دور النبوة ومكانتها في البحث عن الحقيقة من منظور رسائل النور


فئة :  قراءات في كتب

دور النبوة ومكانتها في البحث عن الحقيقة من منظور رسائل النور

دور النبوة ومكانتها في البحث عن الحقيقة من منظور رسائل النور، هو عنوان كتاب جمع بحوث مؤتمر دولي، نظمته مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم سنة 2013م، وهو المؤتمر العاشر الذي تخصصه هذه المؤسسة لدراسة فكر بديع الزمان سعيد النورسي.

شارك في هذا المؤتمر كثير من الباحثين من البلدان العربية ومن خارجها، ومن نماذج البحوث المقدمة؛ بحث الدكتورة (أحلام محمود علي مطالقة) الأستاذة في كلية الشريعة في جامعة اليرموك في الأردن، وقد وسمت بحثها بــ "دور النبوة في تعزيز الإيمان من خلال تجليات أسماء الله الحسنى في فكر الإمام النورسي".

تمثلت مشكلة هذه الدراسة في غياب تفعيل معاني النبوة، ومقاصدها، وتجلياتها في واقع البشرية، والحال أن البشرية تحتاج إلى تقوية معاني الإيمان، لتقف أمام كل أشكال إفساد الأرض، وقد أكد النورسي، في نظر الباحثة، على ضرورة النبوة، وحاجة البشرية إليها لتعزيز الإيمان من خلال رسائله، وبناء على هذا، ضبطت صاحبة الدراسة السؤال الرئيس لبحثها، وهو: ما دور النبوة في تعزيز الإيمان من خلال تجليات أسماء الله الحسنى في فكر الإمام النورسي؟ ويتفرع عن هذا السؤال المحوري، الأسئلة الفرعية الآتية: ما مفهوم النبوة وأدلتها؟ ما أسباب حاجة الإنسانية إلى النبوة؟ ما أساليب النبوة في تعزيز أركان الإيمان من خلال تجليات أسماء الله الحسنى؟ ما آثار تجليات أسماء الله الحسنى في تعزيز الإيمان؟

وقد خلصت الباحثة إلى جملة من النتائج منها:

1- إن مفهوم النبوة يتعلق بعبد اصطفاه الله بالوحي إليه.

2- يثبت الإمام النورسي أدلة النبوة العقلية، من خلال حاجة الكون إلى منظم ينظم شؤونه ويسوسها، وهو سر نظام العالم، كما أن توحيد الألوهية، يظهر من خلال النبوة، ويثبت الإيمان.

3- يؤكد الإمام النورسي، أن أسباب حاجة الإنسانية إلى النبوة، تتمثل؛ بقصور العقل البشري، وعجز الإنسان وضعفه، وتغلب حظوظ النفس وتأثيراتها السلبية عليه.

4- يبين النورسي أن أساليب النبوة في تعزيز الإيمان من خلال تجليات أسماء الله الحسنى، تتمثل في تعزيز الشكر الكلي لله تعالى، وإدراك درجة القدرة الإلهية بموازين العجز عند الإنسان، وتعزيز معاني الإيمان من خلال تجليات أسماء الله الحسنى في الكون، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان.

5- تتمثل آثار تجليات أسماء الله الحسنى؛ في زيادة المعرفة بالخالق، والتعرف على كمالاته، والأنس به.

ويتضمن الكتاب بحثًا ثانيًا للأستاذ أمين محمد سلام المناسية، المدرس بكلية الشريعة بجامعة مؤتة بالأردن، وقد اختار لبحثه العنوان الآتي: "الدور التوجيهي للأنبياء في الحياة الفردية والعائلية والاجتماعية"، وغاية هذه الدراسة؛ البحث في موضوع الكشف عن الدور التوجيهي للأنبياء، وعلى هذا الأساس، تكوّن البحث من؛ مقدمة، وأربعة مطالب، وخاتمة. اشتملت المقدمة على التعريف بالتوجيه وتقسيمات البحث. وفي المطلب الأول؛ بحث الدارس ازدواجية السعادة وازدواجية العذاب. أمّا المطلب الثاني؛ فهو يدور حول كيفية الحصول على القدوة الصالحة النافعة. واهتم المطلب الثالث بالتوجيه الفردي. وركّز المطلب الرابع على التوجيه المجتمعي. وتضمنت الخاتمة النتائج والتوصيات، ومنها؛

- تنبيه النورسي في كتاباته، على أن الإنسان هو مركز الكون، وأنه سرّ عظيم من أسرار الله في هذا الكون.

- فهمه العميق لحديث الرسول: {إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق}، وهذا الحديث جعل التربية أساس كل السلوك الإنساني.

- الأنبياء والمرسلون: هم أساتذة الأخلاق والتربية على مر التاريخ، والعلماء المجددون: هم ورثة الأنبياء في توجيه البشرية إلى الخير والصلاح.

- إن أعلى مراتب الأخلاق: أن يكون الشخص ربانيًّا متصلًا بالله، ومعترفًا بفضله.

- وفي البحث الموالي الموسوم بـ "قراءة الأنبياء كتاب الكون من خلال رسائل النور" للأستاذ زياد خليل الدغامين، المدرس بكلية الشريعة في جامعة آل البيت في الأردن. سعى صاحب البحث إلى إبراز منهج النورسي في بيان هدي الأنبياء، في قراءة كتاب الكون من منظور رسائل النور، ويسعى هذا البحث إلى بيان الوظائف المترتبة عن هذه القراءة، وبيان مفاتيح قراءة كتاب الكون، هل يقرأه المسلمون كما تقرأه أمم الشرق والغرب؟ أم لا بد من قراءة بمواصفات ومعايير خاصة تنبع من خصوصية هذه الأمة؟ وهل استطاعت العلوم والمعارف الحديثة أن تقف على قراءة كاملة للكون؟

ويمكن إجمال النقاط التي دار عليها البحث في الآتي: الكون في نظر النورسي، مقاصد خلق الكون، العلاقة بين القرآن والكون، أثر العلوم المعاصرة في قراءة الكون، قراءة الأنبياء وقراءة الفلاسفة الماديين، منطلقات قراءة الكون.

ومن أهم نتائج البحث:

1- الكون مخلوق عظيم تتجلى فيه أسماء الله الحسنى.

2- مقاصد خلق الكون تحدد في ضوء رسالات الأنبياء، وأعظم هذه المقاصد؛ الدلالة على التوحيد.

3- العلوم المعاصرة، تتساند مع هدايات الوحي وعلومه في الدلالة على أن هذا الكون مخلوق لله الواحد.

جاء البحث الرابع في هذا الكتاب بعنوان "حاجة البشرية إلى النبوة" للدكتور مأمون فريز جرار المدرس بالجامعة الأردنية، وقد تطرق هذا البحث إلى أن النبوة، كما يراها النورسي، هي: مقصد من المقاصد الأربعة للقرآن الكريم؛ التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة، وقد تحدث عن هذا المقصد في رسائل النور في مواضع عدة؛ فتحدث عن النبوة بصفة عامة، كما خصَّ النبي بحديث مفصل في رسائل النور، وخصص له بعض الرسائل، "وبإرسال الأنبياء، انفتح ميدان الامتحان والتجربة والجهاد والمسابقة" (المكتوبات53)، وينقسم هذا البحث إلى عدة محاور منها؛ ضرورة النبوة في نوع البشر وما يستلزمها، الأسماء الحسنى تستلزم وجود النبوة، منزلة الإنسان في الوجود، منزلة النبوة في حياة البشر.

ورد البحث الموالي بعنوان "دور السنة النبوية والقواعد الواجب مراعاتها في تطبيقها" للأستاذ مروان إبراهيم القيسي، ومن دواعي هذا البحث؛ ما تضمنته رسائل سعيد النورسي من بحث ومناقشة لأهمية السنة النبوية، وضرورة اتباعها، وبيان دورها في تحول المسلمين في عاداتهم إلى عبادات، والتأكيد على ضرورة اجتناب البدع، وضرورة انضباط التصوف بالسنة، ودور العلماء، خاصة، في اتباع الرسول مدى الحياة، وعلاقة السنة بالاجتهاد، وأهمية الصحابة فيما يخص السنة.

تضمن الكتاب، بعد ذلك، بحثًا للأستاذ هادي رضوان من جامعة كردستان- إيران، موسومًا بــ "دلالة الرسول الأكرم على الوحدانية الإلهية من منظور رسائل النور"، ويشتمل هذا العمل على المباحث الآتية: أهمية النبوة عند النورسي، دلالة الرسول الأكرم على التوحيد، دلالة رسالته، دلالة شخصيته، برهان بديع.

وتتلخص نتائج هذا البحث المختصر في ما يلي:

1- تعدّ نبوة محمد عليه السلام من أهم البراهين الدالة على التوحيد عند النورسي؛ فالبراهين التي تعرف لنا ربنا ثلاثة: كتاب الكون، وبرهان محمد، ومعجزة القرآن، هذا ما أتى به النورسي في أكثر رسائله، وفي بعض المواضع يأتي النورسي بهذا البرهان قبل كتاب الكون ومعجزة القرآن، ويعده البرهان الأول.

2- إن لبرهان محمد في إثبات التوحيد جهتين: جهة رسالته، وجهة شخصيته (عبوديته)، وكلتا الجهتين تثبت الوحدانية الإلهية على سيبل الضرورة.

3- إن في مقارنة كلمتي الشهادة؛ إشارة إلى كون واحدة منها دليلًا صادقًا على الأخرى؛ فالكلمة الأولى (أشهد أن لا إله إلا الله) برهان على الوحدانية، وهذا أسلوب رائع، حسب صاحب البحث، ولم يسبق إليه حسب تقديره.

جاء البحث الموالي بعنوان "مفهوم النبوة وضرورتها للبشرية بمنظور رسائل النور"، وهو لحامد أشرف همداني، الأستاذ بجامعة بنجاب، لاهور، باكستان. وقام هذا العمل على مبحث أول بعنوان "تعريف النبوة وماهيتها في نظر النورسي". أمّا المبحث الثاني؛ فهو مركّز على ضرورة النبوة المطلقة والنبوة المحمدية للبشرية. وكان مدار المبحث الثالث؛ حول كيفية إثبات النبوة وبيان ضرورتها عند النورسي. وجاء المبحث الرابع تحت عنوان "الآثار والعواقب المترتبة على جحود النبوة". أمّا المبحث الخامس؛ فكان بعنوان "دور النبوة في سعادة البشرية وإنقاذها من الضلال". والسادس؛ "ضرورة النبوة للدعوة إلى توحيد الخالق وإثبات وجوده". والسابع؛ "ضرورة النبوة للدعوة إلى عبادة الله تعالى". والثامن؛ "ضرورة النبوة للإيمان باليوم الآخر". والتاسع؛ "النبوة أنموذج رائع للسلوك الإنساني والقيم والأخلاق الفاضلة". والعاشر؛ "النبوة مثل حي للتقدم الحضاري البشري".

وقد بين الباحث في خلاصة بحثه أن الإمام النورسي قد أولى اهتمامًا بالغًا بموضوع النبوة، تصريحًا أو تعريضًا، وأن النبوة، بمفهومها العام، في فكر النورسي، تتخذ طابع الرسالة والتبليغ عن الله، وأنها منحة إلهية، إلا أن الله يختار لها أناًسا خصهم وميزهم بخصائص ليست موجودة في سائر البشر؛ فالرسل أكمل البشر خَلقًا وخُلقًا، وأرجحهم عقلًا، وأوفرهم ذكاءً.

والحق أنّ منزلة النبوّة ووظائفها لدى الإمام النورسي، موضوع يستحق الدرس؛ فقد بيّن النورسي، في أكثر من موضع، مركزيّة النبوّة باعتبارها مقصدًا رئيسًا من مقاصد القرآن؛ أي إنّ القرآن نزل على الرّسول محمد (صلى الله عليه وسلم) لإرساء رسالة النبوّة الموجّهة إلى البشريّة. يقول في سياق تفسيره للآيات: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن (55): 1-2-3-4]: "أمّا بعد، فاعلم أوّلًا: أنّ مقصدنا من هذه الإشارات؛ تفسير جملة من رموز نظم القرآن؛ لأنّ الإعجاز يتجلّى من نظمه، وما الإعجاز الزّاهر إلا نقش النظم. وثانيًا: إنّ المقاصد الأساسيّة من القرآن، وعناصره الأصليّة أربعة: التوحيد، والنبوّة، والحشر، والعدالة"[1].

ويلاحظ الباحث المهتمّ بفكر النورسي أنّ موضوع النبوّة وجد بعض العناية من لدن عدد من الباحثين، نذكر منهم على سبيل المثال: الباحث إبراهيم نجيب إبراهيم؛ الذي ينتمي إلى المعهد العالي للدراسات الإسلامية بمصر، وقد أنجز أطروحة دكتوراه موسومة بـ (النبوّة في فكر الإمام بديع الزمان سعيد النورسي)، ومن أهمّ غايات هذا البحث؛ النظر في موضوع النبوّة من خلال "رسائل النور"، لإثبات أنّها منحة إلهيّة لإصلاح الدنيا والآخرة، ورحمة إلهيّة بالبشريّة؛ فإخراجها من الشكّ إلى اليقين، مع إيراد البراهين الدالّة على الثّبوت القطعي لهذه النبوّة بالوحي، والعقل، والقلب، وقد اشتملت هذه الرسالة على خمسة فصول:

في الفصل الأوّل؛ بيّن السّمات الشخصيّة والثقافيّة التي كوّنت منهج النّور الإيماني في رؤية النبوّة. وفي الفصل الثّاني؛ عرض خصائص الرّسالات السماويّة، ودور الأنبياء في نشرها. وفي الفصل الثالث؛ خصّص بحثه للنبوّة، وعلاقتها بالمعجزة بمختلف أنواعها. أمّا الفصل الرابع؛ فإنّ مداره كان حول صلة النبوّة بالولاية لدى النورسي. وتوقّف في الفصل الخامس؛ عند البعد المعرفي والأخلاقي للنبوّة في فكر النورسي.

ونلاحظ من جهة أخرى؛ رسالة ماجستير أنجزت بمعهد العلوم الاجتماعيّة بجامعة أنقرة حول فهم النبوّة لدى سعيد النورسي، وقد أنجزها أحمد إيتاش، وناقشها يوم 26 ديسمبر 1996، وهي باللغة التركية، وتنقسم هذه الرسالة إلى مقدّمة وثلاثة أقسام:

يتضمّن القسم الأوّل منها؛ الحديث عن إمكان النبوّة وضرورتها لدى النورسي. ويتطرّق القسم الثاني؛ إلى مقارنة حجج النبوّة لدى النورسي بحججها لدى آخرين. أمّا القسم الثالث؛ فيخوض في الوظائف التي حاول الأنبياء الاضطلاع بها.

وليس من الغريب أن يخوض بديع الزمان النورسي في مسألة النبوّة، التي تعدّ من أعمدة بحوث علم الكلام، ذلك أنّ هذا العلم له منزلة أثيرة عنده؛ فهو قاعدة من القواعد الأساسيّة الأربعة للسموّ إلى مرتبة معرفة الله عزّ وجلّ، ويقول في هذا الشّأن: "إنّ أصول العروج إلى عرش الكمالات، وهو معرفة الله جلّ جلاله، أربعة: أوّلها؛ منهاج علماء الصوفيّة المؤسس على تزكية النّفس والسّلوك الإشراقي. ثانيها؛ طريق علماء الكلام المبني على الحدوث والإمكان، وهذان الأصلان، وإن تشعّبا من القرآن الكريم، إلاّ أنّ فكر البشر قد أفرغهما في صور أخرى فأصبحتا طويلة وذات مشاكل..."[2].

وقد بيّن النورسي أنّ (رسائل النّور) تتنزّل في إطار علم الكلام، يقول: "تذكرون في رسالتكم رغبتكم في تلقّي درسًا في علم الكلام منّي، أنتم يا إخوتي، تتلقّون ذلك الدّرس فعلًا، فما استنسختموه من الكلمات دروس منوّرة لعلم الكلام الحقيقي"[3]. وهذا النّعت الأخير يبرز أنّ النورسي يحمل تصوّرًا ومفهومًا لعلم الكلام، ينأى عن المفهوم التقليدي المستقرّ؛ فهو يرى أنّ الطّريق الذي يتّبعه أهل علم الكلام وأدلّته، تطيل الطّريق، وبعيدة عن الإجابة عن الاحتياجات، أو أنّها لا تتعدّى مخاطبة العقل[4]، ومع ذلك، فإنّ (رسائل النّور) تطرّقت إلى كثير من مواضع علم الكلام، وكانت شبيهة به، من ناحية اعتمادها على الحجج، والبراهين، والأدلّة النقليّة والعقليّة، التي تبتغي إثبات الحقائق الإيمانيّة والاعتقاديّة.

والنبوّة في فكر بديع الزمان، سعيد النورسي (ت 1960م): هي ركن ركين من رؤيته للدّين الإسلامي، وليس أدلّ على ذلك، من اعتباره إياها مقصدًا من مقاصد القرآن الأربعة، وهي؛ التوحيد، والنبوّة، والحشر، والعدالة، مع العبوديّة[5].

ويمكن النظر في مستويين من مستويات تعريف النبوّة لدى النورسي: أمّا الأوّل؛ فهو المستوى العام، وفيه تتماهى النبوّة مع الرّسالة، بما يعني؛ التركيز على الفهم الوظائفي للنبوّة؛ فالمهمّة الأساسيّة للنبيّ، هي: أن يكون مرسلًا من الله إلى النّاس لتبليغهم رسالته، "وهو المبعوث ذو الصفتين: صفة العبودية الكلية؛ فهو ممثل طبقات المخلوقات عند الحضرة الربانيّة، وصفة الرسالة والقرب إليه؛ فهو مرسل من لدنه سبحانه إلى العالمين كافة"[6]. والنبوّة: عطاء إلهي، ومنّة إلهيّة، يختارها إله حكيم، ويشرّف بها من يشاء من عباده، دون تدخّل لعامل الرّغبة الإنسانيّة في ذلك".

ومن هذا المنطلق، كانت النبوّة عامّة، في نظر النورسي، بمثابة النواة التي أنبتت الشجرة الإسلاميّة بأزاهيرها وثمراتها[7]، وأضوأ ثمراتها، وأزينها، وأعظمها، هو: محمد (ص)[8].

يلاحظ الناظر في مؤلّفات بديع الزمان (سعيد النورسي): أنّه اقتفى آثار علماء الكلام في تأصيل نبوّة محمد (صلى الله عليه وسلم)، استنادًا إلى أدلّة وحجج نقليّة وعقليّة، ومن ذلك، تخصيصه مقدّمة في تحقيق النبوّة ضمن كتابه "إشارات الإعجاز" بيّن في صدارتها؛ "أنّ الآية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[النجم (53): 23]، تثبت ثاني المقاصد الأربعة، وهو؛ إثبات نبوّة محمد عليه الصلاة والسلام بأكمل معجزاته، والتي هي التحدّي بإعجاز القرآن الكريم"[9].

وينتقل النورسي من هذه الحجّة النقليّة إلى حجّة عقليّة منطقيّة، نلمس من خلالها تأثّره بالبرهان المنطقي القائم على مقدّمتين ونتيجة:

مقدّمة 1: الاستقراء التام في أحوال الأنبياء.

مقدمة 2: الانتظام المطّرد المسمّى بالقياس الخفيّ.

نتيجة: إن مدار النبوّة وأساسها يوجد بأكمل وجه في محمد عليه الصلاة والسلام، ويقول في هذا الشّأن: (اعلمْ أنّ الاستقراء التامّ في أحوال الأنبياء، مع الانتظام المطّرد المسمّى بالقياس الخفيّ، أنتج أن مدار نبوّة الأنبياء، وأساسها، وكيفيّة معاملاتهم مع أممهم، بشرط تجريد المسألة عن خصوصيّات تأثير الزمان والمكان، يوجد بأكمل وجه في محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي هو أستاذ البشر في سنّ كمال البشر؛ فينتج بالطريق الأولى وبالقياس الأوّليّ: أنّه، أيضًا، رسول الله"[10].

ومن الأدلّة القرآنيّة التي تثبت النبوّة؛ الآية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر (54): 1]، فردًّا على موقف فريق أنكر حدوث الانشقاق فعلًا، وقال: (لو كان الانشقاق قد حدث فعلًا، لعرفه العالم، ولذكرته كتب التاريخ كلّها)، وكان جواب النورسي: (إن انشقاق القمر معجزة لإثبات النبوّة، وقعت أمام الذين سمعوا بدعوة النبوة وأنكروها، وحدثت ليلًا في وقت تسود فيه الغفلة، وأظهرت آنيًّا، فضلًا عن أنّ اختلاف المطالع ووجود السحاب والغمام، وأمثالها من الموانع، التي تحول دون رؤية القمر، علمًا أنّ، أعمال الرصد ووسائل الحضارة لم تكن منتشرة في ذلك الوقت؛ لذا، لا يلزم أن يرى الانشقاق كلّ الناس في كلّ مكان، ولا يلزم، أيضًا، أن يدخل كتب التاريخ)[11].

إنّ الناظر في مصنّفات النورسي يستوقفه، بلا شكّ، سؤال جوهريّ عن سرّ اهتمامه الكبير بالنبوّة؟ ولا يمكن فهم هذا السرّ، في نظرنا المتواضع، دون وصل النورسي بسياقه التاريخي والجغرافي؛ ففي زمنه وفي موطنه تركيا، كان للتصوّف حظوة كبيرة لدى العامّة والخاصّة، وقد أنزل فريق من المتصوّفة مفاهيمهم منزلة مفاهيم الوحي؛ بل إنّهم يؤخّرون، فيما بعد، هذه المفاهيم لصالح مفاهيمهم، على غرار إنزال المجاز منزلة الحقيقة، والولاية منزلة النبوّة، وتقديم الولاية عليها، وإنزال الباطن منزلة الظاهرة، وإنزال الأوراد الصوفيّة منزلة الأذكار السنية، وإنزال الإلهام منزلة الوحي وتقديم الإلهام عليه.

وقد تصدّى النورسي لهذه المواقف، ساعيًا إلى البرهنة على نقيضها[12]، وفي هذا الصدد غلّب منزلة الصّحابة القريبين من النبيّ على منزلة الأولياء، قائلًا: (إنّ نسبة النبوّة إلى الولاية، كنسبة الشمس المشهودة بذاتها، إلى صورتها المثاليّة الظاهرة في المرايا؛ لذا فإنّ سموّ منزلة العاملين في دائرة النبوّة، وهم الصحابة الكرام الذين كانوا أقرب النجوم إلى تلك الشمس الساطعة، وعلوّ مرتبتهم على الأولياء الصالحين؛ هو نسبة سموّ دائرة النبوّة وعلوّها على دائرة الولاية[13].


[1]- النورسي، إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز، تحقيق: إحسان قاسم الصالحي، ص 23

[2]- بديع الزمان سعيد النورسي، صيقل الإسلام- المحاكمات، تحقيق: إحسان قاسم، ص 122

[3]- الملاحق- ملحق قسطموني، نقلًا عن آميد شمشك، أصول التفكر في رسائل النور، ص 208 W.nurmajalla.com/articlephp ?cid=1&c=6&id=304

[4]- كليات رسائل النور (بالتركية)، نقلًا عن آميد شمشك، المرجع نفسه، ص ص ص 503- 1574- 2022

[5]- النورسي، الشعاعات، ط 1، إسطنبول، طبعة دار سولكزر، 1992م، ص 310

[6]- النورسي، الكلمات، ص ص 62- 63

[7]- النورسي، المثنوي العربي، ص 176

[8]- المصدر نفسه، ص 330

[9]- النورسي، إشارات الإعجاز، ص 165

[10]- المصدر نفسه، ص 165

[11]- أحمد شكري شابسوغ، علوم القرآن والتفسير في رسائل النورسي، بحث قدم ضمن مؤتمر بديع الزمان النورسي: فكره ودعوته، الأردن، 12/06/1997م.

[12]- النورسي، أنوار الحقيقة، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، بغداد، مطبعة الحوادث، ط 1، 1990م، ص ص 73-77

[13]- النورسي، الاجتهاد في العصر الحاضر، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، بغداد، مطبعة الخلود، 1985م، ص 40. وانظر: المصطفى الوضيفي، مزالق السالكين، دراسة في خصوصيّة رسائل النّور، www.muruline.com