حوار مع الباحث الجزائري الدكتور مونيس بخضرة : دور الفلسفة في إعادة بناء الفهم البشري من جديد


فئة :  حوارات

حوار مع الباحث الجزائري الدكتور مونيس بخضرة : دور الفلسفة في إعادة بناء الفهم البشري من جديد

ذ. علوش: مرحبا بكم، بداية من هو الدكتور مونيس بخضرة؟

د. بخضرة: في البداية يطيب لي، أن أشكركم جزيل الشكر على تخصيصكم لنا هذه المساحة لإبداء بعض الآراء، حول سيرتي الفلسفية وقضايا الفلسفة في مجتمعاتنا.

هو أستاذ فلسفة بجامعة تلمسان وكاتب، ولد في خريف عام 1976، تلقى تكوينه التعليمي بمسقط رأسه، وبعد نيله لشهادة الباكلوريا عام 1996 انتقل إلى جامعة وهران لدراسة الفلسفة، وهناك بدأ يتعرف إلى أفكار جديدة، خاصة وأن هذه الفترة عرفت حراكا فكريا وثقافيا لم يسبق له مثيل في جامعة وهران، وبدأت النقاشات تثار في قاعات محاضراتها حول قضايا فلسفة التاريخ ونهايته، وأسئلة حوار الحضارات وصداماتها، والفلسفة البنيوية والتفكيكية والفينومينولوجية وإعادة إحياء فلسفة التنوير من جديد. وبطبيعة الحال، كان لهذا التنوع الفلسفي الكبير أثرا بالغا على انفتاحه الفكري، حيث تخرّج من قسم الفلسفة ببحث حول الإرهاب: قراءة فلسفية، وذلك كان في سنة 2000، لينتقل في السنة نفسها إلى جامعة الجزائر العاصمة ليكمل دراساته العليا، وخلالها تعرف على أجواء وأسماء جديدة على غرار د.عمر مهيبل، ود. عمار طالبي، ود. الربيع ميمون رحمه الله، ود. بوقاف عبد الرحمان، وغيرهم من الأساتذة الكبار؛ ونال منها شهادة الماجستير برسالة تحت عنوان: "الديالكتيك وفكرة نهاية التاريخ عند هيجل"، التي تعتبر أولى المحطات التي بدأ يتعرف فيها على فلسفة هيجل، ليكمل دراسته في طور الدكتوراه عن فلسفة هيجل ببحث معمق بعنوان: "فينومينولوجيا المعرفة المطلقة: دراسة في فلسفة الظاهر الهيجلية". له عدة كتابات أهمها: تاريخ الوعي "مقاربات فلسفية حول جدلية ارتقاء الوعي بالواقع" سنة 2009، و كتاب: تأملات فلسفية في رسم بعض إشكالات العصر "العنف-التسامح-المعرفة" سنة 2013، وكتاب: فينومينولوجيا المعرفة سنة 2013، إضافة إلى ثلاثة كتب جماعية صدرت في القاهرة ما بين سنة 2012 و2013 مع باحثين مصريين، وكتاب جماعي أصدره المعهد العالمي للفكر الإسلامي سنة 2012، والعديد من المقالات المنشورة في المجلات الدولية والمحلية، والمشاركة في مؤتمرات علمية دولية في كل من: كوالا لمبورغ ولندن والقاهرة وتونس...إلخ، وهو حاليا رئيس مجلة لوغوس الفلسفية، وعضو بالجمعية المتوسطية التونسية للدراسات الاجتماعية.

ذ. علوش: ناقشتم مؤخرا أطروحة جامعية تحمل عنوان "فينومينولوجيا المعرفة المطلقة، دراسة في فلسفة الظاهرة الهيغلية". فما هي الإشكالية التي تعالجونها؟ وما هي الخلاصات التي توصلتم إليها؟

د. بخضرة: في الحقيقة، تعود بداية اهتمامي بهذه الإشكالية، إلى الفترة التي كنت أحضّر فيها لنيل شهادة الماجستير بدراسة كانت حول الديالكتيك وفكرة نهاية التاريخ عند هيجل، التي أردت بها معرفة القدرة التي بها استطاع هيجل أن يجمع بين الديالكتيك كصيرورة أبدية، تتغلغل في جميع الموجودات ولحظة نهاية التاريخ واكتماله. وبتعبير بسيط في شكل تساؤل: ما هو مصير الديالكتيك بعد نهاية التاريخ؟ وأثناء اشتغالي عن هذا الموضوع، اضطررت لإعادة قراءة فلسفته التاريخية والدينية والجمالية، وحينها كنت أصطدم مرارا وتكرارا بكتابه العمدة فينومينولوجيا الروح، الذي يعد أحد أفضل ما كتب البشر. هو كتاب معقد بشهادة كبار الفلاسفة، لا يمكن أن تصمد أمامه للحظات طويلة، وهو السبب الذي جعلني لا أعتمد عليه في إنجاز هذه الرسالة، ولكن فيما بعد شعرت أن بحثي هذا كان ناقصا بسبب عدم اعتمادي على هذا النص، مما ولدّ في نفسي تحديا معرفيا يجب التخلص منه، وهو ما قمت به في أطروحة الدكتوراه التي كانت حول فينومينولوجيا الروح، وخلالها اكتشفت عظمة هذا الكتاب بعد جهد جهيد.

وإشكالية هذه الأطروحة لا تتوقف عند كتاب "فينومينولوجيا الروح" فحسب، وإنما هي متجذرة في فلسفة كانط حول مدى علمية الميتافيزيقا، بدافع من السؤال التالي: لماذا كتب هيجل أصلا "فينومينولوجيا الروح" بهذه القوة والغموض؟ تبيّن أنه كتبه لإزاحة كتاب كانط الخالد "نقد العقل الخالص" الذي اعتبره فلاسفة عصره إنجيل الفلسفة، وكأنما الأمر لم يعد يدور حول قضايا فلسفية عادية، بقدر ما أصبحت الفلسفة معهما تعمل على إعادة بناء الفهم البشري من جديد، وهي المهمة التي دفعت بهيجل في كثير من الفقرات إلى تشبيه ما يحدث في عصره بما حدث في بلاد اليونان في عصرها الذهبي، مع سقراط وأفلاطون وأرسطو.

وتعود خيوط هذه الإشكالية إلى مدى أهمية اكتشافات كانط حول قوانين العقل الخالص، التي جعلت كل الفلاسفة الكانطيين يرضخون لها، رغم بعض الاختلافات الجزئية التي لم تؤثر على فلسفة كانط في شيء، الأمر الذي دفع بنا إلى قراءة نقد العقل الخالص لتحديد أصول هذه الإشكالية، الذي هو الآخر أحالنا إلى "مقالة في الفهم البشري" لدافيد هيوم، وبالضبط في فصل تفكيك مبدأ العليّة، وفيه وصلنا إلى أصل إشكال علمية الميتافيزيقا، عندما نفى إمكانية معرفة ماهية الأشياء، وبالتالي الوجود هو في حد ذاته ذو أصول ميتافيزيقية، ما نعرف منه هو كل ما يقع تحت الحس فقط، وهي النقطة التي أثارت كانط وأحسن استغلالها في نقد العقل الخالص، والتي بها أعلن كانط أن العقل البشري لا يستطيع أن يعرف إلا ما يقع تحت التجربة، أما عدا ذلك فيبقى ضمن الديالكتيكية والمحاججة، وبتعبير آخر أن المعرفة العلمية تبدأ من ظاهر العالم وتنتهي عند حدود الميتافيزيقا.

إلى غاية هذه النقطة، كانت هذه الأفكار معروفة في تاريخ الفلسفة الحديثة، والتي بقيت حاضرة في نقاشات الفلسفة المعاصرة، إلا أن الأهم فيها هو كيف تعامل معها هيجل؟ وهذا ما حاولنا الإجابة عنه في أطروحتنا، عندما أكدنا أن "فينومينولوجيا الروح" تنتمي إلى ذلك السجال الذي ظل مفتوحا منذ ظهور الفلسفة الحديثة، خاصة مع ديكارت، إلى أن جاء هيجل وأغلقه بصورة ما، عندما أكد أن العقل البشري يستطيع معرفة مواضيع الميتافيزيقا، والميتافيزيقا هي الفلسفة عينها، وأن العقل أصلا لا يستطيع أن يشتغل من دون ميتافيزيقا، عندما بدأ في مشروعه الفلسفي الشامل من حيث انتهى كانط؛ أي بدأ من الميتافيزيقا (علم المنطق الخالص)، وانتهى إلى ظاهر العالم (التجربة)، وفق جدلية مستمرة؛ وعلى أن العقل هو الملكة الوحيدة التي تستطيع أن تجمع بين العالمين، عالم النومان وعالم الفينومان، وعليه جاء كتاب "فينومينولوجيا الروح" ليؤرخ لأصل الفكرة، وكقصة طريفة للوعي البشري.

هناك اهتمام كبير بفلسفة هيغل، خاصة من طرف المدرسة النقدية الألمانية (مدرسة فرانكفورت)، فما هي الدواعي وأسباب الاهتمام بهيغل؟

هو سؤال جميل ومغرٍ، كلنا يتذكر هنا ما قاله ميشال فوكو في كتابه "حفريات المعرفة": أن كلا من ماركس وفرويد ونيتشه جاءوا ليخلصونا من قبضة هيجل، وهو محق في ذلك. في هذه المسألة لا يمكن أن نتصور الفلسفة الحديثة من دون هيجل، وهذا الحكم يمكن أن نمدده حتى على الفلسفة المعاصرة.

أهمية هيجل في تاريخ الفلسفة، تظهر في كونه أنتج معنى جديد للفلسفة وبلغة جديدة، وكأنما الرجل أوجد فلسفة فوق فلسفة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، استطاع وبطريقة خاصة أن ينقل مواضيع الفلسفة الكلاسيكية من حالة رثة وبسيطة إلى الحقبة المعاصرة، في صورة حداثية ومختلفة تماما. فعندما نقرأ مثلا عنده إشكالية الرغبة نشعر وكأنه يعيش بيننا اليوم، مقارنة بالطريقة التي تم تناولها بها في الماضي، فهي روح ألهمت الفلاسفة المعاصرين إلى ضرورة التريث عند أبسط الأمور. والأدهى من هذا وذاك كله، هو أن الفلسفة الهيجلية امتازت بالشمولية ولامست تقريبا كل مجالات الحياة، إن لم نقل الحياة نفسها. وبهذه الشساعة، تحولت الهيجلية إلى حقل فكري ترعى فيه جميع التيارات، سواء التي اتفقت معها أم لم تتفق، وهنا نتذكره حينما قال: أن الفلسفات التي سبقتني لم تفعل شيئا، سوى أنها مهدت لي، والتي ستأتي بعدي ستبقى في حضيرتي، وتوقعاته كانت صحيحة، عندما نجد بقايا الهيجلية متبعثرة في الفلسفة المعاصرة، حتى في الفلسفة الأمريكية. والجدير بالملاحظة، عندما نقرأ سير الفلاسفة المعاصرين الكبار نجدهم يبدأون من الهيجلية ثم سرعان ما يتحررون منه، وكأنها توفر لهم الطاقة النفاذة على اختراق عوالم الفلسفة المتعددة.

إذا كان تأثير الفلسفة الهيجلية، قد شمل الفلسفة العالمية كلها، فما بالك على الفلسفة الألمانية بما فيها مدرسة فرانكفورت، التي تعد امتدادا للإرث الهيجلي، وروادها معجبون بالدور الريادي الذي قام به على مستويين مهمين:

المستوى الأول: هو تأسيسه للحداثة، عندما ناقش هذه الحالة بكل وضوح في كتابه "فينومينولوجيا الروح" تحت عنوان: عصور الأزمنة الحديثة، التي توقف فيها عند ديكارت، واعتبره مؤسسا لها حينما أعلى من شأن الذات، في عصر كان الله فيه هو مركز الكون، وهذه العملية توقف عندها هيجل بإجلال كبير.

المستوى الثاني: هو انتقاده للأنوار، وهو عمل رائع قام به هيجل، في الوقت الذي هلّل فيه المعجبون بحركة الأنوار كونها تناصر العقل، انتقدها هيجل بشدة، وهذا العمل لا يقوم به إلا الفلاسفة الكبار، وكأنما هيجل بنقده للأنوار أراد أن يصححها ويقويها، وانتقدها عندما أقصت الدين كلية من حركة التنوير، وهذا يعد إقصاء لحقيقة بشرية أساسية لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، وهي الأفكار التي أعجب بها فيما بعد هابرماس في القول الفلسفي للحداثة.

وماذا عسانا أن نستفيد من فلسفة هيجل في واقعنا العربي؟

بقدر ما أثر هيجل على الفلسفة الغربية، أيضا أثر على بعض المفكرين العرب المعاصرين، ولكن ليس بنفس الدرجة والحدة، وهذا خلل حضاري لازال يثير الاستفهام والاستغراب. فقد كتب بعضهم عن فلسفته في إطار إعادة إحياء أفكاره وتقديمها للقارئ العربي بلغته، على غرار ما فعل المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، وزكريا إبراهيم زكريا، وعبد الرحمان بدوي، ومحمد الشيخ، وعبد المنصف ديدي، وعبد الرحمان بوقاف عندنا في الجزائر، إلا أن القارئ دوما يبحث عن الفاعلية وهذا من حقه، خاصة وأنه يتساءل على ضوء المكاسب التي حققها فلاسفة الغرب من خلال استثمارهم في الهيجلية.

في هذه النقطة بالضبط، أرى أن الهيجلية فلسفة مناسبة جدا لفهم واقعنا العربي وإشكاليات معيشتنا، كيف يتم هذا؟ يتم هذا عندما حلل هيجل مقومات فعل المعرفة في بعده البشري، ولم يحصر الأمر على جنس ما، مثلما نقرأه في بعض الكتابات المستعجلة؛ فرأى أن التكوين المعرفي يمر بمراحل ثلاث، ولكل مرحلة خصائصها ومقوماتها، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة يتطلب الإرادة والإصرار والرغبة، وجعل هذه الأشياء الفردية فينا ظاهرة اجتماعية؛ وهذه المراحل هي: المرحلة الحسية الأنثروبولوجية والحسية المدركة والعقلانية، ولك أن تصنف العرب في أي مرحلة هم الآن، وهذا ما حاولت أن أقوم به في كتابي "تاريخ الوعي". وباختصار يمكن أن نستفيد من الهيجلية بما أنها أكثر الفلسفات إجرائية، وقابلة للفعل والتطبيق، حتى لا تكون الفلسفة لغوا كما قال يوما ما.

ذ. علوش: تهتمون كثيرا بقضايا التسامح والعنف، فهل الأرضية الفلسفية لهذه المفاهيم متجذرة في فكرنا العربي الإسلامي؟

د. بخضرة: هذا صحيح، اهتمامنا بقضايا العنف والتسامح كانت قبل اهتمامنا بالهيجلية أصلا، وهو يعود إلى سنين العشرية السوداء التي ضربت الجزائر وتزامنت مع دراستي في جامعة وهران في منتصف التسعينيات، أتذكر جيدا أننا كنا نشعر بالخوف الشديد، خاصة في القرى والحواضر الصغيرة كالتي كنت أعيش فيها، وعشت فيها تجربة اللاتسامح والعنف بالمجان. كنا نتساءل عن الأسباب دون أن نحصل عن الإجابات، فما كان يتداول على ألسنة الناس حولها آنذاك هي مجرد مبررات هاوية، لا علاقة لها بالحقيقة. في بعض الأحيان أجد مبررا واحدا لما حدث، وهو أننا بحكم الطبيعة أردنا ذلك، وحالة العنف هي دليل قاطع أن مجتمعنا لا زال راشدا مثله مثل المراهق، وبالتالي صنفت ما يحدث ضمن الحراك الاجتماعي الذي لا بد منه، وهذا لا يمنعنا عن التفكير في التسامح لعلنا نكفر عما حدث.

أثناء انتقالي من مدينتي الجبلية في وسط تلال الجزائر إلى جامعة وهران في أقصى الغرب، كنا نرى أشياء لا علاقة لها بالإنسانية، هي حالة أشبه بالجنون الاجتماعي تثير القلق والاستفسار، وبدأت أتيقن أن الإنسان كائن مرعب وفتاك، حينها تساءلت: كيف لهذه الكائنات أن تعيش في روابط اجتماعية منظمة، وهذا هو الذي قادني إلى دراسة التسامح على أنه حالة مذهلة. وحتى أفهم العنف جيدا، أنجزت مذكرة تخرجي لنيل شهادة الليسانس حول العنف والإرهاب في الجزائر- دراسة فلسفية - وكانت مهمة بالنسبة لي.

ولمعرفة هذه المواضيع لجأت إلى النصوص الفلسفية التي تناولتها بإسهاب، من الفترة اليونانية إلى الحقبة المعاصرة، وقد أبدى فيها الفلاسفة أفكارا جليلة، لابد من الوقوف عندها لفهم ما يحدث في الشارع العربي اليوم.

ذ. علوش: بدأت الإنتاجات الفلسفية في الجزائر تزدهر، لماذا تأخرت الكتابات الفلسفية في الجزائر مقارنة بالمغرب وتونس؟

د. بخضرة: صحيح، الكتابة الفلسفية في الجزائر ظهرت متأخرة مقارنة بما حدث في المغرب وفي تونس، بالرغم من أن أقسام الفلسفة في جامعاتنا ظهرت في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وكان بها أساتذة أكفاء يصعب ذكرهم في هذا الحوار، وهذا يعود إلى عدة عوامل، وأهمها عامل الاستقرار الاجتماعي، حال دون التفرغ للتفكير والكتابة الفلسفية، وهذا تقريبا ساد خلال النصف الثاني من القرن الماضي، ونظرا إلى انغلاق المجتمع الجزائري عما ينتج في هذا الحقل في العالم من إنتاجات فلسفية، إلى غاية مجيء مرحلة الانفتاح مع بداية القرن الحالي، التي خلالها انفتح مفكرونا على الفلسفات العالمية التي بدأت تثمر كتابات متنوعة ومهمة، باستثناء الذين هاجروا إلى أوروبا وفرضوا أنفسهم بكتاباتهم المتميزة على غرار كتابات محمد أركون.

والملاحظ أن فترة الانغلاق عرفت تطور الكتابة الأدبية والروائية، وسرُّ ذلك حسب ما أعتقد إلى التفاتة النص الروائي إلى الأحوال الاجتماعية الجزائرية التي كانت بمثابة فلكلور، أحدث تماهيا كبيرا بين الرواية والحدث الاجتماعي، وهذا ما لم يفعله فلاسفتنا آنذاك للأسف.

أما الآن، فقد بدأت الكتابة الفلسفية في الجزائر تنتعش وتنتج نصوصًا كثيرة، في مختلف التخصصات، وهذا لا يعني أنها وصلت إلى القمة، بل لازالت في مرحلة النضج والاختمار، وأنا على يقين أنها ستكون أفضل في السنوات القريبة. أنا أعرف الكثير من الزملاء والأصدقاء في القطر الجزائري، يملكون ناصية فلسفية لا بأس بها، وهم يتفاعلون مع قضايا اليومي وما يحدث في العالم، وهذا يبعث على التفاؤل.

ذ. علوش: مبروك تأسيسكم للجمعية الجزائرية للدراسات الفسلفية، فما هو سياق التأسيس؟ وما هي برامج العمل؟ وماذا أضافت لكم مجلة لوغوس؟ وما هي العوائق الذاتية والموضوعية التي تعترض مسيرة مجلتكم الغراء؟

د. بخضرة: هذا لطف منك شكرا. نعم، تم تأسيس الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية في يونيو 2012، بفضل مجهودات بعض المفكرين الجزائريين، وعلى رأسهم الدكتور عمر بوساحة. وتأسيسها تزامن ولحسن الحظ مع الصحوة الفلسفية التي تعرفها الجزائر في الفترة الأخيرة، ونحن نعتبرها تتويجا للحراك الفلسفي الكبير الذي عرفته الجزائر مؤخرا؛ وكما هو معروف أن ممارسة العمل الفلسفي في إطار جمعوي أمر مهم، وسيضيف لبنة جديدة للنشاط الفلسفي في بلادنا، وهذا هو السبب الرئيس حسب ما أظن الذي كان وراء ظهورها؛ والجميل فيها، أنها بإمكانياتها البسيطة استطاعت أن تشمل بفروعها كل مناطق البلاد، وأن تنظم صفوف المهتمين بالتفكير الفلسفي، وهي تجربة ناجحة بدأت تثمر بعض النتائج التي كانت ضمن أهدافها، فقد سمعت مؤخرا أنها نشطت الكثير من اللقاءات الفكرية في ليالي شهر رمضان في الجزائر العاصمة، وهذا العمل سيحفز الكثيرين على ضرورة نشر الوعي الفلسفي دون شك.

خاصة ونحن نعرف، أن الفلسفة لا تزدهر فحسب في قاعات الجامعات ومراكز التكوين، بل حان الوقت لها لأن تشارك العامة قضاياهم ومشاكلهم، وأن تلتفت إلى الحياة البسيطة، وأن تسهم في صناعة اليومي إلى أن يتعوّد عليها الناس؛ أثناءها يمكننا القول إن الوعي الفلسفي سيحل محل الوعي الساذج، الذي نحن نتواصل به ونعيش انعكاساته، وعندما يحصل هذا، ستكون الفلسفة هي المكون الرئيس لثقافتنا الاجتماعية، وهذا هو حلمي كما هو حلم الكثير من المفكرين الجزائيين.

أما ما يتعلق بمجلة لوغوس الفلسفية، وهي مجلة حرة ومستقلة لا تنتمي إلى أية مؤسسة، والتي نعتبرها مساهمة صادقة من زملائي الأساتذة، الذين أصروا على تأسيسها، والذين ينتمون إلى قسم الفلسفة بجامعة تلمسان. وفكرة تأسيس مجلة "لوغوس" ولدت في الشارع على إحدى طاولات المقاهي الشعبية، وتم رفع هذا التحدي، وصدر عددها الأول الذي شكّل بحد ذاته حدثا فلسفيا باركته عدة أطراف وثمنته، ثم صدر العدد الثاني احتفاءً بالفيلسوف الجزائري الكبير محمد أركون بعد سنة من رحيله، وكان عددا ناجحا بكل المقاييس، ونحن في هذه الأيام ننتظر العدد الثالث الذي كان حول "الفينومينولوجيا والهيرومينوطيقا" وسينزل إلى الأسواق قريبا، ونجاحها لا يخفي بعض العراقيل التي تواجهها، خاصة ما تعلق بالتمويل وغيرها من المشاكل، وبالفعل أصبحت "لوغوس" فضاءً فلسفيا للحوار والنقاش والتخاطب، وقد ألهمت الكثير من الشباب على الكتابة الفلسفية وشجعتهم على ذلك، وهناك أفق لتطويرها لتصير مجلة مغاربية، وهذا ما يعمل عليه طاقمها الإداري.

ذ. علوش: هناك الكثير من مراكز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، في المقابل لا نجد مراكز مختصة في الفلسفة. إلى ماذا تعزو في نظرك هذا الغياب؟

د. بخضرة: الفلسفة في مجتمعاتنا تعرضت للإقصاء والتهميش على جميع الأصعدة، وهو السبب الذي جعلها تبقى متأخرة مقارنة بالعلوم الأخرى، ومواقف مجتمعاتنا من الفلسفة تعود لأسباب تاريخية معروفة منذ نكبة ابن رشد إلى يومنا هذا، وينظر إليها على أنها المارد الذي يخيف الجميع، وللأسف هذا الموقف أصبح موقفا اجتماعيا تجاه الفلسفة، وتجاهلها في جامعاتنا إلا تحصيل حاصل عن وضعيتها الاجتماعية، حيث إنها لم تكن تثق في عملية التفلسف، وعندما نحلل طبيعة هذا الإقصاء نجده مقصودًا، أقصتها الإيديولوجية السائدة الدينية، بما أن الفلسفة تملك القدرة على التثوير.

هناك الكثير من المراكز المتخصصة باستثناء الفلسفة، وهذا خلل كبير يجب تداركه في أقرب الآجال، ونظن أن جامعتنا بدأت تحاول أن تسد هذه الثغرات، وهناك مخطط لتأسيس مراكز خاصة بالفلسفة في الآجال القريبة.