حياة عمامو: نظرات في الإسلام المبكّر: الشّرف والسّلطة والتّمصير (الجزء الثالث)


فئة :  حوارات

حياة عمامو: نظرات في الإسلام المبكّر:  الشّرف والسّلطة والتّمصير (الجزء الثالث)

د. نادر الحمامي: نجدّد التّرحيب بالأستاذة حياة عمامو في الجزء الثّالث من هذا الحوار، وكنّا قد وصلنا في الجزء الثّاني منه إلى نقطة مهمّة تتجاوز مستوى المنهج إلى محاولة التّفكير في ما قد يوصلنا إليه هذا المنهج خاصّة في مجال الاختصاص الذي تبحث فيه؛ أي فترة الإسلام المبكّر أو الصّدر الأوّل للإسلام، وقد خلص بحثها حول السّيرة انطلاقاً من المناهج التي اعتمدتها إلى اعتبارها مستنداً للنّظر في التّاريخ الإسلامي بصورة عامّة والمبكّر منه بصورة خاصّة، على اعتبار أن السّيرة مثّلت لاحقاً مستنداً للشّرعية السّياسية، وقد بحثت في هذه الشّرعية وفي علاقتها بالسّلطة بداية من الخلفاء الرّاشدين ومن لحقهم، وميّزت في ذلك بين نوعين من الشّرف، فوضعت ما أسمته بالشّرف الإسلامي في مقابل الشّرف القبلي، وهما نوعان من الشّرف مثّلا نتاجاً للصّراع من أجل تأسيس الشّرعية، التي تسعى إلى إيجاد مقبوليّة اجتماعيّة قائمة في جوهرها على أساسي الدّين من جهة والانتماء القبلي من جهة ثانية.

دة. حياة عمامو: فعلاً، أعتقد أن المسلمين عندما بدأوا بتأسيس سلطتهم، في غياب نبيّ يوحى إليه، كانوا على وعي بضرورة أن يؤسّسوا شيئا يميّزهم عن المجتمع القبلي السّابق، وقد كان الشّرف القبلي يقوم على أمرين أساسيّين هما العدد والنّسب. ولعلّ البحث عن كثرة العدد هو ما جعل قبائل العرب، بما في ذلك قريش، تلتجئ إلى ما يسمى بالحلف أو التّحالف مع القبائل الأخرى لزيادة عدد المنتسبين إليها. وكما يتبيّن في الدّيمغرافيا التّاريخية، كان النّاس يولدون ويموتون بسبب الأمراض والأوبئة والعديد من الأشياء الأخرى، ولم تكن الولادات تكفي لتوفير العدد الذي يسمح لتلك القبائل بإبقاء شرفها على ما كان عليه. وتكتسب مسألة النّسب أهمّية كبرى أيضاً، وقد كانت القبائل تتمايز بالانتساب إلى رجالات العرب الكبار، فأن يكون الانتماء إلى عبد مناف بن قصي ليس كأن يكون إلى أي شخص آخر، فهناك اختلافات وتراتبيّة في الانتماء، بالرغم من أنّ كافّة القرشيّين ينتسبون في الأصل إلى كنانة، ومنه تفرّعت مختلف فروع قريش التي تسمّى صاحبة النّسب المتميّز والملأ. وأمام هذه الشّرعية المترسّخة في العدد وفي النّسب كان لا بدّ على المسلمين أن يوجدوا شرعيّة أخرى، وهي ما أسميتها بالشّرف الإسلامي الذي لا يقوم على الانتماء القبلي ولا يقوم على العدد، وإنّما على الأسبقيّة في الإسلام التي سيتميّز بمقتضاها المهاجرون عن الأنصار، وهذا ما جعل السّلطة حكراً على المهاجرين، لأنّهم سبقوا غيرهم من الأنصار إلى الإسلام، بالرّغم من أن الأنصار يُعتبرون في المخيال الجمعي للنّاس من رسموا انتصار الإسلام بعد أن كان معذّبا ومهزوماً في مكّة، ولكن بسبب أسبقيّة هؤلاء في الإسلام فهم متميّزون عن الأنصار وعن الذين سيأتون فيما بعد. إذن فهذا التّصنيف مهم جدّاً في مسألة اختيار أصحاب السّلطة بما في ذلك الخليفة، وحتى في صلب السّابقين إلى الإسلام وقع التّمييز أيضاً؛ فليس من أسلم رجلاً أو حرّاً أو بالغاً كمن أسلم امرأة أو عبداً أو فتًى. وفي هذا السّياق، استطاع أبو بكر الصّدّيق أن يتولى أمر المسلمين بعد وفاة الرّسول، رغم حادثة السّقيفة. وفي المرحلة اللاّحقة، عندما أنشأ عمر بن الخطّاب ديوان العطاء، كانت نظرته مختلفة، فقد وضع مجموعة من الأسس العامّة لإعطاء النّاس؛ منها: درجة النّسب من الرّسول، والسّبق في الإسلام، وفَضَّل أهل الحرب على قدر براعتهم في القتال، وكذلك البُعد والقرب من الأراضي التي تمّ فتحها، نظراً إلى أنّ العرب لم تكن لهم معرفة كبيرة بميدان الزّراعة، باستثناء بعض الذين قدموا من اليمن، وأنّ مهمّتهم الأولى هي نشر الإسلام ومواصلة الفتوحات وليس تولّي أمر الزّراعة في سواد العراق، لذلك تركوا أمر الزّراعة للمستقرّين هناك من فلاحين ومزارعين، وهم أساساً من الشّعوب القديمة ممّن عمّروا العراق في العهد السّاساني، وقد أدّى توزيع العطاء على أساس القرابة من النّبي أوّلا قبل أساس الأسبقيّة في الإسلام، إلى الخلط بين هذين المعطيين، وهو ما سيسبب أزمة شرعيّة السّلطة، في ما بعد، مع الأمويّين الذين لم يكونوا أقرب من الهاشميّين إلى الرّسول ولم يكونوا من السّابقة أيضاً، فهم يفتقدون إلى أمرين أساسيّين وقع اعتبارهما في رسم ملامح الشّرف الإسلامي، والذي سيقع فيه اضطراب لأنّ هذا الشرف ليست له ديمومة في التّاريخ، فهو مرتبط بأشخاص، والأشخاص يموتون، ولذلك لا يمكن أن تتواصل مسألة الأسبقيّة في الإسلام، لأنّها لا يمكن أن تورّث، فأبناء الصّحابة اعتمدوا على أنّهم كذلك لأنّ آباءهم كانوا سابقين في الإسلام، لكنّهم لا يستطيعون الادّعاء بأنّهم السّابقون في الإسلام، ومن هنا جاء الخلط، أضف إلى أنّ الأمويّين كانوا يفتقدون إلى القرابة اللّصيقة بالنّبي، لأنّهم ينتمون إلى أميّة لا إلى هاشم، ومع ذلك فهم الأقرب إليه من غيرهم من العشائر القرشيّة الأخرى.

د. نادر الحمامي: صحيح أن للسّابقيّة في الإسلام هذه الأهمّية الكبرى، ولكن لماذا، مثلاً، لم تُسند أدوار قياديّة كبرى في الإسلام المبكّر لمن هم فعلاً من السّابقين في الإسلام، أو من سمّوا لاحقاً بالمستضعفين، مثل عمّار بن ياسر أو ابن مسعود أو بلال أو غيرهم؟ هل يمكن إرجاع ذلك إلى عامل ثالث، وهو ما يسمّى في بعض الدّراسات بالبرجوازيّة القرشيّة التي كانت لها الغلبة، قياساً على الحديث ''خياركم في الجاهليّة خياركم في الإسلام...''؟

دة. حياة عمامو: هذه مسألة مهمّة جدّا، لأنّ السّابقية في الإسلام لا تقصي النّسب الصّريح الموروث عن الجاهليّة، إذ إنّ الإسلام لم يلغ العبوديّة، وإنّما أضاف إليها الولاء، لذلك فالموالي ليسوا كالعرب الصّرحاء. والأسبقيّة في الإسلام تشترط ثلاثة أمور؛ وهي أن يكون المسلم حرّاً وراشداً وذكراً، ذلك أنّ السّلطة كانت تكرَّس في المجتمع الذّكوري وتقصي النّساء، ولا تكون إلاّ في ذوي النّسب الصّريح بما في ذلك من ارتدّوا عن الإسلام، الذين ستسند إليهم المناصب وسيعاملون معاملة أفضل ممّا يعامل الذين لم يرتدّوا، وكذلك الطّلقاء والمؤلّفة قلوبهم الذين هم الصّرحاء من قريش ومن الأعراب الآخرين وهم من الأحرار، لذلك أسند لهم الرّسول عطاءات أو غنائم، حتّى أنّه وقع جرّاء ذلك لغط ونقد للنّبيّ من قِبل الأنصار، فقالوا له كيف تتّألف قلوبهم بالغنائم ونحن الذين ساندنا الإسلام ونصرناه لا نُعطى...

د. نادر الحمامي: أليس في ذلك نوع من التّنسيب لمقولة الشّرف الإسلامي، أو هو مزج بين القبلي والإسلامي؟

دة. حياة عمامو: في التطوّر التّاريخي للأشياء لا يمكن أن نتجرّد تماماً من الموروث، لأنّ تطوّر التّاريخ مبني على القطيعة والتّواصل، فهناك أشياء يتمّ التخلّي عنها وأشياء أخرى تبقى في انتظار أن يقع التّخلّي عنها في مراحل أخرى لاحقة، وهذا ما حدث للشّرف الإسلامي، لأنّ ليس له ديمومة في التّاريخ، فقد وقع إعادة إدماج الأرستقراطيّة العربيّة في مناصب السّلطة وفي مراكز القيادة الكبرى، ووقع إدخال المؤلّفة قلوبهم على حساب من نصروا الإسلام، وكانوا من أصحاب الأسبقيّة فيه. لكنّ التّنسيب هنا مهمّ جدّاً، لأنّ هذا الشّرف الإسلامي لم يُبن على مقاييس إسلاميّة صريحة، وإنّما أخد بعين الاعتبار مقاييس أخرى غير إسلاميّة لا تتعارض مع الإسلام الذي أبقى بدوره على العبوديّة وعلى الولاء، ولم يُدمج المرأة على أساس المساواة مع الرّجل كما أبقى على مسألة السنّ، ذلك أنّ العرب القدامى كان لهم تقدير خاص للشّيوخ والمسنّين والآباء حتّى أنّ هؤلاء كانوا يعبدون في دين العرب القديم، ولذلك كان لهم دور محوريّ في هذا الشّرف، وهذا يمثّل جانباً من الموروث الذي يعود إلى فترة ما قبل الإسلام، ولكنّه تواصل مع الإسلام وتأقلم معه، ولذلك اعتُبر أبو بكر أفضل السّابقين إلى الإسلام لأنّه أسنّهم.

د. نادر الحمامي: إذن هكذا تعاضدت مسألة الشرف الإسلامي مع الشّرف القبلي لتنتج هذه الشرعية؟

دة. حياة عمامو: نعم، وقد بينت ذلك في كتابي بطريقة واضحة انطلاقاً من السّؤال؛ لماذا أُسندت الخلافة إلى أبي بكر، ولم تسند إلى سعد بن عبادة في حادثة السّقيفة؟ ذلك لأنّ أبا بكر الصّدّيق كان أسبق من ابن عبادة في الإسلام، ولأنّه كان من قريش.

د. نادر الحمامي: فهل ترين أنّ بداية التّحوّل عن مقياس الشّرف الإسلامي الذي على أساسه قامت الخلافة الأولى، في اتّجاه العودة إلى مقياس الشّرف القبلي، كانت مع عثمان بن عفّان أم مع معاوية بن سفيان بعد ذلك؟

دة. حياة عمامو: بل إنّ التّحوّل عن مقياس الشّرف الإسلامي بدا واضحاً منذ عهد عمر بن الخطّاب، لأنّ هذا المجتمع الإسلامي الجديد خرج إلى الفتوحات، شرقاً وغرباً، في شكل قبائل وقام بتمصير البصرة (14 هـ) وتمصير الكوفة (17 هـ) وتمصير الفسطاط (21 هـ) بعد ذلك، ثمّ القيروان (50 هـ) وغيرها؛ وقد استقرّ النّاس في هذه الأمصار على أساس انتمائهم القبلي، رغم أنّ ذلك لم يكن صريحاً مثلما كان شأنهم في شبه الجزيرة العربيّة، فقد عمدوا إلى إدماج قبائل متقاربة في ما بينها لإعطائها خططاً معيّنة في المدن، كما قاموا بإدماج عناصر أخرى مثل "الحمراء" أي جند الفرس الذين خرجوا عن رستم وتحوّلوا إلى صفّ العرب وقاتلوا معهم في القادسيّة، وبذلك فقد قبلوا أناسا آخرين من غير أصولهم القبليّة العربيّة الصّريحة، إلاّ أنّنا لا يجب أن ننسى أنّ هذه كانت عادة معروفة منذ ما قبل الإسلام في اتّجاه تكوين ما اصطلح عليه المؤرّخون بـ"الكنفيدراليّات القبليّة"، وأن ذلك لا يعني إلغاء التّمايز القبلي.

د. نادر الحمامي: قضيّة التّمصير مهمّة جدّاً، لأنّها مرتبطة بتوسّع مجال الحضارة العربيّة الإسلاميّة، شرقاً وغرباً. فهل كان التّمصير قائماً على الأسلمة أساساً، أم أنّه قائم على التّعريب أكثر؟

دة. حياة عمامو: كان التّمصير قائماً على هجرة القبائل العربيّة الكثيرة جدّاً، ونحن نعلم أنّ واقع الجزيرة العربية في فترة بداية الإسلام وحتى قبل ذلك، كان فيه الكثير من الصّعوبات الاقتصاديّة، وقد بيّن ذلك الكثير ممّن درسوا مسألة الفتوحات الكبرى، لذلك فإنّ الخروج من شبه الجزيرة العربيّة كان بدافع تغيير الوضعيّات الاقتصادية والاجتماعية، فلم يكن باستطاعة العرب أن يواصلوا نمط العيش السّابق الذي كان يقوم على الغزو والتّجارة الكبرى. وقد قامت الأمصار على الهجرة والاستقرار في شكل قبائل، وقع الاتّفاق على استقرارها في إطار خطط معيّنة انطلاقاً من قرار اتّخذه عمر بن الخطّاب ونفّذه سعد بن أبي وقّاص (ت 55 هـ) في الكوفة، وعتبة بن غزوان (ت 17 هـ) في البصرة. ويمكن القول إنّ العرب المسلمين عندما خرجوا في اتّجاه الفتح والانتشار خارج الجزيرة العربية كان هاجسهم الأوّل هو الهجرة ومواصلة الفتح، وعلى هذا الأساس قامت مختلف الأمصار، بما في ذلك الغربيّة منها. ولم يقع تمصير الشّام لعدم وجود حواجز مائيّة بينها وبين شبه الجزيرة العربيّة، ولأنّ العرب اليمنيّين كانوا متواجدين في بادية الشّام عبر هجراتهم القديمة جدّا، ومن بينهم من ترومن في صلب الإمبراطورية البيزنطيّة، وأولئك هم الذين اعتمد عليهم معاوية بن أبي سفيان في غزو البحر، ثمّ إنّ البيزنطيين كانوا قد فرّوا كلّهم إلى بيزنطة وتركوا بلاد الشّام للعرب اليمنيّين الذين ترومنوا وأسلموا في ما بعد، لذلك لم يكن مطروحا على العرب تمصير الشام وخاصة الذين لم يجدوا ما أرادوا أن يجدوه من غنائم ومنافع، فانتقلوا شرقا وكوّنوا هناك مجالات تواجد واستقلال، وهاجروا أيضا في اتّجاه فلسطين ومنها إلى مصر ومنها إلى بلاد المغرب وإفريقيّة.

د. نادر الحمامي: بما أنّك أشرتِ إلى أنّ العرب كانوا قد خرجوا مهاجرين من شبه الجزيرة العربيّة، وأنّهم واصلوا بعد ذلك الفتوحات، فهل نفهم من ذلك أنّ غرضهم الأوّل لم يكن الفتح وإنّما كان الهجرة أساساً؟

دة. حياة عمامو: لا نستطيع الفصل في هذا الأمر فصلاً دقيقاً، فلولا الفتح لما استطاع هؤلاء أن يهاجروا، وقد استقرّ العرب من قبل على ضفاف الفرات، وكان ذلك في الحيرة، وكوّنوا دولة أيضاً، وكانوا تابعين للسّاسانيّين، ولكن الأمر في الكوفة اختلف، فقد كان العرب منتصرين على السّاسانيّين، ولعلّهم تجنّبوا الحيرة لتجنّب تلك الذكرى، ولترميم ذاكرتهم على أساس أنّهم شعب منتصر وليس تابعاً، ثمّ إنّهم حاولوا أن يقيموا مصرين في الكوفة والبصرة على الضفّة التي تحاذي شبه الجزيرة العربيّة للفرات، وذلك اتقاءً لما يمكن أن يتبادر من الجيش السّاساني الذي انسحب إلى هضاب إيران، وكان يمكن أن يباغتهم في أي وقت، لذلك تركوا بينهم وبينه هذا الحاجز المائي المتمثّل في الفرات ودجلة، ثمّ إن العرب تركوا مجالاً للانسحاب في حال داهمهم الخطر، فكانوا يستطيعون الانسحاب إلى شبه الجزيرة العربيّة دون أن يلحقهم ضرر كبير.

د. نادر الحمامي: لعلّ في طرح هذه القضايا وإعادة النّظر في الفتوحات وفي الهجرة العربيّة وتمصير الأمصار وأسلمة بلاد المغرب، دعوة علميّة إلى دراسة هذا التّاريخ بناءً على الأخذ بالعوامل السّياسية والاقتصاديّة والجغرافيّة والدّيمغرافيّة، عوض الاهتمام بالجانب العقائدي والبكاء على الأطلال وتقديم أحداث الهجرة والفتوحات بقراءات دينيّة في إهمال تام لكافّة العوامل التّاريخية. لذلك لا بد من قراءة هذا التّاريخ قراءة أخرى على غير العوامل الدّينية.

دة. حياة عمامو: لقد قدّم فرد دونر منذ سنة 1982 دراسة علميّة حول الفتوحات الإسلاميّة، أعتبر أنّها جيّدة جدّاً، فقد تناولت مسألة الفتوحات من مختلف أبعادها، كما أن هشام جعيّط قد درس هذه المسائل في كتابه ''الكوفة نشأة المدينة العربية الإسلامية'' بشكل جيّد، وذكر أنّ تمصير الكوفة كان بسبب العطاء الذي كان يوفّره سواد العراق، والذي تُرك فيئاً للمسلمين وملكاً مشاعاً بينهم، ولم يقع تقسيمه على أطراف بعينها كما كان يقسّم النبّي غنائم غزواته ضد بني قينقاع أو بني النّظير، ثم بعد ذلك في خيبر وغيرها. إذن فهذه المسائل قد تمّت دراستها، ولكن النّاس لا يطّلعون على ذلك. وبمناسبة حديثنا حول مسألة الفتوحات، فأنا أميل إلى أنّ جبهة العراق، مثلاً، قد فُتحت بصفة عفويّة وسرعان ما تبنّت ذلك دولة المدينة في عهد أبي بكر الصدّيق، لأنّ الجبهة الرّسميّة آنذاك كانت الشّام، وكان من الطّبيعي أن يتوسّع العرب في اتّجاه بادية الشّام، ولكن بالنّسبة إلى العراق كان الأمر مختلفاً، فقد انطلق إليها المسلمون بعد حروب الردّة مباشرة، وشارك فيها حتّى المرتدّون، وقد سمح لهم عمر بن الخطّاب بالمشاركة في هذه الفتوحات دون أن تكون لهم مراكز قياديّة، كما سمح لهم بالحصول على الغنائم وعلى نصيبهم من العطاء؛ ولعلّ السّبب وراء الفتوحات كان حالة القحط والانفجار الدّيمغرافي الذي عرفته منطقة شرق شبه الجزيرة العربيّة، ما دفع النّاس إلى التّنقّل في اتّجاه جبهات أخرى غنيّة وثريّة، ولم يكن دافعهم دينيّاً بالضّرورة.

د. نادر الحمامي: أليست مقاربة التّاريخ العربي والإسلامي اعتماداً على هذه المناهج والتّعريف بها ومحاولة تدريسها ونشرها، قادرة على إنقاذنا من تمجيد تاريخنا؟

دة. حياة عمامو: ما يمكن أن ينقذنا هو أن نُسقط كلّ قداسة عن التّاريخ، وأن نُعيد التّاريخ إلى التّاريخ، حتّى نفهم ما حدث كما حدث، ولو تمسّكنا بالنّظرة القدسيّة للتّاريخ، فإنّنا لن نفهم شيئاً، وسنبقى نبكي على الأطلال ونتفاخر بالماضي المجيد الذي كنّا فيه منتصرين وكنّا سادة العالم، والحقيقة أنّ العرب المسلمين كانوا في شكل قبائل تُعتبر أنقص حضارة من الشّعوب المجاورة لهم ومع ذلك استطاعوا أن يؤسّسوا حضارة وأن يتثاقفوا مع تلك الشّعوب، وهذا حدث في التّاريخ حتى مع البرابرة الذين هاجموا الإمبراطوريّة الرّومانية، وانتصروا عليها، واستطاعوا أن يتثاقفوا مع شعوبها وتاريخها وأن يؤسّسوا ما يسمى الآن بأوروبا؛ فهم الذين أسّسوا الدّولة الأمّة، وهم الذين أسّسوا اللّغات الأوروبيّة التي نعرفها اليوم. ولذلك، علينا إعادة التّاريخ إلى التّاريخ وترك المقدّس للدّين، وعلى المشتغلين بالدّين أن يرفعوا أيديهم عن التّاريخ، لأنّه ليس ملكاً لهم.

د. نادر الحمامي: وربّما هذه الخاتمة هي دعوة لإعادة التّاريخ إلى التّاريخ، ولا يمكنني أن أختم بغير ما قلتِ، لأنّ هذه هي الدّعوة الحقيقيّة للمقاربة العلميّة التي تدعو إلى نزع القداسة عن التّاريخ، ونحن نضمّ صوتنا إلى صوتك، فندعو المشتغلين بالدّين إلى رفع أيديهم عن التّاريخ وعن الدّين أيضاً، ولا يسعنا في الختام إلاّ أن نشكرك شكراً خاصاً أستاذة حياة عمامو على رحابة صدرك وعلى قبولك مشاركتنا أفكارك حول مسائل مهمّة تتعلّق بالتّاريخ ومناهجه، ونأمل أن تجمعنا لقاءات علميّة وفكريّة أخرى قادمة.