سؤال الدين والحريّة في الفكر الإصلاحي العربي


فئة :  مقالات

سؤال الدين والحريّة في الفكر الإصلاحي العربي

سؤال الدين والحرية في الفكر الإصلاحي العربي

(نصّ حول التأويل التحرّري للإسلام)


"إنّ دواء الحريّة صعب، ولكنّه وحده الدواء الصحيح".

الفقيه علال الفاسي

إنّ الحرية في علاقتها بالإسلام من الانشغالات الرئيسة للفكر الإسلامي الحديث والمعاصر منذ مطلع القرن 19م على الأقل. وقد تزامن هذا الاهتمام مع تزايد درجة احتكاك العرب والمسلمين بالحداثة الغربية بأشكالها ومظاهرها المختلفة، وانتقال عدد من أبناء العالم العربي إلى الغرب في إطار البعثات العلمية والرحلات السفارية وغيرهما.

وممّا يثير انتباه الباحث المتتبع لأشكال تمثل العرب لمفهوم الحريّة وأبعادها، تعدّدها وتطورها الدلالي في تناسب مع تطور الحاجة الموضوعية إليها، اجتماعياً وسياسياً..، ففي البداية لم يكن مطلب الحرية يتعدى بعض الهوامش والتوقيعات على متن الاستبداد السياسي، وإشارات محتشمة للحرية الاجتماعية المرتبطة بوضع المرأة وغيرها، ليتطور الأمر بعد ذلك إلى دلالات تُعنى بجوانب من الحرية الدينية، والمساواة، وحرية الرأي والتعبير.. إلخ.

إنّ هذا النماء والتدرج في تشييد دلالات الحرية بالمجال العربي والإسلامي، لم يتمّ بعيداً عن الدين وفي منأى عنه، بل على العكس من ذلك، كلّ هذه التطورات وأشكال التقدم التي تحققت في موضوع الحرية كانت تستند في العمق إلى فهم تجديدي للإسلام، وقائمة على تسوية معينة مع الإسلام، ومن داخله.

إنّ هذا المقال في جوهره تَتَبُّعٌ لأشكال تطوّر العقلانية الإسلامية، في مقاربتها لموضوع الحرية، وبحثٌ في التأويلات التي اهتدت إليها، والمخارج التي قدمتها للتغلب على المآزق التاريخية للفهم التقليدي للإسلام، واستخلاصٌ للدروس من تجربة العقل العربي والإسلامي مع الحرية على مدى قرنين من الزمان تقريباً، والتي يمكن الدفع بها اليوم في مواجهة الانغلاق والجمود والعبثية.

1- عن علاقة الحريّة والإسلام:

إنّ السعي لتعريف الحريّة بإطلاق، وبصورة مجرّدة من كل قيد أو شرط، أمرٌ متعذر، ولا يطلبها عاقل شرقاً وغرباً، لأنها ـ ببساطة، وفي ذاتها ـ لا توجد مستقلة عن الكائنات والعلاقات، فحيثما وردت كلمة الحرية في أشكال التواصل المختلفة، يَرِد معها رديف يقيدها، ويضع لها الحدود، وبالتالي يمنحها المعنى، فالحرية التي نبحثها عادة هي الحرية التاريخية أي الحرية في تحققها التاريخي، فيُتحدث مثلاً عن الحرية السياسية، والحرية الاقتصادية، وحرية التعبير، وحرية المعتقد... إلخ،[1] وهذه الأحاديث في حقيقتها أحاديث في القيود وطبيعتها وليست حديثاً في اللاّ قيد، إلى درجة تبدو الحرية في جوهرها ـ وكما قال الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي- "هي التقيد، بحيث لا يفهم مدلولها إلا إذا تنازلت عن الاستقلال الكلي، والتزمت التحديد".[2]

ومن ثم فإشكالية "الحرية والإسلام" التي يثيرها عدد من الباحثين في هذا الانتقال التاريخي الذي يمرّ به المسلمون، تتوخى في الجوهر بحث طبيعة القيود التي يضعها الدين الإسلامي أمام تحقق حرية الفرد والجماعة، والبحث أيضاً في شرعية هذه القيود من النواحي الأخلاقية، والعقلانية، والتاريخية، وذلك بهدف بناء "إسلام تحرري".

إنّ استشكال علاقة الإسلام بالحرية هو استشكال تاريخي مرتبط بالتحولات التاريخية الكبيرة التي شهدها الاجتماع العربي في العصر الحديث، في علاقته بالمنجز الحضاري الغربي على الصُعُدِ الاجتماعية والسياسية والثقافية..، فقبل هذه التطورات لم تكن مسألة الحرية مطروحة، وممّا يلتفت إليه، إلا في نطاقات ضيقة فقهية وكلامية. ويبدو سؤال الحرية في هذا السياق، فرعاً عن سؤال الإصلاح، الذي شغل العقل العربي في بداية العصر الحديث، ووجّه فعاليته.[3]

ولمّا كانت إشكالية الإصلاح إشكالية تاريخية ناجمة عن توتر تاريخي حاد وقوي، تسبب فيه الوعي العربي المتأخر بالمسافة التي تفصله عن الغرب، خاصة بعد حملة نابليون على مصر (1798م)، واحتلال الجزائر (1830م)، وهزيمة إسلي (1844م)، كان طبيعياً أن تتداعى بعض أسئلتها على الإسلام، في مسعى لمعرفة حكمه في نازلة الإصلاح وما تفرّع عنها.

لقد استهدف الفكر الإصلاحي عدداً من البنى التقليدية التي كانت تحكم الدينامية التاريخية للمسلمين، باعتبارها عاجزة عن رفد آمالهم في النهضة والتقدم، ونظراً للعلاقة الوثيقة بين هذه البنى والإسلام، التي تعتبر ثمرة جهد ثقافي توفيقي استغرق قروناً من العمل والاجتهاد، كان طبيعياً أن يثار على هامش زحزحتها وتعديلها سؤال الإسلامية. وكانت الحرية إحدى القضايا التي تمخضت عنها هذه "العملية البنيوية".

إنّ سؤال "الحرية والإسلام" في هذا السياق الإصلاحي الممتد غير المستقر، تجسّد في ثلاثة مطالب كبرى: الحرية السياسية؛ والحرية الاجتماعية (تحرير المرأة)؛ والحرية القومية (الاستقلال)..، تمخضت جميعها تقريباً عن الوعي المتأخر بالفارق الحضاري بين "نحن" و"هم"، حيث اعتُبر ضعف منسوب الحرية أحد العوامل المسؤولة عن الفارق واستمراره، الشيء الذي عكس تجاوباً مبكراً مع وصفة التقدم التي تقترحها الحداثة،[4] ومن جهة ثانية أثارت هذه الحريات السؤال عن شرعيتها الدينية.

إنّ الربط الذي أقامه العقل الإصلاحي العربي بين الحرية والنهضة، أخذ بعين الاعتبار رؤية الإسلام المعيارية، وهذا أمر مفهوم في بيئة تنضح بمعاني الالتزام الديني، وقد أدى هذا الربط إلى ازدهار التأويل التحرري للإسلام، وظهور عدد من الخطابات الفقهية المحتفية بالحرية السياسية، والاجتماعية، والقومية.

لقد ظهرت منذ النصف الأول من القرن 19م وإلى النصف الأول من القرن 20م العديد من النصوص والأعمال الفكرية، أخذت على عاتقها مسؤولية تأصيل الحريات المعاصرة، ورفع التعارض بينها وبين الإسلام، منطلقة من فرضية أوليّة تفصل بين الإسلام (الدين)، وبين الإسلام - التمثل التاريخي (التدين)، وذلك في أفق بناء تمثل عصري للإسلام.

وإنّ مثل هذا العمل التجديدي كان يواجه عادةً تحديين رئيسيين: الأول، النزعة المحافظة أو التقليدية التي تسعى للمطابقة بين الإسلام والتاريخ والثقافة، وبالتالي تصادر كلّ قول في التجديد والاجتهاد؛ والثاني، النزعة اللادينية التي لا ترى ضرورة للتأصيل أو التأويل، ولا فائدة وراء البحث عن تمثل عصري للإسلام، وتدعو بالمقابل إلى تحرير الشأن الإصلاحي من رأي الإسلام.

وبالرغم من هذه التحديات، والتمزقات الخطيرة التي تسببت فيها، فقد نجح الإصلاحيون المسلمون في تسوية العلاقة بين الحرية والإسلام في المجالات السياسية والاجتماعية والإعلامية، ولا أدلّ على ذلك، من أنّ التيار العام من المسلمين ـ اليوم ـ لا يرى في الحريات السياسية نقضاً للإسلام وخروجاً عنه، ولا يرى كذلك في حريات المرأة المرتبطة بالعمل واللباس وتقرير مصيرها الشخصي عصياناً لله، فقد أمسى الجميع يفصل وبوضوح بين أصل الحرية، التي يمنحها الإسلام لكل المكلفين، وبين التصرف فيها الذي يتأرجح صاحبه بين الصواب والخطأ المحدد بالقانون والعرف، أو الحلال والحرام المستند إلى الشرع.

إنّ التأصيل عموماً، وتأصيل الحريات بشكل خاص، ليس عملاً فقهياً محضاً، يتوخى إلحاق أحد مراتب الحكم بهذه الحريات، بل هو عمل إبداعي الغاية منه المواءمة بين ما "أنا ـ نحن" عليه، وبين مقتضيات التقدم. ولم تقم حضارة ما في العالم بدون هذا النوع من الممارسة، سواء بالغرب أو الشرق.

فإنّ رِضى الناس واطمئنانهم في الحياة متوقف على نجاح هذه الموائمة بين العناصر الجوانية، التي تؤثث الذات الفردية والجماعية وبين الأسئلة البرانية التي تطرحها الدينامية التاريخية التي يستقلها هؤلاء الناس.

2- الإسلام والحريات السياسية من منظور الإصلاحيين الأوائل:

المقصود بالحريات السياسية ها هنا، ليس ما نفهمه منها اليوم، من تعددية حزبية، ومعارضة، وتنافس انتخابي، ودستور ديمقراطي... إلخ، فلم يكن التطور التاريخي الذي بلغته الجماعة السياسية الإسلامية يتيح التفكير في شيء من ذلك، بل المقصود بها أمور أخرى مختلفة، من قبيل النزعة الوطنية، والدفاع عن الشورى/الديمقراطية، التي كانت علَّة الدعوى إلى إشراك العموم في القرار السياسي... إلخ.

ومن أهم الأسماء التي حملت على عاتقها عبء التجديد والتأصيل في هذه الظرفية الانتقالية الصعبة الشيخ إمام البعثة رفاعة رافع الطهطاوي، والإمام محمد عبده، والفقيه محمد بن الحسن الحجوي، والزعيم علال الفاسي، وكثير غيرهم، غير أننا ونظراً للمساحة المخصصة لهذا المقال سنقتصر على شذرات من آثار هؤلاء الأعلام، والتي أنارت سبيل الحرية في العالم العربي.

لقد نجح الشيخ رفاعة الطهطاوي ـ ولأول مرّة ـ في لفت انتباه العموم إلى اعتبارات وشروط جديدة في الانتماء والعضوية في الجماعة السياسية، قائمة أساساً على مفهوم الأهلية، الذي يرادف مفهوم المواطنة، في لغة الطهطاوي، وتتبدى هذه الرابطة في أكثر من مناسبة، منها قوله: على أبناء الوطن أداء "ما يجب عليهم من الحقوق لوطنهم، أيّاً ما كانت طبقتهم لاتحادهم في وصف الأهلية، وأن يتعاونوا على ما فيه صلاح مملكتهم وجمعيتهم السياسية، وأن يبذل المستطيع ما عنده في إصلاح حالها ومآلها.."،[5] وفي هذا السياق خفف من ثقل النسب الديني في الاجتماع السياسي، بقوله: "أما وقد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ وما يختار، فبهذا كانت رخصة التمسك بالأديان المختلفة جارية عند كافة الملل ولو خالف دين المملكة المقيمة بها، بشرط أن لا يعود منها على نظام المملكة أدنى خلل كما هو مقرر في حقوق الدول والملل".[6] ومن ثم، فإلحاح الطهطاوي في مواضع مختلفة من كتابه على آصرة "الأهلية" (المدنية) في الاجتماع السياسي من جهة، وتسامحه مع أتباع الديانات الأخرى من جهة ثانية، كان مقدمة لازدهار فكرة المواطنة وانتشارها في الأدبيات السياسية التي جاءت بعده.

أمّا بخصوص الشورى التي كان يقصد من ورائها حفز الحكام على الانفتاح السياسي، وإشراك الأمّة في ممارسة السيادة، فقد دافع محمد عبده عن الاستشارة السياسية، واعتبرها واجبة شرعاً، "وأنّ طريقها مناط بما يكون أقرب إلى غايات الصواب، وأدنى إلى مظان المنافع ومجالبها. على أنها إن كانت في أصل الشرع مندوبة، فقاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان تجعلها عند مسيس الحاجة إليها واجبة وجوباً شرعياً، ومن هنا تعلم أنّ نزوع بعض الناس إلى طلب الشورى، ونفورهم من الاستبداد، ليس وارداً عليهم من طريق التقليد للأجانب، بل ذلك نزوع إلى ما هو واجب بالشرع، ونفور عما منعه الدين وقبحه العلماء، وشهدوا من آثاره المشؤومة ما عرفوا به قبح سيرته، ووخامة عقباه".[7] غير أنّه وأمام هذا التصريح والتقرير بوجوب الشورى والديمقراطية، لا يندفع للمطالبة بتطبيقها العملي، بل يقرن ذلك بعدد من الشروط، من أهمها توفر حد أدنى من التعليم، والتدرج،[8] ويقرر في هذا السياق إمكانية تطبيق الشورى في مصر، إذا توفر مستبد عادل أو مستنير ينقلها إلى ذلك.

ولم يتأخر الغرب الإسلامي عن شرقه في هذا الباب، فقد وجدنا الفقيه الحجوي أثناء حديثه عن الدولة، يركز على أمرين أساسيين: الأول ضرورة بناء نظام الشورى الموافق لهدي الإسلام، وفي اتساق مع ظروف العصر، بحيث اعتبر تغير الأنظمة بتغير الأحوال والأزمان قاعدة مضطردة عقلاً وشرعاً؛ والثاني الأخذ بالاعتبار مبدأ اختلاف الأنظمة باختلاف الأقطار وتجارب الأمم، وبالتالي ما يصدق ويصلح في الغرب، ليس بالضرورة صالحاً للشرق.[9]

أمّا الزعيم علال الفاسي في كتابيه "النقد الذاتي"، و"الحرية"، فقد احتفى فيهما، وفي أكثر من موقع، بفضيلة الحرية، ومحاسنها، ومن قوله في هذا المعنى: "إنّ واجبنا يقضي علينا بتأييد الحرية ونشر دعوتها، ولذلك لا يمكننا أن نكبت أي تيار من التيارات أو نمنع الاستماع لدعوة من الدعوات، وواجبنا نحو التفكير يرغمنا على ترك الناس ينظرون بأنفسهم ويتدبرون في كل ما يعرض من الآراء أو يعنّ من النظريات".[10]

وبالرغم من أنّ كلام علال الفاسي في هذا النص يتعلق بالحرية عامة، وبشكل خاص بالحرية الفكرية، فإنّه في الحقيقة نصير لكافة الحريات، وقد ظهر ذلك في أكثر من إشارة في النقد الذاتي وغيره، ومن هذه الإشارات قوله: "إنّ الحكم يجب أن يكون مبنياً على أساس الاشتراك المقبول بين الأمّة ورؤسائها"،[11] ويقول في موضع آخر: "فحقّ الأمّة في أن تحكم نفسها بنفسها يتفق تماماً مع حقها في أن تختار من تنيبه عنها في تسيير شؤونها".[12]

ومن جوامع كلم الزعيم علال في هذا الباب الدال على عمق نفسه التحرري، قوله: "إنّ دواء الحرية صعب، ولكنه وحده الدواء الصحيح".[13]

إنّ علال الفاسي في نقاشه لمسألة الحرية السياسية، بالرغم من عدم استناده إلى الألفاظ والاصطلاحات الفقهية، لم يكن لديه أدنى شك في تطابق ما يدعو إليه مع جوهر دعوى الإسلام وقيمه العليا.

3- الحريات الدينية بالمغرب: قضية من القرن 19م:

إنّ تشوف فقهاء الإصلاح الكلِّي للحرية في هذا الزمن المتقدم، لم يكن يعني أبداً القبول بها في إطلاقيتها، ودون تحفظ، ولدينا مثال جدير بالتأمل من تاريخ المغرب خلال ق. 19م، لقد شهد المغرب في النصف الثاني من القرن 19م دعوة صريحة لحرية المعتقد، وكان وراءها بعض اليهود والمسيحيين، ففي سنة 1864م وفد على المغرب أحد اليهود الإنجليز وهو السير موسى مونتفيوري، وحظي باستقبال سلطان المغرب آنذاك محمد بن عبد الرحمن (1859- 1873م)، وطلب منه الحرية ليهود المغرب، وبعد ذلك بسنوات قليلة تكرر الطلب نفسه تقريباً، لكن هذه المرّة من طرف مؤتمر مدريد (1880م)، الذي كان يتداول في المسألة المغربية في سياق التنافس الرأسمالي على المغرب الأقصى، وبإيعاز من الفاتيكان.[14]

وأهم الحريات التي كان يطلبها هؤلاء: حرية العقيدة أو الأديان، والمساواة أمام القانون، وخاصة ما تعلق بالتسوية في التناكح، والشهادة، واللباس، والمركب..[15]

وقد تصدّى للرد على هذه المطالب عدد من الأعلام، كان أغلبهم من الفقهاء. ويبدو من رد هؤلاء - الذي جرى على لسان السلطان كعادتهم في ذلك الزمان - تشبث الدولة المغربية بعقد الذمّة الذي يحكم علاقة المسلمين بغيرهم في دار الإسلام، والذي يلزم السلطة السياسية، ويجعلها غير قادرة على تجاهله (عقد الذمّة)، وحتى في حال إقدام الدولة على إعطاء شيء من هذه الحريات للذميين، فإنها من وجهة نظر الفقهاء غير مشروعة، ذلك أنّ "العالِم حاكم على الملِك، لا العكس"، كما جاء في الوثيقة.[16]

ومن ثم، فإنّ التحفظ الواضح الذي طبع رد الفعل المغربي الرسمي والثقافي على طلب الحريات الدينية بالمغرب يجد تفسيره في عدد من الحيثيات، منها على سبيل المثال عدم براءة هذا المطلب، وأنه جزء من حملة الضغط الدولية التي كانت تمارس على المغرب في هذا العهد؛ عمالة عدد من اليهود المغاربة للأجنبي، واستقواؤهم به من خلال "الحمايات القنصلية"؛[17] تقليدانية المؤسسة السياسية والفكر المغربي في هذه المرحلة المبكرة، ناهيك ـ وهذا أهمّ ـ عن أنّ هذه المشكلة لم تكن توتراً محلياً وداخلياً، بل كانت مشكلة لدى الآخر، وبالتالي لم تحظ باهتمام فقهي واضح، كما هو الشأن بالنسبة لباقي الحريات.

4- الحريات الاجتماعية (المرأة):

لم تعد البنية الاجتماعية التقليدية في العالم الإسلامي قادرة على مواكبة متطلبات التحديث والنهوض مع مطلع القرن 19م، وأمسى من الضروري إدخال جملة من التعديلات عليها، همّت في معظمها جانب المرأة، بحيث لم يتردد معظم فقهاء الإصلاح في الدعوة إلى تحريرها، بحسب ما كانت تطيقه الأحوال.

وقد اتخذت دعوى التحرير في بداية الأمر، شكل الدعوة إلى تعليم المرأة، وتربيتها، لتتطور فيما بعد إلى الدعوة إلى إشراكها في أعباء النهضة، وذلك بمراجعة مفهوم الحجاب، الذي كان يتعدى اللباس إلى الحصر في البيوت والمنازل، والدعوة إلى منع التعدد، وقصره على الضرورات.

إنّ أول من اعتنى من مفكري الإصلاح بقضية المرأة، وتناولها في أكثر من باب من أعماله الإمام رفاعة الطهطاوي، فقبل كتاباته كانت المرأة نسياً منسياً، ولا يكاد يلتفت إليها. وقد تجلت هذه العناية في أكثر من مظهر وفصل من فصول كتاب "المرشد الأمين في تربية البنات والبنين"، ومنها دعوته إلى تعليم البنات، وتفنيده كل الدعاوى التي كان يدفع بها الرافضون لتعليمهن، ودَحَض كُلَّ حججهم الشرعية والعقلية، قائلاً في هذا المعنى: "وقد قضت التجربة في كثير من البلاد أن نفع تعليم البنات أكثر من ضرره، بل إنه لا ضرر فيه أصلاً".[18] فهذه الدعوة التي قد تبدو هينة بالنسبة للبعض وأمراً بسيطاً، كانت في زمانها دعوة راديكالية، وغير متقبلة، ودون القبول بها مخاضات عسيرة.

وفي اتصال بهذا الموضوع، دعا الإمام رفاعة الطهطاوي من طرف خفي إلى الحد من تعدد الزوجات، الذي كان ظاهرة متفشية في الأوساط الاجتماعية المصرية، واعتبر أنّ الإسلام يندب المؤمن إلى الاكتفاء بواحدة، إلا إذا دعته حاجة ظاهرة.[19] ودعا أيضاً إلى احترام رغبة المرأة، ووجدانها، وتزويجها إلى من تحب وتهوى،[20] وفصّل بعضاً من حقوقها...[21] لقد فتح الإمام رفاعة الطهطاوي نافذة واسعة ومهمة للإصلاح الاجتماعي، وإذا كان بعضهم قد يرى في هذه الأفكار والمطالب بعض البساطة، فإنها بالنظر إلى زمانها، والظروف المحيطة بنشرها كانت دعوة راديكالية وتقدمية.

إنّ ما ابتدأه الطهطاوي سيكمله من جاء بعده من رموز الإصلاح، وفي طليعتهم الإمام محمد عبده، الذي كان أكثر وضوحاً وجرأة في دعواه التحريرية، فقد طالب بشكل لا لبس فيه بمنع تعدد الزوجات وقصره على الحالات الخاصة، حيث جوّز للحاكم منع التعدد بشرط أو بغير شرط، على حسب ما يراه موافقاً للمصلحة، وذلك لانتشار الجور بين الناس، وشيوع العداوة...[22] ومن طريف قوله في هذا الباب، الصلة التي أقامها بين التعدد ومرتبة المرأة في الهيئة الاجتماعية من حيث الرقي والانحطاط، فإذا كانت المرأة منحطة كانت هذه العادة راسخة وغالبة، وتكون خلاف ذلك إذا كانت راقية.[23]

وسيراً على النهج نفسه، يقرّر الإمام محمد عبده "أنّ الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده. ويدلنا على ذلك أنّ هذه العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الإسلامية، وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التي لم تتدين بدين الإسلام".[24]

إنّ رغبة الإمام عبده في تحسين مكانة المرأة وموقفها إزاء المجتمع وشقيقها الرجل، تتجلى في جوانب كثيرة من خطابه الاجتماعي، يتعذر حصرها والإتيان بها في هذه الدراسة، ومن أمثلتها التي يحسن ذكرها في هذا السياق فتواه حول حق المرأة في التصرف في أملاكها، وعدم احتياجها في ذلك إلى إذن زوجها.[25]

وفي هذا السياق، لم يتأخر الغرب الإسلامي عن المشرق، وظهرت فيه دعوى تحرير المرأة في وقت مبكر، ومن أشهر مفكري الإصلاح الذين ناصروا قضية المرأة، وحثوا المجتمع على إنصافها الفقيه والإصلاحي الكبير محمد بن الحسن الحجوي، الذي عرض لموضوع المرأة في أكثر من عمل من أعماله، ومما يؤثر عنه في هذا الباب، إلحاحه في طلب تعليم المرأة، وإنكاره الشديد على الذين يمنعون من ذلك ديناً وعقلاً، وفَصَل في هذا السياق بين دعوى تعليم المرأة ومسألة الحجاب، فتعليمها لا يعني ولا يقتضي رفع الحجاب عنها. وبالرغم من حذر الحجوي في دعواه، وتفاديه القضايا الشائكة مثل الدعوة إلى خروج المرأة ومراجعة مفهوم الحجاب، فقد لاقى معارضة قوية من طرف عدد من العلماء وبعض رجال المخزن (الدولة)، واعتبرت دعواه لتعليم البنات دعوة فاسدة.[26]

وعموماً، فإنّ الجهد الإصلاحي الذي بذله الحجوي في موضوع المرأة ارتكز على تمكينها من الحق في التعليم، ولم يتجاوز ذلك إلى مراجعة بعض العادات السالبة لحرية المرأة في الحركة والفعل الاقتصادي والحجاب، ويدل على ذلك موقفه من نداء قاسم أمين، وأفكاره التي اعتبرها منحرفة، وسبباً في إفساد أخلاق المرأة في الشرق العربي، ومن ثم كانت آراء الحجوي في هذا الباب تتحرى التوسط والاعتدال، وتأخذ بالاعتبار الرأي العام الفقهي الموسوم بالمحافظة والانغلاق، وتأخذ بالاعتبار أيضاً معارضة بعض الأوساط المقربة من السلطان.

ومن الإصلاحيين الآخرين الذين اعتنوا بالمرأة ونادوا بتحسين وضعها الزعيم علال الفاسي، الذي أفرد لها مساحات مهمة من كتابه "النقد الذاتي"، ويتميز الزعيم علال عمن سبقه بعدد من الآراء، دلت على شجاعته وجرأته العلمية والأدبية في موضوع اجتماعي حساس، فكان من الأوائل الذين طالبوا بتزويج الفتاة بمن تحب، وأنكر بعض أنماط الحجاب، وقال: "الإسلام يجيز للمرأة أن تكشف وجهها وأطرافها في مذهب جميع العلماء عند أمن الفتنة"،[27] كما أنه لم يتردد ولم يتلعثم في الإعراب عن رأيه القائل بمنع تعدد الزوجات في العصر الحاضر، يقول: "إني اعتبر أنّ المصلحة الإسلامية والاجتماعية تقضي بمنعه في الوقت الحاضر"، وإذا كان علال الفاسي في هذا الموقف يشبه موقفه سابقيه محمد عبده وقاسم أمين..، فإنّ التعليل الشرعي الذي قدّمه لهذا الحكم أو الرأي جدير بالتأمل، ويعتبر متقدماً عن غيره، يقول علال مدللاً على شرعية رأيه: "إني أفهم من الآيات القرآنية التي أدليت بها [يقصد آيات التعدد..] أنها تشمل أوامر إرشاد يحق للأمة تطبيقها بحسب الزمان والمكان".[28]

خاتـمـة:

إنّ النماذج المتقدمة التي تجسّد تأويلات مختلفة لعلاقة الحرية بالإسلام، تؤكد أنّ الإسلام ـ كونه ديناً ـ منحاز بطبعه للتقدم، والفضيلة، والقيم الإنسانية، ولا يمكنه أن يكون معاكساً لهذه القيم، وتدل التجارب الفكرية للقرن 19م والقرن 20م دلالة قاطعة على قدرة الإسلام على التأقلم الإيجابي مع متطلبات العصر، والتي نجني ثمارها اليوم.

ومن الشروط الأساسية لنجاح هذه التأقلمات التي تؤكدها المراجعة التاريخية الهادئة للفكر الإسلامي المعاصر، فقه الإسلام، والامتزاج به، والتشبع بقيمه، فالطريق السالكة نحو إقرار الحريات، وتأصيلها في بيئتنا، تمرّ بالضرورة عبر اتصال وجداني صادق بالإسلام، لا عبر الانفصال عنه، أو معاداته، وهذا ما يفسّر لنا نجاح كثير من الفقهاء الذين عرضنا لبعضهم في التمكين لآرائهم التحررية.

ومن المثير للانتباه في هذا السياق أنّ جلّ الذين عُرفوا بأفكارهم التحررية الجريئة، ومكنوا لتأويلاتهم كانوا فقهاء، بدءاً من الطهطاوي ومروراً بمحمد عبده والحجوي إلى علال الفاسي، وقد اتّسم هؤلاء من الناحية المنهجية بما اصطلح عليه عبد الكبير الخطيبي بـ "النقد المزدوج"، الذي مكّنهم من المراجعة العلمية والنزيهة لكلٍ من التمثل التاريخي للإسلام، وتمثل الحداثة.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ هؤلاء الفقهاء اعتمدوا مجموعة من القواعد في بناء اجتهاداتهم، منها على سبيل المثال لا الحصر: قاعدة تغير الأحكام بتغير الزمان، وتفسير بعض الأحكام القرآنية بأنها أحكام إرشادية ترتبط بظروف الزمان والمكان، وجواز الانتفاع بالآخر؛ ومراعاة الخصوصية.

إنّ التقدم في مقاربة إشكالية "الحرية والدين" في العالم العربي، وتحقيق مزيد من معاني التحرر في الواقع، مرتبط بثلاثة مقومات منهجية: العقلانية الفقهية؛ والشخصانية الواقعية؛ والمنظور التاريخاني، ولدينا في الفكر المغربي المعاصر ثلاثة نصوص هامّة، ودالّة، جسّدت هذه المقاربة، وتضع أمامنا خريطة طريق عميقة وناضجة لتدبير التوتر الناجم عن خلاف الرؤى حول "الحرية والدين"، وكثير من الثنائيات الشبيهة، وهي: كتاب "الحرية" لعلال الفاسي؛ وكتاب "من الحريّات إلى التحرر" لمحمد عزيز الحبابي؛ وكتاب "مفهوم الحرية" لعبد الله العروي.

وأهم المبادئ الموجهة التي يمكن استخلاصها من هذه النصوص:

-         تقديم صريح العقل على ظاهر النقل (علال الفاسي)؛[29]

-         خصوصية طرح الحرية في العالم العربي، يرجع لخصوصية الأوضاع التاريخية (العروي)؛[30]

-         التحرر هو تشخصن/ وعي تدريجي، قائم على التفاعل بين الثقافتين الإسلامية والغربية (الحبابي).[31]


[1]ـ يقول علال الفاسي: "حاول علماء التربية الوطنية أن يحددوا هذه الحرية فقالوا إنها انعدام كلّ القيود المادية للقيام بأي عمل يريده الشخص. ومعنى هذا أنّ الإنسان حر في أن يفعل ما يشاء أو لا يفعله، والقول بهذا الإطلاق إنما هو على جهة الإمكان، لا على جهة الشرعية، لأنّ الخلق والدين والقوانين تمنع الإنسان من أن يؤذي أخاه أو يعتدي على مصلحة جاره. ولذلك فقد اقتنع الكثيرون بأنّ الحرية لا يمكن أن تحد منطقياً، لأنّ حدها تضييع لها. وهي حرية لا تقبل أن تضيع". (علال الفاسي، الحرية، مطبعة الرسالة، الرباط، ط. 1977، ص 56).

[2]ـ محمد عزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط.1/ 2014، ص 23

[3]ـ إنّ سؤال الحرية في العالم العربي ناشئ عن الصراع مع الأجنبي، بينما سؤال الحرية بالغرب ناشئ عن الصراع مع الكنيسة، وقد أدرك كثير من الإصلاحيين العرب هذا الاختلاف وبالتالي تجنبوا الصدام مع الإسلام. وحول سياق سؤال الحرية والأنوار بالغرب، يمكن الرجوع إلى رسالة إمنويل كانط (Emmanuel Kant (1724-1804)) ما الأنوار؟، التي وقف فيها على معاني التحرر والمسؤولية الإنسانية، التي تحققت بالتدريج منذ بداية القرن 14م.

[4]- يعتبر العروي من الأوائل الذين انتبهوا إلى تلازم مفهوم الحرية في العالم العربي وخصوصية الأوضاع التاريخية، فمعنى الحرية المطلوب تاريخياً هو بالأساس ما تطلبه الأوضاع، وليس معنى مجرداً. (عبد الله العروي، مفهوم الحرية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط.4/ 2008، ص 139).

[5]ـ رفاعة الطهطاوي، مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية، مطبعة شركة الرغائب، مصر، ط. 1912، ص 433

[6]ـ نفسه، ص 9

[7]ـ محمد عبده، الأعمال الكاملة (في الكتابات السياسية)، تحقيق وتقديم محمد عمارة، الهيئة العامة المصرية العامة للكتاب، دار الشروق، القاهرة، 2009، ص 382

[8]ـ نفسه، ص 341

[9]ـ آسية بن عدادة، الفكر الإصلاحي في عهد الحماية: محمد بن الحسن الحجوي، المركز الثقافي العربي، البيضاء - بيروت، ط.1/ 2003، ص 225

[10]ـ علال الفاسي، النقد الذاتي، منشورات مؤسسة علال الفاسي، ط.8/ 2008، ص 62

[11]ـ نفسه، ص 127

[12]ـ نفسه، ص 128

[13]ـ نفسه، ص 55

[14]ـ المنوني، مظاهر يقظة المغرب، ج.1، شركة المدارس ودار الغرب الإسلامي، البيضاء، ط 2/ 1985، ص ص 405، 406

[15]ـ نفسه، ص ص 411، 412

[16]ـ المنوني، مظاهر يقظة المغرب، ج.1، م. س، ص 414

[17]ـ الحمايات القنصلية تطلق على السياسة الحمائية التي كانت تطبقها عدد من الدول الأجنبية بالمغرب، والتي كان يحصل بموجبها عدد من المغاربة العاملين مع القناصل الأجانب، وفي دورهم على جملة من الامتيازات تحاكي الامتيازات التي كان يتمتع بها الأجانب، من قبيل الإعفاء الضريبي، وعدم المتابعة أمام القضاء المغربي. وقد توسعت هذه السياسة مع مرور الوقت لتشمل عدداً من الفئات الاجتماعية بما فيها الأعيان وشيوخ الزوايا الصوفية.... وقد مكنت الحماية القنصلية الدول الأجنبية من طابور خامس مغربي سهل عليهم مأمورياتهم ومكرهم السيئ بالبلد.

[18]ـ رفاعة الطهطاوي، الأعمال الكاملة، ج.2، م. س، ص ص 393، 395

[19]ـ نفسه، ص 489

[20]ـ نفسه، ص 746

[21]ـ نفسه، ص 639

[22]ـ محمد عبده، الأعمال الكاملة (في الكتابات الاجتماعية)، م. س، ص 86

[23]ـ نفسه، ص 82

[24]ـ نفسه، ص 109

[25]ـ نفسه، ص 513

[26]ـ آسية بن عدادة، الفكر الإصلاحي في عهد الحماية، م. س، ص ص 279، 293

[27]ـ علال الفاسي، النقد الذاتي، ص 234

[28]ـ نفسه، ص ص 242، 243

[29]ـ علال الفاسي، الحرية، م. س. ص 28

[30]ـ عبد الله العروي، مفهوم الحرية، م. س، ص 139

[31]ـ الحبابي، من الحريات إلى التحرر، م. س، ص 230