حوار مع الأستاذة هاجر خنفير: تحديات الخطاب النسوي العربي


فئة :  حوارات

حوار مع الأستاذة هاجر خنفير: تحديات الخطاب النسوي العربي

"هاجر خنفير" باحثة تونسية تحصلت على الأستاذية في الآداب واللغة العربية سنة 1993، ثم على شهادة الماجستير سنة 2003 - كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة. وحصلت سنة 2012 على أطروحة دكتوراه عنوانها "إشكاليات الخطاب النسوي العربي في النصف الثاني من القرن العشرين". وهي حالياً أستاذة مساعدة في اللغة العربية في المعهد العالي للغات بتونس، ولها إسهامات متنوعة في مجال الدراسات النسوية والمقاربة الجندرية.

التقيناها إثر ندوة دولية عقدتها مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" بتونس في جانفي 2015 تحت عنوان: "كتابة التاريخ الإسلامي وتمثلاته"، وقد قدّمت فيها الباحثة مداخلة تتعلق بـ"حدود القراءة التأويلية في التاريخ النسائي العربي"، وكان لنا معها الحوار التالي:

حمادي ذويب: كيف تقيّمين المكاسب التي حصلت عليها المرأة العربية إلى هذه اللحظة الراهنة، مقارنة بطموحاتها التي تبلورت عبر تاريخ النضال النسوي الفكري والاجتماعي؟

هاجر خنفير: تتفاوت أهمية المكاسب التي حققتها المرأة في العالم العربي نوعياً ومادياً، فالمرأة الراشدة في بعض بلدان الخليج ما تزال تطالب بحق السفر دون محرم، وفي السودان تحرم من المساواة القانونية مع الرجل في عملية توزيع الأراضي التي هي على ذمّة البلديات، بينما تعلو أصوات المطالبة بالتناصف في الانتخابات التشريعية والوظيفة العمومية، وتُرفع الشعارات المناهضة للعنف في تونس والمغرب. ولذلك تختلف نتائج الدراسات المتابعة لمتغيرات وضع المرأة، حتى ما تعلق منها بحق المرأة في التعليم الذي شكّل أمّ المطالب التي نادى بها دعاة تحرير المرأة في عصر النهضة من الطهطاوي إلى قاسم أمين وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد.. لذلك يمكن الحديث عن منحنى متصاعد لكن بتؤدة تقطعه النساء العربيات بصعوبة ولكن بثبات، متحديات صخرة الفحولة التي تحرسها الشريعة والأعراف والقوانين.

والجدير بالذكر هو هذا الدور الخطير الذي تلعبه الثورة المعلوماتية في نسق النضال النسوي، فقد شرع خطاب نسوي معولم في التشكل مخترقاً الحواجز الهووية متبنياً ثقافة إنسانية حقوقية لا تتوانى النسويات حتى الإسلاميات منهن عن إثبات توافقهن مع مقومات العقيدة الإسلامية، وهو ما انعكس مثلاً في الدور الجوهري الذي اضطلعت به النساء العربيات في ثورات الربيع العربي رغم تفاوت درجات التجاوب الاجتماعي مع هذا الظهور.

حمادي ذويب: هل تمكّن الخطاب النسوي العربي المعاصر من انتزاع موقع له بين الخطابات العربية المعاصرة؟

هاجر خنفير: لا شك أنّ الخطاب النسوي العربي المعاصر، على تنوع خلفياته وتباين مقوماته بين إسلامية واشتراكية وأمومية وجندرية وغيرها، قد فرض نفسه بقوة وهو يعلن مقاومة الجندريات السائدة ويفضح آليات التنميط التي ما عادت قادرة على احتواء النساء المنسلخات من هوياتهن الموروثة. ولئن أبدى بعض المثقفين العرب اهتماماً بالمرأة أولاً وبالخطاب النسوي ثانياً مثل "نصر حامد أبو زيد وحازم صاغية وفهمي جدعان وغيرهم" فقد كان ذلك في إطار تقييم طبيعة التحولات الطارئة على المجتمعات العربية وسبر منسوب الديمقراطية، أي أنّ هذا الخطاب لم يكن لدى بعض المثقفين إلا معياراً لتحديد مبلغ التحديث في المجتمعات العربية الإسلامية، ولعلّه موقف ينتظم في تاريخية الفكر العربي كحلقة معاصرة من حلقات المقاربة النهضوية لقضية المرأة، إذ كانت أحد مداخل الإصلاح المطروحة في نطاق السجال الإيديولوجي بين المحافظين والليبراليين، أو بالأحرى لم تكن مسألة مقصودة لذاتها بل أداة تتنازعها الخطابات النهضوية من أجل فرض سلطتها.

أمّا لدى الأصوليين فقد اتخذ الخطاب النسوي موقعاً آخر باعتباره من آليات التبعية الثقافية، فهو في اعتقادهم يعيد إنتاج التصورات النسوية الغربية، ويصفه آخرون بأنه الأصل التجاري ليسار الكفيار.. وهي تهم تسعى لتشويه الفكر النسوي وتقزيمه والدعوة لاستئصاله ولو بتكفير أعلامه، ولكنها تحمل ضمنياً شهادة على تطور الخطاب النسوي واحتلاله مكانة تخيف البعض وتحفز البعض الآخر على توسيع منظوره الحداثي.

حمادي ذويب: لقد كانت صورة المرأة في التراث مدار قراءات نسوية سعت إلى خرق مركزية المعرفة الذكورية، غير أنها كانت في الآن نفسه أحد ملامح الاختلاف بين الخطابات النسوية، فما مدى وجاهة هذه القراءات في سياق التأسيس للموقع التاريخي للمرأة إذا كانت محكومة باختلاف المواقف النسوية؟

هاجر خنفير: تعددت مستويات البحث في التراث داخل الخطاب النسوي العربي، فقد تشكل في عملية حفر عميقة في مدونة الحديث لدى المرنيسي مستغلة علم الجرح والتعديل، وتبلور في فهم آسيا الجبار الخاص للتاريخ بعد مساءلتها كتب التفسير والطبقات، بينما اختارت ليلى أحمد البحث في الأصول الإثنية للإسلام بالعودة إلى ثقافات بلاد الرافدين والهيلينية والمسيحية.

على أنّ اختلاف المرجعيات وأدوات التفكيك والتأويل لا يعني تشتت الجهود وتباين الأهداف بين النسويات، بل يشكل مساراً واحداً يتجه إلى تطبيع العلاقة بين النساء والتاريخ وبين النساء والدين، وهو ما يخول لها بالضرورة إعادة مساءلة الوعي الجمعي الذي أقصى المرأة وعزلها في سراديب الذاكرة المأفونة. غير أنّ العملية تتطلب مجاهدة ومغالبة لتلك الثوابت الصلبة التي ينهض عليها هذا الوعي، ولذلك نعتقد أنّ كتابة التاريخ قد تكون أجدى عندما نشرع في البحث في تاريخ المهمشين أو الناسوت الناقص مثل العبيد والجواري والغلمان والبينجنسيين.. لتعرية شروخ التاريخ الرسمي وبحث الإمكانات التي لم تتحقق داخل التراث. وبالإضافة إلى ذلك يمكن أن تشكل كتابة السير الذاتية التي تميزت بها النسويات مدخلاً لكتابة تاريخ الأنا على حد تعبير بيار نورا Pierre Nora))، فلعلّ في التحرر من شكل الخطاب التاريخي الرسمي انبساطاً لمجال كتابة تاريخية مختلفة تفضح ميزوجينية المعرفة التاريخية، بجرأة دون صدام وبعمق دون تحيز.

حمادي ذويب: كيف تبدو لك العلاقة بين الخطابات النسوية النقدية والخطابات الميدانية التي تقدمها المكونات النسوية الفاعلة في المجتمع المدني؟

هاجر خنفير: من المعلوم أنّ بدايات الحراك النسوي تعود إلى مناضلات رائدات في الساحة السياسية مثل هدى شعراوي ودرية شفيق ونظيرة زين الدين، ولم يكن ما كتبنه سوى تسجيل للحظات إسهام تاريخي قد تشطبها سلطة التاريخ الرسمي أو تعبير عن مناوءة التقاليد والأعراف المكرسة للتمييز ضد المرأة، فالفعل التاريخي لهؤلاء الرائدات كان في الساحات العامة قبل أن يكون بين ثنايا الكتب، خاصة أنّ مجال الكتابة كان تحت سيطرة الفصاحة الذكورية حتى ما تعلق برسم صورة المرأة المغبونة. وبعيد استقلال البلدان العربية شرعت إرهاصات الخطاب النسوي العربي في التبلور ليتخذ مدارات معرفية متنوعة ترتقي أحياناً إلى البحث في التراث والتحليل النفسي والوجودي، ممّا خلّص كتابة المرأة من هيمنة الخطابات الذاتية أو خطابات إعادة إنتاج الذات، مثل المذكرات والسيرة الذاتية والقصة القصيرة أو مجموعة الأقاصيص لتمسي تخوماً للكتابة النقدية.

والملاحظ أنّ هذا التطور الذي استفاد من المتغيرات العالمية لأوضاع النساء ومن امتلاء النفوس بإرادة الحرية والإيمان بالحقوق الإنسانية بدا غالباً متذبذباً في علاقته بدوائر النسوية الناشطة في العالم العربي، لأنّ جلّ الحركات النسائية تعمل في خط متواز مع الفكر النسوي، لا يتقاطع معه أو يُبنى عليه، وذلك إمّا لأنها حركات منضوية تحت سقف سياسي محدد الملامح، أو هي منكرة تماماً لنجاعة تلك الخطابات المحلقة في التنظير والجدل المتخيل مع ثقافة التمييز الجنسي من داخل المكاتب المغلقة وعلى صفحات الكتب التي لا يقرؤها إلا فئة قليلة، أو في قاعات الندوات والمحاضرات التي لا تؤمها إلا طائفة من المحسوبين على النخبة. ولذلك تبقى النسوية الناشطة محدودة الفاعلية لغياب القاع المعرفي المؤسس لمسار الحراك، مثلما يبقى الخطاب النسوي العربي متبوعاً بأحكام مسبقة تقصي فاعليته، ولعل آخر ما سمعته من أكثر من امرأة مثقفة تعلق على الثقافة النسوية بوصمها بالمحدودية حيناً وبالتبعية حيناً آخر.

حمادي ذويب: يشكّل الخطاب النسوي عموماً لدى شريحة هامّة من المجتمعات العربية أحد مصادر الخوف على الهويّة العربية الإسلامية، ويرونه شكلاً من أشكال التبعية الثقافية للغرب. فإلى أي حد يؤثر هذا الخوف والحذر في مستوى فاعلية الخطابات النسوية؟

هاجر خنفير: يمثل مفهوم الهويّة الثقافية والعقيدة الدينية معضلة حقيقية أمام الخطاب النسوي العربي نظراً إلى اقتران تمثلات هذا المفهوم بالبنيان الاجتماعي الذي يقوم على مراتبية جنسية، وبذلك فإنّ أي تغيير يمسّ وضع المرأة يُعدّ تهديداً لتلك الهويّة واختراقاً للثوابت التي تكتسي غالباً صبغة المقدّس. ولعل في تنامي وتيرة النقد والتهجم على الثقافة الحقوقية والخطاب النسوي كما تعكسها الثقافة الدعوية حالياً تجسيداً لحدة الخوف من الانتشار الإيجابي لمطالب مناهضة العنف المسلط ضد المرأة والمساواة النوعية في شتى المجالات والتمكين السياسي للمرأة دون استثناء، وبقدر ما تتفاقم مظاهر الخوف تتأكد لنا فاعلية الخطابات النسوية في زعزعة الثوابت وخلخلة المسلمات الاجتماعية، رغم اختلاف المنطلقات والمقاربات، علاوة على أنّ الخوف يمنح هذا الخطاب شرعية دفاعية عن انخراطه في منظومة حداثية لا تعادي الثقافة العربية بشكل مطلق، بل تستهدف تلك الأبنية التي تسدل هويّات الماضي على الذوات فتمنعها عن الانتظام كمكونات فاعلة في مسار الحداثة أو تجعلها عاجزة عن قبول ممكنات الحداثة.

وبذلك تغدو معركة الخطاب النسوي العربي معركة وجودية مع الهويّات القاتلة على حد تعبير أمين معلوف، معركة الحق في الاختلاف من أجل دحر أشكال العنف والكره المتولدة عن الهويّة الطوطمية، معركة من أجل الانفتاح واعتبار الحداثة أوسع من كونها استنساخاً لثقافة الآخر. وحتى النسوية الإسلامية التي راجت في البلدان الآسيوية المسلمة وفي أوساط مسلمات المهجر مثل أمينة ودود وعزيزة الهبري وأسماء برلاس.. فإنها نسوية تروم تحرير المرأة المسلمة من حدود الأحكام الفقهية التي نمطتها داخل هويّة خانقة لإمكانياتها وحجبتها عن دوائر الفعل الاجتماعي والسياسي والفكري، ولذلك تنطلق من قراءة تأويلية للإسلام تقرّ بمواطنة المرأة وبمساواتها الحقوقية مع الرجل، وإجمالاً يمكن القول إنّ فاعلية الخطابات النسوية تتمثل في مدى قدرتها على مجابهة الخوف والسعي إلى إزالته بمقاومة متاريس الفصل والعزل التي تكرّسها الهويّات الموروثة.

حمادي ذويب: تعدّ المرأة التونسية بما تحصلت عليه من مكاسب منذ فجر الاستقلال نموذجاً يعكس تطلعات جلّ الخطابات النسوية العربية، غير أنّ ذلك لا ينفي استمرارها في المطالبة بالمساواة والاعتراف بها على جميع الأصعدة. فكيف ترين وضع المرأة التونسية بعد الثورة مقارنة بغيرها من النساء في العالم العربي؟

هاجر خنفير: شكلت مجلة الأحوال الشخصية (1956) لحظة تاريخية فارقة في مسار الحراك النسوي التونسي خاصة والعربي عامة، وقد تضمنت جملة من القوانين التي مكنت المرأة من احتلال موقع فاعل في الحياة الخاصة والعامة. والتقت تلك الإرادة السياسية المنبعثة من مشروع بناء الدولة الحديثة مع الإرادة النسائية القوية في تثبيت هذا الموقع بحرصهن على استيفاء حقهن في التعليم وسعيهن إلى تحقيق الاستقلالية الاقتصادية ببروزهن في كافة القطاعات المهنية، غير أنّ ذلك لم يكن كفيلاً بتحقيق التطور المنشود على مستوى العلاقات بين الجنسين، لأنه لم يكن وليد التشكيلة الاجتماعية، بل كان نتاج استراتيجيا اقتصادية وسياسية تنظر إلى الجنسين وفق منطق علاقات الإنتاج وموازين القوة، وهي استراتيجيا محدودة النجاعة بالنظر إلى بنيان العلاقات الاجتماعية. ولذلك لم تتوقف غالبية النساء التونسيات - وخاصة المتعلمات منهن - عن مغالبة آليات النمذجة المترسخة عبر التربية الأسرية والعلاقات غير المتكافئة بين الجنسين. وقد تأكدت ثمار هذا المسعى في أول مشاهد الثورة التونسية ضد الاستبداد والظلم والفساد السياسي، إذ علا صوت النساء في المظاهرات والتحفن راية الوطن وتصدين للقمع البوليسي متحديات استنكار واستياء ممثلي الشق التقليدي المحافظ من المجتمع، وفي لفتة سريعة إلى تجربة المرأة في مجتمعات أخرى شملتها ثورات الربيع العربي، وكانت قد تعرضت فيها لأشكال مختلفة من العنف كالتحرش والاغتصاب والاعتداء المادي والمعنوي، يتأكد لنا فعل الانتقال في تركيبة العلاقات بين الجنسين نحو انحسار مظاهر التمييز النوعي ولو كان بطيئاً. وما انفك نسق الفاعلية النسائية يشهد تصاعداً رغم تجليات قوى المحافظة في محطات مختلفة تلت الثورة، منها على سبيل الذكر الحرص على تأكيد علاقة التكامل بين الجنسين عوض المساواة أثناء كتابة فصول الدستور، أو ذلك الجدل الطويل حول مسألة التناصف العمودي والأفقي في القائمات الانتخابية، وقد تأكدت فاعلية المرأة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمشاركتها الكاسحة في العملية الانتخابية من أجل مشهد سياسي يعترف بقدرات المرأة وحقوقها ويدعم مكاسبها.