ديل أيكلمان، "أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية"، تحرير يونس الوكيلي، ترجمة نخبة من المترجمين.


فئة :  قراءات في كتب

ديل أيكلمان، "أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية"،  تحرير يونس الوكيلي، ترجمة نخبة من المترجمين.

ديل أيكلمان، "أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية"،

تحرير يونس الوكيلي، ترجمة نخبة من المترجمين.

صدر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، كتاب بعنوان “ديل أيكلمان، أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية”، تحرير يونس الوكيلي، وترجمة نخبة من المترجمين. الطبعة الأولى 2022م.

يضم الكتاب الكثير من المواضيع التي قسمت إلى ثلاثة أقسام، وهي: القسم الأول: الإسلام والحداثة والسلطة، وقد جمع أربعة أبحاث، وهي: نعيم الإسلام، ابتكار التقليد في السياسة الإسلامية، السمات الأساسية للإباضية في عمان، الثقافة والهوية في الشرق الأوسط. القسم الثاني: المعرفة والتعليم والعلوم الاجتماعية، وضم ثلاثة أبحاث، وهي: التعليم الإسلامي وإعادة الإنتاج الاجتماعي، دراسات الشرق الأوسط في إسرائيل وأروبا والولايات المتحدة، العلوم الاجتماعية تحت الحصار. القسم الثالث: المجال العام والإعلام والعنف، وضم ثلاثة أبحاث، وهي: إعادة تعريف المجالات العمومية الإسلامية، وسائل الإعلام في الدراسات الاسلامية، الإسلام العام كترياق للعنف. إضافة إلى حوار مع ديل أيكلمان أجراه يونس الوكيلي، وهو من نسّق الكتاب وقدم له.

تعكس فهرست الكتاب مختلف الأبحاث ذات بعد راهني وواقعي، فهي تتلمس خطوات الفهم لطبيعة الثقافة الإسلامية اليوم في علاقتها بالماضي والحاضر، فضلا على الاقتراب من طبيعة التحولات الاجتماعية والثقافية، داخل المجال الثقافي في صلته بمقتضيات العصر الحديث.

الكتاب مهمّ في بابه، فهو يأخذنا إلى مجال معرفي تحضر فيه نظرة الدارس الغربي إلى الثقافة الإسلامية، من زاوية تم وسمها بـ "أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية"؛ فالكتاب يعكس نموذجا في غاية الأهمية لطبيعة هذا الاتجاه المعرفي في قراءة الإسلام، من خلال تتبع وقراءة طروحات أحد أهم أعلام هذا القطاع المعرفي، وهو الأمريكي "ديل إيكلمان" فمن هو هذا الرجل وما هي أهم مؤلفاته؟

من هو "ديل إيكلمان"

ديل إيكلمان أستاذ كرسي رالف وريتشارد لازاروس للأنثروبولوجيا والعلاقات الإنسانية (متفرغ) بكلية دارتموث بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد نشر العديد من البحوث والكتب منها "الإسلام في المغرب" (1976، ونشرت ترجمته إلى العربية عام 1989)، وكتاب "الرحالة المسلمون: الحج والهجرة والمخيلة الدينية" (حرره بالاشتراك مع جيمس بيسكاتوري، 1990)، وكتاب "الإسلام العام والمصلحة العامة" (حرره بالاشتراك مع أرماندو سالفاتوري، 2002)، وكتاب "سياسة المسلمين" (إعداد مشترك مع جيمس بيسكاتوري، طبعة جديدة، 2003)، "المعرفة والسلطة في المغرب" (1985، ونشرت ترجمته إلى العربية عام 2009).

يقول ديل إيكلمان عن نفسه: إنَّ الحكمة الشَّائعة مبكِّراً بالنِّسبة إلى جيلي في العلوم الاجتماعيَّة؛ هي أنَّ الدِّين الَّذي كان مركز الحياة الفكريَّة والاجتماعيَّة؛ أصبح هامشيَّاً أكثر فأكثر بالنِّسبة إلى الحياة العامَّة في المجتمعات المعاصرة، وحتَّى لَمَّا كنت طالباً في الدِّراسات العُليا، وقبل أن تكون لديَّ أيَّ تجربة في العالم الإسلاميِّ، لم أكن مُرتاحاً لقبول كيف أنَّ العلوم الاجتماعيَّة آنذاك افترضت بكلِّ ثقة تنامي إحالة الدِّين وحصره في المجال الخاصِّ، لقد كنت مُرتاباً في تلك الحكمة المألوفة، ومنذ منتصف السِّتِّينيات فصاعداً؛ حاولتُ أن أُبيِّنَ بدقَّة لماذا كنتُ أقف ضدَّ الافتراض القائل إنَّ الدِّين كان يلعب دوراً هزيلاً في الحياة العامَّة.[1] فمنذ أكثر من نصف قرن؛ لا زلت مُنجذباً للبحث في المعتقدات والتَّعبيرات والممارسات الدِّينيَّة، وكيفيَّة تنوُّع الدِّين والإيمان عبر مسارات التَّاريخ والمجال. وبمعنى أكثر عموميَّة: انصبَّ اهتمامي على أنثروبولوجيا المعرفة؛ أي: التَّصنيفات والمفاهيم المنظَّمة حسب المعنى الَّذي يُضفيه النَّاس عليها، وبالتَّالي يتصرَّفون على أساسه في بيئاتهم الاجتماعيَّة والطَّبيعيَّة[2]

بداية مسار ديل أيكلمان، انطلق بأطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول "الإسلام المغربي" سنة 1976، التي خلص فيها إلى أن المغاربة يتقاسمون رؤية عالم واحدة مهما اختلفت أنشطتهم، وهي ما يعبرون عنه من خلال مفاهيم مكثفة من قبيل: قدرة الله، والعقل، و’الحشوميّة’، والحق، والعار، والحس المشترك (لْقاعِدة)، قبل أن تتوسع “المغامرة” في عمل آخر هو “المعرفة والسلطة بالمغرب” (1985) الذي “بحث من خلاله في تيارات دينية أخرى سائدة عند الفئات المثقفة، ساعياً إلى فهم أسس التربية الدينية ودور المثقف الديني القروي في تطوير المجتمع والعالم العصري (…)، معتبرًا أن “المثقفين الدّينيين في مقدمة المجددين وأجهزة فعّالة في ربط الماضي بالحاضر، وتطوير المجتمع (…) وهو في ذلك مُصرّ على نقد تعريف نظرية التحديث للدين التي سادت خلال منتصف القرن العشرين، باعتباره قوة متراجعة في المجتمع والحياة العامة”[3]. لم تقتصر تجربة ديل أيكلمان على المغرب الذي كان مهد اشتغاله الأكاديمية، فقد استمرت رحلته البحثية في مختلف بلدان العالم الإسلامي.

ديل أيكلمان وأنثروبولوجيا الإسلام

تعني الأنثروبولوجيا "علــم الإنســان" أي العلــم الــذي يــهتم بدراسة الإنســان بشكل طبيعي وحضاري واجتماعي. وهناك من يطلق على الأنثروبولوجيا علم (الأناسـة)، وهو العلـم الـذي يهتم بدراسة الإنسان كمخلوق، ومن ناحية ثانية أنّـه الوحيد الذي يختلف عن المخلوقات جميعها، بكونه الكائن الوحيد الذي يصنع الثقافة ويبدعها. وعندما نضيف مفردة الإسلام أو المجتمعات الإسلامية الى مفهوم الأنثروبولوجيا؛ فذلك يعني دراسة الانسان المسلم من جهة الثقافة والحضارة والمجتمع والتاريخ والمعتقد... ظهرت الأنثروبولوجيا أواسط القرن 19م لحظة خروج الغرب إلى العالم الأمر الذي يتطلب دراسة الآخر المختلف، والمختلف هنا هو الشرق وكل ما ارتبط به (العالم الإسلامي وإفريقيا والأمريكيتين وأستراليا...)؛ وذلك بالبحث في أصول الشعوب المختلفة من جهة خصائصها وثقافتها ومعتقداتها ومعرفة طبيعة تغيرها... فالأنثروبولوجيا تشترك مع الاستشراق في الموضوع، مع العلم أن الاستشراق أسبق من الأنثروبولوجيا، كما أنها تشترك معه في نزعة المركزية الغربية التي تنظر إلى الآخر المختلف من خلال ذاتها ومصالحها.

وبكون الاستشراق عرف تحولات وتطورا من جهة الموضوع والمنهج؛ إذ لا يمكن أن ندين الاستشراق في مجمله، فهناك استشراق يتحلى بالموضوعية العلمية وهناك استشراق آخر في تماهي مع المركزية الغربية وأهدافها بفرض سيطرتها وسلطتها على البلدان المستعمرة، كذلك هو الأمر مع الأنثروبولوجيا ففيها وجه واتجاه علمي، ووجه واتجاه آخر مرتبط بخدمة السلطة ومصالح الغرب، بالرغم من أنه يتلحف بثوب العلم.

لقد برز في العقود الأربعة الأخيرة بقوّة وبحضور لافت للاهتمام تخصّص معرفيّ جديد داخل حقل الأنثروبولوجيا أطلق عليه (أنثروبولوجيا الإسلام). وفي ثنايا تبلور هذا الحقل الجديد تمّت مراجعة القبليّات الفكريّة والمعرفيّة للكثير من مقولات وتصوّرات ومصطلحات عدد من الأنثروبولوجيّين الغربيّين، وتمّت عمليّة اكتشاف بقايا مرجعيّات ثقافيّة/استشراقيّة كانت هي الحاكمة والناظمة لهم، وهذا الأمر جعل أنثروبولوجيا الإسلام أمام مراجعتين مهمّتين لم تطل الرواسب الاستشراقيّة فحسب، بل طالت العمل الميدانيّ/الحقليّ ومنهجيّته الأساسيّة الإثنوغرافيا. وأمام هذا كلّه أعيد للمشهد مرّة أخرى مسألة المركزيّة الغربيّة للوقوف ليس على جذوره الاستشراقيّة فحسب، بل وعلى إشكاليّات المنهج الإثنوغرافيّ في الأنثروبولوجيا كذلك، بعبارة أخرى أعيد طرح التساؤلات عن العلم الاجتماعيّ الغربيّ، وكيف أنّه ما زال يعبّر عن تلك المركزيّة الغربيّة، ويسوقها ضمن براديغمات جاهزة هيمنت هذه المرّة على الحقل المعرفيّ الجديد، حقل (أنثروبولوجيا الإسلام).[4]

يعد ديل أيكلمان من بين المراجعين لحقل أنثروبولوجيا الإسلام؛ وذلك بالعمل على عزله عن الخلفيات القديمة والكلاسيكية للمعرفة الاستشراقية، فهو يرى "أن أهم تحدّ يواجه الباحثون في دراسة الإسلام، أو يواجه لقاء الأنثروبولوجيا بالإسلام هو وصف كيف تتحقق مبادئ الإسلام الكونية المجردة في سياقات اجتماعية وتاريخية متنوعة، دون تقديمه كجوهر متجانس من جهة أولى، أو كمجموعة مطاطية لا متجانسة من المعتقدات والممارسات من جهة أخرى"[5] من البين والواضح بكون روح هذا النص فيها خروج بشكل كامل، عن الترسبات الثقافيّة الاستشراقية المرتبطة بأنثروبولوجيا الإسلام قديما، التي تنظر إلى الآخر المختلف بنوع من الدونية وبأن ثقافته وتصوراته لا يصدق عليها الكوني، بكونها محلية وذات أفق ضيق لا تملك معه القدرة على خوض غمار العالمية والكونية، أنثروبولوجيا الإسلام في نظر ديل أيكلمان عليها أن تبحث في المبادئ الكونية للإسلام، بهدف فهم كيف تحققت تلك المبادي في سياقات اجتماعية متعددة بصورة وأشكال مختلفة، وهذا الأفق في البحث فيه تحرير لأنثروبولوجيا الإسلام من أسئلتها الجزئية والضيقة التي تستغني فيها عن الفهم الكلي لصالح الجزئي، بهدف احتكارها لكل ما هو كوني وعالمي. تشكلات الإسلام في التاريخ والحاضر لا يمكن اختزالها في فكرة الجوهر المتجانس في كل شيء، وفي الوقت ذاته لا يمكن النظر إليها، بالرغم من تعددها وتنوعها بمعزل عن النظرة الكلية والروابط التي تربط فيما بينها، بهذا الخصوص يرى طلال أسد بأنه "لا يمكن تأسيس أنثروبولوجيا إسلام منسجمة، إذا قامت على فكرة المخطط الاجتماعي النهائي، أو على فكرة الشمولية الاجتماعية المتكاملة التي تتفاعل ضمنها البنية الاجتماعية المتكاملة، والأيديولوجيا الدينية."[6]

يعلق يونس الوكيلي على رأي ديل أيكلمان بقوله: "دراسات إمكانات الإسلام للتأقلم في فضاءات ثقافية مختلفة، [فديل أيكلمان] بهذا الشأن لا يبتعد عن مارشال هدسون الذي تصور الإسلام سياقا غنيا ومتكاملا ومتراكما من التقاليد الثقافية والدينية، وهو توجه كان في بداياته في الستينات حيث ظهرت بوادر تقاليد بحثية في دراسة المجتمعات الإسلامية بمنظور ما بعد كولونيالي منفصل عن التقاليد البحثية الاستشراقية التي عرفت أزمتها منذ الستينيات"[7] من القرن العشرين، القارئ لأعمال ديل أيكلمان سيتضح له بأن الرجل لم يبقى حبيس حقل الانثروبولوجيا، بل إنه رأى في التكامل بين التخصصات المعرفية فرصة لتعميق النقاشات في المفاهيم المسلم بها، والأكثر تجذرا، [8] فالوعي المنهجي والإشكالي لمختلف قضايا الأنثروبولوجيا جعل ديل أيكلمان يتفطن مبكرا إلى الأسئلة المحورية التي تقود أبحاثه، وهي أسئلة منفصلة عن ترسبات المعرفة الاستشراقية مما أعطى لمختلف أبحاثه تميزا، الأمر الذي جعل البعض منها يترجم إلى مختلف اللغات مثل كتابه: أنثروبولوجيا الشرق الأوسط ووسط آسيا. الإسلام في نظر ديل أيكلمان بتعبير يونس الوكيلي، ليس حكرا على المستشرقين الفيلولوجيين فقط، الذين لم يفوّت أيكلمان مناسبة دون نقد قصور وحدود تصوراتهم ومناهجهم، بل هو حقل مفتوح تبحث فيه حقول معرفية متعددة من تاريخ وفلسفة واقتصاد ولغويات وعلم اجتماع وعلوم سياسية وعلم النفس وعلوم الدماغ، وغير ذلك من حقول.[9]

الإسلام والحداثة

يرى المؤلف أن أعمق التحولات التي تجري في العالم الإسلامي اليوم، تحدث من خلال طبقة من المثقفين والمفكرين، الذين عملوا على فهم الإسلام أخذا بمقتضيات الحداثة، ولم يبقوا حبيسي فهم الشيوخ والعلماء التقليديين، في هذا السياق يستحضر ديل أيكلمان تجربة محمد شحرور كنموذج سعى جاهدا لبسط فهم جديد للإسلام تحت سقف الحداثة، وقد استفاض في بسطه أقوال وطروحات محمد شحرور كرجل مجدد في الإسلام وثقافته.[10] ظهور هذه النماذج من رجال الإصلاح في نظر ديل أيكلمان دليل خطأ تلك القناعات التي سادت منذ خمسينيات القرن العشرين، والتي مفادها أن مجتمعات الشرق الأوسط أمام خيارين؛ إما مكة أو المكننة؛ أي إن الإسلام يعارض التقنية[11]، وهو تصور لا أساس له من الصحة.

وقد يظن البعض أن التقليد الإسلامي يرفض التجديد ويرفض الحداثة، وهذا أمر غير صحيح؛ لأن الإسلام يؤكد على العلم والصناعة.[12] لقد "كان للتحيز العلماني لنظرية التحديث صدى خاص في دراسات العالم الغربي، فقد كان منظرو التحديث في بداية الستينيات يرون أن العالم الإسلامي يواجه خيارا مرا، أمام نظام شمولي إسلامي جديد، عازم على إحياء الماضي، أو إسلام إصلاحي سيفتح أبواب السد ليغرقه الطوفان"[13] فهذه النظرية مفرطة في السلبية لإمكانيات التطور في المجتمعات الإسلامية، وقد ظهرت دراسات وأبحاث لا تفسر التقليد كأمر سلبي يقف ضد التحديث، حيث اكتشفت أن العائلة التقليدية والشبكات الدينية التقليدية قد تسهل سيرورة التنمية.[14]

[1] ديل أيكلمان، أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية، تحرير يونس الوكيلي، وترجمة نخبة من المترجمين. دار مؤمنون بلا حدود، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2022م، ص. 378

[2] نفسه، ص.377

[3] ص.19

[4] جعفر نجم نصر، أنثروبولوجيا الإسلام، مجلة الاستغراب العدد، سنة 2022م

[5] ديل أيكلمان، أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية، تحرير يونس الوكيلي، وترجمة نخبة من المترجمين. دار مؤمنون بلا حدود، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2022م، ص 389

[6] طلال أسد، فكرة انثروبولوجيا الإسلام، ترجمة: سامر رشواني، مجلة الاجتهاد العدد 50 السنة الثالثة عشرة – 1422ه – 2001م ص. 162

[7] ديل أيكلمان، أنثروبولوجيا المجتمعات الإسلامية، تحرير يونس الوكيلي، وترجمة نخبة من المترجمين. دار مؤمنون بلا حدود، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2022م، ص. 16

[8] نفسه، ص. 17

[9] نفسه، ص.15

[10] ص.43- 54

[11] ص. 77

[12] ص.78

[13] ص.81

[14] ص.84