حوار مع الباحثة إيفيت صموئيل: المرأة والثّورة بعيونٍ مصريّة كاثوليكية


فئة :  حوارات

حوار مع الباحثة إيفيت صموئيل: المرأة والثّورة بعيونٍ مصريّة كاثوليكية

حوار مع الباحثة إيفيت صموئيل:

المرأة والثّورة بعيونٍ مصريّة كاثوليكية


يوسف هريمة: في لقاء تواصلي مع قرّاء موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود. وباعتبارك من الباحثات في قضايا المرأة. كيف تقدمين نفسك لقراء الموقع؟. وما هو موقع المرأة المسيحية بالنسبة إليك في خريطة الفكر العربي؟

إيفيت صموئيل: إسمي إيفيت صموئيل إبراهيم من جمهورية مصر العربية، حاصلة على بكالوريوس الهندسة 1978 ودبلوم عام التربية وعلم النفس 1981. عملي الوظيفي / مدير عام بشركة المنيا لمياه الشرب. عضو مجلس إدارة ببعض منظمات المجتمع المدني. استشاري التدريب والتنمية. بالنسبة إلى عملي البحثي. فأهمّ محطّاته هي:

  •  نماذج لبعض الأوراق البحثية:

1995: المرأة والجنس في صعيد مصر، والحاصل على شهادة من معهد التطوير الاقتصادي والاجتماعي – جامعة باريس في 17/7/1995. I.E.D.E.S

INSTITUT D’ETUDE DU DEVELOPPMENT ECONOMIQUE ET SOCIAL L’UNIVERSITE DE PARIS I

1997: وضعيّة المرأة في رسائل بولس الرسول. دراسة مقارنة بين توجهات السيد المسيح وبولس الرسول من المرأة، الاختلافات، الأسباب، كيفية إعادة القراءة.... مركز الدراسات التابع لجمعية الجيزويت والفرير بالمنيا / مصر.

2005: "المواطنة: تجربة ذاتية عبر رحلة العمر"، اللقاء السنوي للمنتدى الثقافي بمركز الجيزويت بالإسكندرية والصادر في كتاب مكتبة الأسرة / سلسلة العلوم الاجتماعية 2007 ص 320 -334.

2006: "رؤية نقدية لقضايا المرأة في صعيد مصر"، مؤسسة كونراد أديناور القاهرة، في ورشة بذات العنوان في المدة 8،9 /3/2006.

2006: "آليات الحماية القانونية للمرأة في صعيد مصر"، ورقة تعقيب على ورقتي عمل، مؤسسة كونراد أديناور القاهرة / محافظة الفيوم في الفترة 26،27/4/2006

2010: "العنف النوعى والأسرى" المركز الثقافي بالإسكندرية ضمن مؤتمر "تنامي ظاهرة العنف، الجذور، الأسباب، الظواهر" يوليو 2010.

  •  نماذج من المشاركة فى المؤتمرات وورش العمل:

1995: المرأة والطفل بين الواقع والمأمول – محورىّ التعليم والعمل. أميدست القاهرة بالشراكة مع جمعية الصعيد للتربية والتنمية.

1996: رفع وعي المرأة بحقوقها السياسية والقانونية – أميدست القاهرة وشمال أفريقيا والمنعقد فى صنعاء / اليمن فى أغسطس 1996، مُمثِّلة لقطاع العمل الأهلى فى مصر.

1997: ورشة عمل لإعداد دليل تدريبى لمشاركة المرأة السياسية – أميدست القاهرة وأمريكا وشمال أفريقيا والمنعقدة بالأردن فى الفترة من 6-11 سبتمبر 1997، مُمثِّلة لجمهورية مصر العربية.

2000: صحة البيئة / التغيرات المناخية – المجلس القومي للأمومة والطفولة بالقاهرة حول عمالة الأطفال.

2003: مؤتمر التعليم الأول مع طلاب المرحلة الثانوية، نظرة تقدميّة للنظام التعليمى في مصر، أمانة المدارس الخاصة الكاثوليكية / القاهرة.

2003: العنف ضد المرأة، أبعاده وعواقبه – رابطة المرأة العربية بالقاهرة.

2003 – 2008: المؤتمر السنوي للمجلس القومي للمرأة في يوم المرأة المصرية 16 مارس.

2007: المشاركة المجتمعية كسبيل لمواجهة الإرهاب – رابطة المرأة العربية بالقاهرة.

2010: الإصلاح العربي – مكتبة الإسكندرية.

2011: مصر تتغيّر – مكتبة الإسكندرية.

  •  نماذج لبعض الأعمال التطوعية:

1994 – 2000: مسؤول النشاط الكشفي للفتيات "ابتدائي / إعدادي / ثانوي / جامعة" التابع لجمعية الجيزويت.

1999 – 2007: مسؤول مكتب مصر للمرشدات الكشفيات التابع للكنيسة الكاثوليكية وعضو المكتب الإقليمي.

2006: عضو مجلس إدارة جمعية رابطة المرأة العربية بالمنيا.

2006: استشاري مركز قانا الجليل لتكوين المقبلين على الزواج، التابع للكنيسة الكاثوليكية بالمنيا.

2007 – 2010: عضو مجلس أمناء مؤسسة نهضة مصر للتنمية / المنيا.

2007: مسؤول الصالون الثقافي التابع لجمعية الشبان المسيحية بالمنيا YMCA .

2008: عضو مجلس أمناء مركز حابى للحقوق البيئية / القاهرة.

2013: عضو مجلس إدارة جمعية الجيزويت والفرير بالمنيا.

2014: مسؤول صالون المنيا الثقافي.

أما عن موقع المرأة المسيحية في خريطة الفكر العربي، فلا أظنه يختلف عن موقع نظيرتها المسلمة، ما زالت مجتمعاتنا ذكورية باقتدار.. والصورة الذهنية للمرأة في ثقافتنا الشرقية تختزل المرأة في "الجنس"، ومن ثمّ تراها سبباً للفتنة والإغواء.. مشورتها غير جائزة.. عاطفية ومتقلّبة، غير جديرة بالمسؤولية، شهادتها وكرامتها ومواطنتها، بل وإنسانيتها منقوصة / مجروحة.. إلا من رحِم ربي. وبالرغم من أنّ نماذج كثيرة، نجحن في الوثوق بأنفسهن، وإثبات جدارتهن، وبلغن مواقع مُشرِّفة.. إلا أنّ الوضع في المجمل.. مازال يحتاج إلى مراجعة وتصويب.

يوسف هريمة: بما أنّك تنتمين إلى كنيسة كاثوليكية تاريخية، لها امتداداتها في العالم بأسره. كيف تقوّمين دور هذه الكنيسة في بلورة حقوق المرأة؟. هل حرمانها مثلاً كما يقول البعض من الكهنوت وحده كفيل بأن يجعل الكنيسة تخضع لنظام أبوي صارم ممتد من يوم التحول الجذري من المجتمعات الأمومية إلى الأبوية؟

إيفيت صموئيل: تنطلق الكنيسة بشكل رئيسي من نصوص الكتاب المقدس بعهديه، القديم "التوراة"، والجديد. من ثمّ أوّد أن أمرّ سريعاً على وضعية المرأة في المجتمع اليهودي، وما طرأ عليها في تعاليم السيد المسيح، قولاً وممارسة.

أولاً: وضعية المرأة في المجتمع اليهودي:

بديهي أن تتلاقح الثقافات، فيؤثر بعضها في بعض، لذا، بعض القراءات لقصة الخلق في سفر التكوين، أتت غير مُنصِفة، حمّلت المرأة وحدها وِزر الإغواء - العصيان والسقوط وما ترتّب عليهما من الطرد من الجنة. لذا دأب اليهود على احتقار المرأة، واعتبارها دون الرجل كرامةً ومقاماً (تثنية 21، 22). بل، عدّوها من ممتلكات الرجل وفقاً للوصيّة: "لا تشته امرأة قريبك ولا خادمه ولا ثوره ولا حماره ولا شيئاً مما لقريبك" خروج 20/17

- الميراث: لم يكن للفتاة أن ترث أباها، إلا إذا لم يكن له ابن يرثه (عدد 27: 1-11)، كذلك لم يكن من حق الزوجة أن ترِث زوجها.

- انتقاص الأنثى منذ الولادة: إذا وضعت المرأة طفلاً ذكراً، اُعتُبِرت نجِسة لمدة 40 يوماً، بينما إذا ولدت طفلة أنثى، عُدّت نجِسة لمدة 80 يوماً. (لاويين 12: 1-6).

كما أنّ المرأة على الصعيد الديني مُنتقصة الكرامة والحقوق:

- كان على اليهودي أن يتوجه نحو أورشليم، نحو الهيكل، مُصلياً كل صباح قبل القيام بأي عمل وكذا مساءً، فيما استثني من هذا النساء والعبيد.

- فى الأعياد يتوجّب على الرجال الذهاب لبيت الله.. أما النساء فلا. (تثنية 16: 16).

- الصلاة اليومية لليهودي: "مبارك أنت يا رب لأنك لم تخلقني بين الأمم، ولا امرأة ولا جاهلاً"، بينما تُصلّى المرأة في خضوعٍ واستسلام: "مبارك أنت يا رب لأنك خلقتني حسب مشيئتك".

 ايما غريب خوري: المرأة بين حواء ومريم، مقال مذكور، ص 198 /

- الحق في طلب الطلاق: كان يحِقّ للرجل أن يُطلِّق زوجته لأية عِلّة.. لم تعد تروق له، أساءت الطهي، غليظة الردّ... أما الزوجة، ففي حالات نادرة يحقّ لها طلب الطلاق، كأن يكون الزوج مُصاباً بداء البرَص، أو أن يمتهن مِهنة مُنفِّرة كالدباغة مثلاً.

ثانياً: المرأة وتعاليم السيد المسيح:

على الرغم من أنّ مجتمع المسيح ليس إلا مُجتمعاً يهودياً، تسود فيه وضعية المرأة بالشكل السالف ذكره.. إلا أنّنا سنجد تعاليم المسيح وسلوكه، يُكرِّس لنظرة جديدة ومختلِفة لها، نظرة تُطبِّب لها إنسانيتها المجروحة وترّد لها كرامتها المُفتقدَة.

- تجاوز السيد المسيح التهميش المفروض على المرأة، وسمح لها بالانضمام إلى تجواله التبشيري. (لوقا 8: 1-3)، (مرقس 15: 40، 41، 47).

- كان من المثير للانتقاد، أن يُحادث رجل.. امرأة، لكن حينما أدرك المسيح حاجة بعض الحالات، كسر السائد من التقاليد، حديثه مع السامرية (يوحنا 4: 27)، قبوله ببساطة، الإكرام العلني الذي قدمته امرأة بنظر المجتمع "مومس بلغة اليوم"، بل ودافع عنها بقوله: أحبّت كثيراً، فغُفِرَ لها كثيراً (لوقا 7: 36-50). لم يوبِّخ نازِفة الدماء على لمسِها إياه طالبةً للشفاء، وهي النجِسة بنظر المجتمع وثقافته، بل تحدث إليها أمام الجميع: يا ابنتى، إيمانك أبراك، فاذهبي بسلام، وتعافي من عِلّتِك. (مرقس 5: 34).

اتخذّ المسيح من المرأة مادة لتعليمه:

- لتقريب مشهد نمو الملكوت، ضرب مثل الخميرة في العجين (متى 13: 23)

- للتعبير عن شوق الله لعودة الخاطئ وتوبته، ضرب مثل الدرهم المفقود (لوقا 15: 8،9)

- شبّه فرح القيامة بأوضاع المرأة التي تعبُر من ألم المخاض إلى فرح الولادة (يوحنا 16: 21،22)

- صوّر الاستعداد لمجيء ملكوت الله في نهاية الأيام، بالعروس المنتظِرة لعريسها (متى 25: 1-13)

- أبدى المسيح إعجابه بإيمان بعض النسوة.

- خاطب المرأة الكنعانية الواثقة بإيمانها: "ما أعظم إيمانك يا امرأة" (متى 25: 28)

- مجّد علناً عطاء الأرملة الفقيرة بقوله: "الحق أقول لكم: إنّ هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة، لأنّهم كلهم من فائضهم ألقوا، أما هي، فمن حاجتها وعوزها ألقت كل ما تملك (مرقس 12: 43،44)

- تحدى قسوة مجتمعه على المرأة.

- شهد المرأة التي أمسِكت في الزنى (يوحنا 8: 4،5)، فكشف عن سوءة مجتمع انتقائي، فالشريعة نصّت على أن يُرجَم الفاعلان لا المرأة فقط، فقال قولته المشهورة، من منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

- موقف المسيح من قضيّة تشييء المرأة.

- الطلاق: سأله الفريسيون إن كان يحلّ للرجل أن يُطلّق امرأته لأي عِلّة كما صرّح لهم موسى.. فقال:

"أما قرأتم أنّ الخالق منذ البدء جعلهما ذكراً وأنثى، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، فيصير الاثنان جسداً واحداً، فالذي جمّعه الله لا يفرِّقه الإنسان.". محولاً النظر للمرأة من شيء مملوك للرجل يتركه إن زهده أو بلى.. إلى شخص كامل الأهلية ومكمِّل لإنسانية الآخر (الرجل) بحسب ما كان في ذهن الله عندما خلق حواء.

- النظرة المشتهية: "قيل لكم "لا تزن"، أما أنا فأقول لكم: من نظر لامرأة ليشتهيها، فقد زنى بها فى قلبه (متى 19: 3)". هنا يحدد المسيح أنّ النظرة المنحرفة التي لا تختزل المرأة في جسدٍ يُشتهى، تُشيّئها وتجرح إنسانيتها المماثلة لإنسانية الرجل... وفي ذات الوقت تختزل الرجل فى "مستهلِك" لا "شريك".. وتجعل من الموقف، لحظة عابرة، لا جزءاً من حياة وخبرة ممتدتين.

ثالثاً: الكنيسة الكاثوليكية، الرؤية والتطبيق:

  •   الجانب التعليمي:

- تتمتع الكنيسة الكاثوليكية بسمتين، الأولى خضوعها لرئاسة الفاتيكان، وهذا فتح لها الباب لمزيد من انفتاح الأفق وقبول الآخر المختلف ومداومة التعليم والتعلّم.. الثانية، إنّ عددًا من الرهبانيات الكاثوليكية في مصر، ولكون بعضها يُمثِّل أفرُعاً للرهبنة الأم في الغرب.. أحدثت نوعًا من التلاقح الثقافي التطبيقي، بما تملكه من حداثة ومغايرة في التكوين ورحابة أكثر في انطلاق الفكر.

- توافر نُسَخ الكتاب المقدس "الطباعة الكاثوليكية"، المُذيّلة بالشروحات لطبيعة المجتمع ذي الصِلة بالنص، جغرافيته، عاداته وتقاليده، ثقافته بشكل أعمّ... ساعد بشكل كبير في اكتشاف الوجه الثقافي للنص وتمييزه عن الوجه الإلهي / الموحى به، ساعد هذا بوجه خاص في رؤية النصوص المتعلقة بالمرأة في حجمها وتجاوز أسر النصّ إلى المضمون والمغزى.

- من وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني التي نُشِرت في 7/12/1965، وفي باب "الدستور الرعوي للكنيسة في العالم المعاصر"، ناقش بشكل جوهري إشكالية الحب والجنس بين الرجل والمرأة / الزوج والزوجة، وخلُصَ إلى أنّ الجنس غايته الجوهرية "التعبير عن الحب"، عطاءً وقبولاً، الجنس بالحب فقط يُصبح بشرياً / إنسانياً حقاً.. وباعتقادي هذا يُرسي حضارة الأشخاص لا الأشياء، يرفُض التشييء ويكرِّس من جديد لكرامة المرأة إنسانًا مساويًا في القيمة والمكانة والكرامة للرجل.

- اعتمدت الكنيسة منذ أكثر من 20 عاماً، برنامجاً للتكوين الإنساني والروحاني بآن واحد، للمقبلين على الزواج.. ويُعّد اجتيازه شرطاً أساسياً لإتمام طقوس الزواج. عُنيَت فيه بتصويب المفاهيم المُنتقِصة لكرامة المرأة وتوضيح مبدأ تكامل الجنسين المبني على الإقرار بكل من "الفردية" و"الغيرية" واحترام المساحات الخاصة والتركيز على التكامل لا المنافسة والصراع.

- أصدر البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1978 وبمناسبة السنة المريمية، رسالة عنوانها "في كرامة المرأة ودعوتها"...، تناول فيها شرح النصوص الخاصة بقصّة الخلق التي تذرّع الكثيرون بتحميل أعبائها المأساوية للمرأة فقط... أشار إلى ردّ اعتبار المرأة المتجسِّد في ولادة المسيح من العذراء مريم، تحقيقاً للوعد الإلهي لـ "حواء"، نسلك يسحق رأس الحيّة. قدّم العديد من الأمثلة الإنجيلية الدالة على نظرة المسيح الحانية والإيجابية للمرأة... أشار إلى بقاء النساء للحظة الأخيرة بجوار الصليب وبسبق مريم للقبر صبيحة الأحد لتكون أول من يرى المسيح قائماً ويكلفها ببشارة تلاميذه.

  •   ثانيا: الجانب التطبيقي

- على الرغم من عِظم التعليم المُقدّم والدائم التحديث، إلا أنّ النصوص الخاصة بطقس الزواج، ما زالت الوصيّة الموجهّة للعروس: "يجب عليك أن تحترميه وتهابيه، مُخاطِبةً إياه يا سيدي كما كانت أمنا سارة تخاطب أبانا إبراهيم". وأنا هنا لا أرفض القيم ولكن أتوقف عند الجمود في طرق التعبير عنها بمفردات تستبقي التراتبية والتسلُّط.

- تكريس المعنى الظاهري لبعض الآيات الواردة برسائل بولس الرسول دون الأخذ في الاعتبار ثقافة مجتمع هذا النصّ أو توقيته الزمني أو ثقافة بولس الرسول ذاته. مثال: خضوع النساء للرجال: "أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن خضوعكن للرب، لأنّ الرجل هو رأس المرأة كما أنّ المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مُخلِّصها. وكما تخضع الكنيسة للمسيح فلتخضع النساء لأزواجهن في كل شيء." (أفسس 5: 22-24 ).... أعرف أنّ أية مملكة تنقسم على ذاتها تخرب.. لكن لماذا الانقسام أو الخضوع؟؟.. لماذا لا نبني على التشارك والتكافؤ والمساواة. مع العلم بأنّ بولس الرسول قد أوصى العبيد أيضًا بالخضوع لسادتهم كما للرب... وعندما تمّ إلغاء الرِقّ بقانون وضعي... انتهى زمن العبيد، ولم يتمسك المسيحيون بنصّ الالتزام بالعبودية !!!!

- في مسألة الكهنوت: إن لم يكن بين تلاميذ المسيح امرأة؛ ففي حواره مع السامرية وإيمانها ونقلها الخبر لأهل قريتها ودعوتهم لرؤية المسيح وإيمان هؤلاء به، ما يجعلنا نرى فيها وبجدارة تلمذة حقيقية مُنتِجة. في بقاء المريمات عند الصليب وهروب التلاميذ وإنكار بطرس... تلمذة مستحقّة لهنّ. أن تكون مريم هي أول شاهد على قيامة المسيح وناقلة البشارة بها للتلاميذ بناءً على تكليف المسيح نفسه... تجعلني أُقرّ بتلمذتها.

إلا أنّي وبشكل عام، لستُ مُنشغِلة بالأمر ولا أعدّه انتقاصاً، فليس كل الرجال كهنة. يهمني الخلفية الثقافية المصاحبة له، يعنيني تصويب الصورة الذهنية النمطية للمرأة في الكنيسة والمجتمع، سواء نالت درجة الكهنوت أو لم تنله.

يوسف هريمة: تُشكِّل شخصية مريم العذراء مثالاً للمرأة الصالحة في الفكر المسيحي، لكن إذا نظرنا لبعض الإصحاحات نرى أنّ هذه النظرة قد يشوبها نوع من التناقُض، هل مثلاً وجود نساء زانيات فى نسب المسيح فى إنجيل متى يُمثِّل إساءة له؟ ولماذا يغيب الوسط العائلي لهذه المرأة بشكل مُطلق في باقي الأناجيل، كيف تفسرين ذلك؟

إيفيت صموئيل: بدايةً، أوّد أن أُذكِّر بأنّه لا يوجد في المسيحية "تنزيل"، وإنّما وحي إلهي مصوغ في فكر وثقافة الموحى إليه. من هنا، فالتمايز بين الكتابات أمر طبيعي حيث لكلٍ اهتماماته وما يشغله على وجه الخصوص في شخص المسيح ورحلته التبشيرية. على جانبٍ آخر، كل كاتب وجّه كتاباته إلى مجتمع أو مجتمعات بعينها... التزم الأسلوب الملائم لبيئة هذا المجتمع وثقافته، كتب "متى" لليهود، فاهتمّ أن يُقدِّم المسيح بوصفه ملكًا تحققّت فيه النبّوات وكمُلَ الناموس.. لذا استهلّ إنجيله بمشهد نسب المسيح. بينما كتب "مرقس" للرومان، وهم رجال حرب مفتونون بالقوة والعنف.. فأبرز شخص المسيح صانع المعجزات، لافتاً النظر إلى حاجتنا لقوّة مستندة إلى قوة الروح والعمل الإلهي لا للذراع البشري الباطش. في الوقت الذي كتب فيه "لوقا" لليونانيين أصحاب الفلسفات والحكمة البشرية، فقدّم المسيح صديقًا للبشريّة، جاء ليُخلِّص لا بفلسفاتٍ جديدة وإنما بالحب الباذِل والمُضّحى على الصليب. بينما كتب "يوحنا" للعالم كلّه ليُعلِن السيد المسيح.. كلِمةُ الله المتجسّدة... الذي حلّ بيننا ليرفعنا للسماء. وجدير بالذِكر أنّ نسب المسيح ورَدَ فى متى 1، لوقا 3.

- عودة للبشير "متى"، انجيله يُمثِّل همزة الوصل بين العهدين القديم والجديد، لذا ركّزَ على البدء من "إبراهيم" أبي الآباء. وجاء النسب خاصًا بـ "يوسف" خطيب "مريم"، مع أنّ المسيح ليس من زرعِه، إلا أنّ يوسف صار والده بالتبني... ذلك لأنّ الثقافة الأبوية تنسب الأبناء إلى الأب لا إلى الأم، ولم يكن غريبًا في شريعة اليهود أن ينتسب مولود لمن لم ينجبه بالجسد، طبقا للشريعة، كان إن مات رجل دون أن ينجب، أن يتزوج أخوه بزوجته لينجب له نسلاً فلا يُمحى اسمه من إسرائيل (تثنية 25: 5، 6) & (متى 22: 24)... يوسف ذاته المولود لأبيه يعقوب بالجسد، هو بحسب الشريعة، ابنٌ لـ "هالي" الأخ المتوفى ليعقوب.

لماذا "راحاب".. المذكورة في يشوع 2، ضمن النسب ؟؟ راحاب الزانية هذه، آوت رجلي يشوع وأمنتّهما حتى خرجا من أريحا سالمين. والحقيقة، لا أجد عيباً ينتقص النسب أو إساءة بحقّ المسيح فى ذكرها ضمن شجرة انتسابه، إبراهيم أبو الأنبياء ذاته.. كذب على الفرعون، قائلاً على سارة أخته لا زوجه، خشية أن يبطش به الفرعون.. وهو هنا متزعزع الإيمان في الله الذي دعاه وأرسله... الكمال لله وحده.

الله لا يرفض الأمم وإنّما رِجس قلوبهم، فإن تابوا.. قبِلهم له أبناءً وشعباً. وما دامت "راحاب" تابت وآمنت بإله يشوع وأدّت دورها في حماية الرجلين وإيوائهما.. فالتائب عن الذنب كمن لا ذنب له.

أظنّ أيضاً أن ذكر "راحاب" هنا، يؤكِد، لا غفران الله لمن تاب فحسب، وإنّما أيضا، أنّ الإيمان مسؤولية شخصية بحتة. فقد سمع كل أهل مدينتها عن عمل الله مع شعبه، لكن وحدها آمنت فحُسِب لها براً (عبرانيين 11: 31 + يعقوب 2: 25) الإيمان العملي والتوبة حولّت زانية إلى مؤمنة مُرحّب بها في كرم الرب. الخلاص أيضاً شخصي، تابت راحاب وآمنت ونجت وأهلها.. بينما هلكَ شعبها في البريّة.

يوسف هريمة: في الغرب المسيحي، استطاعت المرأة أن تتبوأ مكانة متقدمة بفعل الإصلاح الديني الذي قاده رواد الحركة الإصلاحية كمارتن لوثر وجون كالفن. لماذا في نظرك لم تنجح حركة تحرير المرأة التي قادها بعض الرواد في الشرق الإسلامي؟؟

إيفيت صموئيل: الحركة الإصلاحية في الغرب بمن سبقوا مارتن لوثر وجون كالفن ومن لحقهم.. أسست لعدة معايير حاكمة في مسيرة التطور.. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

 اعتلى "الضمير / المسؤولية الفردية" أولوية عالية في الجداول اللاهوتية والفلسفية والسياسية منذ رفضَ لوثر الارتداد عن قناعاته ومعتقداته أمام الضغوطات التي قامت بها الإمبراطورية الرومانية ضده عام 1521.

هذا النمط من تصورهم لله والإنسان، سمح لظهور "الإيمان بالفرادة الإنسانية" الذي مهدّ لحرية الفكر والانضباط والسعي في العمل الدنيوي إذ رأوا في كل هذا، صالح الفرد والمجتمع...فبينما كانت الإمبراطورية الرومانية ترعى الإقطاع والطغيان على الفلاحين ومنتجهم، نجد اهتمام الإصلاحيين بالتحول للإنتاج بديلاً للاستهلاك، والقبول بالسعي للثروة والمتعة والتملّك.. الرأسمالية بما تحرص عليه من قيمة الفرد واحترام الملكية الفردية وأن يكون لك بمثل اجتهادك... دعه يعمل.. دعه يمر.

 لما سبق وغيره، اهتم الإصلاحيون بالتعليم مدخلاً أساسيًّا لصناعة التغيير. وليس بخفي أنّ الإصلاحيين في الغرب كانوا وراء تأسيس "جامعة هارفارد" في القرن 17، تبعها إنشاء حوالي اثنتي عشرة جامعة في القرن 18.

بعد كل هذا يا سيدى، ومضافاً إليه فصل الدين "الكنيسة" عن الدولة، ليس غريباً أن تحقق المرأة الغربية نقلة نوعية ملموسة باعتبارها جزءاً من المجتمع وشريكة في التغيير الثقافي الحادث وفي جني ثماره، خاصة بعد ما تبنى البروتستانت فكرة زواج رجال الدين، بما كسر شُبهة تأثيم المرأة والجنس وتحميلها بمفردها، وِزر الخطيئة الأولى.

على الجانب الآخر، في شرقنا العزيز.. وعلى الرغم من ظهور كتابات رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين والشيخ محمد عبده وغيرهم.. ظلت وضعية المرأة متأرجحة، خطوة للأمام وأخرى للخلف.. تارةً تنفرج أحوالها وحينًا تنتكس، فهي من الناحية القانونية النظرية حرّة، لكنها لا تتمتع بآثار الحرية في الاعتراف بشخصيتها الإنسانية المكافئة للرجل، ومن ثم الاعتراف بكرامتها. ولا تتمتع بآثار الحرية في المجال الحقوقي، فهي في المجال الأول منتقصة الكرامة، وفي المجال الثاني منتقصة الحقوق. لأسباب من أهمها:

- عادة، في الأنظمة الاستبدادية، الحريّة بوجه عام مُقيّدة، سواء للرجال أو للنساء.. وإن تضاعف القيد على النساء خاصة.

- كان يُفترض أن يرتبط تاريخ الدفاع عن قضايا المرأة،‏بالمرأة ذاتها لا بالرجل، لرفع ما يمكن وصفه بوصاية الرجل على المرأة،‏ واستبداده في التعامل معها، وحتى لا يكون هو المخوّل بأمورها وكأنها قاصرة في الدفاع عن قضاياها. ولأنّها من الممكن أن تكون الأقدر على فهم إشكالياتها،‏ ولا شك أنّها الأقرب لعالمها الداخلي ومنطقها الفكري. وغالباً ما يحدث أن يجري تناول قضايا المرأة بين الرجال، ‏وتكون المرأة هي الغائب بينهم. وهذا ما يظهر واضحاً على كثير من المؤلفات والكتب التي تناولت موضوعات المرأة، ‏لكنّها خاطبت الرجل باعتباره، المقصود بالمجادلة والمناظرة والمحاورة، ‏وكأنّ مشكلة المرأة هي في الرجل، أو هو الذي يفترض أن يواجه هذه المشكلة، وليست المرأة، أو لأنّه صاحب القدرة والهيمنة وبيده القرار والسلطة.‏ خاصة حال وجود بعض النماذج النسائية صاحبة الريادة مثل "زينب فواز"، "أميلي نصر الله"، وغيرهم.... هذا بحد ذاته مُحبِط.. التاريخ يُكتب بوجه عام، من وجهة نظر ذكورية.

- المقدمات الصحيحة تؤدي إلى نتائج هكذا، والعكس صحيح. فإذا كانت الحركة الإصلاحية في الغرب قد عنيت أول ما عنيت بحرية الفكر والاعتقاد واعتماد التعليم مدخلاً للتغيير.. ففي الشرق ونتيجة لأنظمة ما زالت عطشى للاستنارة، مازلنا نحيا بسيطرة الفكر الديني على التعليم، بكل سمات هذا الفكر من جمود وإقصاء للآخر المختلف، إن بشكل مباشر ممثلاً في التعليم الديني الأزهري.. وإن بشكل غير مباشر متمثلاً في المناهج التعليمية المصبوغة بالفهم المغلوط لكثير من المفاهيم الدينية. وسيطرة التلقين لا التفكير العلمي، الطاعة والإذعان لا المناقشة والبحث والتحليل والاستنتاج... في كل نظمنا التعليمية.

يبدو أثر هذا واضحًا في التأرجح الفكري الذي عانى منه قاسم أمين على سبيل المثال في دفاعه عن الحجاب في كتابه "المصريون" عام 1894 وبين رفضه لذات الحجاب ونقده له في كتابه "تحرير المرأة" عام 1899.

- ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية ومن ثمّ الثقافية بين النساء، أنتج عدم قدرة المرأة على تفسير واقعها، فظنت أنّه من طبائع الأمور ومن الفطرة التي جلبها الله عليها.. فظلت الكثيرات حبيسات المنظومة الثقافية السائدة لا يبرحنها.

- ربط خروج المرأة للتعليم والعمل في مجتمعاتنا الشرقية، باستعلائها على الرجل وانصرافها عن مسؤولياتها البيتية، ساهم في تكريس هذا، الإعلام بشتى أنواعه. بل وحمّلها مشاكل انخفاض التحصيل الدراسي للأبناء وجنوح البعض، بل ولجوء بعض الرجال لتعاطي المخدرات وشتى صنوف الإدمان.

* المرأة التي تحوز نجاحاً عملياً ملحوظاً يسحب عنها المجتمع صفاتها الأنثوية الأصيلة، ناعتاً إياها بشبيهة الرجال، ظناً منه أنّه هكذا يمتدحها.. أخاف الكثير من النساء من استكمال مسيرتهم، وجعل حتى الذكيات منهن قد يلجأن إلى التغابي حفاظًا على حياتهن الأسريّة.

* غياب النماذج النسائية المتميّزة عن مناهج التعليم والإعلام... يفقد الكثيرات الثقة بالنفس وبإمكانية أن تكون بين بنات جنسهن راشدات ناجحات بل ومتميزات.

لو أضفت إلى كل هذا، ما تعاني منه مجتمعاتنا النامية من غياب الرؤية والتخطيط وطابع الأنظمة السياسية السائدة والتي كثيرًا ما تستبقى المستوى المتدني للتعليم وسيادة المنظور الديني وسيطرته على شتى مناحي الحياة وعلى رأسها وأول هواجسها "المرأة".. تعرف يا أخي العزيز، لماذا المرأة في الشرق هكذا وضعها.

ومع هذا وإحقاقًا للحقّ، توجد بعض الطفرات في تزايد كنسبة التحاق الفتيات بالتعليم العالي، بل وبالدرجات العلمية الأعلى، نسبة 40 % من أساتذة الجامعات من النساء، تزايد أعداد النساء في المواقع الإدارية، اقتحام المرأة لبعض المواقع التي كانت مغلقة على الرجال وعلى سبيل المثال العمل قاضيةً، والآن لدينا سيدة فاضلة في موقع استشاري لرئيس الجمهورية في مجال الأمن القومي...توجد بعض النقاط المضيئة والباعثة على الأمل، إلا أنّها حجماً وأثراً، لا تتوازى وأعداد النساء ومسيرتهن في الكفاح بوصفهنّ مواطنات شريفات.

يوسف هريمة: بما أنّك جزء من هذا الشرق المسيحي، ما هي رؤيتك للأقليات المسيحية في المنطقة ونحن نرى تهجير المسيحيين من العراق وسوريا والتخوّف من نقل النموذج الداعشي إلى لبنان الغنيّ بطوائفه؟

إيفيت صموئيل: نفتقر في منطقتنا العربية لسوسيولوجيا مجتمعاتنا بشكل يُمّكننا من تفسير الميكانيزمات الاجتماعية المختلفة وفهمها، والمعاناة الناجمة عن سوء أو غياب الفهم لسلوك الآخر المختلف، فرداً كان أم جماعة، تطالنا جميعا، أكثرية وأقليّة وإن زادت على الأخيرة حِفنة.. أضف إلى ذلك أنّ مجتمعاتنا النامية اقتصادياً والراكدة ثقافياً والمُتصدّعة مؤسساتياً والمتناحرة سياسياً... تُضاعف من الآثار الناجمة علينا جميعاً.

 وأزعم أنّنا أبناء المنطقة، غير مُحاطين علماً بــ "مشكلة الأقليات" على نحو يسمح بالتكهن بمستقبلها. إن لجهل بتاريخ المنطقة، أو لقصور في قراءة هذا التاريخ بشكل علمي وموضوعي، قد يكون لجهلنا بطبيعة كل أقليّة وملابسات كل منها وبيئتها.

على سبيل المثال، لا يمكن مقارنة أقباط مصر بوصفهم أقليّة، بأكراد العراق باعتبارهم أقليّة.. فبينما أقباط مصر هم مواطنون مصريون من الأساس.. من قبل الفتح / الغزو الإسلامي، وأنّهم منتشرون في كل ربوع مصر، وأنّ تعدادهم يتراوح بين 12 و15 % بحسب تصريحات غير رسمية للحكومة. نجد أنّ أكراد العراق هم جزء مكمّل للأمة الكردية التي كانت تقطن كردستان الممتدة من كوردستان إيران. إلا أنّه بعد الثورة العربية الكبرى، تقسّمت بموجب اتفاقية سايكس بيكو إلى 4 أجزاء، كل منها تابع لدولة أخرى.. أحد هذه الأجزاء في شمال العراق "جبال الأكراد"، وأحدها في شمال شرق سوريا.

ما أعنيه أنّ لكل أقليّة نشأتها وتاريخها وتنوعاتها وتناقضاتها.. بل وانقساماتها الداخلية.. بشكل يستعصي معه التعامل مع كافة الأقليات بمنظور أو آلية وحيدة تغفل تمايزات كل منها. لكن مما لا شك فيه، أنّ طغيان فكرة القومية العربية التي سادت عقب حركات التحرُّر من الاستعمار مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان له أثره وانعكاساته على خصوصية الثقافة وطبيعة التركيبة السكانية لكل دولة منها. أثّر أيضاً بتفكيك جزئي.. في التعايش بين مواطنيها بأطيافهم المتباينة.

"مشكلة الأقليات" هذه عادت تطفو على السطح عندما عاودت قوى خارجية استعمارية وإن بآليات مستحدثة، استغلال تشظّيها وتنشيطه بفعل بعض الحركات الجهادية المصنوعة.. لا لصالح الأولى (الأقليات) ولا لصالح الأخيرة (الجماعات الجهادية) وإنّما لصالح القوى الاستعمارية وحليفتها في المنطقة.. إسرائيل. ومازالت محاولة شبيهة للاحتلال البريطاني في مصر إبان ثورة 1919 بقسمة الأقباط والمسلمين والتي قال فيها "مكرم عبيد"، مقولته المشهورة الماثلة في الضمائر "أنا مصري مسيحي الاعتقاد مسلم الثقافة".. فإن كان الاحتلال يتذرع بحماية الأقباط ليبقى في مصر.. فليمت الأقباط ولتحيا مصر حُرّة مُستقِّلة".

أخيرًا، حقًّا عانى مسيحيو العراق وسوريا.. جُرّدوا من ممتلكاتهم، هُجّروا قسرياً.. مات منهم من مات، فقدوا جزءاً لا يستهان به من معالم حضارتهم وتاريخ آبائهم.. إلا أنّهم ليسوا الوحيدين.. كافة الأقليات في المنطقة عانت وستعاني من الدعوشة ومن صمت الضمير العالمي ومن تشرذم العرب وتأخرّهم في اتخاذ القرار الحاسم والاجتماع على كلمة واحدة.. وإن استمر الوضع، فحتى الأكثرية ستتشظى وتنقلب فصائلها الواحدة على الأخرى تبعًا لموازين القوى وتمركز السلاح وموالاة كل منها للغرب الامبريالي... أما فيما يخصّ لبنان تحديداً، فسابق خبرتهم في تجاوز الحرب الأهلية 1968، يُنبئ بقدرتهم على اجتياز الأزمة، يساعدهم على ذلك، شيوع حريّة التفكير وثقافة التنوّع وخوفهم الجمعي من التكفيريين.

يوسف هريمة: فى مصر، جربتم مرحلة الحكومة ذات اللون الديني والتي تم الإجهاز عليها لكثير من الأسباب. ما هي المآخذ الأساسية لمسيحيي مصر على الحكومة الإسلامية؟؟

إيفيت صموئيل: يُخطئ من يظن أنّ المصريين ثاروا على حكم الإخوان لأسباب عقائدية، بالأساس، أو انحيازاً لتوجّه سياسي بعينه على حساب آخر. فالشعب الذي ثار في 30/6، هو ذاته الذي منح الإخوان الفرصة التاريخية للوصول للحكم، عبر إعطاء 51 % منه أصواتهم للدكتور مرسى.. إن اقتناعاً وإن عملاً بالقول الشائع، ليس حُباً في زيدٍ وإنما كُرهاً في عمرو... الرفض جاء لخلطهم الدعوي بالسياسي.

كذا وبالرغم من فشل الإخوان فشلاً ذريعاً في مجرد وضع القدم على طريق الإصلاح وتلبية مطالب الثورة من عيش / حرية / عدالة اجتماعية.. إلاّ أنّه أيضاً ليس بالسبب الرئيسي للمطالبة برحيلهم.

لقد أدرك المصريون عبر عدة ممارسات للإخوان، رئيساً وجماعة، أنّ الوطن يوشك على الضياع، خاصة وأنّ فكرة "الوطن" بحد ذاته لا مكان لها في فكر الإخوان وعقيدتهم. من هذه الممارسات:

- تصادم مرسي وجماعته مبكراً مع مؤسسات الدولة، بالإعلان الدستوري والصدام مع القضاء وبمخالفة القانون والدستور وإقالة النائب العام، وبالسماح لجماعته بمحاصرة المحكمة الدستورية العليا، في محاولة للإيهام بأنّهم فوق سلطة القانون وسلطانه.

- أخفق مرسي في تحقيق الأمن والاستقرار، فأصبح الفلتان الأمني سيّد الموقف، وما حدث في سيناء من خطف الجنود المصريين وقتل 17 منهم في شهر رمضان ليس إلاّ مثالاً صارخًا.. تزامن هذا مع دعمه للتيارات الجهادية والتحاور المباشر معهم بشأن الخاطفين والقتلة لجنودنا في محاولة رخيصة لإضعاف الأجهزة الأمنية وتغييبها.

- حكم مكتب الإرشاد مصر من خلال "مرسي"، بذات أسلوب إدارتهم للجماعة والتنظيم، أعني تفضيل أهل الثقة على أهل الكفاءة والخبرة، مما دفعهم للسيطرة على كافة مفاصل الدولة ووضعها في أيدي غير المتخصصين، فأتت انعكاساته خطيرة على الأداء والنتائج.

إذا أضفنا إلى ذلك، حرصه الدائم على تقديم نفسه في خطابه للجمهور، بوصفه رئيساً للإخوان لا للشعب المصري بأكمله، نكثه بالعهد مع القوى الثورية التي سبقت الإخوان بالثورة والنزول للميادين، والتقلب في مواقفه وسياساته الخارجية.. سواء في التعامل مع أزمة سدّ النهضة أو بموقفه من الأزمة السورية.. تارة بالتحريض على النظام وتارة بالمطالبة باللجوء للحلول السياسية... هذا وغيره كثير هو ما دفع المصريين مسلميهم ومسيحييهم إلى النزول في 30 / 6 مطالبين برحيلهم.

المسيحيون بل والمسلمون معتدلي النزعة والاعتقاد على حدٍ سواء، أثار حفيظتهم بشكل فائق ما تبدى من طغيان الغطاء الإخواني وسيطرته على كل المظاهر الحياتية، اتهام البعض بـ "الازدراء الديني"، على غرار "دميانة" مُعلِّمة الأقصر.. و"كرم صابر" صاحب المجموعة القصصية "أين الله"... كذا انتشار الفتاوى الخاصة بحرمة معايدة المسيحيين في أعيادهم.. وفتاوى إرضاع الكبير ومضاجعة الوداع وزواج بنت التاسعة حتى دون رغبتها ولكن بإذن وليّها.. قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، إلى غير ذلك من مؤشرات للانغلاق والجمود وإقصاء الآخر المختلف لا عقائديًّا فحسب وإنّما حتى المتفق في العقيدة والمختلف في الرؤية والمسار والتوجه.

ولا يغيب عن الأذهان مشهد "عاصم عبد الماجد" على مسرح رابعة العدوية واستدعائه لكلمات الحجاج بن يوسف الثقفي: "إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان وقت قطافها".

يوسف هريمة: تحدثت حنا آرندت فى كتابها حول الثورة بأنّ هذه الأخيرة لا يمكن دوماً أن تأتي بنتائج إيجابية، بل قد تكون كارثية – هل الثورة المصرية انحرفت عن مسارها الحقيقي؟؟ ما هي مخاوف الأقليات المسيحية هناك؟؟

إيفيت صموئيل: تحدثت حنا آرندت في كتابها حول الثورة، مُميِزة بين أنظمة الحكم الشمولية والأنظمة الاستبدادية، ورجحّت أنّ أنظمة الحكم العسكرية، تنتمي للتصنيف الأول، وأنّها (الأنظمة الشمولية) لا تألو جهداً في تصفية معارضيها بل وأصدقائها حال تعارض المصالح... معتمدةً على الدعاية داخلياً وخارجياً لاستقطاب الرأي العام. وأفهم مغزى سؤالك.. يبدو أنّه باعتقادك تشابه الأمر مع ما حدث في مصر وانتهى باعتلاء الرئيس السيسي منظومة الحكم. وأزعم يا سيدي أن الأمر جدّ مختلف، الفروق كثيرة:

- الثورة التي نادت بــ "عيش / حرية / كرامة إنسانية / عدالة اجتماعية"، لم تنحرف عن مسارها، الثورة سرقها الإخوان وانحرفوا بها عن مسارها كما سبق وشرحت في السؤال السابق.. فكانت الموجة الثورية الثانية في 30 يونيو لتصويب المسار.

- الجيش نزل مُلبياً مطالب الشعب بإقصاء الرئيس الإخواني.

- جاء السيسي رئيساً عبر انتخابات كانت الأعلى في نسبة المشاركين فيها وبفارق خارق بينه وبين المرشّح التالي.

- فوّض الشعب بملء إرادته، السيسي والجيش في أمر القضاء على الإرهاب.

- قلّص الدستور الحالي لأقصى درجة، سلطة الرئيس وصلاحياته وعظّم من سلطة مجلس الوزراء والمجلس النيابي.

- الشعب الذي قاد هبّتين شعبيتين متتاليتين، وأطاح برئيسين كلاهما أشد ضراوة من الآخر... مقدماً في سبيل هذا دم أبنائه من المدنيين والعسكريين، لن يطيق سكوتاً إن خرج الحاكم.. أي حاكم أو تجاوز طموحات شعبه.

هل انحرفت الثورة عن مسارها؟؟

بالقطع لا، وإنما لم تكتمل حلقاتها بعد، لذا أطلقت عليها "هبّات شعبية"؛ فالمتظاهرون نزلوا بوعي كامل لما / لمن يرفضونه، رافعين شعارات لما يريدونه.. فقط، دون تخطيط لإنفاذه أو تصوّر إجرائي لهذا الإنفاذ. قفز على الشعب، الفصيل الأكثر تنظيمًا (الإخوان المسلمين) وتسلّموا الحكم عبر انتخابات لم يُفصل في صحة نتائجها قضائيًّا حتى الآن. وعلى مدار 3 سنوات أخفقت القوى المدنية في الاصطفاف وإعلاء الصالح العام على الخاص، عجزوا عن تقديم شخصيات بديلة تحقّق إقبالاً جماهيريًّا، إلا أنّه في ظني أنّ هذا أيضًا من طبائع الأمور، فللثورات دورة نضوج ومراحل انتقالية يكتمل فيها البناء الثوري.

يوسف هريمة: ما هي مخاوف الأقليات المسيحية هنا؟؟

لا شك أنّ نظرة على دول الجوار، قادرة أن تثير مخاوف الجميع لا الأقلية المسيحية فقط... خاصة بعد عمليات السطو والتخريب والحرق لعدد من الكنائس والمنشآت ذات الطابع المسيحي من مدارس وجمعيات أهلية ومتاجر لأقباط، والتي شاعت عقب خلع "مرسي" وفضّ اعتصامي رابعة والنهضة. ثم استمرار أعمال العنف حتى هذه اللحظة، لا ضد المؤسسات فقط وإنّما في تعطيل الحياة وتعمُّد إثارة الرعب في الأماكن المكتظّة بالجماهير.. في الشوارع والجامعات والمدارس والمصانع ووسائل النقل. لكن، جدير بالذكر أنّ ضمن إيجابيات الهبّات الشعبية المتتالية، إطلاقها لسراح كثيرين من أسر الخوف واللامبالاة، ضمن الفئات المُحررة، الأقلية المسيحية التي خرجت من عباءة الكنيسة وأصبحت أكثر اندماجًا ومشاركة في الشأن العام.. بما ينقل قضاياها نقلة نوعيّة، فتتحول من قضية فئوية لقضية مجتمع بأسره. نعرف أنّ المسيرة طويلة وغير يسيرة، لكن نثق أيضا في أنّنا جميعنا وقت الصعب نُعلى مصريتنا فوق أي اعتبار.. ندفع عنا الأذى ونطالب بمواطنة غير منقوصة وبمساواة أمام القانون، لكن كل هذا في ظل الدولة لا على حسابها.

يوسف هريمة: يعتقد الكثيرون بأنّ علمنة الدول في الشرق الإسلامي كان دومًا مطلبًا مسيحيًّا، لأنّ الأقليات المسيحية تخاف على نفسها فى ظل نظام ديني مطلق. هل تعتقدين أنّ العلمانية هي الحل على غرار ما يرفعه المعارضون القائلون الإسلام هو الحل ؟؟ كيف تنظرين لمكانة المرأة في تقويم مسار هذه الثورة المسروقة؟؟

إيفيت صموئيل: أي تعريف للعلمانية تقصد؟؟ هل هي فصل الدين عن الدولة كما يعتقد البعض على اعتبار أنّ الدين شأن خاص بين الإنسان وربه وبالتالي لا يجب الخلط بين الشأن الخاص، مثل الدين وبين الشأن العام... الدولة؟؟ أم هي التفكير في النسبي "العِلم مثلاً" بما هو نسبي لا بما هو مطلق؟؟ أم هي مرادفة للكفر والإلحاد؟؟ هل هي فكر جديد أم منهج جديد في تعاطي الفكر؟؟ الالتباس قائم والمصطلح سيّء السمعة بفعل فاعلين.

في كل الأحوال، - ظنّي يا سيدي أنّ مقولة "علمنة الشرق مطلباً مسيحياً"، جانبها الصواب، وقد يكون مرجعيتها أنّ منشأ "العلمانية" إذا قصدنا بها فصل الدين عن السياسة (نظام الحكم)، العِلم، كان في الغرب المسيحي، مع بدايات عصر النهضة. لكن هؤلاء هم دعاة العلمانية فى مصر: طه حسين / أحمد لطفي السيد / محمد عبده / نجيب محفوظ / فرج فوده / سيد القمني / وحيد حامد / مؤمن سلام /.... والأسماء تكشف عن كونهم مسلمين... والقليل مثل سلامة موسى قديمًا ومراد وهبة حديثًا، مسيحيون. إذن لا ارتباط بين الدعوة للعلمانية والاعتقاد الديني للداعي لها.

ما نسعى إليه، لا بوصفنا أقليّة مسيحية وإنّما من حيث نحن جملة من المستنيرين المصريين، مسلمين ومسيحيين وبهائيين.. هو جملة مبادئ، نتفق عليها وبعدها فلتُسمِّها ما شئت... نسعى إلى:

- مدنية الدولة، فلا توجد دولة كافرة وأخرى مؤمنة.. لذا فالفيصل هو دستور مدني يحكم الجميع على أرضية من المواطنة غير المنقوصة، المساواة، تفعيل القانون على الجميع.

- تقديم "العقل" على "النقل".. فنحن نتعامل مع واقع متغير ومتطور، تطورت أفكاره وآلياته.. وأيضًا مشكلاته. فأي نهج سنتبع لحل مشاكلنا هذه.. العلم الحديث أم النصوص الدينية، بآليات القرن الواحد والعشرين أم بآليات القرن السادس الميلادي؟؟

- حريّة الفكر والاعتقاد.

إنّ سيادة منظومة كهذه، من شأنها:

- خفض سقف الاحتقان الطائفي الناجم عن تحول الأفراد من دين لآخر.

- التعامل عبرها مع كل النزاعات بين المسلم وغير المسلم بالقانون وعلى أرضية المواطنة لا داخل أروقة أمن الدولة أو في رحاب المجالس العُرفية.

- الاعتراف الكامل لفئة مثل البهائيين بتسجيل اعتقادهم في أوراقهم الثبوتية بدلاً من الوضع الحالي حيث توضع " - " في خانة الديانة في بطاقات الرقم القومي.

- الحدّ من انتهازية تجار الدين والسلطة بتأجيج الاختلافات واستثمارها في إشعال الفتن.

يوسف هريمة: كيف تنظرين لمكانة المرأة في تقويم مسار هذه الثورة المسروقة؟؟

إيفيت صموئيل: الثورة في طريقها لاكتمال نضجها وبلورتها لواقع معيش. أما عن دور المرأة، فالمرأة شريك فاعل وملموس الوجود والأثر.. قد تكون لم تنل حظها بمثل مشاركتها، إلا أنّ الوعي يتنامى، ولأنّها بأمومتها تعايش الحياة قبل أن ترى النور.. فهي الأقدر على الحفاظ عليها وتجديدها.. خرجت المرأة من عزلتها وأظنها غير عائدة إليها، تعرف وتناقش وتقرر وتثبت وجودها... لكن لاشك أنّنا في حاجة ماسة إلى إعادة النظر بمنظومة التعليم وتنقية الخطاب الديني من الشوائب، وإبراز النماذج النسائية الرائدة في الريف والحضر... كذا علينا نحن النساء أن نتضامن معًا لنصرة قضايانا التي هي في الواقع قضية مجتمع بأسره.. وأن نجتهد في اجتذاب المستنيرين من الرجال واستقطابهم.. التحرك معًا أكثر دلالة وأعظم أثراً.

تحياتي لك أخي العزيز يوسف، تحية من القلب لموقع "مؤمنون بلا حدود" والعاملين به وكل متابعيك الكرام.

يوسف هريمة: شكرًا الأستاذة إيفيت صموئيل على هذا الحوار الممتع.