حوار مع ميّادة مصطفى كيالي: المرأة من التسيّد على عرش الألوهية إلى الحرمان من المساواة الإنسانية


فئة :  حوارات

حوار مع ميّادة مصطفى كيالي: المرأة من التسيّد على عرش الألوهية إلى الحرمان من المساواة الإنسانية

حوار مع ميّادة مصطفى كيالي:

المرأة من التسيّد على عرش الألوهية إلى الحرمان من المساواة الإنسانية


يوسف هريمة: من "أحلام مسروقة"، و"رسائل وحنين"، إلى البحث التّاريخي المحض، تتأرجح شخصية الأديبة والباحثة ميّادة مصطفى كيالي ما بين حقول معرفية شتّى. هذا التّداخل المعرفي يكشف عن جوانب غنيّة من شخصكم الكريم. كيف يمكن أنْ تقدِّموا أنفسكم لقُرّاء الموقع الرّسمي لمؤسَّسة مؤمنون بلا حدود ومتابعيه؟. وكيف استطاعت تجربة هذه المؤسَّسة أنْ تبصُم على هذا الغِنى في رؤيتكم ومشروعكم؟

ميّادة مصطفى كيالي: إنْ أردت أنْ أقدّم نفسي لقرّاء الموقع الرّسمي لمؤسسة مؤمنون بلا حدود ومتابعيه، سأستعير مقولة أطلقها القرّاء في زحلة - لبنان في عام 2005 تعليقاً على مقالاتي في جريدة "العصر" المحلّية، وهي "إنّ ميادة كيالي تكتب من حواضر البيت"... وحواضر البيت في الشّامية هي المؤونة من الطّعام التي لا يخلو منها أيّ بيت، وحتى أعطي موجزاً عنّي. فأنا مهندسة مدنية أوقفت حياتها المهنية بعد ثماني سنوات من العمل الهندسي على أبواب الحياة الزّوجية، وعادت لتستردّ بعضها الّذي رحل بعد اثني عشر عاماً، فانزوت خبرة الهندسة، ليرتفع المخزون الأدبي غارفاً من معين تجربة الزّواج والأمومة والاغتراب؛ فكانت هي الحواضر التي تصلح لكلّ بيت، وهكذا بدأ مشوار جديد رسمت سيرته الذّاتية ملامح حلم استعادت فيه ميّادة وجودها الفاعل في العمل، وعادت للاستقلالية بكلّ جوانبها لتتابع من الإمارات التي كانت ثاني محطّة بعد لبنان مسيرتها العملية والعلمية.

أمّا مؤسّسة مؤمنون بلا حدود، فكانت أفقاً حلمتُ به ووطناً اشتقت لحضنه، حيث منها وبها أتنفّس الحرية، وأشهد على إنسانيتي، وأجدّد أملي كلّما تسرّب اليأس إلى أطرافي الموزّعة على خريطة النّضال من أجل الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً، يربطني بمؤسِّسيها مشوار من الجهد والعمل والنّجاح والصّداقة الّتي هي وقود النجاح الحقيقي.

يوسف هريمة: من يقرأ لميادة كيالي، لا بد أنْ تستوقفه مركزية الأنثى وحضورها اللاّفت في كتاباتها. ومن خلال البحث الّذي توّجتم من خلاله بنيل شهادة الماجستير يتأكّد هذا العمق الفكري الفلسفي. كيف استطاع البحث التّاريخي أنْ يكون ملهِماً إلى هذا الحدّ في هذا الحضور المتميّز للمرأة في كتاباتكم؟

ميّادة مصطفى كيالي: قد يكون السّؤال معكوساً، وهو كيف استطاع حضور المرأة وقضاياها وواقعها فتْح شهيّتي للبحث في تاريخها الذي هو تاريخي؟

أجل أردت أنْ أقرأ التّاريخ وأبحث فيه من خلال إيماني الدّاخلي بقوة المرأة وبدورها في صناعة التّاريخ وصناعة الحضارة، وحاولت أنْ أجتهد لأتخلّص من بقايا انطباعات عاطفية قد يكون للتّجارب الشّخصية أثر في شحذها، فحقّقتْ رسالة الماجستير أمرين غاية في الأهمية بالنّسبة إليّ، إذ وسّعت لي النّافذة المطلّة على مخزون تاريخ المرأة، كما شذّبت من شخصيتي لتقارب العلمية والأكاديمية وتضعني على سكّة الجهد البحثي الصّحيح.

يوسف هريمة: يؤكّد الباحثون في المجال التّاريخي أنّ حضارة وادي الرافدين عرفت حضوراً متميّزاً للمرأة. ولعلّ أهمّهم الأديب والمفكّر العراقي خزعل الماجدي. فمن خلال بحثكم في هذه القضيّة ما هي أهمّ سمات التميّز التي حظيت بها المرأة في هذه الحضارة، خاصّة مع بعض الثّقافات كجرمو وحسونة وسامراء؟

ميّادة مصطفى كيالي: بلا شكّ كان للدكتور خزعل الماجدي، وهو الأستاذ المشرف على أطروحتي، الفضل بتسهيل السّبيل لي لتحديد مجال بحثي وعنوانه، فقد لمس هذا الاندفاع الذي أحمله بداخلي حول موضوع المرأة، وخاصّة حين كلّفني في السنة التّحضيرية ببحث مصغّر تناولت فيه مكانة المرأة في حضارة سومر، وكانت الفرصة التي وضعت في طريقي كنزاً من المعلومات، وحرضّتْ فكري للبحث في المناخ الذي هيّأ للمرأة السّومرية أنْ تلعب الدّور الأبرز في تاريخها، وهو تسيّدها المؤسّسة الدّينية، إضافة إلى تميّزها في الأدب والشّعر والموسيقى، والقضاء وإدارة المال في القصور والمعابد.

إنّ ثقافات جرمو، الصّوان، حسونة والسّامراء، والتي امتدّت لحوالي 3000 عام (منذ 8000- 4900 ق.م ) شكّلت مهد الحضارة الرّافدينية، حيث تمّ تدجين الحيوانات واكتشاف الزّراعة الّتي يؤكّد العديد من المؤرّخين والباحثين أنّها كانت على يد المرأة، وكان المجتمع أمومياً بامتياز، فالأمّ كانت هي المنجبة، وهي المربّية وربّة البيت، في حين كان الرّجل صياداً أو راعياً ودوره في عملية الإنجاب غير معروف، بل مجهول تماماً.

يوسف هريمة: يرى العديد من الباحثين بأنّ فكرة الإلهة الأمّ mother godess ظهرت مع العصر النّيوليتي، حيث تحوّلتْ قوّة المقدّس إلى قوّة خصب تمثّلها المرأة والإلهة. فما هي أسباب شيوع هذه الفكرة؟

ميّادة مصطفى كيالي: السّبب في الحقيقة هو، بلا ريب، أنّ المرأة كانت تشكّل من خلال الحمل والولادة وتغيّر أطوارها شيئاً غامضاً للإنسان القديم شعر تجاهه بالقداسة، خاصة وأنّ الرّجل في ذلك الوقت لم يكن قد تعرّف على دوره في الحمل والولادة، نظراً للتّباعد ما بين واقعة الجماع وبدء ظهور التّغيير في جسد المرأة وأخيراً ولادتها وإطعامها لطفلها واحتضانها له شهوراً قبل أنْ يستقلّ عنها، فكانت رمزاً للنّمو والخلق والخصب... ونظراً لأنّ الإنسان كان يؤمن بمبدأ التشابه، كما ذهب إليه السير جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي"، فإنّ الشبيه ينتج شبيهه أو المعلول ينتج علّته، لذا كان الاعتقاد بأنّ تحقيق الأهداف يكون بمحاكاتها أو تقليدها، لذلك كانت الطّقوس تجسّد هذا المعتقد الذي يعتمد الإيماءة لبعث الحياة في الطّبيعة، كما كانت استمراراً للخصب والنماء والتكاثر.

يوسف هريمة: هل المرأة في حضارة وادي النّيل لها المكانة نفسها؟ أم هناك تمايزات معينة؟

ميّادة مصطفى كيالي: هذا السّؤال أوسع من مجال البحث الذي اشتغلت فيه على حضارة وادي الرّافدين بالذّات، ولكنّ العديد من الدراسات أثبتت أنّ عبادة الإلهة انتشرت في سائر الحضارات، وبالتّالي وكما يشير جيمس فريزر فإنّ "الحالة الرفيعة للنّساء مسؤولة أساساً عن تقديس الإلهة وتقديرها" فلا بدّ من حيث الاستنتاج أنْ يكون هناك تميّز للمرأة في وادي النّيل، وهذا بالتّأكيد موثّق أركيولوجياً أيضاً، ولكنْ مثل هذه التوقّعات تحتاج إلى استتباع البحث ببحث أشمل يغطي الحضارات القديمة كافّة.

يوسف هريمة: كيف تفسّرين التّراجع الدراماتيكي لدور المرأة من الريادة إلى الاختفاء التدريجي، خاصّة مع ظهور الدّيانات التوحيدية، حيث مثَّلت المرأة رمزاً لمجموعة من التّباينات والتّناقضات، حيث تمّ تحميلها الخطيئة الأصلية، وتشبيهها بالأفعى، واختزال دورها فقط في الجانب الجنسي؟

ميّادة مصطفى كيالي: لا شكّ أنّ هناك جملة من التّطورات زعزعت عرش المرأة، ونقلت المجتمع من سيطرتها إلى سيطرة الرجل، وهو أكبر تراجع للمرأة في التاريخ، على حد تعبير إنجلز في كتابه "أصل الأسرة"، فاختراع الرجل للمحراث جعله يتمكّن من التحكّم بالزّراعة، بعد أنْ كانت تحت سيطرة المرأة، واكتشف دوره في الإنجاب بعد تدجين الحيوانات فسيطر جنسياً على المرأة، ومع اتّساع رقعة الملكية من الماشية ومنتجات الأرض تحكم الذَّكر، وقنّن الزواج ليخدم نقاء النّسل ليسحب عملية التّوارث لصالحه، ويسحب معها الملكية إليه ويتحكّم بالمرأة ويُخضعها.

في غضون ذلك، توسّعت المدن، ولمع نجم الرّجل المحارب ليس لكون الحرب تحتاج للجهد العضلي بقدر ما أنّ الرّجل انتبه إلى أنّ النّقص في النّساء إنْ خرجن للحرب سيؤدّي إلى انقراض أفراد القبيلة، لذلك حاول حماية المرأة لضمان التّكاثر، فكانت المرأة الضّامن للكثرة، إضافة إلى دورها الكبير، كما لفت إلى ذلك ليفي شتراوس وهو يعاين توسيع النّفوذ وكسب الخضوع عن طريق ما أسماه "عملية تبادل النساء"، حيث لعبت بنات الملوك دوراً مهمّاً كونهن كن يمارسن دور الكاهنة العظمى التي سترتبط بالملك وتحيي قصة الزواج المقدّس الذي سيجلب الخير والنماء للبلاد.

إنّ ما حصل من تطورات أدّى، بلا شكّ، إلى تراجع دور المرأة، وهو ما عكسته الأساطير، ومن ثمّ نصوص الدّيانات التوحيدية، لكنّ المشكلة حدثت حين أغفلت الدّراسات تاريخ تسيّد المرأة، لتخرج بأحكامها القاطعة عن أنّ المرأة لها دورها المحدّد والمرتبط بتكوينها البيولوجي، وأنّها الأضعف، وأنّها خرجت من الرّجل، وهي سبب الطّرد من الجنّة، وهي الغواية والفتنة والنّاقصة العقل، إلى أنْ أدّى هذا إلى تصنيفها تالياً في الحقوق، وحرمانها من المساواة في الإنسانية.

يوسف هريمة: بانتشار الإسلام في منطقة بلاد الرافدين، عرف دور المرأة تغييرات جذرية. فكيف تقيِّمين هذا الدّور؟ خاصّة وأنّ العديد من الباحثين المشتغلين في الحقل الدّيني الإسلامي يقاربون الموضوع من منطلق التّفاضل، أيْ أنّ الإسلام أفضل حقوقياً؟ وما هو تقييمك لموضوعات مثيرة للجدل آنياً كمسألة الولاية، والعمل، والحجاب، والقوامة، والإرث، والطلاق...؟ هل هي حقوق أمْ انتكاسة للوراء باسم الحقوق؟

ميّادة مصطفى كيالي: في الحقيقة إنّ التشريعات التي سادت في بلاد الرافدين في حضارات سومر وأكاد وبابل وآشور تدرّجت نحو التّشديد كلّما ابتعدنا نحو الميلاد، إذ رصدت الدراسة الآلية التي تغيّرت فيها القوانين، وخاصّة التي تتعلق بالمرأة والعائلة لتميل في فرض التشدّد أكثر فأكثر، ولكنّ الدّارس لتشريعات القوانين منذ إصلاحات أوركاجينا التي تعود الى القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، ثم قوانين أورنمو ولبت -عشتار، وقوانين مملكة أشنونا، انتهاء بقوانين حمورابي والآشوريين، سيجد أنّها رسمت سيرورة التّغيير في قوانين الاجتماع، حسب المناخ المسيطر عبر قرون طويلة، وتعكس ما حصل من تراجع لأهمية المرأة ومكانتها، نظراً لأنّها كانت بلا شكٍّ مناط عدم الإنصاف في التّشريع الحقوقي لصالح الرجل، فالمرأة قبل أوركاجينا كانت متعدّدة الأزواج، وهو أوّل من وضع عقوبة ليرسم الزواج الأحادي للمرأة، وشيئاً فشيئاً منحت القوانين الرجل حقّ القاضي على زوجته، ففي عقوبة الزّنا إنْ أراد أنْ يعفو عنها من الموت يعفو وتصبح خادمته "البند 129 من حمورابي". ولأنّ التّوريث كان يجب أنْ يكون عبر سلالة الرّجل ونسله كان التّشديد من جهة على الزنا، ومن جهة أخرى فتح الباب للزواج من امرأة ثانية في حال كانت الزوجة لا تنجب (البند 145 من حمورابي).

إنّ ما حصل لاحقاً في اليهودية لم يخرج عن هذا السّياق، وبقي يعكس طبيعة الاجتماع في الزّمان والمكان فيما يخصّ التّشريع، وجاء التّشريع الإسلامي من خلال النصّ القرآني وأحاديث الرّسول وخرج علماء الاسلام بفقه تشريعي اعتماداً على المصدرين يعكس زماناً ومكاناً بعينهما، فموضوعة الحجاب مثلاً هي من التشريع الآشوري للتفريق بين المرأة الحرّة والبغي، بحيث إنّ البغي ممنوع عليها أنْ تضع حجاباً على رأسها، وذلك لأنّها تبيع جسدها أصلاً، وليس لأنّ هناك فتنة أو أنّها سبب هذه الفتنة، أو أنّها سبب غواية آدم وطرده من الجنّة.

في النصّ القرآني لا يوجد تشريع مباشر باللّفظ والعبارة يحضّ على أنْ ترتدي المرأة الحجاب. وآية الخمار والجلابيب لا تزال تتفاعل تفسيراً ونقداً من قبل فقهاء المسلمين. وفي حقيقة الأمر نحن نطبق تشريع الآشوريين في تشدده، ليس من ناحية العقوبة المادية، بقدر العقوبة الأخروية التي تصل إلى أنْ تعلّق المرأة من رأسها وشعرها وتلعنها الملائكة، وبأنّها في حكم الزانية إنْ بانت زينتها وفاح عطرها. الأمثلة كثيرة وأظنّ أنّ مشكلتنا ليس في تقييم هذا أفضل أو ذاك أرحم بل مشكلتنا في الطريقة التي نتعامل فيها مع قدسية النصّ التشريعي حتى لو كان من كتاب الفقه ودستوره الذي وضعه الإنسان.

يوسف هريمة: هل يمكن أنْ نحلم بعودة المجتمعات الأميسية من خلال ثورة المرأة على واقعها، خاصّة في ظروف واقع عربي مهترئ أخطأ الطريق وضلّ ربيعه. وبدَل أنْ يتوجّه للتّصالح مع الذّات من خلال منح المرأة حقوقها، حمل السّلاح وربح الدّم والدّمار. كيف تقوّمين سيّدتي واقع المرأة في ما تشهده المنطقة من أحداث؟ وما هي أبعاد هذا الحلم بالثورة الحقوقية؟

ميّادة مصطفى كيالي: الحلم مشروع. لا يمكن أنْ نتوقّف عنه، كما لا يجب أنْ نتوقّف عنده، نحتاج إلى العمل وإلى الشراكة يداً بيد لصنع ربيع ٍ حقيقي لثورة في العقول تكسّر صدأ السّنين، وتحرّك المياه الراكدة.

بالعكس إنّ ما يحصل الآن على أرض الواقع سيتعلّم منه الجميع بأنّ "داعش" ظهرت عندما قبلنا أنْ نغض الطّرف عن بناتنا، وهن يذهبن إلى دروس تحفيظ قرآن فتعود الواحدة منهنّ، وهي لم تكمل التّسع سنوات بحجاب مهدى إليها من معلّمتها التي كسّرت حدود خصوصية تربيتنا لأولادنا، وسمحت لنفسها بأمر إلهي أنْ تشرّع لنا كيف تخرج بناتنا وكيف يلبسن وكيف يتعاملن مع المجتمع.

"داعش" ظهرت حين كنّا نستكين لتزويج البنات بعمر الدّراسة لمن نرضى دينه دون أنْ نرضى على جهوزية ابنتنا فيزيولوجياً وثقافياً لزوج كهذا. أجل نحن صنعنا "دواعشنا" ولنْ تقضي عليها طائرات أمريكا إنْ لمْ نقض على بيوضها المعشّشة في عقولنا. الثّورة الحقيقية هي ثورة المرأة بامتياز، ولن تكون هناك مشروعية لأيّة ثورة تزيح المرأة للصفّ الخلفي لتجلس تندب الرّجال والأبناء وتلبس الحداد عليهم. الحرية والمساواة والعدل مجموعة قيم لا تتجزّأ، فإمّا أنْ تكون حزمة واحدة متكاملة، أو تسقط الواحدة تلو الأخرى.

يوسف هريمة: شكراً للمهندسة ميادة مصطفى كيالي على هذا الحوار.