سوسيولوجيا ألان تورين


فئة :  مقالات

سوسيولوجيا ألان تورين

سوسيولوجيا ألان تورين

عثمان لكعشمي

ملخص:

تسعى هذه الورقة البحثية الموسومة بـ "سوسيولوجيا ألان تورين"، إلى تسليط الضوء على المعرفة السوسيولوجية التي جاء بها أحد أهم أعلام السوسيولوجيا المُعاصرة والجديدة، يتعلق الأمر بسوسيولوجيا عالِم الاجتماع الفرنسي ألان تورين.

يتعلق الأمر بسوسيولوجيا للذات الفاعلية أكثر منها سوسيولوجيا للمجتمع؛ سوسيولوجيا للحداثة أكثر منها سوسيولوجيا لما بعد الحداثة؛ سوسيولوجيا تاريخانية فعالة أكثر منها تاريخانية حتمية. وإنْ كان تورين قد دعانا إلى التخلي عن فكرة المجتمع وتعويضها بفكرة الذات، فإنه كما هو مبين في أعماله الأخيرة لم يتخلّ قط عن عبارة "مجتمع" التي بات يستعملها للتعبير عن نقيض الذات، لكنه مع ذلك ضمنها معاني جديدة تحلّ فيها الذات في مركز هذا الـ"مجتمع"؛ أي إنه غدا يستعمل المجتمع، باعتباره مجتمعاً للذوات أكثر منه مجتمعاً للموضوعات أو المؤسسات.

لعل هذا القلب الذي يبدو جذرياً، هو ليس ضد السوسيولوجيا أبداً، بل هو من أجلها، من أجل المُساهمة في مجاوزة ذاتها وفك أزمتها على ضوء العصر الراهن بما هو عصر المجتمعات فائقة الحداثة؛ غير أن هذا القلب لا يجب أنْ يقذف به فيما يسمى ما بعد الحداثة أو ما بعد الحقيقة السوسيولوجية، بل العكس هو الصحيح، فالحداثة الفائقة شيء وما بعد الحداثة شيء آخر. إذا كانت الثانية تلغي الحداثة وتقول بما بعدها، فإن الأولى تقول بامتداد الحداثة كمرجع وأفق معاً. وبما أن الحداثة من هذا المنظور التاريخاني المتفرد ممارسات وتأويلات، فإن السوسيولوجيا عند ألان تورين ليست أكثر من هذه التأويلات، تأويلات تاريخانية علمية للحداثة وامتداداتها. إننا أمام سوسيولوجيا مغايرة، تسعى في المقام الأول إلى المُساهمة في دراسة صراعات الفاعلين الاجتماعيين الجدد بوصفهم ذواتاً فاعلة، دفاعاً عن حقهم في أنْ يكونوا هم أنفسهم، دفاعاً عن حقهم في الحرية والمساواة والكرامة.

مقدمة

تروم هذه الورقة البحثية تسليط الضوء على المعرفة السوسيولوجية التي جاء بها ألان تورين Alain Touraine، كما هو مبين في العُنوان، باعتبارها سوسيولوجيا متفردة، لا تقل أهمية عن سوسيولوجيا بيير بورديو أو غيره من عُلماء الاجتماع المُعاصرين، الذين يعبرون بشكل أو بآخر عن مُنعرج إبيستيمولوجي في بنية وسيرورة النظرية السوسيولوجية؛ من الوحدة إلى التعدد؛ من السوسيولوجيا الموحدة إلى السوسيولوجيات المتعددة.

لبلوغ هذا المرمى، سنعمل على فحص بنية هذه السوسيولوجيا وطبيعتها الإبيستيمولوجية وموقعها ضمن المعارف السوسيولوجية السائدة، من الوضعانية إلى التأويلية وغيرها من الاتجاهات والمدارس السوسيولوجية. بالإضافة إلى مساءلة الفكرة التي تختزل فكر تورين في الفعل الاجتماعي من جهة، وسجنه في التيار المسمى بـ "ما بعد الحداثة" من جهة ثانية، فضلاً عن رصد مجرى المنعرج الإبستيمولوجي لموضوع علم الاجتماع عنده: من المجتمع إلى الذات الفاعلة.

فبأيّ معنى هي سوسيولوجيا؟ وما محددات ومعالِم هذه السوسيولوجيا؟ وهل هي سوسيولوجيا للفعل الاجتماعي فحسب، أم إنها سوسيولوجيا تاريخانية في العمق؟ وهل هي فعلاً سوسيولوجيا ما بعد حداثية شأنها في ذلك شأن ما يُنعت اليوم بـ "سوسيولوجيا ما بعد الحداثة" أم إنها سوسيولوجيا للحداثة في حد ذاتها؟ وهل مازالت فكرة المجتمع ضرورية كموضوع للسوسيولوجيا، أم إنه ينبغي علينا التخلي عنها وإحلال الذات الفاعلة محلها، وما قد ينتج عن ذلك من تحول في البراديغم (الإبدال) السوسيولوجي؟ هذه الأسئلة وغيرها، والتي تهدف إلى سبر أغوار ذلك المجرى السوسيولوجي لتورين، ومن ثم إعادة تعريف السوسيولوجيا على نحو مغاير.

أولاً: سوسيولوجيا تاريخانية

سنحاول في هذا المحور الافتتاحي مَوْضَعَة الرصيد السوسيولوجي لتورين وتحديد مَوْقِعه ضمن الاتجاهات النظرية السوسيولوجية، والبحث عن مَيْسم له؛ منطلقين في ذلك من التساؤل عن مشروعه الفكري بعامة ومشروعه السوسيولوجي بخاصة. وصولاً إلى إعادة تصنيفه فيما يُمكن تسميته ووَسْمُه ب: "السوسيولوجيا التاريخانية"؛ المجرى السوسيولوجي لتورين. فبأيّ معنى هي سوسيولوجيا؟ وما محددات ومعالِم هذه السوسيولوجيا؟ وهل هي سوسيولوجيا للفعل الاجتماعي فحسب، أم إنها سوسيولوجيا تاريخانية في العمق؟

لعله من نافل القول، إن المعرفة السوسيولوجية ما قبل الحرب العالمية الثانية ليست هي ما بعدها. أوليست السوسيولوجيا بنت التغير الاجتماعي كما قيل؟ فمنذ نشأتها الحديثة كعلم مستقل بذاته له موضوعه ومنهجه المحددين، إلى اليوم، ظلت السوسيولوجيا وفية للتحولات الاجتماعية التي تَدين لها بوجودها وتستمد منها مُبررات وعِلل وجودها. بالأحرى إن تلك التحولات لعبت دوراً كبيراً في تقدمها وتطورها الإبيستيمولوجي والعلمي، من خلال تأزيمها نظرياً في علاقتها بسيرورة الاجتماعي المتبدلة؛ ومن ثم دعوة علماء الاجتماع باستمرار إلى مساءلة أطرهم النظرية ومناهجهم البحثية ومفاهيمهم التحليلية والإجرائية.

إنها سيرورة لا تنفك عن التوقف، تلك السيرورة الجدلية بين النظرية السوسيولوجية والممارسة الاجتماعية. على اعتبار أن السوسيولوجيا بمثابة انعكاس علمي مُمَوْضَع للممارسة الاجتماعية ومُمَوضِع لها؛ فكما أن النزعة الوضعية لأوغست كونت ومن معه، لعبت دوراً اساسياً في القطع مع الفكر الاجتماعي والسياسي ما قبل القرن 19 الأوروبي، والتي على غِرارها تمخض عِلْم فتي وُسِم بالسوسيولوجيا، فإن سوسيولوجيا ألان تورين لعبت دوراً حيوياً في القطع مع ما سمي بالسوسيولوجيا الكلاسيكية وخلخلة ما سينعت لاحقاً بالسوسيولوجيا المعاصرة[1] بما هي سوسيولوجيا للمجتمعات الصناعية الحديثة، مُساهماً بذلك في تجديد وتثوير البنية الإبدالية للمعرفة السوسيولوجية، سوسيولوجيا ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو لنقل سوسيولوجيا ما بعد السوسيولوجيا[2]، أو سوسيولوجيا ما بعد المجتمع، كما يفضل أنْ ينعتها.

مثله في ذلك مثل بورديو، أو أكثر بقليل، ولا سيما أن هذا الأخير لم يعش من التحولات التي عاشها الأول إلا البواكير والإرهاصات الأولى التي تمخضت عنها التحولات الراهنة. هذا وبغض النظر عن اختلاف منطلقاتهما النظرية ورؤيتهما للسوسيولوجيا والعالَم. وإنْ كاناَ لا يختلفان من حيث كون الممارسة الاجتماعية تقوم على الصراع ولاشيء غير الصراع، فضلاً عن المهمة التحريرية لعلم الاجتماع، فإنهما يختلفان في استراتيجيتهما لتحقيق ذلك. إذا كان بورديو يرفض التدخل السوسيولوجي المُباشر في تغيير الهيمنة الاجتماعية من منطلق علمي، على اعتبار أن مهمة علم الاجتماع الأساسية تكمن في تعرية آليات تلك الهيمنة دونما تأثير مباشر في تغييرها، فإن ألان تورين والحالة هذه يدعونا إلى سوسيولوجيا فاعلة؛ سوسيولوجيا تدخلية، تُساعد الفاعلين الاجتماعيين على الوعي بذواتهم والتحرر من قبضة المنظومة أو السلطة كيفما كان شكلها.

ما موقع هذه السوسيولوجيا ضمن البنية الإبيستيمولوجية للنظرية السوسيولوجية؟ وأين يُمكن تصنيف صاحبها، هل هو سوسيولوجي وضعاني أم تأويلي، هل هو دوركهايمي أم فيبري، أم إنه ماركسي النزعة؟ لسنا بحاجة والحالة هذه إلى سرد قصة حياته الشخصية أو رواية سيرته الذاتية؛ لأن عملية من هذا القبيل لا تقدم أية إضافة تحليلية لمعالجة استشكالاتنا والحالة هذه، بقدر ما نحتاج إلى رصد حياته السوسيولوجية أو لنقل مشروعه السوسيولوجي.

فمنذ أبحاثه السوسيولوجية الأولى عن الحركات العمالية: بدءاً بكتابه "الوعي العمالي" الصادر سنة 1966، أي قبل أحداث مايو 1968 بسنتين تقريباً، التي سيخصها في السنة عينها بالدراسة والتحليل في عمل بعنوان "حركة مايو أو الشيوعية الطوباوية"، مروراً بإشرافه على عمل جماعي عبارة عن مناظرة تحت عنوان "الحركات الاجتماعية اليوم: الفاعلون والمحللون" الصادر سنة 1982، إلى كتابه المشترك الموسوم بـ "الحركة العمالية" المنشور سنة 1984، بمعية كل من ميشيل فيفيوركا وفرانسوا ديباي، وصولاً إلى موقفه من حركة السترات الصفراء المتأخرة. منذ ذلك، وصولاً إلى اليوم ساهم تورين بشكل كبير جدّاً في التأصيل لسوسيولوجيا الحركات الاجتماعية وتطويرها وتجديدها، فضلاً عن مساهمته الكبيرة في كل من السوسيولوجيا الصناعية وسوسيولوجيا الشغل[3]. هل يسمح لنا ذلك باختزال سوسيولوجيا تورين في الحركات الاجتماعية، أو الشغل، أو المجتمعات الصناعية؟ طبعاً لا، إن أي اختزال من هذا القبيل هو بمثابة سجن فكر سوسيولوجي واسع يريد له صاحبه أنْ يكون شاملاً وتحررياً. دون أنْ يُفهم من عبارة "شامل" بأننا بصدد سوسويولوجيا هوليستية holistique، كما لا ينبغي أيضاً أنْ يُفهم من كلمة "تحررية" بأننا أمام أدلوجة عمياء، بل العكس هو الصحيح.

لعل الحركات الاجتماعية هي جزء لا يتجزأ من نظريته عن الفعل الاجتماعي، بوصفها موضوعاً مركزياً لها، مثلها في ذلك مثل الشغل وغيره من الأفعال الاجتماعية التاريخية، وهل الحركات الاجتماعية شيئاً آخر أكثر من كونها فعلاً اجتماعياً تاريخياً بالضرورة؟ لهذا، فإن تصوره للحركات الاجتماعية ليس بمنأى عن نظريته حول الفعل الاجتماعي. تلك النظرية التي تعد بحق الأرضية الصلبة لسوسيولوجيته، سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي. كيف لا وهو -تورين- الذي خص الفعل الاجتماعي بالتنظير في أحد أولى وأهم أعماله السوسيولوجية النظرية والمنهجية بعنوان "الفعل الاجتماعي"[4]، الصادر قبل كتابه "الوعي العمالي" آنف الذكر، بسنة. لكن، هل يعني ذلك أننا أمام سوسيولوجيا للفعل، وبالتالي تصنيف رصيده السوسيولوجي ضمن هذا الإطار؟ إذا سلمنا بذلك، فأين يُمكننا أنْ نُدرج "عودة الفاعل"[5] على سبيل المثال لا الحصر؟ هل يُمكننا أنْ نصنفه أيضاً ضمن سوسيولوجيا الفاعل؟ إذا ما اتبعنا هذا المَنطق، ذلك المنطق الاختزالي الذي يتبعه عادة الكثير من قُراء تورين، سنسقط في اختزالية عمياء. وسنروم وفقاً لهذا التصنيف إلى تذرير سوسيولوجيته وتقسيمها إلى ذرات سوسيولوجية، مع كل عمل من أعماله، الشيء الذي سيلفي بنا إلى قتل "الحس السوسيولوجي" لمشروعه العلمي العام، وبالتالي تحويل فكره السوسيولوجي إلى سوسيولوجيا مُتشظّية لا معنى لها.

إذن، كيف السبيل إلى تصنيف سوسيولوجيته من دون أنْ نسقط في أية نزعة اختزالية؟ من خلال مجريات أعماله وأبحاثة السوسيولوجية، يُمكننا التمييز في مشروعه هذا بين ثلاث دوائر أو لحظات أساسية: أما اللحظة الأولى، فهي لحظة تأسيسية تتمثل في سوسيولوجيا الفعل الاجتماعي؛ ذلك الفعل الذي ما زال يربتبط بفكرة المجتمع، وهي تتعالق بالمجتمع الصناعي الحديث المتأخر، هذا التوجه سيخضع لنوع من المراجعة مع بلورة معالِم سوسيولوجيا الفاعل خاصة في كتابه "عودة الفاعل"؛ أما اللحظة الثانية فهي لحظة انقلابية أو بلغة باشلار، لحظة قطيعة إبيستيمولوجية مع الما قبليات السوسيولوجية، وهي تتعلق بمساءلة أولية للاجتماعي ومحاولة صياغة إبدال سوسيولوجي جديد ألا وهو الإبدال الثقافي، وهي اللحظة المتزامنة مع بداية تحلل المجتمعات الصناعية الحديثة المتأخرة، بما هي لحظة بَيْنِيَة؛ أما اللحظة الثالثة والأخيرة، فهي اللحظة الجديدة التي تجسد الدخول في المجتمع فائق الحداثة la société hypermoderne، التي تسجل عودة الذات الفاعلة Sujet، ومن ثم صياغة سوسيولوجيا للذات الفاعلة.

في نهاية التحليل، يُمكن القول إننا أمام سوسيولوجيا رحالة لا تستقر على حالة. إنها ليست رحالة إلا لكونها تاريخانية historicité؛ إننا أمام سوسيولوجيا تاريخانية. فحينما يتحدث ألان تورين عن التاريخانية، فإنه يتحدث عن إبداع وخلق تجربة تاريخية، وليس يتحدث عن موقف تطوري من التاريخ بما هو تطور لقوى الإنتاج[6]، كما تذهب إلى ذلك الماركسيات بمختلف ألوانها.

لذلك، لا ينبغي أنْ يُفهم من ذلك أن الأمر يتعلق بفلسفة في التاريخ، بل العكس هو الصحيح؛ لقد أطلق عالمُ الاجتماع التاريخاني عبارة تاريخانية على جُملة النماذج الثقافية التي يصوغ من خلالها مجتمع ما من المجتمعات معاييره في ميادين المعرفة والأخلاق، نماذج ثقافية تكون رهانات الصراعات بين الحركات الاجتماعية التي تناضل من أجل إعطائها شكلاً اجتماعياً[7] مُتلائماً مع الانتظارات الثقافية والأخلاقية والسياسية للذوات الفاعلة؛ ذلك الصراع الذي بلغ اليوم مداه، حيث أخذ شكل صراع بين التذويت la subjectivation وسيرورة هدم التذويت [8]la desubjectivation.

ليست سوسيولوجيا تاريخانية، إلا لكونها تنظر إلى الإنسان بوصفه كائناً تاريخياً، قادراً على خلق وإبداع تجربته التاريخية وذاته وتحويل العالم، سواء أكان عبر الشغل أم عبر الوعي بفاعليته. لهذا، يجب علينا رفض فكرة وجود مجتمع من دون فاعلين[9]. وهل الحداثة شيئاً آخر أكثر من هذا؟ إن الحداثة في نهاية المطاف هي الوجه الآخر للتاريخانية.

ثانياً: سوسيولوجيا الحداثة

يرنو هذا المحور إلى تفنيد التصنيف المعهود للمسار السوسيولوجي لتورين، من طرف الكثير من قرائه وشراحه، في تيارات ما بعد الحداثة. والحال أن سُوسيولوجيته بما هي سوسيولوجيا تاريخانية كما سبق الذكر، هي بمثابة مشروع سوسيولوجي حداثي. كيف ذلك؟ وإنْ كان قد اشتهر بنقده للحداثة، فإنما يفعل ذلك من أجل الحداثة في حد ذاتها وليس لما بعدها. فهل هي فعلاً سوسيولوجيا ما بعد حداثية شأنها في ذلك شأن ما يُنعت اليوم بـ "سوسيولوجيا ما بعد الحداثة" أم إنها سوسيولوجيا للحداثة وامتداداتها؟

ربما لن نجازف إذا قلنا: إذا كانت هناك أية نظرية سوسيولوجية لألان تورين، فإنها نظرية الحداثة، أو لنقل نظرية تاريخانية للحداثة. في هذا المقام، نقرأ لصاحب نقد الحداثة: تندرج السوسيولوجيا التي أصوغها ضمن فكر الحداثة. ويبدو لي اليوم من المستبعد التخلي عن هذا التصور للمجتمع، باعتباره منتوجاً باستثماراته الثقافية أو الاقتصادية، بقدر ما هو مستبعد التخلي عن فكرة الذات الفاعلة. صحيح أن فكرة الحركة الاجتماعية تقوم على مقاربة تاريخانية، غير أنها طالما أحالتنا، وبالقوة نفسها، على الذات الفاعلة؛ أي إلى الحرية وفاعلية فاعل اجتماعي مهدد بالتبعية والاستلاب من طرف القوى المُهَيْمِنَة التي تحوله إلى منفذ إما لإرادتها الخاصة، أو تجعله محكوماً بضرورة منظور إليها كما لو كانت طبيعية، وهو ما يفند تصور ماركس ولوكاتش اللذين لا يكون الفاعل مهما بالنسبة إليهما إلا حين يكون وكيلاً للضرورة التاريخية[10]. إننا أمام تصور مغاير للحداثة المعهودة.

لقد أثار كتاب "نقد الحداثة"، الصادر في بداية العقد الأخير من القرن المنصرم، زوبعة فكرية، ليس في الأوساط الثقافية الفرنسية فحسب، بل في المعمور الأورو-أمريكي بعامة، بما فيه الوسط الأمريكو- لاتيني. كيف لا، وهو الذي خلخل منظومة بكاملها، تلك المنظومة التي تمتد جذورها إلى أزيد من ثلاثة قرون وما زالت ترمي بظلالها على عالمنا المُعاصر، باعتبارها أساس الحضارة الغربية الحديثة. بسبب هذا النقد، تم نعته بأقبح النعوت، كما هو حال نعته بـ "كلب الحراسة"، حراسة أنقاض الاتحاد السوفياتي، المتزامن انهياره مع صدور هذا الكتاب. بغض النظر عن القذف به على هامش الحداثة، وسجنه في زنزانة مابعد الحداثة. والحال أنه كان وما يزال من أشد المنتقدين للأنظمة التوتاليتارية بما فيها النظامين الروسي والصيني اللذين يعتبرهما ضمن الإمبراطوريات الجديدة التي تشكل تهديداً راهنياً للحداثة نفسها. بالإضافة إلى كونه من أهم المترافعين اليوم عن الحداثة، في وقت أخذت فيه نزعات ما بعد الحداثة بالتوالد والتناسل. السؤال الذي لم يطرح بعد، هو: ما الحداثة التي ينتقدها صاحب نقد الحداثة؟

طالما ارتبطت الحداثة بماهي سيرورة تاريخية، بالمعنى السائد، بالعقلانية. على اعتبار أن العقل يقع في مركز المجتمع الحديث. مُطابِقة بذلك، بين المجتمع والمنظومة بوصفها مؤسسة عقلانية، وما نتج عن ذلك من انتصار للمنظومة على حساب الفاعل والذات الفاعلة. هذه هي الحداثة التي ينتقدها تورين. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد وإلا أكد مزاعم خصومه، باعتباره مابعد حداثي؛ فبالإضافة إلى نقده للحداثة كعقلنة، فإنه ينتقدها أيضاً كتذويت. إننا إذاً أمام نقد مزدوج: إن نقد الحداثة والحالة هذه، يرمي إلى تخليصها من تقليد تاريخي طالما اختزلها في العقلنة، وكذا إدراج موضوعة الذات الشخصية والتذويت. فالحداثة لا تقوم على مبدأ وحيد؛ كما لا تعتمد على التحطيم البسيط للعقبات التي تحول دون سيادة العقل؛ بقدر ما تقوم على حوار العقل والذات الفاعلة. فمن دون عقل، فإن الذات الفاعلة تنغلق على هاجس هويتها؛ ومن دون الذات الفاعلة يتحول العقل الفاعل إلى أداة قوة. لقد علمنا جيّداً في القرن الماضي معنى ديدكتاتورية العقل والانحرافات الشمولية للذات الفاعلة في الوقت عينه.[11]

يتبين مما سبق، أننا على ضوء تفكير سوسيولوجي ناقد مغاير للحداثة، يعمل باستراتيجية منهجية تاريخانية جدلية، تتمثل في المقام الأول في: التفكير ضد الحداثة، مع الحداثة. وإنْ كان يمتح من فكر هيغل وماركس ورواد ما يسمى في تاريخ الأفكار ونظرية المعرفة بـ "النظرية النقدية"، كنماذج، فإنه ينتقدهم في الآن عينه؛ فنقده ليس هو نقدهم، وتاريخانيته ليست هي تاريخانيتهم. أما نقدهم، فقد كان هادماً، وأما تاريخانيتهم فقد كانت حتمية. أما نقده هو، فلا يقتصر على الهدم فحسب، وإنما يعمل في اللحظة نفسها على إعادة البناء؛ وأما تاريخانيته، فإنها لا تقول بالحتميات التاريخية كقوانين كلية ومطلقة تحكم الإنسان والمجتمع والذات كما يقولون هم وغيرهم، بقدر ما هي تاريخانية فعالة تتعامل مع الإنسان كذات فاعلة وليس كمجرد منتوج تاريخي. هذا توضيح آخر للتاريخانية في علاقتها مع الحداثة. هذا عن الهدم، ماذا عن إعادة البناء؟ أو بصيغة أخرى: ما الحداثة البديلة التي يقترحها علينا تورين، وكيف يمكن تعريفها؟

من غير المعقولية بمكان تعريف الحداثة بالاعتقاد في العقل والعقلانية العلمية والتقنية؛ أي بسيادة الفكر العقلاني؛ لأنه سيكون ضرباً من ضروب اللا عقلانية نفسها: "فاستدعاء الطابع الكوني للعقل لا يعني بأي شكل من الأشكال بأن التجربة الإنسانية لاتقوم سوى على العقل؛ حيث سيكون من اللا عقلاني تماماً الدفاع عن هذه الأطروحة".[12]

لا يمكن التخلي عن العقلانية كمكون أساسي لمنظومة الحداثة، لكنها أحد أوجهها فحسب؛ فبالإضافة إلى الاعتقاد بالعقلانية ثمة وجه آخر، وهو الاعتماد على مقاربة كونية لحقوق الإنسان، التي تؤكد على الحقوق الفردية المستقلة، وإلا سيكون من المشروعية بمكان اعتبار الصين اليوم دولة حداثية، خاصة إذا أخذنا في الحسبان تطورها العلمي والتقني المتسارع. مع ذلك، فإن "تعريف الحداثة من خلال الجمع بين الفكر العقلاني وحقوق الإنسان بالنسبة إلى كل فرد... يبقى سطحياً؛ لأن هذين المكونين، المفترض أنهما ملتحمين في الواقع، يميلان إلى الانفصال باستمرار"[13]. هذا هو الإشكال: "لقد تم تعريف تاريخ وطبيعة الحداثة في المقام الأول عبر الفصل المتزايد للعالَم الموضوعي عن عالَم الذاتية". لهذا يَعتبر سوسيولوجي الحداثة، بأننا في حاجة إلى إعادة صياغة الحداثة، أو بالأحرى إعادة تعريفها على ضوء العصر الراهن.

انطلاقاً من منظور تاريخاني خاص جداً، يُمكن تعريف الحداثة من خلال قدرة مجتمع ما أو إنسان ما على إنتاج وخلق وإبداع ذاته بذاته. إن الحداثة ليست عقلنة أو تذويتاً، وإنما هي علاقة متوترة بينهما، إنها سيرورة تاريخية لا تنفك عن التوقف[14]. هذه هي الحداثة التي يدافع عنها تورين.

وبالتالي، فإن الحداثة والحالة هذه، ليست مجرد موضوع هامشي عند ألان تورين، وإنما هي موضوعاً للموضوعات، أو لنقل مفهوماً للمفهومات، إنْ لم تكن نظرية سوسيولوجية قائمة الذات. فموضوع الحداثة عنده، ولاسيما من حيث تعريفه لها، يبدو أنه يحظى بالأولوية؛ وذلك لأنه يحمل في ذاته كل المعارك الحقيقية والوهمية[15]. لقد صاغ هذا المفهوم المغاير للحداثة، ضداً في حراس العقلانية وضد مبشري التعددية الثقافية على حد سواء.[16]

ومن هذا المنطلق، فإن سوسيولوجيا ألان تورين هي سوسيولوجيا للحداثة، سوسيولوجيا تاريخانية: ليس علم الاجتماع دراسة للعقلنة وحدها ولنفعية المؤسسات الاجتماعية، بل يتجسد مضوعه الرئيس في الصراع بين الذات الفاعلة والمنظومات، بين الحرية والسلطة. فهي تسعى جاهدة إلى الدفاع عن الحداثة، من خلال المحاجة والبرهنة على أن الحياة الاجتماعية مبنية على الصراعات والمفاوضات التي تنتظم حول الاستعمالات الاجتماعية للتوجهات الثقافية التي تشكل في مُجملها ما يسميه تورين بالتاريخانية.[17]

لما كانت التاريخانية عند تورين هي تاريخانية فاعلة وفعالة، وليست قدرية كما هو شأن فلسفات التاريخ الحتمية، بما هي تاريخانية سوسيولوجية تأويلية للحداثة، فإنه كان لزاماً عليها أنْ تعيد النظر باستمرار في معرفتها السوسيولوجية، سواء من حيث الموضوع أم من حيث الإبدال.

ثالثاً: من المجتمع إلى الذات الفاعلة

يتوسل هذا المحور الثالث والأخير، الكشف عن المنعرج الإبيستيمولوجي للسوسيولوجيا عند تورين؛ باعتباره منعرجاً مزدوجاً: سواء من حيث الموضوع أو من حيث الإبدال. أما عن المجرى الموضوعي فهو يتمثل في الانتقال من دراسة المجتمع المفقود إلى دراسة الذات الفاعلة. وأما عن المجرى الإبدالي، فهو يتعلق بالانتقال من "تفسير الاجتماعي بالاجتماعي"، إلى تأويل الاجتماعي بما هو سيرورة تذويتية فاعلة بالثقافي أو الأخلاقي. فهل مازالت فكرة المجتمع ضرورية كموضوع للسوسيولوجيا عنده، أم إنه ينبغي علينا إحلال الذات الفاعلة محلها، وما قد ينتج عن ذلك من تحول في الإبدال السوسيولوجي؟

طالما تعالقت السوسيولوجيا بموضوعها الأم، الذي كان شرطاً وجودياً لميلادها الحديث. إنه المجتمع؛ لم يكن ينظر إليها ومازالت إلى يومنا هذا، إلا بوصفها علماً للمجتمع. هكذا يتم تعريفها، منذ أوغست كونت ودوركهايم إلى ما قبل المُنعرج الإبستيمولوجي الذي جاء به تورين وغيره. لكن السؤال المطروح هنا هو: هل مازالت السوسيولوجيا اليوم تدرس المجتمع كموضوع تستمد منه شروط وجودها وتعريفها كعلم للمجتمع بالمجتمع؟

أولم يحن الوقت بعد للتخلي عن فكرة المجتمع كموضوع للسوسييولوجيا؟ إن هذا السؤال ليس بسيطاً أبداً، وغير بريئ، وهو غير مطمئن بالمرة خاصة لأولئك الذي طبَّعُوا مع البنية المعرفية السوسيولوجية السائدة، فأي تفاعل إيجابي مع هذا السؤال سيقلب الطاولة على تاريخ السوسيولوجيا برمته، بل قد يفضي بنا إلى التخلي عن عبارة "سوسيولوجيا"، التي يُحيل اشتقاقها اللغوي إلى الاجتماعي ولا شيء غيره؛ أيْ باعتبارها علماً للاجتماعي، أو إعادة النظر والحالة هذه في بنيتها المعرفية كأقل تقدير.

صحيح أن هنالك ضرباً من ضروب السوسيولوجيا قد رفعت الحِجاب عن الفعل الاجتماعي كما هو شأن تأويلية ماكس فيبر، أو دلتاي قبله الذي أقام ذلك التمييز بين العلوم الثقافية والطبيعية، وصحيح أيضاً أن "الفردانية المنهجية" لريمون بودون ومن معه وشروحها اللاحقة التي تمتد إلى ظلال العصر الحالي تحت مسمى السوسيولوجيا التحليلية قد أعادت الاعتبار للفرد كوحدة اجتماعية مصغرة، لكنها ظلت بشكل أو بآخر وفية للاجتماعي وفكرة المجتمع. تلك الفكرة، فكرة المجتمع، التي ظل بورديو نفسه وفياً لها، فليس هناك علم للاجتماع إلا لكونه علم بالبنيات الاجتماعية التي تنتج المجتمع والسلطة وتعيد إنتاجهما باستمرار.

لقد حان الوقت بالنسبة إلى تورين لكي نتخلى عن فكرة المجتمع، الموضوع الكلاسيكي للسوسيولوجيا، مادامت فقدت واقعيتها من جهة أولى وقدرتها التحليلية من جهة ثانية، أو لنقل فقدت تاريخانيتها. من هنا كان لزاماً على صاحب "نهاية المجتمعات"، أنْ يُعلن نهاية الاجتماعي. إن هذا الموقف من المجتمع ليس جديداً عنده، بل يعود إلى محاولاته السوسيولوجية الأولى، سواء تعلق الأمر بتنظيره للفعل الاجتماعي أو بدراسته لحركة مايو1968، حيث عَرَّفَها بقُدرتها على الفعل في ذاتها وصوب المجتمع عينه، وليس العكس، فهو لم يفسر الحركات الاجتماعية أبداً، خاصة الجديدة منها، بالمجتمع بقدر ما فسر المجتمع بقدرته على الفعل في ذاته، سواء من خلال الشغل أو من خلال الحركات الاجتماعية؛ ذلك المجتمع الصناعي الحديث الذي أعلن عن تحلله وانفجاره في العلاقات الاجتماعية، ومنها في العلاقة بين الفاعلين الاجتماعيين، خاصة في المجتمع ما بعد الصناعي أو ما يسميه هو بالمجتمع المُبَرْمَج. وما تطلبه ذلك من عودة لفكرة الفاعل الاجتماعي التي طالما حَجبتها وكَبتتها السوسيولوجيا المُهيمِنة.

ذلك التحلُّل الذي بدأت بوادره الأولى تظهر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بشكل أدق مع حركة مايو 68 آنفة الذكر، وصولاً إلى ثمانينيات القرن المنصرم مع بروز الرأسمالية والليبرالية الجديدتين، وانفجار حركة العولمة. ولأن عالِم الاجتماع في نهاية المطاف، لا يدرس الواقع الاجتماعي في حد ذاته وإنما يلاحظ الممارسات، فإن موضوع علم الاجتماع، لم يكن قط هو المجتمع بمعناه المعهود؛ أيْ ككلية منغلقة على ذاتها، وإنما هو العلاقات الاجتماعية[18]، بين المنظومة والفاعلين، تلك العلاقة بما هي تعريف للحداثة نفسها بوصفها عقلنةً وتذويتاً في الآن نفسه، وهي الفكرة التي سيُخضعها صاحبها إلى المراجعة التاريخانية النقدية الذاتية، خاصة في نهاية الألفية الثانية وبداية الألفية الثالثة، منذ كتابه "نقد الحداثة"، مروراً بكتابيه "إبدال جديد: من أجل فهم عالم اليوم" و"الفكر المغاير"، وصولاً إلى كتبه الأخيرة من قبيل "نهاية المجتمعات"، و"نحن الذوات البشرية الفاعلة"، والقرن السياسي الجديد"، و"دفاعاً عن الحداثة"، إلى "ماكرون من خلال تورين".

ها هو الإنسان قد خرج من المجتمع الصناعي الحديث الذي تحول إلى أنقاض وحُطام مُتَنَاثِرَة، ها هو الاجتماعي يُعلن عن نهايته: ها "نحن نرى الأنقاض تتراكم من جميع الجهات، حيث أُسْقِطَت التماثيل النبيلة التي مَثلت المؤسسات وتَجَاوَزَ العنف إمكانية المُراقبة الاجتماعية حيثما كنا... إن المجتمع بصفته مزيجاً من أشكال التفاعل، وأنساق القرار، وعوامل من التثاقف والقمع يكاد يتحلل أينما وجدنا. و"الجسم الاجتماعي"، هو جسم مُنكَّل به، مقطوع الرأس ومنكسر".[19]

لم نعد بالتالي مجرد أعضاء في جسم اجتماعي متحلل، إننا لم نعد ننتمي إلى مجتمع، لم نعد ننتمي إلى مؤسسة بعينها، على ضوئها نستمد معنى وجودنا، بقدر ما غدونا ذواتاً فاعلة قادرة على خلق ذاتها بذاتها من ناحية والوعي بذاتها من ناحية ثانية؛ ومن ثمة لم يعد ممكناً تفسير الاجتماعي بالاجتماعي، خاصة في ظل المجتمع المعلوماتي والتواصلي: حيث اقتصاد السوق المُعَولم؛ إذ حل فيه نمط الإنتاج الرمزي محل نمط الإنتاج المادي. وما نجم عنه من انفجار للحدود الاجتماعية في الأفعال الثقافية، فتحولت الحركات الاجتماعية بدورها إلى حركات ذات أهداف ثقافية وأخلاقية أكثر منها اجتماعية واقتصادية كما هو شأن الحركات النسائية والجنسانية والإيكولوجية وغيرها، فضلاً عن وصول الحداثة إلى أقصاها: الحداثة الفائقة l’hypermodernité.

إننا في حاجة إلى مسار سوسيولوجي جديد، في حاجة إلى خطاب سوسيولوجي جديد يتناسب مع المجتمع الجديد: المجتمع فائق الحداثة؛ مجتمع الذوات البشرية الفاعلة. وعلى هذا النحو، فإن "سوسيولوجيا التحديث تنقلب إلى سوسيولوجيا الفعل. وأخيراً تصير سوسيولوجيا الفعل سوسيولوجيا للذات الفاعلة، وهو ما كانته دائماً"[20]. فإذا ما تم استبعاد تمثلات الفعل الاجتماعي التي تتأسس جميعها على فكرة المجتمع، والتي لا يمكن استخدامها بالمرة، فإنه يتعين صياغة مبدإ للتحليل يمكنه أنْ يشكل أُساً مركزياً من أُسُس سوسيولوجيا الزمن الحاضر. إن هذا المسار الجديد للتحليل السوسيولوجي هو ما يسميه تورين بـ "سوسيولوجا الذات الفاعلة"، من خلال إضفاء مزيد من القوة على هذه العبارة التي ظلت لمدة طويلة منبوذة ومهمشة[21]. ومن هذا المنطلق غدت السوسيولوجيا مع تورين، تدرس الذوات بدل المجتمعات؛ من سوسيولوجيا المجتمعات إلى سوسيولوجيا الذوات.

بما أن الاجتماعي قد انتهى ومن دون رجعة، على الأقل من وجهة النظر هذه، وفي السياق الغربي تحديداً، فإن البديل الذي يلوح في الأفق، البديل التأويلي هو الإبدال الثقافي ولا شيء غير الثقافي. فبعدما كان عالِم الاجتماع يفسر الاجتماعي بالاجتماعي، فإنه صار يحلل الذات البشرية الفاعلة، باعتبارها حاملة لحقوق فردية كونية، بالثقافي المتمثل في وعي الذات بفاعليتها في ذاتها وغيرها. لذا، لم يعد اليوم مقبولاً لدى تورين للسوسيولوجي أنْ يحكم على الفاعل انطلاقاً من المجتمع، بل ينبغي علينا الحكم على هذا الأخير وفقاً للذات[22]؛ لأن المجتمع لم يعد أكثر من منتوج للذوات الفاعلة. يسعى تورين من وراء ذلك إذن، إلى تسليط الضوء على التجربة الذاتية، والتوجهات والمعلومات التي على ضوئها يبني البشر حيواتهم كذوات. فلم يعد بإمكان هذه الحياة البشرية، أنْ تكون مجرد انعكاس للتاريخ الكلي؛ لأنها تسترشد بعلاقة الذات بذاتها.[23]

لا ينبغي علينا هنا، أنْ نُعرِّف الذات فردية كانت أم جماعية كما هو حال الحركات الاجتماعية على سبيل المثال لا الحصر، من خلال الأدوار الاجتماعية أو العلاقات الاجتماعية، وحتى البينذاتية[24]: "إن هذه القطيعة هي التي تجعل فكرة الذات ضرورية، والتي لا يمكنها معارضة السلطة القائمة إلا بالانفصال عن كل الآليات الاجتماعية، وحتى العلاقات البينشخصية. ولأننا نعيش نهاية الاجتماعي واختفاء المجتمعات، فإنه لا يمكننا تعريف الذات إلا بواسطة علاقتها بنفسها، وبتفكيرنا حول نفسها وشرعنتها الذاتية".[25]

لا يجب أنْ يُفهم من ذلك أيضاً، على أن الذات فردية منعزلة بالضرورة، بل إنها تقوم أساساً بما هي ذات على الاعتراف بالذات الأخرى، فهي لا تتجلى في الحياة الخاصة فقط بل إنها تتجلى في الحياة العامة أيضاً، هذا فضلاً عن كونها جماعية أيضاً، كما هو حال الحركات الاجتماعية اليوم باعتبارها ذاتاً فاعلة: "فالاجتماعي، الذي كان في صلب نظرتنا، والذي ادعى بغرور بأنه لا يعتمد سوى على نفسه، ولا يمكن تفسيره إلا بواسطة نفسه، قد أزيح عن عرشه. وقد نقول بأن الفعل الاجتماعي يخضع دائماً إلى ما هو أقل اجتماعي فيه: أي الذات الإنسانية، الخلاقة لحقوق هي فوق القوانين الاجتماعية".[26]

خاتمة

وبناء على هذا الموضوع الجديد وهذه السوسيولوجيا الجديدة، يُمكن القول إننا بصدد إعادة صياغة بُنيان العلوم الاجتماعية بعامة والسوسيولوجيا بخاصة، بما هي انعكاس تاريخاني لإعادة صياغة الحداثة؛ ليست الحداثة هنا بمثابة علاقة متوترة بين العقلنة والتذويت فحسب كما عرفها تورين سابقاً في بداية تحلل المجتمع الحديث، بل بوصفها تَذْوِيتاً أو سيرورة تذويتيَّة [27]، كما هو الحال في مجتمع الحداثة الفائقة؛ ضداً في كل سيرورة مضادّة وهادمة للتذويت، باعتبار التذويت سيرورة يتملك الفرد أو المجموعة من خلالها وعيه بذاته كذات بشرية فاعلة Sujet humain.

إن تاريخانيّة تورين لا تُحدِّد الإنسان ما فوق الحديث إلا بقدرته على الفعل في ذاته، من خلال الصراع. ذلك الصراع الذي يقع اليوم في المجتمع ما فوق-الحديث بين سيرورتيْ التذويت وهدم- التذويت، بعدما كان يقع في المجتمع الصناعي بين الرأسمالية والاشتراكية، وفي المجتمع القانوني- السياسي قبله بين المَلَكيّة المطلقة والمواطَنة. وعلى هذا النحو، انتقلنا من عالم المواطنِين، مروراً بعالم العُمَّال، وصولاً إلى عالم الذّوات الفاعلة، أو بشكل أكثر تمسرحاً عالم التذويت وهدم- التذويت. لهذا، فإنّ معركة المجتمع الجديد هي معركة من أجل الذّات البشريّة الفاعلة، من أجل الدِّفاع عن حقوق الإنسان المركزيّة: الحرية، والمساواة والكرامة.

 

***

المراجع

*- باللغة العربية

  1. تورين، ألان، السوسيولوجيا ما بعد السوسيولوجيا: نحو سوسيولوجيا جديدة لعالَم جديد، ترجمة بعدي محمد، لكعشمي عثمان، موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 6 أبريل 2021
  2. ______ التفكير على نحو مغاير: علم الاجتماع ونهاية الاجتماعي، ورد عبد المالك (مترجمًا)، ط1، (الرباط: شمس برينت، 2019).
  3. ______ نقد الحداثة، الطويل عبد السلام، سبيلا محمد(مراجعاً)، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2010).

*- بلغة أجنبية

  1. Touraine, Alain, Défense de la modernité, (Paris: Seuil, 2018).
  2. ____________ Nous sujets humains, (Paris: Seuil, 2015).
  3. ____________ La fin des sociétés, (Paris: Seuil, Septembre 2013).
  4. Penser autrement, (Paris: Fayard, 2007). ____________
  5. ____________ Un nouveau paradigme, (Paris: Fayard, 2005).
  6. ____________ Critique de la modernité, (Paris: Fayard, 1992).
  7. ____________ Le retour de l’acteur: Essais de sociologie, (Paris: Fayard, 1984).
  8. ____________ Pour la sociologie, (Paris: Seuil, 1974).
  9. ____________ Sociologie de l’action, (Paris: Seuil, 1965).
  10. ____________ La sociologie après la sociologie, La Découverte | « Revue du MAUSS ». n° 24 (2004). Pages 51 à 61
  11. Cousin, Olivier. Rui, Sandrine. «La méthode de l'intervention sociologique. Évolutions et spécificités ». Revue française de science politique. 3 Vol. n°6(2011). PP 513-532
  12. Vaillancourt, Jean-Guy. “Mouvement ouvrier et nouveaux mouvements sociaux: l’approche d’Alain Touraine. Note critique.” Cahiers de recherche sociologique. n° 17(1991). PP. 213-222

[1] - تجدر الإشارة إلى أن ما يصنف عادة في تاريخ السوسيولوجيا بكونه سوسيولوجيا معاصرة، ليس من المعاصرة في شيء؛ وذلك لأنها، بحسب تورين، ظلت سوسيولوجيا للمجتمع؛ ذلك أن تورين لديه تصنيف مغاير لتاريخ السوسيولوجيا، بما هو تصنيف تاريخاني، يختلف كثيراً عن التصنيف المدرسي المعهود. بمعنى آخر، إن السوسيولوجيا الكلاسيكية عنده تتجاوز الأعمال التي كتبت بعد سنة 1930، إلى الأعمال والأبحاث التي تمتد إلى نهاية الستينيات؛ أي ما قبل حركة مايو 1968. فضلاً عن كون السوسيولوجيا المعاصرة عنده تبدأ في اللحظة التي يتخلى فيها علماء الاجتماع عن فكرة المجتمع ويحلون محلها فكرة الفاعل أو بالأحرى فكرة الذات الفاعلة. فوفقاً لهذا التصنيف يمكن إدراج الكثير من علماء الاجتماع المسمون معاصرين ضمن السوسيولوجيا الكلاسيكية، لكونهم ظلوا يستظلون بطريقة أو بأخرى بفكرة المجتمع.

[2] - يُمكن العودة بهذا الصدد إلى مقاله الآتي:

Alain Touraine, LA SOCIOLOGIE APRÈS LA SOCIOLOGIE. La Découverte | « Revue du MAUSS ». n° 24 (2004). Pages 51 à 61

[3] - تجدر الإشارة إلى أنه أسس مختبراً للسوسيولوجيا الصناعية، الذي تخصص سنة 1970 في دراسة الحركات الاجتماعية، ومنه إلى مركز للتدخل السوسيولوجي. مع ذكر أنه من أهم مؤسسي مجلة "سوسيولوجيا الشغل" الشهيرة بفرنسا.

[4] - Alain Touraine, Sociologie de l’action, (Paris: Seuil, 1965).

[5] - Alain Touraine, Le retour de l’acteur: Essais de sociologie, (Paris: Fayard, 1984).

[6] - ليست تاريخانية تورين من النزعات التاريخوية l’hstoricisme والتاريخية l’historisme في شيء، سواء أكانت قدرية أم تطورية، مادية أم مثالية.

[7] - Alain Touraine, Critique de la modernité, (Paris: Fayard, 1992), p. 422

[8] - يمكن العودة إلى المرجع الآتي:

Alain Touraine, Défense de la modernité, (Paris: Seuil, 2018), p.149- 171

[9] - Ibidem, p.173

[10] - Critique de la modernité. Op cite, p.p 422- 423

[11] - Ibidem, p.p.17- 18

[12] - ألان تورين، التفكير على نحو مغاير: علم الاجتماع ونهاية الاجتماعي، عبد المالك ورد(مترجمًا)، ط1، (الرباط: شمس برينت، 2019)، ص، 11

[13] - نفسه، 113

[14] - اعتمدنا في هذا التعريف على كتاب "نقد الحداثة"، لكنه سيقوم بمراجعة شاملة له في كتابه "دفاعاً عن الحداثة"، حيث سينتصر للتذويت أكثر فأكثر. وهو الأمر الذي سيتضح لنا في المحور الأخير من هذه الورقة، عند رصد ذلك الانتقال من المجتمع إلى الذات الفاعلة. بهذه المراجعة سيؤول تعريف الحداثة إلى الذات: سيعرفها انطلاقاً من فاعلية الذات في نفسها ومدى قدرتها على التحول والتحويل.

[15] - التفكير على نحو مغاير، سبق ذكره، 109

[16] - نفسه.

[17] - Critique de la modernité. Op cite, p. 410

[18] - يمكن الرجوع في هذا المقام إلى مقدمة كتاب "من أجل السوسيولوجيا":

Alain Touraine, Pour la sociologie, (Paris: Seuil, 1974).

[19] - التفكير على نحو مغاير، ص102

[20] - Critique de la modernité. Op cite, p. 410

[21] - التفكير على نحو مغاير، سبق ذكره، 103

[22] - نفسه، ص 107

[23] - نفسه.

[24] - نفسه، ص. 138

[25] - نفسه، 138

[26] - نفسه، 225

[27] - إنّ التذويت هو ما يُمكِّن الإنسان فرداً أو مجموعة من الوعي بحقوقه الأساسية ذات طابع كونيّ، التي تضفي نوع من الكونية على الذات البشريّة الفاعلة. ألا وهي حقوق الإنسان الأساسية: الحرية، المساواة والكرامة.