زهية جويرو: قضايا في الفتيا والمرأة والسياسة


فئة :  حوارات

زهية جويرو: قضايا في الفتيا والمرأة والسياسة

الجزء الأوّل:

الفتيا بين تحوّلات الواقع وثبات بنية العقل

د. نادر الحمامي: نجدد سلسلة حواراتنا التي تنظّمها مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، مع الأساتذة والباحثين الجامعيين قصد الإفادة مما توصّلوا إليه في أبحاثهم ودراساتهم، ونحن اليوم سعداء جدًّا باستقبال الأستاذة زهية جويرو لمحاورتها وإنارة بعض المسائل التي بحثت فيها من خلال جملة من الأبحاث والدراسات المنشورة، من أهمها كتابها ''الإفتاء بين سياج المذهب وإكراهات التاريخ'' الذي كان محور أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه بالجامعة التونسية، ومن منشوراتها كذلك ''القصاص في النصوص المقدسة قراءة تاريخية''، إضافة إلى بحثها ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعددًا، حول ''الإسلام الشعبي''، ليصدر لها مؤخرًا كتابها الجديد ''الوأد الجديد مقالات في الفتوى وفقه النساء''، والملاحظ، باستثناء كتابها ''الإسلام الشعبي''، إنّ بقية الكتابات التي نشرتها الأستاذة زهية جويرو تدور في فلك عام هو فلك التشريع، الإفتاء، البحث في تاريخية الفقه الإسلامي وعلاقته بالتاريخ والمجتمع بصورة عامة، وفي هذا السياق الكبير نتحاور مع الأستاذة زهية جويرو التي نجدد التعبير عن سعادتنا باستقبالها اليوم في هذا الحوار.

مرحبًا أستاذة زهيّة.

دة. زهية جويرو: مرحبًا، أنا أسعد أيضًا بهذا اللقاء في إطار مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدّراسات والأبحاث، شكرًا على الدّعوة.

د. نادر الحمامي: شكرًا، في الحقيقة لا يمكن أن نبدأ هذا الحوار بغير المسألة الأساسية أو البحث الأساسي الذي نظرت فيه، وقد كان انطلاقًا من فتاوى ابن رشد الجد أي في عهد ملوك الطوائف والدولة المرابطيّة، ونظرت في فقه النوازل وأدب النوازل التي أفتى فيها ابن رشد الجد في إطار المذهب المالكي، ولكن هذا البحث لن يكون سوى منطلق للفتوى التي مازلنا نبحث فيها في الزمن المعاصر، وبودي أن أطرح السؤال التالي:

هل من فروق جوهرية بين الفتاوي في التاريخ الإسلامي القديم، التي كانت مرسلة (والكلمة لك) في البداية، ثم تحولت إلى مؤسسة، وما نعيشه اليوم خاصة في ظل هذا العالم المعولم من الشبكات الإعلامية والتلفزية؟

دة. زهية جويرو: في الحقيقة لا يمكن الحديث عن الإفتاء إلا في إطار علاقته بالتاريخ، وحتى نفهم الحاضر لا بد من أن نلقي قليلاً من الضوء على الماضي، والماضي هو بالأساس من أجل فهم الحاضر؛ لقد مرّ الإفتاء بمجموعة من المراحل، وأوّلها المرحلة التي سميتها ''مرحلة الإفتاء المرسل''، وهي مرحلة كان فيها الإفتاء يقوم على مجموعة من الأسئلة، والإفتاء بوصفه سؤالاً وجوابًا ظهر منذ ظهور الإسلام، الإسلام رسالة جديدة، وكان الرسول هو المؤهل لأن يجيب المسلمين الجدد على الأسئلة التي تطرح، والتي كانت على علاقة سواء بالجانب العقائدي أو بالجانب السلوكي اليومي أو غير ذلك، وأخذ عنه الصحابة بعد ذلك المسار نفسه. ولم يتحول الإفتاء إلى مؤسسة إلا عندما تهيأت شروط قيام المؤسسة، وهذه الشروط تتمثل، أوّلاً، في توفر مرجع التشريع، ومرجع التشريع يتمثل في تشكيل السنة النبوية في مدونات لأنّه يجب أن نعرف أنّ أهم مصادر التشريع في الفقه الإسلامي هو السنة النبوية وليس القرآن، كذلك تشكّلَ مرجعٌ بتطور التفسير وازدهاره، أي تفسير القرآن وخاصة التفسير الفقهي للقرآن، كذلك من بين الشروط التي ساعدت على قيام هذه المؤسسة ظهور (أو تشكل) علم أصول الفقه الذي وضع القواعد المنهجية والنظرية التي يتم على أساسها استنباط الأحكام من هذه المصادر والمراجع. الأمر الثالث هو ظهور الفقيه، أو العالم وظهوره كان ضروريًّا ليتحوّل الإفتاء إلى مؤسسة بداية من منتصف القرن الهجري الثاني، وهذه الفترة التي شهدت ما يمكن أن نسميه بتشكل العلوم في الثقافة العربية الإسلامية، أو لنقل في مجال الثقافة الإسلامية بالتحديد. في هذه المرحلة لعبت تلك المؤسسة دورًا هامًّا في تطوير التشريع الإسلامي لأنّ الأسئلة التي كان يطرحها العوام على العلماء هي أسئلة مستمدة أساسًا من الحياة اليومية، أي مستمدة من طوارئ المعيش، ولم يكن في الغالب لهذه الأسئلة أجوبة جاهزة في مصادر التشريع المعروفة، فكان على المفتي أن يجتهد من أجل أن يوجد أجوبة لهؤلاء العوام تناسب انتظاراتهم من جهة، وتتناسب مع أصول المنظومة التشريعية وقواعدها من جهة أخرى.

د. نادر الحمامي: لكن هذا الاجتهاد قبل المَأْسسة، كان أكثر حرية منه بعد تشكل المدونة الأصولية حيث حُصر الاجتهاد في القياس ليصبح النص دائمًا هو الأصل والمرجع.

دة. زهية جويرو: في الحقيقة هناك دائمًا شيء من النسبية في هذا القول، لأنّه من الصحيح أنّ مدى الاجتهاد في مرحلة الإفتاء المرسل كان أوسع، لأنّ المفتي لم يكن ملزمًا بأن يتقيّد بمصدر بعينه أو بمنهج بعينه، بل كان يفتي بما يرى.

د. نادر الحمامي: هل يعود ذلك إلى غياب المذاهب أيضًا؟

دة. زهية جويرو: في جانب يعود إلى ما يمكن أن نسميه غياب الحدود، فلم يكن هناك حدود متعلقة بالمذاهب ولا حدود معرفية لأنّ العلم ما زال لم يتشكل بعد بشكل كامل، فغياب الحدود منح الفقيه المفتي شيئًا من الحرية في تقديم أجوبته ومن ثمّ سمح له بهامش اجتهاد أوسع، لكن في المرحلة الأولى من المأسسة لم يؤدّ ذلك إلى تقييد الاجتهاد، بل أدّى إلى تنظيمه، ولم تؤدّ المؤسسة إلى تقييد الاجتهاد إلا عندما استقرّت المذاهب، وأصبح المفتي ملزمًا بأن يفتي في إطار مذهبه، عندما تحول علم أصول الفقه إلى سياج حقيقي، لأنّه في المرحلة الأولى كان في حد ذاته في طور تشكّل وبناء، ثم عندما تم تحديد مفهوم الاجتهاد وحصر الاجتهاد في ما ليس فيه نص فقط، أدت هذه الوضعية إلى مساهمة مؤسسة الفتيا في مرحلة أولى في تطوير التشريع الإسلامي لأنّ هامش الاجتهاد كان واسعًا نسبيًّا أمامها، ثم لأنّ هذه المؤسسة كانت منظمة وخاضعة لقواعد وقوانين؛ ومن هذه القواعد ما هو أخلاقي، فكان المفتي يلتزم بأخلاقية معيّنة، لم تكن تسمح له بأن يفتي بغير ما يتناسب مع الذوق العام ومع النظام ومع قيم الإسلام وغير ذلك، كانت هناك قواعد معرفية؛ فقد كان المفتي ملزمًا بأن يفتي في إطار ما تسمح به قواعد أصول الفقه من جهة، وقواعد تفسير القرآن والحديث من جهة أخرى، ثم في إطار ما تسمح به قواعد الخطاب، أي قواعد اللغة، والقواعد التي يحتكم إليها اللسان العربي في إنشاء الخطاب. إذن ساهمت هذه القواعد كلها في أن تجعل الإفتاء مؤسسة، وفي أن تسمح له، في مرحلة أولى، بهامش من الاجتهاد والحرية، ولكن في مرحلة لاحقة، مع استقرار العلم ومع التضييق الذي حصل للاجتهاد مع حصر الاجتهاد بحدود المذهب وبحدود المفهوم، أي مفهوم الاجتهاد في ما ليس فيه نص فقط، إلى غير ذلك، أدّى ذلك إلى أن تتحول هذه المؤسسة إلى ما يمكن أن نعتبره حارسًا للشرع، ولم تعد وظيفة هذه المؤسسة إيجاد أجوبة لنوازل طارئة.

د. نادر الحمامي: وهكذا لم تكن مَأْسسة الفتيا في مرحلة أولى أمرًا سلبيًّا، ولكن تسييجها بحدود المذهب وخاصة مما ذكرت أنت في أطروحتك أنّ المفتي أصبح تحت سلطة السياسي بحصره بمسألة القضاء وحتى بعلاقته بمسألة المشاورة، وهو ما أدى بعد ذلك إلى خروج مؤسسة الفتيا من المأسسة الإيجابية إلى نوع من المأسسة السلبية، أليس ذلك صحيحًا؟

دة. زهية جويرو: المأسسة في المرحلة الأولى أدّت إلى أن يعرف المفتي ما هي حدود حركته، أي ما هي حدود اختصاصه، فهناك نوع من التخصص، نجده حتى في التعريفات مثلاً، فالإفتاء هو الإخبار بحكم الشرع في نازلة من النوازل إخبارًا غير مُلزم، وذلك لتفرقة الإفتاء عن القضاء، لأنّ القضاء هو، أيضًا، نوع من أنواع الإفتاء ولكنه ملزم. فإذن أدّى تحديد مجال اختصاص القاضي، وتحديد مجال اختصاص المفتي في مرحلة أخرى، خاصة في مجال التجربة الأندلسية التي لها خصوصيات، إلى أن أصبحت هناك علاقة منظمة بين القاضي والمفتي، ومن بين أنواع المفتين الذين كانوا موجودين آنذاك، كان ما يُعرف بمفتي المشاورة، أي أنّه كانت علاقة منظمة بين مؤسسة القضاء ومؤسسة الإفتاء، فكان المفتي يقوم بدور المشاورة، ويشاوره القاضي.

د. نادر الحمامي: حين أصبحت الفتيا ملزمة، خرجت من إيجابية المؤسسة إلى سلبيتها، لأنّ المفتي في الأصل يفتي بنازلة للمستفتي والمستفتي غير ملزم بتطبيق الفتوى، ولكنه أصبح لاحقًا ملزمًا بذلك.

دة. زهية جويرو: في الحقيقة، في مستوى المفهمة والتعريفات لم يكن الإفتاء في أي مرحلة ملزمًا لا للفرد ولا للقاضي، فقد كان الأمر مجرد استشارة، وهو يشير عليه بكذا، ولم يكن ملزمًا حتى للسائس، لأنّ رجل السياسة صاحب السلطان كان هو أيضًا يستفتي ويطلب من المفتي رأيًا في المسائل التي تعرض له. هذا في مستوى المفهمة والتعريف، ولكن في مستوى الواقع التاريخي سيكتسب المفتي سلطة بفضل نوع من التضامن بينه وبين السلطان، وهذا ما جعل السلطان يستفتي، وفي هذه الحالة عندما يُصدر المفتي حكمًا في المسألة التي يستفتيه فيها السلطان، يتّخذ السلطان صدور هذا الحكم من المفتي حجة ودليلاً ليجعل ذلك الحكم ملزمًا للعامة. فإذن المسألة مرتبطة بنوعية العلاقة بين المفتي والسلطان، لأنّنا عادة ما نجد في التاريخ الإسلامي مفتي السلطان ومفتي العوام، وهذا الأخير له مجال اجتهاد أوسع، لأنّه لم يكن مراقبًا مثلما كان الأمر بالنسبة إلى الإفتاء الرسمي ومفتي السلطان الذي كان يصدر فتاوى تحت الطلب. وهكذا فإنّ طبيعة العلاقة بين مؤسسة الإفتاء والمؤسسة السياسية أو مؤسسة التنظيم السياسي كان لها دور في تحديد ملامح هذه المؤسسة. وفي العموم، وحتى لا ندخل في تفاصيل كثيرة، نستطيع أن نقول إنّه إلى حدود منتصف القرن الخامس وحتى إلى حدود بداية القرن السادس الهجري، ظلت مؤسسة الفتوى تعمل، وظلت ذات أثر إيجابي في تنظيم التشريع وتطويره، وقد كانت أكثر استعدادًا من مؤسسة القضاء في تطوير التشريع الفقهي.

د. نادر الحمامي: وما الذي حصل بعد القرن السادس الهجري؟

دة. زهية جويرو: ما بعد القرن السادس وبعد استقرار المعرفة، أي لم تعد المعرفة تنتج بل أصبحت تكرّر نفسها أولاً، ومع تحديد مفهوم الاجتهاد وحصره في مفهوم معين وضمن حدود معينة، مع الأوضاع السياسية التي بدأت تهتز وتضطرب، وهو ما انعكس على العلاقة بين المفتي والسلطان ثانيًا، أدى هذا إلى أن أصبحت مؤسسة الإفتاء عاجزة عن أن تنتج تشريعًا قادرًا على مواكبة تطورات الحياة، وكان الأمر يستدعي إعادة النظر في المنظومة التشريعية الإسلامية عمومًا، وكانت هناك لحظة كان بإمكانها أن تسمح بذلك ولكن تلك اللحظة كانت بلا أفق في المجال الثقافي العربي الإسلامي، هي لحظة الشاطبي ولحظة مقاصد الشريعة، أي الفقه المقاصدي؛ هذه اللحظة كان بإمكانها أن تفتح أفقًا جديدًا أمام المنظومة التشريعية الإسلامية عمومًا، بما في ذلك مؤسسة الإفتاء ولكن هذه اللحظة، ولأسباب عديدة، كانت بغير أفق؛ فإنّ مؤسسة الإفتاء في العصر الوسيط ستصبح مؤسسة منغلقة شأنها في ذلك شأن عموم العناصر المكوّنة للمنظومة التشريعية الإسلامية. وتحوّلت هذه المؤسسة إلى ما يمكن أن نعتبره مؤسسة هامشية من حيث دورها، هي فاعلة من جهة كون سلطة المفتي قد اتسعت أكثر، ولكن سلطة المؤسسة أو صلاحيتها لتطوير التشريع أصبحت هامشية تمامًا، إن لم نقل منعدمة، إلى أن نصل إلى الفترة الحديثة (وأعلم أنّك تريد أن تصل بي إلى الفترة الحديثة) تعرف أنّه في الفترة الحديثة كانت هناك محاولة ثانية لبناء الفقه على المقاصد، من ذلك لحظة علال الفاسي ولحظة ابن عاشور وغيرهما، وحركة الإصلاح الديني وغيرها. وقد حاولت هذه الحركة أن تفتح أفقًا جديدًا للتشريع الإسلامي، ولكن للأسف لم تصل إلى نتيجة، والدليل على ذلك أنّنا مازلنا إلى اليوم نراوح في النقطة نفسها، إن لم نقل إنّنا رجعنا إلى الوراء أكثر. سنرى ما سبب ذلك.

د. نادر الحمامي: أشرت إلى المسألة الأخلاقية حين كانت الفتوى مرسلة وقد وصلت الآن إلى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ونحن الآن في هذا الواقع الذي يتسع فيه الفضاء العام أصبحنا نرى الفتاوى من كل حدب وصوب، ألا يمكن اعتبار المسألة الأخلاقية التي غابت تمامًا الآن في هذه الفتاوى سببًا في إخراج الفتوى من دورها حين كانت مرسلة ثم جمودها في مرحلة لاحقة وحتى في العصر الحديث إلى مرحلة يمكن وصفها بسوق للفتاوى؟

دة. زهية جويرو: صحيح، ولكن الجانب الأخلاقي هو عامل من بين مجموعة من العوامل المركّبة والمعقدة، حتى أعطيك مثالاً واحدًا على أهمية المثال الأخلاقي، بالنسبة إلى الفقهاء المؤسسين، فالإمام مالك عندما طُلب منه أن يُفتي في طلاق المُكره رفض رفضًا قاطعًا أن يدلي برأيه في هذه المسألة، وتمسك بحكم الشرع فيها، لأنّ الذين طرحوا عليه هذا السؤال كانوا منطلقين من مسألة سياسية هي بيعة الإكراه بالنسبة إلى العباسيين، وعلى الرغم من أنّ الإمام مالك ضُرب وعُذّب وسُجن، إلاّ أنّه تمسك بموقفه وبرأيه الذي يمليه عليه علمه، من جهة، وتمليه عليه المصادر التي كان يفكر في إطارها، من جهة أخرى. وهذا مثال يدلّ على أنّ الأخلاق بصفتها الذاتية والفردية لها دور. وفي العصر الحاضر نجد أنّ هناك مجموعة من العناصر التي ساهمت في أن نصل إلى ما يمكن أن نسميه فوضى الإفتاء؛ من بين هذه العناصر أنّ هذا الشرط الأخلاقي لم يعد متوفّرًا إلاّ في قلّة قليلة جدًّا، أصواتهم غطت عليها أصوات هؤلاء المفتين الذين لا رادع لهم لا من أخلاق ولا من قيم ولا من دين. لأنّ هؤلاء الذين يفتون سواء في فتاوى ذات طبيعة اجتماعية أو في فتاوى ذات طبيعة سياسية أو في فتاوى ذات علاقة بالسلوك اليومي للناس، بدل أن يوفروا للمسلم الانسجام، لأنّ المسلم عبر التاريخ كان يستفتي بحثًا عن الانسجام بين سلوكه وعمله اليومي وما كان يؤمن به ويعتقده، وأدت هذه الفوضى الإفتائية اليوم إلى خلق كثير من الجروح في ضمير المسلم، جروح متعددة، وعندما أتحدث عن جروح فذلك بالمعنى الرّمزي، أي الجروح التي تؤدي إلى غياب الانسجام، فلم يعد المسلم منسجمًا مع عصره ولا مع دولته ولا مع ما يفرضه عليه العصر من مظاهر سلوك يومية؛ أعطيك مثالاً بسيطًا يدل على ذلك، هناك موقع مخصص للإفتاء عادة ما أدخل إليه لأستشف من ورائه أسئلة الناس، وأنا مهتمّة بتلك الأسئلة لأنّها تعطي فكرة عن توجّهات الناس، وأنظر في تلك الأسئلة فأجد من بينها ما يتعلق بالاستماع إلى الموسيقى أو بمشاهدة السينما أو بمتابعة المباريات الرياضية أو غير ذلك؛ فيقدم المفتي أجوبة فيها إلغاء تام للتاريخ وللواقع ولإكراهاته، ويتمسّك بما قاله فلان أو غيره من شيوخ مذهبه فقط.

د. نادر الحمامي: أنت الآن تشيرين إلى المفتي، وأنا بودّي أن ننتبه إلى المستفتي أيضًا، فقد استمعت مرة إلى فتوى على قناة فضائية، كان الرّجل طبيبًا ويسأل المفتي، يقول له: "إنّ زوجتي حامل وهناك خطر على حياتها، فهل يجوز الإجهاض؟". هنا أتساءل لماذا وصلنا إلى أن يكون شخص متعلم بين خيارين يمكن لأحدها أن يجعله يضحي بحياة زوجته، أو يعرّض حياتها إلى الخطر؟ إذن هناك إشكال في المُستفتين، أيضًا، بالإضافة إلى الإشكال في المفتين.

دة. زهية جويرو: طبعًا هناك إشكال، فالمفتي ما كان بإمكانه أن يستمر في ممارسة هذه الوظيفة إلى اليوم على الرغم من تغير كل العوامل التي كانت تفسر وجود الإفتاء في الماضي، على الرغم من أنّ الظروف التي أوجدت الإفتاء مرسلاً أو مؤسسة في الماضي كلّها أو أغلبها انتفت لكن هذه المؤسسة ظلّت، وقد بحثت في هذه الإشكالية ووجدت أنّ من بين العوامل ما هو على علاقة بالمستفتي، ولن أتحدث عن العوامل الأخرى ولكن سأخص المستفتي، فالأمر يعود إلى ما يعرف في الفقه الإسلامي بمفهوم التكليف، وهو مفهوم يضع فاصلًا بين العامي وبين من يملك المعرفة بالتشريع، وهو المكلف بتعريف العامي الذي ليس له معرفة. فالمسألة تعود إذن إلى مفاهيم قديمة تم تثبيتها وتركيزها، وتمت دخلنتها وأصبحت تشكل العقل الإسلامي إلى درجة أنّنا اليوم أصبحنا نجد من الناس من هو أكثر علمًا بكثير من المفتي، وعلى الرغم من ذلك يجد نفسه، بلا وعي ودون أن يطرح على نفسه السؤال، يتوجه إلى المفتي الذي هو أقل منه معرفة. هذا يبيّن لك سلطة المفاهيم التأسيسية التي مازالت تتحكم في العقل الإسلامي على الرغم من كل التحوّلات التي شهدها الإطار أو السياق التاريخي. إذن فجزء كبير من شقاء العالم الإسلامي راجع إلى هذا التّعارض بين تحوّلات الواقع الموضوعي بكل عناصره الاجتماعية والمعرفية، وغير ذلك، وثبات بنية العقل، وهي ليست فقط ثابتة وإنّما مصرّة على ثباتها وغير واعية بثباتها، ولذلك فإذا أردنا أن ندرس الفتوى من جهة المستفتي اليوم فهناك الكثير مما يجب أن يُدرس من هذا الجانب، سيعطيك صورة عن أنماط التفكير وعن التصورات وعن المتخيّل وعن كثير من الجوانب.

د. نادر الحمامي: في سياق هذه البنى الذهنية التي يمكن استخراجها من أسئلة المستفتي وأجوبة المفتي والأطر الثقافية المتعلقة بذلك، نجد أنفسنا أمام مسألة الفتاوى الجديدة وما لها من علاقة بمسألة المرأة، وأنت مهتمة بهذه الفتاوى من هذه الزاوية تحديدًا، وقد كتبت فيها كتابك الجديد ''الوأد الجديد'' في فقه النساء وفي الفتاوي. لذلك فنحن سنركز على هذا الجانب الاجتماعي الثقافي الدال على البنية الذهنية في الفتاوي الخاصة بالنساء وقضايا المرأة المستجدة الآن وبنية العقل العربي في التفكير معها، وسيكون ذلك مدار حديثنا في المحور الثاني من هذا الحوار.

 

الجزء الثاني:

الفتوى والمرأة والسياسة

د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة زهية جويرو التي نجدد التعبير عن سعادتنا باللقاء معها، وكنا وصلنا إلى نقطة أظنها أساسية في مسألة الإفتاء ومؤسسة الفتوى وصولاً إلى العصر الحديث حيث نجد أنّ جانبًا كبيرًا من هذه الفتاوى قد يكون موجهًا إلى مسألة المرأة والفتاوى المتعلقة بالحياة العائلية والأسرية الموجهة أساسًا إلى قضية المرأة التي تحتل جانبًا كبيرًا من مسألة الفتاوى اليوم. في هذا السياق العام يمكننا تنزيل كتاب الأستاذة زهية جويرو ''الوأد الجديد'' أو ما يمكن أن نسميه وأدًا استعاريًّا حيث كان الوأد ماديًّا حسب ما كان يُذكر عن المجتمع الجاهلي. لكن هناك أصناف أخرى من الوأد التي تساهم الفتوى في بلورتها وتكريسها، وهذا الوأد الجديد، في الحقيقة، له أشكال متعدّدة، وكلها تعقّد وضعية المرأة وتضعها على هامش المجتمع، بل تئدها وأدًا سمته الأستاذة زهية جديًدا وسمّيته أنا استعاريًّا، هناك أشكال عديدة من الوأد سيدة زهية؟

دة. زهية جويرو: في الحقيقة أريد أن أنطلق من آخر سؤال طرحته لأنّه هام، ربما من الظواهر اللافتة للانتباه في المنظومة التّشريعية الإسلاميّة اليوم، في الفترة الحديثة والمعاصرة، أنّ هذه المنظومة تخلت عن كثير من مجالات تخصّصها؛ فقد تخلّت عمّا يُعرف بالأحكام السلطانية، وتخلت عن أحكام الأموال، وتخلّت عن الأحكام ذات الصّلة بالتنظيم الاقتصادي، ولكن الدائرة التي ظلت ممتنعة عن التبديل والتغيير والتي ظلت المؤسسة الفقهية والإفتائية متشبثة بها وغير مستعدة للتخلي عنها هي ما يمكن أن نسميه بعبارة قانونية حديثة دائرة الأحوال الشخصية أو فقه الأسرة، بالعبارة القديمة. وعندما ننظر في أسئلة المستفتين سواء كانوا من الرجال أو من النساء، وأنا أنطلق هنا من إحصائيات من المواقع الإلكترونية التي فيها جمع للفتاوى حسب كل موضوع كم فيه من عدد فتاوى وهذا يعطينا الصورة بوضوح، فنجد أنّ العدد الأكبر، دائمًا، والذي لا يقارن من حيث كمه مع الأسئلة المتعلقة بمجالات أخرى، هو مجال الأحوال الشخصية، وكأنّ هناك نوعًا من استبطان فكرة أنّ المتحكم في نظام الأسرة أو في أنظمة القرابة وغير ذلك، يتحكم في نظام المجتمع بصفة عامة. ولهذا السبب ظلت النساء إلى اليوم هن أكثر مواضيع الاستفتاء، والمرأة في هذه الحالة هي موضوع الاستفتاء، وهي المستفتية، وكل صورة تعطي معطيات مختلفة عن الأخرى.

د. نادر الحمامي: ألا تكون مفتية أبدًا؟

دة. زهية جويرو: هذا موضوع من المواضيع، وتولّي الولاية العامّة هو موضوع إشكالي، ومن الموضوعات التي تطرح على المفتي. ومن الأسئلة التي تطرح على المفتي بكثرة. تعرف طبعًا أنّ أغلب الولايات العامة في الأحكام الإسلامية يُشترط فيها الذكورة، وهذا ما أدى إلى إقصاء المرأة من الولايات العامّة، أو ما نسميه اليوم بالشأن العام، أي حرمانها من تولي الوظائف والمناصب العليا الإدارية والسياسية وحتى القضائية والفتوى إلى غير ذلك، مع الإشارة إلى أنّه أصبح هناك فتاوى نساء في بلدان آسيوية كثيرة وفي بلدان أوروبية للمسلمين في أمريكا وغيرها، وهناك مفتيات. ولكن في العالم الإسلامي وخاصة في البلدان العربية الموضوع مازال على حاله، وهذا له سبب آخر موضوعي يتمثل في أنّ الشريحة الأكبر ممن يطرحون أسئلة على المفتين هي من النّساء، وعندما ننظر في نوعية الأسئلة ندرك أنّهن نساء يمثلن الشريحة الدنيا معرفيًّا وليس اجتماعيًّا لأنّ الأسئلة تعطي صورة عن طبيعة الوعي وطبيعة المعرفة ولا تعطي صورة عن الموقع الاجتماعي وأكثر تلك الأسئلة تتعلق بنتف الحاجب وبالخضاب وبأشياء في منتهى التفاهة، وقليلات اللاتي يطرحن أسئلة حول إشكاليات حقيقية مثل إشكالية تعدد الزوجات ومثل إشكالية الميراث ومثل إشكالية تولي النساء للمناصب العامة القضائية والإدارية والسياسية وغير ذلك؛ قلّة هن اللاتي يطرحن أسئلة من هذا النوع، وأنا أرى من خلال أسئلتهن أنّهن لا يطرحنها طلبًا لجواب المفتي بل يطرحنها من أجل إثارة النقاش؛ فالهدف هو، أساسًا، الدفع نحو مناقشة المسألة وليس طلبًا للجواب. بينما الأسئلة التي تطرحها النساء اللاتي يمثلن العدد الأكبر هي أسئلة من النوع الذي ذكرته لك، أي أسئلة تؤكد أنّ غياب المعرفة الدينية والمعرفة الشرعية بأحكام الشرع في هذه القضايا هو الذي يدفعهن إلى طرح السؤال. أما عندما ننظر من جهة أن تكون المرأة موضوع استفتاء، وإذا نظرنا في هذه الأسئلة نجد ما يدلنا على الصورة التي تتمثل فيها المجتمعات الإسلامية المرأة، أي الصورة التي يتم من خلالها تمثل وظيفة المرأة، وأبرز مقوماتها أنّ وظيفة المرأة تبدو في التصور الغالب هي الوظيفة التقليدية، ليس هناك ما يدل على تطور نوعي في الذهنيات والسلوكيات حول صورة المرأة ووظيفتها وموقعها في المجتمع. والأمر هنا نسبي طبعًا، فلا نجد الصورة نفسها؛ فالفتاوى التي تعود إلى مواقع ذات صلة بالخليج العربي تقدم صورة، مختلفة عن الفتاوى التي تعود إلى مواقع أخرى مثل المغرب العربي، لذلك نجد نوعًا من التفاوت في الوعي والتصورات، ولكن الغالب أنّ صورة المرأة والتمثلات حول وظيفتها وموقعها في المجتمع وفي النظام العام، تظل صورة محافظة، بل هي خارج التاريخ، لذلك نلاحظ في كثير من الحالات تعارضًا واضحًا بين الواقع الذي تعيشه النساء وبين الأحكام التي يعبر عنها المفتي. وهنا أعطي مثالاً؛ ففي ما يتعلق بمسألة الميراث نجد أنّ الكثير من النساء يطرحن أسئلة حول هذه المسألة، وطريقة طرح السؤال تعبّر عن أنّهن يرفضن مبدأ التفاوت أي نصف نصيب الذكر، لأنّك عندما تعطي المعطيات تقول هذه المرأة ''أنا زوجي لا يصرف على البيت، وأنا التي أنفق على البيت وعلى الأولاد وعلى نفسي، وأنا أشتغل وراتبي أفضل من راتب زوجي...'' يعني هذا أنّ هناك شعورًا بالضيم من نساء يساهمن في الإنفاق على الأسرة، بل أحيانًا يتولين الإنفاق كاملاً، وعندما يأتي الأمر إلى توزيع الثروة العائلية يكون ضيم آخر أشد.

د. نادر الحمامي: إذن هناك تباين كبير بين الواقع الاجتماعي وطرق التفكير عند المرأة بصفة عامة، وبين ما تقدمه الفتاوى التي تجمدت واستندت إلى الموروث القديم دون محاولة إعادة التفكير فيه. أنت قدمت بعض الأسباب الموضوعية لذلك، ولكن يمكن أن أضيف سببًا آخر؛ فأنا أتابع الخطابات الدينية، وأجد أنّ نسبة كبيرة من الفتاوى تركز على مواضيع تخص المرأة أساسًا.

دة. زهية جويرو: نعم، في المنظومة الإسلامية عمومًا، ليس التشريعية فقط، وكأنّ المسلمين ليست لهم قضايا أخرى أكثر أهمية أو أخطر على مصيرهم من مسألة المرأة؛ أي على غرار موضوع الأنظمة السياسية أو موضوع الاستبداد، فلعلك تلاحظ كيف أنّ موضوع الاستبداد مثلاً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان هو الموضوع الأساسي للتفكير، والآن تركنا موضوع الاستبداد ومواضيع اللاعدالة والظلم وغير ذلك وهذا الصراع الطائفي والفتن؛ فالذين يفكّرون اليوم في موضوع الطائفية مثلاً هم أناس معزولون في مؤسساتهم البحثية وفي جامعاتهم، ولكن الموضوع الذي يثير الجميع هو كل ما له صلة بالمرأة وهذا يعود، طبعًا، إلى أنّ هذه القضية هي فعلاً قضية خطيرة ومحرجة ولم يقدم بشأنها إلى اليوم الجواب الذي تبحث عنه كل فئات المجتمع. والجانب الثاني هو نوع من التهميش لقضايا المرأة بالذات، من جهة، ولكنه تهميش لقضايا المجتمع بصفة عامة ولقضايا تدبير الشأن العام. لا تنس أنّ مؤسسة الإفتاء في الوقت الراهن لم تعد تتمتع بهامش من الاستقلالية عن السلطة السياسية؛ فالمفتي الذي يحاول الحفاظ على استقلاليته عن السلطة السياسية لا نسمع صوته، وتصلنا أصوات هؤلاء الأبواق للسلطة السياسية. ومن مصلحة السلطة السياسية ألاّ تطرح قضايا الاستبداد وقضايا الفساد وقضايا الظلم الاجتماعي والسياسي إلى غير ذلك، وأن يظل النقاش والساحة محتلة من قضايا هي ليست فاقدة للأهمية في الحقيقة، ولكن تم تضخيمها إلى درجة أنّها أصبحت تهمش قضايا أخرى. فلو أخذنا فترة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان هناك موضوعان يطرحان بشكل متوازٍ؛ قضية المرأة وقضية الاستبداد، كان هناك تواز بين كليهما، لأنّهما تشكلان المحور الذي كان يدور عليه النظام الاجتماعي. وكان هناك نوع من الوعي أنّ تحرير المرأة هو تحرير للمجتمع، بل هو تحرير للعقل لأنّ الموضوع الذي ألهم الكثير من الاجتهاد هو موضوع المرأة ويمكن أن نشير في هذا الباب إلى كتابات الطاهر الحداد أو الشيخ عبد العزيز الثعالبي، فقد كانت أغلبها تدور حول قضية المرأة إلى درجة أنّنا نشعر بأنّ هناك نوعًا من الوعي الضّمني بوجود العلاقة بين تحرير المرأة وتحرير العقل العربي من هيمنة العقل الفقهي المنغلق.

د. نادر الحمامي: إذن لا ينبغي النظر اليوم إلى الرغبة في تجاوز الموروث الفقهي والتشريعي المتعلق بقضايا المرأة بصورة عامة، على أنّه مسألة دينية بالأساس، ولكنه إرادة سياسية قبل كل شيء.

دة. زهية جويرو: في الحقيقة على الرغم من كل المخاطر التي تمثلها الفُتيا، ولا نقول المؤسسة لأنّنا صرنا اليوم أمام فوضى فلا يمكن الحديث حتى عن مؤسسة، باستثناء المفتي الرسمي مثل مفتي الجمهورية التونسية اليوم، ولكن حتى هذا المفتي أصبح يتصرف بشكل فوضوي على عكس ما كان عليه في مراحل سابقة، فقد كانت له وظيفة محددة ولا يتدخل إلا عندما يطلب منه ذلك، اليوم أصبح مفتي تونس يسمح لنفسه أن يتدخل في قضايا لا يطلب منه التدخل فيها وغير مطلوب منه التدخل فيها. أمرّ إلى المسألة الأهم وهي أنّ أبرز مظاهر الخطورة التي يمثلها الإفتاء في الوقت الراهن هي أنّه يمثل ضديدًا للدولة، كما سبق وقلت في مرة سابقة، فنحن أوصلَنا نسق التطور التاريخي إلى نشأة الدولة الحديثة التي من أبرز مقوماتها أنّها هي التي تستأثر بسلطة التشريع، عبر مؤسسات مختصة، وذلك في بلادنا، وأنا لا أتحدث عن كل البلاد الإسلامية فلم نعد في مجال منسجم كما كان الأمر في العصر الوسيط، ففي الحقيقة نحن أمام مجالات، ولنأخذ المجال المغربي مثلاً والذي فيه نوع من الانسجام، ففي هذا المجال أوصلَنا التطور التاريخي إلى ظهور الدولة الحديثة، وظهور الدولة الحديثة يعني بصفة آلية أنّ الدّولة هي التي تستأثر بسلطة التشريع، وهذا الاستئثار يتم من خلال مؤسسة هي في غالب الأحيان مؤسسة منتخبة، دعنا لا نتحدث عن هذا الانتخاب هل هو حقيقي أم مزيف أم غير ذلك، ولكن قانونيًّا وتنظيميًّا نحن إزاء مؤسسة منتخبة هي التي يُفترض أنّها تستأثر بسلطة التشريع. فالتشريع يتم بسلطة الشعب؛ بواسطة مؤسسة انتخبها الشعب وهي التي تمثله، فظهور الدولة الحديثة وظهور مفهوم الشعب والمؤسسة التشريعية المنتخبة هذه كلها معطيات تتعارض مع وجود المفتي، في حد ذاته. فلم يعد هنالك مبرر لوجود المفتي، أو في أقصى تقدير يجب أن يحصر وجود المفتي في علاقة فردية بينه وبين الناس الذين يرغبون أن يسألوه (لدواع فردية وإيمانية) حول قضايا ذات صلة بالعقيدة والفرائض وبأحكام ممارسة التدين والإيمان. هذا الذي من المفترض أن يحصل، ولكن اليوم عندما نجد أنّ المفتي يتدخل في مجال تخصص الدولة وفي مجال تخصص المؤسسة التشريعية، يحصل تعارض جوهري بين المفتي والمرجعية التي يفتي من خلالها والأحكام الثابتة واللاتاريخية التي يظل متمسّكًا بها، والمؤسسة التشريعية التي تحاول أن توجد تشريعًا يستجيب لتطلّعات الشعب ويستجيب لإكراهات اللحظة التّاريخية الراهنة.

د. نادر الحمامي: إذن يمكن القول، بكل وضوح؛ إنّ الإفتاء اليوم بهذه الطريقة أصبح يمثل تهديدًا للدولة الحديثة؟

دة. زهية جويرو: بالنسبة إليّ أخطر ما في ظاهرة الإفتاء أنّها تنافس الدولة في اختصاصها، وأنّها تؤدي إلى زعزعة أركان الدّولة، مثال: طُرحت على القرضاوي فتوى حول ما الحكم في ولي الأمر الذي يبطل العمل بأحكام الشرع، وقد أعطى القرضاوي في الجواب أمثلة، ومن بين تلك الأمثلة التي أعطاها مثال تونس التي أُبطل فيها الحكم بتعدّد الزوجات، وأفتَى بتكفير وليّ الأمر الذي يُبطل العمل بأحكام الشرع، وأفتى بأنّ القاضي عليه ألاّ يقضي بأي حكم يتعارض مع أحكام الشرع. هذا القول فيه أسئلة كثيرة؛ فماهي أحكام الشرع التي يتحدّث عنها القرضاوي؟ هل هي أحكام الشرع التي أفتى بها فلان وفلان منذ عشرة أو أربعة عشر قرنًا؟ أم هناك إمكانية لأحكام شرع جديدة عبر تأويل جديد يأخذ بعين الاعتبار إكراهات اللحظة الراهنة ومقتضياتها؟ ومن أعطاه السلطة لكي يكفّر؟ ففي الإفتاء القديم لم يكن هناك تكفير، كان المفتي يرشد ويدل ويقول لك ما هو حكم الشرع في المسألة دون أي أحكام من هذا النّوع. هل إنّ هذا المفتي الذي يكفّر ولي أمر أبطل العمل بأحكام الشرع ليس على دراية بخطورة ذلك؟ ألا يؤدّي هذا مع ما نعرف من تدني نسبة الوعي ومع هيمنة نوع من أنواع الخطابات الدينية المسيّسة، ألا يؤدّي هذا إلى هز استقرار الدّول؟ لا ننسى أنّ القرضاوي له يد طولى في هز استقرار العديد من الدول، فـ''مفتي الناتو'' هذا إذا ما نظرنا في فتاويه من جانب ديني ومن جانب معرفي، نجد أنّ الرجل الذي يعيش خارج التاريخ يريد أن يفرض على البلدان الإسلامية نمطًا معينًا ونظامًا معيّنًا، هو في الحقيقة نظام لا يحل المشاكل بل يزيد تعقيدها، ولا يكفي أنّ فتاويه تزيد الأمر تعقيدًا فهي تؤدّي أيضًا إلى هز استقرار الدول.

د. نادر الحمامي: هذا صحيح، ولكن بالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه الفتاوى ذات جوهر سياسي بامتياز لأنّها تحمل مواقف سياسية وتتخندق وراء محاور معينة في الجانب السياسي، هنالك أيضًا ما نعيشه اليوم من هذه الفتاوى التي ترمي بهذا الشباب إلى المجهول لأنّ هناك كتبًا في الفتاوي الجهادية التي تؤثر في ذهاب الشباب إلى شبكات القتال.

دة. زهية جويرو: وهذا مؤسف، وأنا لا أضع اللوم على المفتي لأنّ المفتي يتكلم بما يخدم مصلحته، ولكن على شبابنا أن يفتح عينيه ويرى هؤلاء المفتين الذين يلقون به في أتون حروب ظالمة ولا معنى لها وفتن طائفية، عليه أن ينظر إليهم نظرة موضوعية ليرى في أي قصور يعيشون وفي أي نعيم ينعمون، ومليارات الدولارات التي يملكونها؛ عليه أن ينظر إلى هؤلاء إلى أين يرسلون أبناءهم، هم يرسلون أبناء الناس إلى الجحيم، ويرسلون أبناءهم إلى أرقى الجامعات البريطانية والأمريكية وغيرها. أنا آسف كثيرًا لحال شبابنا عندما يصدّق أناسًا ليس لهم حد أدنى من المصداقية، آسف لحال شبابنا عندما يستجيب لمن يقف خلف الشيطان. وفي مسألة الجهاد في سوريا، مثلاً، هؤلاء لهم سلطة على العقول ذات أصول تاريخية ثابتة، أوّلاً، وتستمد سلطانها من سلطة الدين في الضمير وفي العقل الإسلامي، وتستمدّ سلطانها من الدّعم السّياسي الذي تتلقّاه، فهي تفتي بما يطلبه منها الساسة، كذلك هؤلاء المفتون يفتون بما يخدم مصالحهم، فهم يقبضون مليارات الدولارات مقابل ما يصدرون من فتاوى، وهم يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يشعروا بأي تعارض بين هذه الحوامل التي يستخدمونها وما يفتون به؛ هم يستخدمون تويتر، انظر كم لهم من المتابعين في تويتر، فلا يتفوق عليهم أحد في عدد المتابعين لهم على تويتر وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عمومًا، هؤلاء يملكون سلطة وسائل الإعلام، وسلطة المال وسلطة الدين وسلطة التّاريخ، وأنت المفكر والمثقف الذي لا يحرّكك سوى رغبتك في أن تخدم وطنك، مجرّد من كل شيء، ولا يكفي ذلك بل أنت معرّض بشكل يومي إلى التكفير، يكفي أن تقول مثلاً بأنّ هذا الموضوع يمكننا التفكير فيه، يمكننا أن نعيد التفكير في مناهج تفسير القرآن مثلاً، أو يمكننا إعادة التفكير في حكم ما، حتى تتسلّط عليك الاتّهامات التي تصل إلى حد التكفير.

د. نادر الحمامي: في الحقيقة أنت ذكرت في إجابة سابقة والآن لمحت شيئًا ما إلى إعادة التفكير وذكرت كلمة التأويل سابقًا، أريد أن نستأنف حوارنا لاحقًا في جزء ثالث بعد هذا التوصيف للوضع الراهن استنادًا إلى وضع تقليدي قديم. هل مجرّد إعادة النظر وإعادة التفكير في مناهج التفسير والتفكير في هذه النصوص القديمة بطرائق جديدة، هل كل هذه الناحية التأويلية وإعادة النظر في تلك النصوص نفسها واستخراج أحكام جديدة تتناسب مع الواقع التاريخي والواقع الاجتماعي هل يمكن لمثل هذا التأويل وإعادة النظر أن يكون حلولاً لتجاوز المشاكل؟ أم هناك حلول أخرى لأنّني أريد في الحقيقة أن أناقش مسألة إعادة النظر في تلك النّصوص القديمة نفسها لاستخراج حلول جديدة ربما استنادًا إلى بعض ما بحثت فيه، وأنت تحدثت عن مجلة الأحوال الشخصية مؤخرًا بمناسبة عيد المرأة التونسية، هل هذا المنهج في إعادة التأويل والنظر كفيل بالخروج من مخاطر هذه الفتاوي؟ هذا ما سنتحدث عنه في الجزء الثالث من حوارنا مع الأستاذة زهية جويرو.

 

الجزء الثالث:

الموروث التشريعي الفقهي: إعادة النظر وعوائقها

د. نادر الحمامي: شكرًا للأستاذة زهية جويرو على قبولها إجراء هذا الحوار معنا حول جملة من القضايا؛ انطلقنا فيها من الإفتاء وصولاً إلى مسألة مخصوصة في جوانب تركز عليها الفتاوى اليوم وهي مسألة المرأة، ولاحظت من خلال ما كتبته الأستاذة جويرو في كتبها ومقالاتها أنّها تركّز على مسألة ضرورة إعادة النظر في ما استقرت عليه منظومة التشريع الإسلامي بصورة عامة، بطريقة ترمي إلى إعادة التفكير في هذا الموروث، ولكن سؤالي الآن هو هل تمثل إعادة التأويل بما يستجيب للواقع الراهن للمجتمعات الإسلامية حتى تدخل التاريخ، الحل الوحيد لتقويم هذه المنظومة والخروج من فوضى الفتاوي، كما تسمى، أم أنّ هذا التأويل سيعيدنا في حقيقة الأمر إلى تأصيل قيم معاصرة في موروث قديم، فهل هذا ممكن؟

دة. زهية جويرو: هذا السؤال هو سؤال الأسئلة، وفي الحقيقة منذ بداية الاستفاقة الحديثة والفكر العربي الإسلامي يدور حول هذا الموضوع، وإذا شئنا وضع توصيف عام حتى نفهم الواقع، فنقول إنّ هناك وجهتي نظر بالنسبة إلى هذا الموضوع: وجهة نظر ترى أنّ هذا الموروث بكل ما فيه وخاصة الجانب التشريعي الفقهي، قد تجاوزه التاريخ ولم يعد قادرًا على أن يمدّنا بأجوبة على أسئلتنا المعاصرة، ولا بحلول لإشكالياتنا التنظيمية والهيكلية وغير ذلك، وبناءً عليه فإنّ هذا يقتضي أن نضع الدّين وما تبعه في الموضع الذي يجب أن يكون فيه وهو دائرة الفردي والذاتي، وأن نترك دائرة العام، أي دائرة تدبير الشأن السياسي والشأن العام لمؤسسات أخرى ولمرجعيات أخرى ومن بينها أساسًا القانون الوضعي والنظم الوضعية، وعلى الرغم من أنّ الفقه الإسلامي بنسبة تسعة وتسعين بالمئة منه وضعي بشري وتاريخي والمقدس فيه دائرة بسيطة جدًّا وصغيرة جدًّا ومهمشة. يعني هي الدائرة المتمثلة في الأحكام القرآنية المؤولة بشريًّا. هذه وجهة نظر توصَّف بأنّها علمانية أو لائكية، وأنا أوصفها بأنّها وجهة النظر التي تفكّر من خارج المنظومة الدّينية. أما وجهة النظر الثانية (ولا أتحدث هنا عن وجهة نظر الإسلام السياسي) فهي ترى مع اختلافات نسبية أنّه بالإمكان أن نوجد حلولاً من داخل هذه المنظومة وأن نوجد أسئلة لأجوبة عصرنا ولكن بمراجعة جذرية وجوهرية لهذه الدائرة بكل عناصرها. السؤال بالنسبة إلى وجهة النظر هذه يصبح متركزًا على التساؤل حول آليات هذه المراجعة فكريًّا ومنهجيًّا وإيديولوجيًّا، ومن أي منطلقات يمكن أن ننطلق؟ وبأي أدوات يمكن أن نعيد قراءة هذا الموروث؟ وبأي الآليات يمكن أن نفكر فيه؟ وأنا شخصيًّا، بعد استقراء للتجارب التي انطلقت منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم تبيّن لي أنّ وجهة النظر التي تدعو إلى إرجاع الديني بكل عناصره إلى مجال الفردي والذاتي وتنظيم الشأن العام خارج نطاق تلك المرجعية هي وجهة نظر معقولة في ذاتها ومنسجمة شكليًّا ومقنعة داخليًّا، ولكن أرى أنّها وجهة نظر لم تتهيأ لها الأرضية المناسبة لإنباتها، فالتربة التي يجب أن تنبت فيها غير متوفّرة، وما أقصد بالتربة هي العقلية العامة، فالعقلية العامة مازالت تؤمن إيمانًا ثابتًا بأن لا انفصال بين الاعتقاد الدّيني وبين الحياة اليومية.

د. نادر الحمامي: أنا أريد التركيز على إعادة النظر والتأويل، فهناك إشكال حقيقي ومنهجي يتعلّق بإعادة النظر التي يقودها نخبة من المفكرين والجامعيين؛ هل هي عن اقتناع ذاتي بضرورة الانطلاق من إعادة النظر في الموروث الديني بصورة عامة والتشريعي؟ أم إنّه في حقيقة الأمر مسألة منهجية لا غير. هذا هو في الحقيقة سؤالي؛ فإن أخذنا مثلاً تونس بعد ستين سنة من صدور مجلة الأحوال الشخصية فإنّ أمورًا بقيت قطعية الدلالة وقطعية الثبوت، ولا يمكن النظر فيها إلى اليوم؛ مثل القوامة ورئاسة العائلة والميراث والنسب وغير ذلك... فلم نتجرأ على إعادة التأويل حتّى نصل إلى حلول جذرية تنسجم مع القيم التي ينبغي أن نؤمن بها.

دة. زهية جويرو: يتوقف الأمر في الحقيقة على الآليات التي نفكر بها وعلى المناهج، وحتى لا تبدو لنا المسألة مستعصية وصعبة يجب أن نفككها إلى إشكاليات جزئية حتى يتناول كل طرف الإشكالية الأقرب إلى اختصاصه والتي هو أقرب إلى الخوض فيها. وبالنسبة إلى هذا الموضوع بالذات فما يهمني هو موضوع التشريع، فهو يقتضي إعادة النظر في منهجية تفسير القرآن ويجب أن نعرّف المسلمين في المؤسسة التعليمية والإعلامية وغير ذلك أن لا شيء غير القرآن منزّه، وكل ما عدا القرآن بشري؛ فلم يحدّد الله الطريقة التي نفهم بها القرآن، لم يقل عليكم أن تفسروا القرآن بدءًا من الفاتحة الأولى وصولاً إلى آخر آية فيه، وكل آية تفسّر وحدها إلى غير ذلك، فهذه كلها مواضعات بشريّة. عندما ندرك الفارق بين ما هو إلهي وما هو منزل وما هو بشري سنبدأ في الزحزحة، وعملية زحزحة الاعتقادات الخاطئة عملية مهمّة جدًّا وأول ما يجب أن نزحزحه هو هذا الالتباس الذي حصل عبر التاريخ، والذي أُقنع به بشكل مقصود هو هذا الالتباس وهذا الخلط بين ما هو إلهي ومنزل وما هو بشري وتاريخي.

د. نادر الحمامي: ولكن يجب أن نناقش هذه المسألة أيضًا لأنّها معضلة، في الحقيقة هذه المنهجية التي ابتدأها الكثير من المفكرين فعبد الجواد ياسين يميز، مثلاً، بين الدّين والتدين، وعبد المجيد الشرفي يميز بين إسلام الرّسالة وإسلام التاريخ، وعبد الكريم سروش أيضًا له ما يشبه هذه المقاربة في التمييز بين الدين والتديّن، ولكن ألم تثبت هذه المنهجية قصورها بعد كل تلك السنوات؟ فلم نصل بعد إلى نتيجة.

دة. زهية جويرو: عفوًا، ليس قصورًا معرفيًّا، لأنّ هذه التصوّرات فيها نسبة كبيرة من الانسجام الداخلي ومن المعقولية، وليس قصورًا في الأشخاص وإنّما هو قصور تنظيمي، فنحن لا نملك مؤسسة لها من التّمويل ومن السلطة ما لمؤسسة القرضاوي (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)، لا تنْسَ أنّ أصواتنا مصادرة وأنّ هذه التصورات تسلّط عليها شتى أنواع الحصار. ولكن نحن نخوض معركة فكرية في المقام الأول؛ فالقصور أو الإشكاليات ليست في هذه الأفكار. تحدثت عن أساتذتنا مثل الشيخ محمد محمود طه الذي أقدّر كثيرًا تصوراته والشيخ عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد وابن عاشور... كل هؤلاء يمثلون شموعًا على الطريق، ولكن الإشكال ليس في داخل هذه الأفكار وليس إشكالاً معرفيًّا ولا منهجيًّا ولا غير ذلك، وإنّما هو إشكال في السّياق، فأنت تعرف أنّ الفكرة لا معنى لها دون متلقين وأنّ أي خطاب لا يكون خطابًا إلا بتوفر الباث والمتلقّي. المشكل أنّ المتلقي اليوم بحكم الانخرام في ميزان القوى يعطي أذنه ويسمع هذا ولا يسمع ذاك، وهذا جزء من معركتنا، على الرغم من قلة الإمكانيات وعلى الرغم من أنّ الفكر من دون مال في عالمنا اليوم هو مقصوص الجناح. وجزء من معركتنا، في رأيي، أنّ وجهة النظر هذه التي ترى أنّه يمكن من داخل هذه المنظومة بالذات أن نعيد النظر فيها وأن نقدم أجوبة لأسئلتنا من داخلها هو طرح معقول وممكن وأكثر جدوى، على الرغم من أنّ الطرح الآخر هو الأكثر معقولية، ففي نظري أنّ هذا الطرح ممكن معرفيًّا ويكفي أن نركز على هذه المسألة ثم أن نقدم دراسات تطبيقية، وفي نظري إنّ تلك الدراسات التطبيقية هي ما ينقصنا كثيرًا، لنأخذ موضوعًا أو لنأخذ حكمًا من الأحكام ونعيد النظر فيه بتطبيق القواعد المنهجية التي نضعها؛ فعندما نقول مثلاً إنّه من أجل إيجاد هذه الأجوبة يمكن أن أوجد طريقة جديدة في قراءة القرآن وفهمه غير الطرائق التي سار عليها القدامى، ولنستفيد من الطرق الحديثة، فالقدامى فهموا القرآن بمعارفهم وبأدواتهم، ونحن لنا اليوم أدوات جديدة نستطيع بها أن نفهم القرآن بطريقتنا. هذا كله كلام نظري موجود ولكن علينا تطبيقيًّا أن ننجز دراسات لنعيد النّظر في كل الأحكام المشكلة حقيقة، كالأحكام المتعلقة بالربا مثلاً، والأحكام المتعلقة بتعدّد الزوجات، والأحكام المتعلقة بالميراث، إلى غير ذلك... فلنأخذها ولنفكّكها ولنتبين كيف فكّر فيها القدامى وبأي أدوات وكيف يمكننا أن نعيد بناءها لنرى أنّنا نستطيع أن نصل إلى نتائج أكثر انسجامًا مع عصرنا؟ هذا عمل المفكّر، ولكن عمل المفكر في هذا المستوى سيظل منقوصًا دون متمم آخر هو عمل المجتمع المدني والجمعيات، فعمل المفكر هو أن ينتج المعرفة والفكر، وعمل المنظمات والجمعيات هو أن تعمل من أجل أن تتحول تلك الأفكار إلى فعاليّة وإلى واقع، أو لنقل تتحول إلى فاعل في تحويل الواقع، هذا عمل المجتمع المدني بصفة عامّة، فعمل المفكر سيظل حبرًا على ورق ما لم يجد قوة تسنده داخل المجتمع وتدافع عن تلك الفكرة وتحوّلها إلى قانون أو تحولها إلى فعالية.

د. نادر الحمامي: ولكن المفكرين والباحثين يتحملون جزءًا من المسؤولية أيضًا، فكأنّهم يعملون في جزر متفرقة في مقابل تيارات أخرى موحّدة، ولذا ينبغي أن نتحمّل مسؤولياتنا.

دة. زهية جويرو: صحيح، لنأخذ مثلاً تونس، لا لأنّها تمثل أنموذجًا وإنّما لأنّها المجال الذي تتوفر لنا عنه معرفة أكثر من غيره، ففي تونس تتوفّر أصوات عديدة قادرة أن تقدّم البديل في مجال التفكير والاجتهاد وغير ذلك بأي مفهوم شئت. ففيها نسبة كبيرة من الحرية على خلاف ما هو موجود في كثير من البلدان الأخرى، ولها أدوات معرفية، فالجامعة التونسية وفّرت أدوات معرفية لأجيال من أجل أن تحقق هذا المشروع، ولكن الإشكال أنّنا إضافة إلى مؤسسة الجامعة لا نجد أيّ مؤسسة تستطيع أن تؤطر كل هذه الجهود وأن تدرجها ضمن إطار خطة استراتيجية، فليس لنا تنسيق وليس لنا خطّة عمل. كل واحد يعمل بجهده الفردي، وهذا مهمّ ولكن ليس له الفاعلية ذاتها التي لجهد المؤسّسات. يجب أن تكون لنا مؤسسات قادرة على أن تجمع هذه الجهود الفردية، وعلى أن تنسّق بينها، وعلى أن تدرجها في إطار خطة استراتيجية تكون لها من الجدوى والفاعلية ما يجعلها قادرة على مواجهة هذا الخط الآخر الذي أعتبره دخيلاً علينا وهو خط التطرف والانغلاق والتشدّد، والذي تشترك فيه أطراف عدّة. وهو خط على خلاف الخط الأول يخطط وينسق ويعمل، بينما في الطرف الآخر هناك نقص كبير في تنسيق الجهود وفي وجود المؤسسات التي تضع خطة استراتيجية من أجل أن توفر لهذه الأفكار الموجودة والكتابات الموجودة على غرار كتابات الجامعيين التونسيين مِساحات، فيكفي أن ننظر إليها لنجد أنّ هناك وراءها برامج عمل.

د. نادر الحمامي: في مستوى الجدوى الآن، هل برامج العمل هذه التي تحتاج إلى دعم وتنسيق أكبر، وأنت تحدثت عن التربة الاجتماعية، هل ترين أنّ المجتمع التونسي له خصوصيته وهو ما يسمح له بقابلية أفضل لاستيعاب هذه الأفكار؟

دة. زهية جويرو: المجتمع التونسي كانت له خصوصية ثابتة وواضحة، الإشكالية أنّ ثباتها ووضوحها بدأ ينقص شيئًا فشيئًا بفعل تأثير العولمة ووسائل الإعلام والفضاء الإعلامي المفتوح منذ الربع الأخير من القرن الماضي، فقد هجمت علينا قنوات مثل "اقرأ" وغيرها، هذه القنوات بدأت تحدث تأثيرها ولا أتصوّر أنّ التونسي غير واع بذلك فأي تونسي يمكن أن يحدثك عن الفارق بين تدين آبائه وأجداده التدين السمح المنفتح وبين تديّن اليوم الذي أصبح تديّنًا مسيّسًا.

د. نادر الحمامي: إذن المجتمع التونسي قابل بطبيعته للتدين المسيّس وغير قابل للمفكرين الآخرين؟

دة. زهية جويرو: الفكر دون أن تكون له قنوات تدعمه يواجه صعوبة، فهل لنا نحن مثلاً قناة في تونس تنشر هذا الفكر؟ لِم لا تكون لنا قناة فضائية تنشر هذا الفكر الذي هو ليس وليد اليوم، فبناءً على دراسات نتبين أنّ مسار التشريع الإسلامي في تونس مختلف وله خصوصياته، وحتى في قرون الانغلاق ظل دائمًا يجد المنفذ ليقدم حلولاً تلائم العصر. إذن هل لنا قنوات ليكون لها التأثير نفسه في العقليات مثل القنوات الخليجية مثلاً؟ دائمًا أعود إلى حقيقة أنّ لدينا إشكالًا لا في طرق التبليغ المعرفية بل في وسائط التبليغ، فأفكارنا ظلت محصورة في الجامعة، وفي نسبة قليلة من طلبتنا الذين يمكن أن يقتنعوا بأفكارنا، لذلك فهذه الفكرة ظلت نخبوية لا لأنّها هي في حدّ ذاتها نخبوية، بل لأنّها لم تجد الوسائط والقنوات التي تقدر على تحويلها إلى فكرة جماعية، على خلاف القنوات الأخرى التي تستفيد من التّمويل والتي تستفيد مما هو موجود لأنّ وجهة نظرها تساير الموجود وتكرّسه، وهي تستأنف الماضي على خلافك أنت الذي تعيد النظر وتحاول أن تزحزح وتفكك وتهز القناعات.

د. نادر الحمامي: ولكن حتى عند بعض المفكرين والأساتذة الذين يأتون إلى وسائل الإعلام ويتحدّثون في ما ألاحظ خاصة على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي، وأنا أهتم خاصة بمسألة التعليقات على بعض المواقف، نجد رفضًا يكاد يكون مطلقًا، ففي الحقيقة بعض التفاؤل أو الأمل في هذا المجتمع قد يتخلخل في كثير من الأحيان ولا أجد أنّ هذه الأفكار ليس لها صدى اجتماعي.

دة. زهية جويرو: لذلك قلت لك إنّ الخصوصية التونسية بدأت تخفت وتضمحل شيئًا فشيئًا، ومن أبرز مراحل ذلك أنّ الإسلام التونسي الذي كان إسلامًا منفتحًا ومتسامحًا، أصبح لا يختلف كثيرًا عن الإسلام في مواضع أخرى، وهذا في الحقيقة يضيف إشكالية أخرى لهذا التوجه وهي إشكالية كيف ينافس الطرف الآخر، فنحن في معركة فكرية وبقدر ما تكون أدواتك منسجمة ومتماسكة ومقنعة تكون قويّا. إلا أنّه لا مجال للمقارنة بين وضعيتك أنت المعرفية والسياقية ووضعية الآخر الذي هو في وضعية ملائمة جدًّا لأنّ الأرضيّة كلها ملائمة لطرحه، بينما أنت عليك أن تهزّ هذه الأرضية كلّها لتعيد بناء طرح جديد. إذن فالأمر عادي وطبيعي، وأنا أقول إنّه دائمًا هناك جانب إيجابي يظهر في ما هو سلبي فحتى وإن كانت هناك ردود فعل سلبية فإنّ إثارة الموضوع والنقاش فيه برأيي خطوة إلى الأمام، وإن كانت بسيطة، وهو أهم من ألاّ يطرح الموضوع تمامًا، ليس هناك وعي بأنّ هناك إشكالية ونحن اليوم في تونس صرنا واعين بأنّ هناك إشكاليات.

د. نادر الحمامي: نجد أنّ الجانب التشريعي من بين هذه الإشكاليات من خلال الشرعنة الدينية التأصيلية التأويلية من داخل المؤسسات الدينية لما يستجد من هذه التشريعات، وهذا سؤالي الأخير، هل يمكن في الإطار التونسي أو حتى في إطار الدول العربية أن ينطلق الإصلاح الاجتماعي والفكري والذهني ذو العلاقة بالمسألة التشريعية من هذه المؤسسات التقليدية؟

دة. زهية جويرو: المؤسسات الدينية التقليدية هي مؤسسات قابلة لأن تكون منطلقًا ونقطة انطلاق، بشرط أن تتوفر فيها الاستقلالية السياسية، فالمشكلة أنّ المؤسسات التقليدية في العالم الإسلامي اليوم تابعة لأقطاب سياسية، والتبعية يستحيل أن تؤدي إلى النتائج التي ننتظرها، فالأقطاب السياسية هي أقطاب محافظة وتقليدية وكليانية ولا يمكن أن تسمح بأي تغيير في المجال الذي نرجوه؛ فهذه المؤسسات لو كان يتوفّر لها حد أدنى من الاستقلالية الفكرية والمالية والسياسية وغير ذلك... فإنّها يمكن أن تكون منطلقًا لإثارة النقاش في هذه المسألة، فلا يمكن أن نناقش هذه المسائل وأن نغيّر الأفكار دون أن ندخل في نقاش مع المؤسسة التقليدية. ويجب الانطلاق منها والعمل على أن نتقدم معًا، ولكن هذا لن يتحقق إذا ظلت المؤسسة التقليدية رهينة السّلطة السياسية. أعطيك مثالاً أختم به وهو بسيط ويمكن أن يعطي الصورة عن إمكانية تحقق هذا، هناك كثير من الدراسات، ونحن بحكم إتقاننا للّغة الفرنسية أكثر من اللغة الإنجليزية لا نطلع على ما يكتب باللغة الإنجليزية، ومن يكتب تلك الدراسات هن في الغالب نساء، فـ (Islamic feminism) هم في الحقيقة بصدد إنتاج مادة معرفية على غاية من الأهمية في تقديري الخاص، قادرة على أن تحقّق فارقًا نوعيًّا، لأنّ هذا الاتّجاه ينطلق من القول بأنّ من حقنا نحن باعتبارنا نساء أن نكون مسلمات مؤمنات، ولكن أيضًا من حقنا أن نتمتع بالعدالة الاجتماعية وبحقوقنا كاملة بصفتنا مواطنات. إذن هذا الجمع بين الخلفية الإيمانية التي لا تفارق الإسلام بل تدخل فيه وتخل في تفاصيله، ووجهة النظر المفتوحة على قيم الإسلام وقيم الحداثة وغير ذلك... بصدد إنتاج معرفة جديدة على غاية من الأهمّية؛ أرجو من مؤسّساتنا التعليمية ومن مثقفينا ومن كتّابنا أن يطّلعوا عليها وأن يستفيدوا منها.

د. نادر الحمامي: إذن على هذه الدعوة، التي تصلح أن تكون خاتمة ومنطلقًا في الحقيقة، نختم هذا الحوار الذي استمتعت به شخصيًّا كثيرًا، وأجدّد شكري العميق لك وسعادتي بلقائك في هذا الحوار راجيًا أن تجد هذه الدعوة سبلها للتحقّق وأن تكون منطلقًا للبحوث التي تهتم بالمسائل الحيوية، وهي مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى مجتمعاتنا اليوم.

دة. زهية جويرو: شكرًا لك مرة ثانية على الدعوة، ونأمل أن تواصل مؤسسة مؤمنون بلا حدود هذا المجهود، وهي جزء من هذا المشروع ويمكن أن تلعب دورًا مهمًّا.