوم على اعتبار الحياة والبشر والمواطنين والفكر ظواهر حيّة، والانطلاق من ذلك في التّعامل معها، وليس على اعتبارها عقيدة جاهزة، أو مذهباً جاء مناهضاً للعقائد الدّينيّة، وعندما أقول هذا فأنا أربط بين العلمنة والدّيمقراطيّة، وقد كان لي نقاشات في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مع بعض الزّملاء الّذين اعتبروا أنّ المشكلة في العالم الإسلاميّ تكمن في أنّه لا يقبل الفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ، وكانوا يتصوّرون أنّ ذلك هو المدخل إلى الدّيمقراطيّة، فبيّنت لهم أنّ تبنّي العلمانيّة في الفضاءات الغربيّة؛ أي أوربا وكندا والولايات المتّحدة الأمريكيّة، وقع بعد أن انتصرت الدّيمقراطيّة، وقد كانت هي المدخل إلى العلمانيّة، وليس العكس؛ فاكتساب السّلطة شرعيّة بشريّة بالعمليّة الدّيمقراطيّة، يجعلها في غنى عن الشّرعيّة الأخرى، سواء كانت دّينيّة أو تّاريخيّة أو كاريزميّة أو غيرها. وهكذا فالدّيمقراطيّة هي المدخل إلى العلمانيّة، وليس العكس. لذلك أعتبر أنّ المسلمين سيجدون طريقهم إلى العلمنة والعلمانيّة والحداثة عندما تنتصر الدّيمقراطيّة، وليس قبل ذلك.

د. نادر الحمّامي: وهل تأتي حقوق الإنسان بعد ذلك؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: لقد أصبح الأمر في نطاق صيرورة، ولم يعد هناك تطوّر منفصل للمجتمعات، ومن مزايا العولمة أن صارت القضايا تطرح في الوقت نفسه في كلّ الفضاءات، وحتّى حقوق الإنسان بدأت في البداية إعلانات حقوق عامّة، مثل «عهد الأمان» الّذي كان مدخلاً للحدّ من الاستبداد السّلطويّ، وتطوّرت عبر العصور، وتطلّب ذلك قروناً من الزّمن في أوربا؛ فأوّل إعلان ربط بين حقوق المواطنين وحقوق الإنسان: هو «الإعلان الفرنسيّ للمواطنة وحقوق الإنسان» (la déclaration des droits de l'homme et du citoyen)، وفي الحقيقة؛ لم يكن الإعلان يتضمّن حقوق الإنسان، وكان المقصود حقوق الرّجال؛ فالنّساء لم يكنّ حاضرات في هذا، وعندما كتبت أوليمب دي غوج (olympe de gouges) (1748-1793)، «إعلان حقوق المواطنة والنّساء» (déclaration des droits de la femme et de la citoyenne) أعدموها في فرنسا بعد الثّورة؛ لأنّ ذلك كان بدعة وهرطقة بالنّسبة إليهم، وأصبح للفرنسيّات الحقّ في التّصويت بعد الحرب العالمية الثّانية، وقد كانت الكنيسة تعارض حقوق الإنسان إلى حدود مجمع الفاتيكان الثّاني (iie concile œcuménique du vatican) في ستّينات القرن العشرين، باعتبار أنّها مناهضة لحقوق الله، وكأنّ حقوق الإنسان هي إلغاء لحقوق الله. وبما أنّ العلمنة هي الصّيرورة الّتي تعطي للبشر الحقّ، فإنّ حقوق الإنسان الكونيّة هي جزء منها، والمطالبة بها تندرج في سياق الصّيرورة ذاتها ولا يمكن أن تنفصل عنها لا نظريّاً ولا إجرائيّاً.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أن هناك ارتداداً في المجال الإسلاميّ عن الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، سببه الصّراع الدائم بين حقوق الآدميّين وحقوق الله؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: حين نقارن إعلانات حقوق الإنسان الّتي تصدر في مجالنا الثّقافيّ والجغرافيّ مثل «الميثاق العربيّ لحقوق الإنسان» (2004)، و«الإعلان الإسلاميّ لحقوق الإنسان» (1981) و«إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام» (1990)، ونقارنها بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان لا نجد شكّاً في أنّها دونه، وقد كتب المنصف المرزوقي عندما كان رئيس الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان مقالاً يبيّن فيه أنّ كلّ الإعلانات المحلّيّة والقارّيّة والثّقافيّة والدّينيّة؛ هي دون الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، لكنّها في الوقت نفسه تدخل في تلك الصّيرورة، وتبحث لنفسها عن تأصيل حتّى يقبل الإنسان العربيّ من منظور المتديّن بحقوق الإنسان. وقد يعتبر البعض هذا التّأصيل حدّاً من مبدأ الحقوق الّتي لا تتجزّأ ولا تحتمل الاشتراط المسبق في التّعامل معها، ويمكن أن نقول أنّه محاولة للاستحواذ؛ فقد ظهرت إعلانات مسيحيّة وإعلانات يهوديّة وإعلانات هندوسيّة وإعلانات إفريقيّة وإعلان لأمريكا اللّاتينيّة لحقوق الإنسان، ولم يقتصر الأمر على الإعلان الإسلاميّ لحقوق الإنسان، لكنّها كلّها دون الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان (1948)، وهي محاولة لمراجعته نحو الأدنى، لكنّها في الوقت نفسه محاولات تأصيليّة لإيجاد ما يسمح لها بالتّطور نحوه. وهذا الجهد يبقى على الهامش ولا يمكن أن يحقّق الغاية منه طالما أنّه لم يتمثّل المبادئ الكونيّة على اختلافها باعتبارها نتاج صيرورة، لا يمكن معها التّوقّف عند بعض المحطّات والتمسّك ببعض الفواصل على اعتبارها نهائيّة، وهذا شأن الحداثة عموماً، فهي تتواصل ولا تنقطع.

د. نادر الحمّامي: إذا نظرنا إلى الحداثة باعتبارها صيرورة بالأساس، فهذا يتناقض مع الأطروحات الّتي ترى بأنّ الحداثة قد أغلقت وأنّنا انتقلنا إلى ما بعد الحداثة، ما رأيك في ذلك؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: أنا ضدّ الما بعد؛ أي ما بعد الحداثة، وما بعد الدّيمقراطيّة، وما بعد الكونيّة؛ لأنّ الحداثة هي موقف من سلطة التّقليد، ومن مقولة العصر الذّهبيّ، وهي هذا الموقف مع الجديد، فلا يمكن أن نمنع التّجديد ونكرّس المحافظة باسم القديم وباسم التّقليد أيّاً كان يونانيّاً، أو عربيّاً إسلاميّاً، أو مسيحيّاً، أو يهوديّاً، أو بوذيّاً، أو تقليداً علمانيّاً للثّورة الفرنسيّة، أو تقليداً للجمهوريّة الثّانية في فرنسا... بهذا المفهوم لا يمكن أن تنتهي الحداثة؛ فهي أمامنا دائماً، وليست وراءنا حتّى نتحدّث عمّا بعدها. وهذا ينسحب على الحداثة كما ينسحب على جميع القيم الكونيّة، ومن بينها الدّيمقراطيّة الّتي تشهد اليوم صعوبات حتّى في المجتمعات الّتي نشأت فيها؛ ففي أمريكا نفسها يعتبر انتصار ترامب في الانتخابات الأخيرة؛ طعناً للدّيمقراطيّة باعتبارها مشروعاً أضحى مهدّداً من حركات أقصى اليمين الّتي هي ضدّ الدّيمقراطيّة، وهذا أيضاً ينظر إليه من داخل الصّيرورة وليس من خارجها، وأستحضر هنا تعبير بريشت (bertolt brecht) (1898-1956) «الفاشيّة ليست نقيض الدّيمقراطيّة، بل هي ديمقراطيّة في فترات التّأزّم»؛ أي عندما تتأزّم المجتمعات وينتصر الخوف، تصبح الدّيمقراطية وسيلة لنقيضها، وبتلك الطّريقة صعد كلّ من هتلر وموسوليني إلى السّلطة، وكذلك الجماعات اليمينيّة المتطرّفة، وحتّى حركة النّهضة في تونس وقد صعدت إلى الحكم بالدّيمقراطيّة. لذلك فالدّيمقراطيّة عندما تختزل في مجرّد إجراء، تُلغَى منها مبادئ الحرّيّة والمساواة، وتؤدّي إلى نقيضها، ولا يمكن التّمسّك بالدّيمقراطيّة وهي على هذا الشّكل، ولذلك وجب أن نعي بأنّ الدّيمقراطيّة هي مشروع متواصل نحو التّغيير، حتّى تستطيع أن تنتصر لمبدأي الحرّيّة والمساواة، وأن تكون ضدّ كلّ السّلطات العقائديّة، أيّاً كانت؛ وبهذا المعنى فهي أمامنا وليست وراءنا. وهذا التّصوّر نفسه ينسحب على العلمنة؛ ففي الاتّحاد السّوفياتيّ انتصرت العقيدة الماركسيّة، وباسم تلك العقيدة وقع الاعتداء على الحرّيّات، وكانت محاكمات ستالين وجرائمه، لذلك لا يمكن أن نطرح العلمانيّة اليوم كما طرحت في القرن التّاسع عشر. لذلك أعتبر أنّ تشويه الحداثة من طرف الحداثيّين، وتشويه العلمانيّة من طرف العلمانيّين، وتشويه الدّيمقراطيّة من طرف أنصار الدّيمقراطيّة؛ يجعل من هؤلاء أنفسهم عائقاً أمام الحداثة والعلمانيّة والدّيمقراطيّة؛ فالحداثيّ الّذي يظنّ أنّ بإمكانه حيازة التّصوّر العلمانيّ أو الدّيمقراطيّ، وأنّ ذلك يخوّل له أن يسيطر على المجال العامّ بالنّظر إلى أحقّيّته السّياسيّة أو العلميّة أو الثّقافيّة دون باقي أفراد المجتمع وشرائحه، إنّما هو واهم ودوغمائيّ بشكل من الأشكال، وهو بصدد تشويه تلك المبادئ جميعاً.

د. نادر الحمّامي: هل تعتبر أنّ الحداثيّين عليهم أن يحدثوا تغيير اً عميقاً في استراتيجيّة الخطاب، حتّى لا يكونوا هم أنفسهم عائقاً أمام الحداثة؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: والدي، مثلاً، شخصٌ أمّيّ، كان يوماً يصلّي الجمعة ويستمع إلى خطبة الإمام الّذي كان يدعو لبن علي بالنّصرة على خصومه، وكنت من بين أولئك الخصوم، فأوقف أبي الصّلاة وخرج وأطبق باب الجامع وراءه، فتمّ استدعاؤه من طرف الشّرطة، وسألوه لم فعل ذلك، فقال لهم لأنّني أريد أن أذهب إلى الجامع لأصلّي لا لأستمع إلى خطبة سياسيّة، وإذا لم تكفكم الإذاعات والتّلفزة والجرائد والشُّعَب... فتريدون أن تلحقوا بها الجوامع، فسأصلّي في بيتي ولن أساهم في ذلك. لقد كانت ردّة فعله هذه عفويّة، وقد جاءه ابن عمّي الّذي كان تابعاً لحركة النّهضة، ورأى في موقفه شجاعة وجرأة على السّلطة، فقال له أبي أنتم تريدون أن تفعلوا الأمر ذاته، لذلك فأنا ضدّ بن علي وضدّكم أنتم. انطلاقاً من هذه الحادثة، أقول إنّ الإنسان يمكن أن يكون مؤمناً وعلمانيّاً في الوقت نفسه. وإنّما انتصرت العلمانيّة في فرنسا عندما تحوّل جمهور المؤمنين الكاثوليكيّين والبروتستانت واليهود، واليوم، المسلمين أيضاً، إلى مناصرين للعلمانيّة وللفصل بين الدّينيّ والسّياسيّ؛ لأنّهم لم يجدوا في الفصل تدنيساً لمقدّساتهم، كما قال مفتي سلطنة عمان، إذن، يجب أن نقلع عن تصوّر العلمنة والحداثة والدّيمقراطيّة على أنّها نماذج جاهزة نطبّقها بحذافيرها على المجتمع، وأنّ المجتمع ليس له ما يقول في ذلك، وليس له دور واضح في المسألة.

د. نادر الحمّامي: هل لمجتمعاتنا اليوم تلك البنية الذّهنيّة الّتي تساعدها على تمثّل مسائل العلمنة والحداثة والدّيمقراطيّة بشكل سليم، أم إنّ الإرادة السّياسيّة هي الّتي تقف دون أن تكون المجتمعات صاحبة قول في ذلك؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: يجب أن نفكّر في الغد، ونعدّ معارك اليوم؛ هي الّتي تحدّد طبيعة الغد، وأنا شخصيّاً أعتقد أنّ ما نقوم به اليوم يدخل في تصوّر ما سيكون مستقبلاً، فهل كان بإمكاننا أن نجري هذا الحوار وننشره في المجتمعات الإسلاميّة منذ ستّ سنوات؟ لذلك؛ فأنا أعدّ ما يجري اليوم في المجتمع التّونسيّ وفي المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، من صراعات ونقاشات حتّى مع السّلفيّين، أمراً مهمّاً، وأفضّل أن أواجه السّلفيّين فكريّاً على أن أقضي عليهم مادّيّاً وأمنعهم من الكلام، ولا يمكن القضاء عليهم مادّيّاً، ونحن جرّبنا ذلك حتّى تاريخيّاً؛ فالبداية هي أن أقبل بهؤلاء ولا أعدّهم غرباء أو وافدين على المجتمع، فهم جزء من المجتمع، وهذه التّصوّرات للهويّة التّونسيّة وللهويّة الإسلاميّة هي من صناعة الغرب والاستعمار والإمبرياليّة، ففي النّهاية؛ هم منّا ووجب أن نتعامل معهم على أنّهم جزء من المجتمع، ولن تُبنى الدّيمقراطيّة ولا العلمانيّة ولا الحداثة إلّا بالتّعامل معهم ومقارعتهم فكريّاً دون التّنازل لهم.

د. نادر الحمّامي: هذه القيم الكونيّة تبنى بالانفتاح على المجتمع، ولكن وجب أن تنطلق من الفرد أوّلاً، أليس كذلك؟

د. محمّد الشّريف فرجاني: نعم، يجب أن أبدأ بنفسي، ولا أنتظر مبادرة حزب سياسيّ، وعندما لا أقوم بهذا العمل بنفسي فبأيّ حقّ يمكن أن أطالب الآخرين به؟ فذلك وجب أن ينطلق من المفكّرين أنفسهم، والجامعيّين والأساتذة والمثقّفين، وعلى هؤلاء أن يخرجوا من فضاءات النّقاش النّخبويّ والأكاديميّ المغلقة، إلى فضاءات المجال العامّ، ويمارسوا دورهم في المجتمع، ومن يصعد منهم إلى السّلطة والحكم ينبغي عليه أن يتمثّل تلك القيم من منطلق اعتبارها صيرورة غير منقطعة تستوجب دائماً الإضافة، وأن يكون لديه الاستعداد لجعلها قيماً منفتحة على الجميع بغضّ النّظر على الاختلاف. ومن ثمّ فلا يمكن للسّياسيّ أن يحتكر تلك القيم الكونيّة ويستثني مخالفيه، كما لا يمكن لرجل الدّين في المقابل أن يحتكر مجال الخطاب الدّينيّ ويستثني الآخرين من المشاركة فيه. فالحداثة وجميع القيم المرتبطة بها تبنى بشكل متواصل انطلاقاً من الفرد، ولكن في علاقة مع الآخر. فهي لذلك تبنى على النّسبيّات والمشاركة، وحين تمضي مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة خطوة في هذا الاتّجاه، يكون بمقدورنا أن نفتخر بأنّنا على المسار الصّحيح نحو الحداثة.

د. نادر الحمّامي: في إطار التّفكير المشترك نحو إيجاد استراتيجيّات جديدة للخطاب الحداثيّ، ونحو تقريب مفاهيم هذا الخطاب ووضعها في السّياقات الرّاهنة، كان هذا الحوار المنفتح والعميق معك أستاذ محمّد الشّريف فرجاني، فشكراً جزيلاً لك على ما تفضّلت به.

[1] - أجري هذا الحوار في 23 نيسان/أبريل 2017

[2] - أستاذ العلوم السّياسيّة والدّراسات العربيّة في جامعة ليون الثّانية (lyon2)، متخصّص في علاقة الدّينيّ بالسّياسيّ في المجال العربيّ والإسلاميّ.

. حاصل على الدّكتوراه بأطروحة حول «العلمانيّة وحقوق الإنسان في الفكر السّياسيّ العربيّ المعاصر» 1989

. مهتم بالبحث في الإسلاميّات والعلوم السّياسيّة المطبّقة على العالم العربيّ وإشكالياتها،

. من مؤلّفاته؛ «الإسلام السّياسيّ والعلمانيّة وحقوق الإنسان» (1991)، (les voies de l'islam: approche laïque des faits islamiques) «سبل الإسلام، مقارنة علمانيّة للوقائع الإسلاميّة» (1996)، (le politique et le religieux dans le champ islamique) «السّياسيّ والدّينيّ في المجال الإسلاميّ» (2005)، (prison et liberté) «السّجن والحرّيّة» (2014)، (religion et démocratisation en méditerranée) «الدّين والتّحوّلات الدّيمقراطيّة في حوض البحر الأبيض المتوسّط» (2016)، (pour en finir avec l'exception islamique) «حتى ننهي مع الاستثناء الإسلاموي» (2017). العلمانيّة منهجاً في التّفكير وتحوّلات الإسلام السّياسيّ.