شعبويّة الدّولة وانحسار مشروع العلمانية في المجتمعات العربيّة


فئة :  أبحاث عامة

شعبويّة الدّولة وانحسار مشروع العلمانية في المجتمعات العربيّة

مقدمة

إنّ الباحث في تاريخ نشأة العلمانيّة وتطوّرها في الفكر العربي الحديث والمعاصر لا يُنكر ارتباط هذا التاريخ بالدّور الذي اضطلعت به مؤسّسات الدّولة الحديثة، التي اهتمّت بتحديث البنى الذهنيّة للمجتمع في غياب النخب المثقفة أو ضعف تأثيرها في البُنى الاجتماعيّة التقليديّة، فدراسة تاريخيّة العَلمانيّة في الفكر العربي، تستوجب تنزيل تاريخ نشأتها وتطوّرها في سياق علاقة الدّولة بالمجتمع وما تعرفه هذه العلاقة من تحوّلات.

ليست البنية الثقافيّة المسيطرة في المجتمعات العربية بنية متجانسة. كما أنّ مشروع الدّولة الوطنيّة التي نشأت إبّان الاستقلال عن الاستعمار لم يكن متجانسا، فقد انخرطت دول كثيرة في مسار تحديث طلائعيٍّ للمجتمع عبر فكّ ارتباطه عن البُنى الثقافيّة القديمة التي اتخذت الماضي نموذجا لها تتّبعه. في حين انتهجت دول أخرى نهجا شعبويًّا فسايرت البُنى الثقافيّة السّائدة بل سعت لتصديرها نموذجًا.

واصلت كثير من الدّول الوطنيّة مهمّة إقصاء البنى الثقافية التقليدية وسارت في ذلك على نهج الدّولة اللّيبراليّة/ الاستعماريّة قبلها، وكان ذلك بتركيز أسس تعليم عصري يعتمد المناهج العلميّة الحديثة مع القطع مع التّعليم الدّيني الذي كان يقتصر في مناهجه على تدريس اللغة العربية والتركيز على ما يسمى بالعلوم الشّرعيّة. كانت الدّولة الوطنيّة في كثير من فعالياتها الحامية الوحيدة للفكر التّقدّمي في غياب المثقفين الطّلائعيين أو قلّة عددهم وضعف تأثيرهم على البنى الاجتماعية التقليديّة، لكن هذه الدّولة نفسها اضطرت إلى بعض المواقف الشعبويّة بتأثير المتغيرات الدّاخليّة والخارجيّة التي جعلت المرجعيّة الدّينيّة تخرج من المواقع الدّفاعيّة التي اضطرت إلى الاحتماء بها للتوقي من سرعة التغيّرات التي شهدها العالم العربي. فكسبت مواقع على حساب المرجعيّة العَلمانيّة.

تضافر عاملان محدّدان اثنان أخرجا البنى الثقافية التقليدية عامّة والمرجعيّة الدّينيّة خاصّة من حالة الجمود والتّقوقع الفكري. أوّلهما ازدياد القدرات التنظيميّة والإعلاميّة للجماعات الإسلاميّة المسيّسة للدين، وثانيهما حسب "عزيز العظمة" في كتابه "العلمانية من منظور مختلف «استنكاف الدّولة العربيّة الوطنيّة – وهي دولة علمانيّة كما رأينا-عن الاضطلاع بمسؤولياتها تجاه محاولات إقامة سلطات موازية، ونزوعها إلى التظاهر بدرجات متفاوتة من التمشيخ، واتقائها الدّعاوى الإسلاميّة»، (العظمة، 1992، ص303). بدل البحث الجـدّي عن الأسبـاب التي أدّت إلى ظهـور هذه الحـركات الماضويّة، والنّظر في الحلول المناسبة للحدّ من نزعتها الانقلابية على الدّولة، فتحوّلت الدّولة الوطنيّة في كثير من الأحيان عن موقع التوجيه والتفوّق على المجتمع إلى موقع القيادة نحو التخلف والتظاهر بدرجات متفاوتة من التّمشيخ الفكريّ.

الدساتير العربية والنزوع الديني

لعلّ الناظر في الدّساتير العربيّة التي وضعت بعد الاستقلال يمكن له أن يقف على النّزوع الدّيني لكثير منها. فقد أكدت على الهويّة العربيّة والإسلاميّة ردّا على محاولات الاستعمار الغربي طمس معالم هويّة المجتمعـات العربيّة. فقد نصّ الفصـل الرّابـع من الدّستور الجزائري الصّادر سنة 1963على أنّ «الإسلام هو دين الدّولة»، (الدستور الجزائريّ، 1963، الفصل الرابع). ونصّت جملة من الفصول الأخرى على أنّ رئيس الجمهوريّة يجب أن يكون مسلمًا وعلى أنّه مُلزم في القوانين والقرارات التي يتخذهـا باحترام تعاليم الدّين الإسلامـيّ. بل إنّ الفصل الخامس والتسعين بعد المائة (195) ينصّ على أنّه لا يمكن لأي قانون من قوانين المراجعة أن يمس دين الدّولة، كما نصّ القانون الأساسي السّعودي الصادر سنة 1992في فصله الأوّل على أنّ دستور المملكة العربيّة السّعوديّة هو «كتاب الله وسنّة رسوله». ويحدّد هذا القانون أهداف النظام الحاكم ومن بينها نشر الدّعوة الإسلاميّة. بل إنّ الدّستور السّوداني الصادر سنة 1998ينصّ في الفصل الرّابع من مقدّمته "المبادئ الموجّهة" على أنّ «الحاكميّة في الدّولة للّه خالق البشـر، والسّيادة فيهـا لشعب السّودان المستخلف، يمارسها عبادة للّه وحملا للأمانـة وعمارة للوطـن وبسـطا للحرّيـة والشورى، وينظمها الدّستـور والقانون.» وينصّ في مادّته الثانية عشرة (12) على أنّ الدّولة «... تسعى لترقيـة المجتمـع نحـو قيم التديّن والتقوى والعمل الصّالح» بل إنّ نفس هذا الدستور يوصي العاملين في مؤسّسات الدّولة بملازمة «... الكتاب والسنة، و [حفظ] الجميع لنيات التدّين، و[مراعـاة] تلك الرّوح في الخطط والقـوانين والسّياسـات والأعمـال الرّسميّـة وذلك فـي المجــالات السّياسيّة والاقتصادية والاجتماعية والثقافيّة لدفع الحياة العامّة نحو أهدافها ولضبطها نحو العدل والاستقامة وتوجيهها نحو رضوان اللّه في الدّار الآخرة». كما أنّ عددًا من الدّساتير العربيّة تنصّ صراحة على أنّ الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ([1]) رغم أنّ أغلب الدّساتيـر العربيّـة تنصّ بمـوازاة ذلك علـى أنّها تضمن الحرّيات الأساسيّة وضمنها حريّة الاعتقاد التي يضمنها النظام الدّيمقراطي، إذ نصّ الدستور السّوري في مادته الخامسة والثلاثين على أنّ «حرية الاعتقاد مصونة وتحترم الدولة جميع الأديان» كمـا نصّ على أنّ الدّولـة تكفل «حرية القيام بجميع الشعائر الدينية على ألا يخل ذلك بالنظام العام» (الدستور السوريّ). فقد كانت الدّساتير العربيّة تجمع في أسسها الإيديولوجية بين مرجعيّتين اثنتين، مرجعيّة دينيّة غيبيّة وأخرى دنيويّة علمانيّة لا تصل إلى حدّ إقرار لائكيه الدّولة. وهذا ما طبعها بطابع تلفيقي واضح استغله دعاة الإسلام السّياسي في العصر الحديث للمزيد من تدعيم شرعيتهم، إذ غدت لهم بموجب هذه الدّساتير المراوغة شرعيّة قانونيّة أقوى من شرعيّة الدّولة، فبما أنّ "الحاكميّة في الدّولة للّه خالق البشر" (الفصل الرّابع من مقدّمته "المبادئ الموجّهة" للدّستور السّوداني الصادر سنة 1998) تصبح الدّولة راعية للمبادئ الإلهيّة التي تؤسّس للدين الإسلاميّ وخادمة للمؤسّسة التاريخيّة الممثلة لهذه المبادئ "المؤسّسة الدينيّة". ويؤكد هنري سونسون Henri Sansonفي كتاب له بعنوان Laïcité islamique en Algérieعلى خطورة هذا الازدواج المرجعي للدساتير العربيّة، ازدواج تتحوّل بموجبه الدّولة الوطنيّة العلمانيّة إلى دولة دينيّة تجعل المرجعيّة الدّينيّـة أساسًـا لشرعيتهـا فتغـدو الدّولة مثيلـة « لشخص معنوي يؤمن بدين: الإسلام »، (Sanson, 1983, P 18) وقد سبّب هذا التداخل المرجعي تداخلا من نوع آخر بين اختصاصات الدّولة العَلمانيّة واختصاصات المؤسّسة الدّينيّة فقد أصبح ممثلوها في العصر الحديث "دعاة الإسلام السّياسي" بعد صحوتهم المزعومة بفعل سرعة التحوّلات التي شهدتها المجتمعات العربيّة، يحاولون استرجاع المواقع التي خسروها بفعل عمليات الزّحزحة المتواصلة والمتوالية التي كانت الدّولة الحديثة المتسلّحة بالإيدولوجيا العَلمانيّة راعية لها، فوجدوا في هذه المستندات الدّستوريّة خير مساعد على تأكيد شرعيّة وجودهم الذي يرقى من وجهة نظرهم على الشرعيّة المزعومة للدّولة، وهذا هو المحْمَل الذي خوّل لهم التدّخل في الأمور السّياسيّة الدّنيويّة التي تختصّ بها الدّولة.

لكن ولئنّ كانت الدّساتير تعكس حركة المجتمع وتقنّن لها، فإنّه لا يفوتنا أن نؤكد على أنّ تنامي وتائر تدخل دعاة الإسلام السّياسي في الشؤون السّياسيّة للدّولة لم يكن نتيجة لترّدد هذه الدّساتير بين مرجعيّتين اثنتين بقدر ما كان سببًا لهذا المنحى التلفيقي. فقد حاولت بعض الدّول الوطنيّة في محاولة هروب للأمام في مواجهة منها لتنامي تأثير الحركات الإسلاميّة المعاصرة على فئات واسعة من الجماهير العربيّة، سحب البساط من تحت أقدام دعاتها بتبني مواقف شعبويّة دينيّة دخلت بموجبها في سباق المزايدة معهم، فكان التعديل الدّستوريّ في مصر لسنة 1971الذي أصبح الدّستور بمقتضاه ينصّ على أنّ الشريعة مصدر أساسي من مصادر التشريع تنازلا قدّمته الدّولة بفعل تنامي الضغط الشعبي ومحاولة يائسة من قبل الدّولة لاستيعاب مطالب الإسلاميين والظهور أمام الشعب بمظهر المنافح عن العقيدة الإسلاميّة.

المشاريع الوطنية والمرجعيات المتصارعة

لم تنجح مؤسّسات الدّولة في مصر مثلا في صنع مثقف علمانيّ يدافع عنها لضعف سيطرتها على النظام التّعليمي ولتردّدها أمام علمنته الكاملة. على اعتبار أنّ المدرسة هي ساحة المعركة الأساسيّة التي يفترض أن تقوم بين المرجعيّتين الدّينيّة والعلمانيّة لأنَّ المعارف التي تقدّم للناشئة في السّنوات الأولى من العمر هي التي تحدّد البنية الإيديولوجية لمجتمع الغد. ويمكن لنا أن نفهم بذلك كيف اضطرت بعض الدّول الوطنيّة إلى التراجع عن العلمانيّة التي تأسّست عليها في غياب السّند الشعبيّ. وبالإضافة إلى قصور النظام التربوي كانت اقتصاديات أغلب الدّول الوطنيّة غير قادرة على تحقيق التنمية الشاملة، فلم تتمتع شرائح عريضة من مجتمعات هذه الدّول بثمار التنمية المتعثرة. فتعكّرت الظروف الاجتماعيّة في المدن الكبرى والمناطق غير الحضريّة وتفاقمت نسب البطالة لفشل السّياسات التنمويّة وخاصّة منها الاشتراكية بمصر والتعاضدية بتونس، في تحقيق الرّقي الاقتصادي والاجتماعي المنشود. كما أنّ الاندماج المتزايد في النظام الاقتصادي العالمي وما تبعه من انهيار للصّناعات المحلّية في الحقبة السّاداتيّة ([2])مثلا ترتّب عنه سخط اجتماعيّ عبّر عن نفسـه في أحـداث الشغب التي شهدتهــا مصر سنة 1977وتونس سنة 1978وسنة 1984 والمغرب سنة 1981وسنة 1984. لقد كان من نتائج فشل المشروع الوطني بقاء فئات اجتماعية عريضة خارج إطار المشاريع التنمويّة للدّولة، فئات استوعبتها الحركات الإسلاميّة ولم تجد صعوبة في تأطيرها لأنّها كـانت مستعـدّة للثـورة تحت أيّ تسمية إسلاميّـة كانت أم بروليتاريّة أو غيرهما.

ولئن وظفّ الدّين الإسلامي لمقاومة المستعمر وتعبئة الفئات الشعبيّة حول القضيّة الوطنيّة مثلما تجلى في نضال شعوب المنطقة العربيّة، فإنّ الدّين أصبح على يد دعاة الإسلام السّياسي موظفًا لمقاومة المجتمع والنظم السّياسيّة التي ارتضاها لنفسه بعدما كان موظفًا في خدمة التضامن الوطني. وقد كان للنخب السياسية الحاكمة دور كبير في التمكين للدّينيين بمزايدتها على الحركات الإسلاميّة في غفلة منها عن النتائج المباشرة لمثل هذه المزايدات المجانية. ويرى "عزيز العَظْمَة" في كتابه "العلمانية من منظور مختلف" أنّ تمشيخ الدّولة الوطنيّة لم يقتصر على مصر، فتمشيخ الدّولة الوطنيّة في مصر « لم تكن له النتائج نفسها على طابع ثقافة الدّولة » (العَظْمَة، 1992، ص293) مقارنة بغيرها من الدّول، لأهميّـة الـوزن السّياسي للدّولة المصريّة في المنطقة العربيّة ولتفرّع أغلب الحركات الإسلاميّة المعاصرة من حركة "الإخوان المسلمين" التي تأسّست في مصر، لقد كان الدّين أحد المكوّنات الأساسيّة للإيديولوجيا الناصريّة - حسب الصّحفي "عبد الفتاح نبيل" في توصيفه لواقع الحركات الإسلاميّة في مصر- فهو « أحد الأدوات الوظيفيّة التي يستخدمها النظام السّياسي في محاولته لتأصيل شرعيته لدى الجماهير على اختلاف انتماءاتها الطّبقيّة » (عبد الفتاح، (د.ت.)، ص 32 ). فقد كان جمال عبد الناصر (1918-1970) يرى للدين وظيفة تقوم بتوجيهها الدّولة لغايات التعبئـة والتبريـر والتأصيل للمقولات التي طرحت للتطبيق والتي قيل إنّها اشتراكيّة وأنّ الاشتراكيّة غير منافية للإسلام، فبقيت المرجعيّة الدّينيّة رافدًا أساسيّا من روافد الشرعيّة السّياسّة. وقد دفع ذلك الدّولة الناصريّة إلى دعم مؤسّسة الأزهر فمنحت لها سلطات واسعة بحيث غدت جامعة على الطراز العصري تنضوي تحتهـا شبكـة واسعـة من المعاهـد والمدارس الدّينيّة، وفي مقابل ذلك أحكمت الدّولة قبضتها على رجال الدّين من خلال إخضاع المؤسّسات الدينيّة وفي مقدّمتها المساجد لوزارة الأوقاف التي أنيطت بها مهمّة مـراقبـة أئمة المسـاجد وتحديد مواضيع خطب يوم الجمعة حتى تتحكم الدّولة في تشكيل اتجاهـات سلـوك الأفـراد حسب غايات النظام وأهدافه، لتضرب على أيدي الحركات الإسلامية ممثلة في "الإخوان المسلمين" (تأسّست في مصر سنة 1928 على يد "حسن البنا" وقد خلفـه فـي مرتبة المرشد العام للحركة كلّ من "حسن الهضيبي" و"عمر التلمساني"، وقد كان لها امتدادات في كامل المنطقة العربيّة، كان لهذه الحركة تنظيم سري عهد البنا إمارته إلى عبد الرّحمان السندي، تخلت عنه في مرحلة متأخرة بتأثير التشديد الأمني والملاحقات الجزائية انظر في هذا الشأن: Carré, et Michaud, 1983)التي كانت معادية للقوميّة، والاشتراكية ولنقـل الثقافة القانونيّة الغربيّة للواقع المصري وللحداثة بصفة عامّة.

الحركات الإسلامية وتحدي النموذج العلماني

حدد "حسن البنا" (1906-1949) التوجهات الأساسيّة للرؤية الإخوانيّة في الوثيقة المؤسِّسَة لحركة "الإخوان المسلمين" التي أرسلها إلى وزير الدّاخليّة بعد شهـرين من انتصار حكومة الثورة إذ قال « والإخوان المسلمون عند أمر أب حينما يتناولون أمر هذا الدّين لا يستهدفون إلاّ ما استهدفه الإسلام ولا يتوسّلون في بلوغ هذه الأهداف إلاّ بالوسائل التي يقرّها الإسلام » بل إنّه يذهب إلى القول بأنّه « إذا اشتغل الإخوان المسلمون بسياسة مصر الدّاخليّة والخارجيّة، فيما يشتغلون، فإنّما يشتغلون بأمر الإسلام وينزلون على حكم الدّين ويمارسون نشاطًا دينيّا محضًا هو فرض على كلّ مسلم مهما كانت صفته » (نقلا عن: غالي، 1990، ص 54-55) لكن وبمـا أنّ « الإسـلام عبـادة وقيادة، وديـن ودولة، وصلاة وجهـاد، ومصحف وسيف، لا ينفك واحد من هذين عن الآخر» (البنا، 1966، ص 151) فإنّ الإخوان المسلمين « حرب على كلّ زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير في الطريق لاستعادة حكم الإسلام » (نفسه، ص136) فرغم تأكيد هذه الحركة في لحظة تأسيسها على توسلها بالوسائل الشرعيّة، كالدّعـوة عـن طريق النشر ووسائل الإعلام من جهة، والتربية على المبادئ الدّينية وإقامة المساجد والمدارس والمستوصفات من جهة أخرى، فإنّ البوادر الدّالة على سعيها إلى التدّخل في الشؤون السّياسيّة قد تأكّدت فيما بعد إذ تخلت عن مناهجهـا السّلميّـة لتتبع منهجًا انقلابيّا ضدّ الدّولة و"المجتمع الكافر" السّائر خلف سياسة "شيطان العالم الأعظم" الولايات المتّحدة الأمريكيّة. وقد مثلت أعمال "سيد قطب" (1903-1966) وخاصّة منها كتابه "معالم في الطّريق" مرحلة حاسمة في تاريخ حركة الإخوان المسلمين، فالنظام الاجتماعي والسّياسي العربي يعيش من وجهة نظره حالة من الجاهليّة الجديدة يُعتدى فيها على سلطان ﷲ في الأرض وعلـى أخصّ خصائص الألوهيّة وهي الحاكميّة، فهي تسند الحاكميّة للبشر فتضع بعضهم أربابًا لبعض، لا على النحو الذي عرفته الجاهليّة إبان ظهور الإسلام ولكن في صورة وضع الشرائع والقوانين بمعزل عن المنهج الرّباني. أمّا عن المنهج الحركي الذي يجب اتباعه فهو من منظور سيد قطب التخلص من كلّ المؤثرات الجاهليّة بالرّجوع إلى النبع الخالص الذين استمدّ منه الرّعيل الأوّل من المسلمين مناهجه. ومن ثمّ فإنّ مهمّة الجماعة هي التغيير الدّاخلي تمهيدًا لتغيير المجتمع برمته، فالمهمّة الأساسيّة للمسلم من وجهة نظر الإخوان هي تغيير واقع المجتمع الجاهلي من أساسه لأنّه يصطدم بالمنهج الرّباني/ الإخوانية فمادامت المجتمعات القائمة غير إسلاميّة فإنّ المنهج الرّباني لا يفيد في تقديم الحلول لمشكلاتها. وظاهر من تكفير الإخوان المسلمين للمجتمعات القائمـة سعيها للتشريـع لنفسها ولثورتها على مظاهر الجاهليّة ولسعيها إلى إعادة بنائه من جديد على أساس إسلاموي/إخواني. ورغم منحاه الانقلابي الثوري فإنّ كتاب معالم على الطّريق قد نشر ثلاث مرّات في مصر الناصريّة في غفلة من الدّولة، وقد كان لمؤلفات سيد قطب أثر مباشر في تفرّع جماعة الإخوان المسلمين إلى فروع شتى رأت في العمل الحركي خير مجسّد لمطامحها الدّينيّة السّياسيّة.

أصبحت الحركات الإسلاميّة متحدّية لنموذج المجتمع العلماني الذي تبشّر به الدّولة وغدت أكثر قدرة على تحدي الدّولة بفضل الإمدادات الماليّة التي جاءت بها ثورة "البترودولار" في الدّول النفطيّة التي كانت أحد المصادر الرّئيسة للتحريض والتنظيم والتمويل، وقد استغلت الحـركات الإسلاميّـة الأزمات السّياسيّة التي تمرّ بها الدّولة لشنّ حملات مضادّة على النظم العَلمانيّة فاستغل الإخوان المسلمون هزيمة 1967للكشف عن « زيف الشعارات والطّروحات التي قدّمت في مرحلة السّتينات والتي اتّسمت بعدم الأصالة » (غالي، نفسه، ص39) فوقع تفسير الهزيمة بابتعاد الدّولة القوميّة والمجتمع عن تعاليم الإسلام الحنيف وتمكين الدّولة للقيـم الغربيّة الغريبة عن جوهر الإسلام كنسق ثقافي وقانوني وحضاريّ، وهذا ما جعل كثيرًا من المهتمين بدراسة تاريخ نشأة الحركات الإسلاميّة يؤكدون أنّ ما يسمى بالصحوة الإسلاميةّ ليست « ردًا على الهزيمة، بل كان تعبيرًا عن غلبـة قوى سابقـة عليها، وفاعلة في اتجاه تحقيقها، بل هو التعبير الأكبر عن الهزيمة » (العظمة، نفسه، ص330). ولم يفت هذه الجماعات اقتراح الحلّ المناسب لتجاوز الهزيمة وهو من منظورهم العودة إلى الإسلام تحت شعار "الإسلام هو الحلّ" فبدأ الحديث عن علم الاقتصاد الإسلامي والطـب الإسلامي وعلم الفيزياء الإسلامي وألصق النعت الإسلامي بكلّ فـروع العلـوم رغـم أنّ العلم لا يؤثـر فيـه أن يكـون مسيحيّا أو إسلاميّا، وقد سعت الحركات الإسلاميّة من وراء ذلك إلى الإيهام بالاستمراريّة الإسلاميّة وبأنّ لها مشروعًا متكاملاً وبديلاً آخر غير الذي تدعو إليه الدّولة العَلمانيّة.

أدّت هزيمة سنة 1967وعجز النظام عن تقديم التبريرات العقلانيّة لسقوطه في أوّل مواجهة مع العدوّ القومي إلى التقوية من عضد المؤسّسة السّياسيّة الرّسميّة "الأزهر" فقد برزت الحاجة إلى هذه المؤسّسة كأداة للتبرير وقد كان لذلك آثار مباشرة على استقلالية قرارات الدّولة، وتجلى ذلك بوضوح في الضغط السّياسيّ الجماهيري سنة 1971لإدراج بند في الدستور المصري ينص على كون الشريعة الإسلاميّة مصدرًا أساسيًا من مصادر التشريع، لقد اضطرت الدّولة الوطنيّة في مصر بفعل الأزمة الشاملة التي تبعت الهزيمة وتزايد انتقادات الإسلاميين إلى الإفراج عن قيادات الإخوان المسلمين الذين لم يضيعوا أيّ وقت بل اندفعوا إلى إعادة التأسيس والهيكلة تمهيدًا للتوثب على نظام الحكم توثبا كانت محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرّض لها عبد الناصر سنة 1954من طرف "محمود عبد اللّطيف" عضو التنظيم السّري للإخوان أصدق تعبير عنه.

أصبحت الحركات الدّينيّة في مصر - بفعل التنازلات التي قدّمتها الدّولة وبتأثير ثورة النفط وما وفرته من إمدادات مالية - قوّة ضاربـة لها قواعـد شعبيّة عريضـة تخشى الدّولة تحدّيها فتزايدت مطالبها جرأة ورجعيّة وقد كان المطلب الأساسي لهذه الحركات على اختلاف التنويعات الإيديولوجية التي تفصل بينها هو تطبيق الشريعة الإسلامية مع التأكيد على الحدود الإسلاميّة، تطبيقا يرون فيه تحقيقًا لإرادة ﷲ على الأرض، رغم كونها شريعة دنيويّة قامت على استصلاح المستجدّات التي طرأت على المسلميـن واستيعـاب التـراث القانونـي للحضارات المتاخمة وتأصيلها على أسس علم الأصول ليكتمـل بناؤهـا في مرحلة متأخرة جدًا عن فترة الوحي. ولعلّ ما يؤكد أنّ الشريعة لم تعد في العصر الحديث سوى شعار إيديولوجي فضفاض يرفع ولكنه غير قابل للتطبيق ترافق عمليّة الإلزام بتطبيق مبادئها بالعنف الذي يشي بغرابة جزء هام من أحكامها عن واقع المجتمعات العربيّة، واقع خضع إلى متغيّرات سريعة منذ فترة التنظيمات، لكن اللافت للنظر هو أنّ مطالبة الحركات الإسلاميّة بتطبيق الشريعة يندرج في استراتيجية كاملة مآلها الأخير إقامة الدّولة الإسلاميّة، بما أنّ تطبيق مبادئ الشريعة يستوجب دولة إسلاميّة، وقد أدى هذا المطلب السّياسي إلى « حدوث توتر في مكوّنات الهيكل الديني المصري مع الأقباط وأصبحت المسألة ذات طابع صراعيّ مثلث الأطراف النظام السّياسيّ والجماعات الإسلاميّة و الجماعات القبطيّة » (عبد الفتاح، (د.ت.)، ص 100)فقد عقد الأقباط في 18جانفي 1977بالإسكندرية مؤتمرًا ردًا على قانون الحدود الذي قدّمه علماء الأزهر إلى مجلس الشعب المصري والذي يطالـب بتطبيـق الشريعة الإسلاميّة على جميع المصريين بما فيهم الأقباط وقد أسفر هذا المؤتمر عن مطالب عدّة أكّدت على حـرية المعتقـد التي يضمنها الدّستور المصري وعلى ضرورة تطهير الجامعات من المتطرّفين الـذين يحرّضون على الفتنـة الطائفيّة ورفـع الـرّقـابة الرّسميّـة أو المقنّعة عن المؤلفات والمنشورات المسيحيّة ووضع حدّ للكتابات الإلحادية والكتابات التي تتضمّن التعريض بالدين المسيحي، كما أكدّ الأقباط في مؤتمرهم علـى وجـوب إعادة الاعتبار للدين المسيحي في المناهـج والبرامج التعليميّة الرّسميّة، ومن أهمّ المطالب التي نادى بها هذا المؤتمر المطلب الثالث إذ ورد فيـه « نعلن عدم قبول تطبيقها [الشريعة الإسلاميّة] على المسيحيين في مصر، كما ونعتبر أنّ أي محاولة في هذا الشأن للإلزام الجبري تحت ستار التشريع أو القوانين الجنائية أنّها تنطوي على إكراه المسيحيين على عقيدة أخرى مما يجافي مجافاة صارخة أقدس حقوق الإنسان في حرّية العقيدة » (شكري، 1983، ص 405). فكان أن ردّ الأزهر على المؤتمر القبطي في شهر يوليو من نفس السّنة بمؤتمر إسلاميّ. وقد أصدر هذا المؤتمر قرارات من بينها «أنّ أي قانون أو لائحة تعارض تعاليم الإسلام تعتبر ملغاة وكأن لم تكن، وأنّ مقاومة مثل هذه التشريعات واللّوائح واجب كلّ المسلمين. وأنّ تقنين الشريعة الإسلاميّة، وتطبيق أحكامها لا يرتهن بقيام البرلمان بإصدار تشريعاته على هذا الأساس، وإنّما أحكام الشريعة قانون مقدّس قَبِلَ البرلمان بذلك أو لم يقبل، لأنّه ليس من حقّ أحد أن يناقش أحكام ﷲ» (عبد الفتاح، (د.ت.) ص 102). ويبدو واضحًا من خلال مقـرّرات المؤتمـر تحـريض المؤسّسـة الدّينيّة الرّسميّـة على التّألب على القوانين الجاري بها العمل والاستهانة بالبرلمان ومؤسّسات الدّولة. بما أنّ للقوانين الإلهيّة أسبقيّة على غيرها من القوانين الوضعيّة، لقد أدى إصرار الإسلاميين على تطبيق الشريعة إلى ظهور بعض الجماعات الدّينيّة القبطيّة كجماعة "الأمّة القبطيّة" التي رامت التصدي للتحدّيات التي فرضتها الجماعات الإسلامية على الأقباط وقـد كان شعارها " المسيحيّة ديننا والموت في سبيل المسيـح أقوى أمانينا" في معارضـة لشعـار الإخوان المسلميـن " الإسلام ديننا والموت في سبيل الله أقوى أمانينا"، وقد أدى كلّ ذلك لاسيما بعد صدور فتاوى تجيز قتـال النصارى والاستيلاء على أموالهم إلى توتر طائفي شديد شهدته محافظة المينا جنوب القاهرة وفي غيرها من المنـاطـق الرّيفيّة المصـريّة، فقلب وضع التعايش السّلمي الذي كان سائدًا بين المسيحيين والمسلميـن لقرون طـويلـة.

خرجت الحركات الدّينيّة المسيّسة للدين من وضع الكمون الذي فرض عليها لزمن طويل، وقد كانت الدّولة مسؤولة عن ذلك إذ «تميّزت الدّولة الناصريّة وتفوّقت عليها في هذا الدّولة السّاداتيّة بالخروج عن سجيّة دولة التنظيمات والوطنيّة، وببث ثقافة غيبيّة في أجهزة الإعلام وفي النظام التربوي. فأصبحت الدّولة المصريّة – وغيرها إلى نسب أقلّ بكثير-عاملاً في توزيع ثقافة مركزيّة تتضمّن جزءًا دينيّا كبيرًا دون أن تكون من سمات هذا الجزء غلبة الإصلاحيّة العقلانيّة» (العظمة، نفسه، ص288) إذ أصبح شعار الدّولة في عهد السّادات "العلم والإيمان" وأطلق عليه لقب الرّئيس المؤمن، بل إنّ اسمه أصبح "محمد أنور السّادات" بعد أن كان "أنور السّادات" (1918-1971). شجعت الدّولة الحركات الدّينيّة فسرّحت القيادات الإخوانيّة ودعمت حضورهم في وسائل الإعلام المسموعة إذ أخلى التلفزيون مساحات زمنيّة واسعة للبرامج الدينيّة حتى أنّ بعض الشخصيات الدّينيّة كالشيخ الشعراوي ارتقت إلى مستوى النّجوميّة بحضــوره اليومي المطوّل حتى أنّه «لمّا مسّت أحاديثه عقيدة الأخوة الأقباط ومشاعـرهم أكثر من مرّة، لـم يستطع التلفزيون أن يفعـل شيئًا» (فودة، 1992، ص 40.)

ويذكـر إحصاء الإذاعـة والتلفزيون لسنة 1977أنّ عدد ساعات البرامج الدّينيّة التي تبثها الأجهزة الرّسميّة قد بلغت 32ساعة يوميّا في حين بلغ عدد الصّفحات الدّينيّة 120صفحة دينيّة بين صحيفة وجريدة يوميّا، كما يذكر إحصاء دار الكتب المصريّة أنّه قد صدر ما يناهز عن 1035كتابًا دينيّا في نفس السّنة، فكثر نتيجة لهذه الدّعاية الإعلاميّة الواسعة عدد النساء المتحجّبات في المدن والقرى على حدّ السّواء وظهر الشباب ملتحين في الشوارع وفـي موطـن العمل، وظهر في مصر والجزائر ما سميّ باللّباس الإسلامـي، وبدأت صـلاة الجمعة - حيث يفترش الناس المساحـات المحيطـة بالمساجـد ويتسبّبون في تعطيل حركة المرور- تتحوّل إلى مظاهرات دينيّة صاخبة كما بدأ التلفزيون المصري يقطع برامجه ليبث آذان الصّلوات و« بدأ مجلس الشعب (البرلمان) نفسه يقطع جلساته إذا ما حان موعد الصّلاة » (شكري، 1983، ص 304.)وانتشرت صحف الحائط الديّنيّة في الجامعات، وهدّد أساتذة الجامعات الذين يختارون نصوصًا من عيون الأدب العربي والعالمي بالطّرد وقامت أجهزة أمن الدّولة بتشجيع انخراط الطّلاب في تنظيمات دينيّة لمواجهة التيارين الناصري والماركسي المسيطرين على الاتحادات الطّلابيّة، وظهرت دعوات تحرّض على تطهيـر المكتبات الجامعيّة والعامّة من كتب "الكفرة المارقين". ويلاحظ العَظْمَة في هذا الإطار أنّ المنطقة العربية قد شهدت في العشريات الأخيرة ازديادًا في تصلّب الدّعوة الدّينيّة وانكفائها على الأسس النصّيّة وتشدّدها « فـي اتباع العلامات الدّالـة على الانتمـاء العقيدي والسّياسي الإسلامـي، كالفروض والنوافل العباديّة » ( العظمة، 1992، ص303)) وممارسة العنف في سبيل تطبيق المبادئ التي يدعون إليها وقد كانت الحركات الدّينيّة تصرّ على بعض الأمور الشكليّة كلباس الحجاب،وعدم حلق اللّحى، وتجرّ للغرض سيلاً جارفًا من الحجج الدّينيّة من قرآن وحديث نبويّ وتغطي كلّ ذلك بحملات إعلامية شاملة وطويلة الأمد لملء السّاحة الإعلاميّة بل لاحتكارها وشدّ الانتباه بتحويل أخبار التنظيم إلى شأن من الشؤون اليوميّة في حياة المواطن، الأمر الذي يكسبها قوّة معنويّة كبيرة في الحرب المعلنة والخفيّة التي تخوضها ضدّ الأجهزة الرّسميّة للدّولة ولتبقى حاضرة على السّاحة السياسية والفكريّة ولتغطي على مشروعهـا الانقلابية بالضوضاء الإعلاميّة التي تروق للجماهير وتؤثر فيهم.

شعبوية الدولة ونمو حركات الإسلام السياسي

لعلّ أصدق دليل على تمشي الدّولة الوطنيّة لجوؤها إلى سلاح الدّين لمهاجمة الشيوعيين بتشجيع من الولايات المتّحدة الأمريكيّة لتطويق الشيوعيّة إقليميا وحدّها بحزام من الرجعيّة الدّينيّة لضمان هيمنتها على المنطقة العربيّة وتسريب الرّأسماليّة تحت حماية دينيّة بتشجيع الحركات الدّينيّة في غفلة من الدّولة التي غاب عنها أنّ إقصاء اليسار من السّاحة السّياسيّة يفسح المجال واسعًا أمام اليمين الدّيني المتطرّف، كما كان دعم الإيديولوجيا الدّينيّة وسيلة لكسب ودّ الأنظمة العربيّة المحافظة التي رفعت ثورة البترول إلى صدارة السّاحة الاقتصاديّة والسّياسيّة في المنطقة العربيّة، ولكن ما يعتبره رجل السّياسة تكتيكًا مرحليّا يعدّه البعض ركائز استراتيجية ينطلقون منها في اتجاه المطالبة بمزيد من التنازلات في لعبة يحذقها دعاة الإسلام السّياسي ويسيطـرون على قوانينها، ولعلّ الاختلاف المركزي بين التجربة الناصريّة والسّاداتية كما يؤكد غالي شكري هو التمزّق الذي صاحب التجربة الأولى في تردّدها بين العلمنة الكاملة التي تفترض الدّيمقراطيّة وبين النظام المعادي للدّيمقراطيّة، بينما حاولت التجربة الساعاتية « أن تنسجم مع نفسها بإيجاد اتّسـاق بيـن الإيديولوجيا الدّينيّة والنظام الجديد. وكانت أزمتها الوحيدة أن يكون أهل النظام الجديد هم أصحاب الإيديولوجيا» (شكري، 1983، ص304) بمعنى أنّ الدّولة السّاداتيّة لم تفرض إيديولوجية على الشعب بقدر ما استوعبت إيديولوجيته، وهذا هو مناط شعبويّة الدّولة. ولم تكن تونس في منأى عن تواطؤ النخب السّياسيّة مع الحركات الدينيّة فقد بقيت "الجماعة الإسلامية بتونس" على كمونها إلى أن استطاعت استيعاب بعض القيادات السّياسيّة المتنفذة (ففي تونس سُرّح "راشد الغنوشي" من السّجن سنة 1984 بمساندة من الوزير الأوّل "محمد المزالي" تمهيدًا لتصفيّة المنظمة النقابيّة التي زادت مطالبها بتأثير الأزمة الاقتصاديّة التي تردت فيها البلاد.) التي رأت في الحركة خير سند لها في ضرب أحزاب اليسار والمنظمة التونسيّة للشغل، فرغم خطورة هذه الحركات على وجودها تبنت الدّولة - التي رأينا أنّها كانت راعيّة للعلمانيّة - مجمل هذه الدّعـوات في عمليّة هروب إلـى الأمام لأنّ السّاسة قدّروا أنّ مسايرة هذه الحركات والفوز بشرف المساندة خير من المعارضة والظهور بمظهر العاجزين عن مواجهة هذه الحركات التي غدت تحظى ليس فقط بالمساندة الشعبيّة بل إنّ ثلة من المثقفين غير الدّينيين أصبحوا أكثر تقّبلاّ من ذي قبل لمضمون المطالب التي ينادي بها الإسلاميون ولأسسها الإيديولوجية.

وقد كان اندلاع الثورة الإسلاميّة في إيران (1979) من العوامل الأساسيّة المحدّدة لمسيرة الحركات الإسلامية في المنطقة العربيّة وفي ما سمي فيما بعد بـ"الصحوة الإسلاميّة"، فقد وفرت الثورة الإسلاميّـة في إيـران نمـوذجًا تخيلـت الحركـات الإسلاميّـة أنّها قـادرة على احتذائه، وبالإضافة إلى الدّفع النظري وفّـر القائمـون على "الثـورة الإسلاميّـة" في إيران الدّعم المالي واللّوجستي للحركات الدّينيّة المسيّسة للدين عن طريق مراكز التعبئة والتدريب التي وضعتها على ذمّة كلّ من يريد إحلال الدّولة الإسلامية والانقلاب على الأنظمة القائمة، وقد كـان مـن آثار هـذا الحدث على الحركـة الإسلاميّة بتونس ([3])مثلا اكتسابها « اعتدادًا بالنفس يصل بسرعة إلى حدّ المجازفة. فبدأت الحركة التي غلب عليها من قبل الحذر والتوجس تبرز وتستقطب الأنظار وأخذت لغة الخطاب عندها تمتدّ من التجذّر الدّيني إلـى التّحدي السّياسي» (عماميت، 1992، ص106). وقد ذهب في ظنّ الحركات الإسلاميّة وبغض النظـر عن الظـروف الموضوعيّة التـي جعلـت الإمام الخميني ينفرد بالسّلطة ويقصي جميع المعارضين لدولته ويسم الثورة الشعبيّة على نظام الشاه بالسّمة الإسلاميّة، أنّ قيام هذه الدّولة تعبير عن الإرادة الإلهيّة التي بدأت بوادرها في إيران لكنها سرعان ما ستشمل كامل العالم.

لم تعدّ حركة الإخوان المسلمين في مصر وجملة امتداداتها في الدّول العربيّة الأخرى وحدها على السّاحة السّياسيّة بتأثير الظروف الدّاخليّة والخارجيّة المواتية، فبعد أن وضعت حركة الإخوان المسلمين في مصر حدّا لنشاط جناحها السّريّ لترسم لنفسها نهجًا جديدًا يقطع مع العنف، أصبح سقف مطالبها لا يلبي الحدّ الأدنى لتطلّعات الإسلاميين. فظهرت منظمات إرهابية سريّة على هامش حركة الإخوان أطلقـت على نفسها تسميات مختلفة. ولعلّ اللاّفت للنظر في هذا السّياق أنّ هذه التنظيمات قد اعتمدت نفس المراجع الفكريّة التي خرّجت كوادر حركة الإخوان المسلمين. وهذا ما يحيلنـا على التواصل الفكري والحركي لمثل هذه التنظيمات مع الحركة الأمّ التي خرجوا عنها، رغم أنّ لكلّ حركة من هذه الحركات بعض الخصوصيـات التـي تتميّز بها عن الأخرى كـ"جماعة شباب سيّدنا محمد" و"جماعة الجهاد " و"جماعة التكفير والهجرة" ([4]) التي يرى منظرها "شكري مصطفى" أنّ المسلم مدعوّ في العصر الحديث إلى الهجرة إلى الكهوف والجبال هربًا من المجتمع الكافر إذ لا بدّ من الهجرة بما أنّه لا إسـلام ولا دولـة تقام إلاّ بعد الهجرة فهلاك « الكفار وتدمير دولتهم لا يأتي وهناك مسلمون في وسطهم، والسّنة أن يخرج المؤمنون من أرض الكفر فلا يبقى إلاّ الكافرون حين ذلك ينزل اللّه العذاب عليهم» (مجلّة دراسات عربيّة، نوفمبر 1977) فانقطع عدد من الشباب عن الدّراسة إن كانوا من طلاب الجامعات أو عن العمل إن كانوا من العملة والتحقوا بالمناطق الرّيفيّة وقطعوا كلّ علاقاتهم الاجتماعيّة الماضية وغيّروا أسماءهم بأخرى حركيّة وانقطعوا إلى دراسة القرآن والسّنة النبويّة والتدرّب على استعمال كافة أنواع الأسلحة برئاسة أمير يشرف عليهم.

ولم تتردد هذه الحركات في ممارسة العنف في سبيل إجبار المجتمع على القبول برؤيتها المخصوصة فتعرضت النسوة السافرات إلى الرّشق بماء النار في مصر وتونس لخلق حالة من الذعر في صفوفهن لدفعهنّ للتحجّب غصبًا، واغتيل الشيخ حسن الذهبي في مصر وهُوجمت الفنيّة العسكريّـة 1974واغتيل الرّئيس المصـري "أنور السّادات" بعد أن كفّرته إحدى الحركات الدّينيّة، واستأنف الإسلاميون في السّنـوات الأخيـرة حملاتهم ضدّ المفكّرين اللادينيين فكُـفّر "نصر حامد أبو زيد" بتهمة الارتداد عن الإسلام، وقتل الدكتور "فرح فودة" وتعرّض الأديب "نجيب محفوظ" إلى محاولـة الاغتيـال ونالت "نوال السّعداوي" حظّها من حملات التخويف والإرهاب([5]) وقتل سيّاح أجانب في معبد الأقصر بمصر في عام 1998التي وقف خلفها تنظيم الجماعة الإسلامية.

أزمة المشاريع القومية والوطنية

فشلت الدّولة الوطنيّة في خلق مثقفها ويعـود هـذا الفشل إلى قصـور السّياسـات التنمويّة والإيديولوجية عامّة، فالحركات الدّينيّة لا تنشأ إلاّ إذا توفرت جملة من الظروف المواتية أهمّها رجعيّة نظم التعليم ووسائل الإعلام وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة فمواطن نجاح الحركات الإسلامية هي مواضع فشل الدّولة، ويعبّر الدكتور فرج فودة عن ذلك بقوله « يجب أن نعترف بـأنّ جزءًا من هذه الظاهـرة يعود لفشل المـدارس في أداء دورها التعليمي لأسباب متعدّدة ومتراكمة، وبأنّنا تركنا الشباب نهبًا لأحد بديلين: إمّا الانحراف، وإمّا التطرّف، وبأنّ البديل الثاني يحظى بتشجيع الآباء رحمة بهم من البديل الأوّل» (فودة، نفسه، ص83-84) فقد ثبت لدى الدّارسين الذي تناولوا دراسة ظاهرة التطّرف الدّينيّ من وجهة نظر اجتماعيّة (Lamchichi , 1989, P 91) أنّ التطرّف الديني لا يجد الأرضية المناسبة لعمليات الدّعوة والتجييش في المناطق التي تسير فيها التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة على النحو الأمثل.

وجدت كثير من الأنظمة الحاكمة في الدّول العربيّة نفسها في مواجهة ظاهـرة كـانت ضالعـة في تنشئتها ورعايتها ودعم قدراتها التنظيميّة وتوسيع امتدادها الإعلامي، وقد وجدت صعوبة كبيرة في السّيطرة على النزعة الانقلابية للحركات التي غدت تجاهر باستعمال العنف في سبيل الخروج بالمجتمع عن جاهليته المزعومة، خاصّـة وأنّ هـذه الحـركـات قـد نجحت فـي اختـراق أجهزة حسّاسة كالأمن والجمارك والجيش والاستخبارات تمهيدَا للانقضاض على الحكم.

اضطرت الدّولة الوطنيّة لإلجام هذه الحركات بضرب قدراتها التنظيميّة والحركيّة. بل إنّها تراجعت عن مسار دمج الإسلاميين في مسار العمل السّياسي مثلما حدث في الجزائر على إثر إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانيّة لسنة 1992 والتي فازت في دورتها الأولى "الجبهة الوطنيّة للإنقاذ" بأغلبيّة المقاعد البرلمانيّة، تصدت الدّولة لهذه الحركات بعنف منقطع النظير وسط تعتيم إعلامي مطلق أثار ريبة حول حقيقة ما يجري من أحداث ( Carré et Michaud, 1983)، وقد عزّز منهج التعامل الأمني الذي انتهجته الدّولة من تعاطف عامّة الشعب مع الحركات الإسلاميّة بل إنّ البعض يذهب إلى أنّ الدّولة تآمرت عليها بتلفيق تهم لم ترتكبها لإقصائها عن السّاحة السّياسيّة.

نجحت الدّولة في إقصاء الإسلاميين لكنّها فشلت في محو المكبوت الاجتماعي الذي تُـوَرِثه الأجيال إلى بعضهـا بعـضا كمـا تورّث اللّغة والقيم الاجتماعيّة والثقافيّة، فما لم تقتنع الشعوب العربيّة من تلقاء نفسها بخطورة الحركـات الإسلاميّـة المسيّسـة للـدين على المكتسبات الاجتماعيّة والثقافيّة التي حقّقتها المجتمعات العربيّة فستبقى تكن لها المساندة إلى أن تتوفـر الظـروف الاقتصـاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة المواتية لتظهر مساندتها لها على السّطح مـن جديـد، وهـذا مـا يحمّل الدّولة مزيدًا مـن المسؤوليات فـي اتجـاه المزيـد من علمنة النظم التربويّة وفتـح المجال أمـام حـوار ديمقراطـي حول جميـع القضايا السّياسيّة والاجتماعيّة والقطـع من منهج الإقصاء الأمني وذلك لتعزيـز ثقة المجتمعـات العـربيّة بالدّولـة ومؤسّساتها وتجسير الفجوة بين الشعب والسّلطة من جهة وبين السّلطة والمثقف من جهة أخرى رغم أنّ « المعادلة التي يجهد المثقف نفسه في حلّها بين المثقف والسّلطة قد تكون تجسيرًا للفجوة بينهما ولكنّها في نفس الوقت اعتراف بانقطاع الجسور مع الشعب» (لبيب، 1990، ص21).

ومن تبعات تمشي الدّولة الوطنيّة واتّخاذها للمرجعيّة الدّينيّة سندًا في تشكيل الرأي العام بما يتناسب ومصالحها السّياسيّة من جهة وهروبها للأمام في مواجهتها للحركات الإسلاميّة المسيّسة للدّين، أنّ كثيرًا من الاتجاهات الفكريّة اللادينيّة أصبحت متقبّلة لمقولات الإسلاميين حول العَلمانيّة التي أضحت «تستدرّ دفاعًا باسلاً من قبل أطراف ليست إسلاميّة في مكوّناتها الإيديولوجية الأساسيّة ولا في توجهاتها السّياسيّة» (العظمة، 1992، ص305). فقد كان من آثار الضوضاء الإعلاميّة التي أثارتها الحركات الإسلاميّة من حولها لتثبت وجودها على السّاحة السّياسيّة، محاولة بعض الأحزاب السّياسيّة العربيّة كسب ودّ الحركات الإسلاميّة المعاصرة، حيث تحالف حزب الوفد المصري مـع الإخوان المسلمين سنة 1984ولم يبق حزب واحد بما في ذلك الحزب اليساري " التجمع الوطني التقدّمي الوحدوي" إلاّ ونادى بتطبيق "الشريعة الإسلاميّة". فتخلت كثير من الأحزاب العربيّة عن علمانيّتهـا استغـلالاً منهـا للظرفيّة السّياسيّة، وحاولت كسب ودّ هذه الحركات لأنّ دعاتها تخيّلوا أنّها قادرة على رفعهم إلى سدّة السّلطـة، لأهميّة قواعدها الاجتماعيّة. وقد كان حزب البعث العربي ([6]) على رأس الأحزاب والتيارات الفكريّة التي تبنت مقـولات الإسلاميين فـي غفلـة دعاتـه عن المخاطر التي يمكن أن تنجرّ عن التحالف مع الرّجعيّة الدّينيّة.

أصبح الشقّ البعثي من القوميين العرب من بين أكثر المدافعين عن الإسلام، ويذكر ميشال عفلق أحد القادة المؤسّسين لحزب البعث العربي أنّ صّفة الإيمان الممّيزة للبعث العربي «هي التي فرضت عليه الاصطدام بجميع الحركات التي تنكر الإيمان أو تتستّر بإيمان سطحي زائف. وقد كان ظهور البعث العربي منذ عشر سنوات إيذانا بحرب صريحة على الجانب الماديّ السّلبيّ الحاقد من الحركات التحرّريّة» (عفلق، 1978، ص164).بل إنّ التأسيس النظري لمفهوم القوميّة العربيّة قام على تمجيد الإسلام باعتباره القوّة الأصيلـة التي تحرّك كامن الأمّـة العربيّة وعلى اعتبار الرّسول محمد بطلا للعروبة والإسلام بل يصل الأمر إلى حدّ المساواة بينهما والتأكيد في ضرب من العنصريّة الإثـنولوجيّـة على أنّ أفضليّة العرب على غيرهم من الأمم هي التي جعلت ﷲ يختارهم لتبليغ رسالته إلى البشر دون غيرهم من الأجناس والأمم، فبما أنّ اللّغة العربيّة هي لّغة القرآن فإنّها لغة مقدّسة لدين مقدّس، لأمّة هي خير أمّة أخرجت للناس، فلم نعد نستغرب بعد ذلك من عودة "عصمت سيف الدّولة" في كتابه " عن العروبة والإسلام" إلى القرآن للبحث عن تأصيل شرعي لمفهوم الأمّة" ( سيف الدولة، 1986، ص25-35).

تخلت القوميّة العربيّة كما صاغها عفلق عن استقلالها وغدت تابعة في بنيتها الإيديولوجية للحركات الإسلامية المسيّسة للدين بما أنّ عفلق « يستمدّ من حركة الإسلام الخالـدة قوّة الصّبر والمقاومة لتيار الواقع المريض، ويجد فيها قدوة رائعة تحتذى في الغيرة الصادقة على مصلحة الأمّة » (عفلق، نفسه، ص166)،فتقدّم القوميّة العربيّة من هذا المنظور على أنّها حلّ وسطيّ معتدل جاء ليملأ فراغ السّاحة السّياسيّة العربيّة لتجمع بين مرجعيتين اثنتين لا ترى فيهما البديل السّياسي المناسب لتجاوز واقع التخلّف الغربي فليست القوميّة العربيّة مرادفة للعلمانيّة المتطرّفة أو الرّجعيّة الدّينيّة التي تؤلف مع الرّجعيّة الاجتماعيّة صفًا واحدًا يدافع عن مصالح واحدة « هذه الرّجعيّـة التـي تحمـل لـواء الدّين في يومنـا هـذا وتتـاجر به وتستغلّه وتحارب كلّ تحرّر باسمه وتدخله في كلّ كبيرة وصغيرة لكي تعيق الانطلاقة الجديدة» (عفلق، نفسه، ص215) فتصبح القوميّة العربيّة مخلصة للشعوب العربيّة من شرين اثنين العلمانيّة والرّجعيّة الدّينيّة، تخلت القوميّة العربيّة بمناورة فكريّة وسّياسية واضحة عن علمانيتها كما نظّر لها ساطع الحصري الذي انطلق من دراسة علاقة القوميّة بالدّين في البلاد الأوروبيّة ليؤكد على أنّ الوحدة القوميّة في أوروبا « لم تتبع الأديان [...] فقد برهنت الأحداث علـى أنّ وحدة الدين والمذهب شيء، والوحـدة القوميّـة شـيء آخر » (الحصري، 1985، ص162) ورغم تغافل الحصري عن كون التاريخ الأوروبي ليس التاريخ العربي، فإنّه يؤكد قياسًا على التاريخ الأوروبي على أنّ الرّابطة الدّينيّة لم تكـن عاملاً في تكوين القوميات رغم تأثـرها ومساعدتها على الاندماج القومي، ويذهب الحصري على خلاف عفلق إلى تأكيد أنّ « الأساس في تكوين الأمّة وبناء القوميّة هو: وحدة اللّغة ووحدة التاريخ » (الحصري، نفسه، ص210) لأنّ الوحـدة في هذيـن الميدانيـن تساهم في وحدة الثقافة والفكر كما يؤكد "قسطنطين زريق" على الصبغة العلمانيّة للقوميّة العربيّة فللقوميّة من منظوره « معنـى وخصائص إذا فقدتها، فقد فقدت جوهرها وفي مقدّمة هذه المعاني علمانيّة الحركة القوميّة وعلمانيّة الدّولة التي يراد إنشاؤها» (زريق، 1985، ص37). ضاعت اللّحظة الحصريّة الزُرَيقيّة في خضم الانتهازيّة الفكريّة لبعض تيارات القوميّة العربيّة التي لم تكتف بأسلمة نظريّة القوميّة بل أصبحت من نقاد دعاة القوميّة العلمانيّة، باعتبارها نظريّة غربيّة مستوردة لا تناسب الواقع الغربي الإسلامي (عفلق، نفسه، ص131)، ولم يكن هذا التسرّب الإيديولوجي الذي نجحت فيه الحركات الإسلاميّة إلاّ مرحلة أولى ضروريّة لضرب التيارات الفكريّة العلمانيّة رغم تأكيدات دعاة التحالف مع الحركات الإسلاميّة على قدرتهم على استيعاب وتهذيب هذه الحركات قياسًا علـى الأحـزاب الديمقراطيّة المسيحيّة في الغرب إذ يؤكد العَظْمَة على أنّ « محصلة للقاء الإسلامي القومي، إن تـم، لا يمكن أن تكون في ضـوء ميـزان القـوى الحالي، إلاّ تسويغ المواقف، والسّياسات الإسلاميّة بمفردات سياسية واجتماعية حداثية يُموه بها على حقيقـة هـذه المواقف ويمرّرها لدى أوساط متمايزة عن الإسلاميين» (العظمة، 1991، ص26) فالطّرف الأقوى هو الأقدر على فرض تأويله الخاص لمقولات الطرف أو الأطراف التي حالفته، ولمّا كان الطرف الأقوى في ظل موازين القوى الحالية هم الإسلاميون فسيصار إلى أسلمة مقولات أنصار التحالف مع الإسلاميين من قوميين ولبرالييـن ويتحوّل حوار القوميين مع الإسلاميين إلى تسليم بالمقولات الإسلاميّة، فقد أدى هذا التحالف إلى نتائج كثيرة أهمّها أنّ رفض العلمانيّة والتشنيع عليها والعمل على تشويهها لم يعد مقصورًا على الإسلاميين بل جاوزه إلى تيارات فكريّة هي في الأصل عَلمانيّة، إذ ينطلق دعاة الحركات الإسلامية المسيّسة للدين من فهم مخصوص للتاريخ وسبل تطوّره، فيغدو الإسلام بموجبه مدارًا حصريّا لخصوصيّة المجتمعات العربيّة على أساس أنّ الإسلام هو دين الفطرة أي هو الأصل الذي ترجع إليه كلّ الفروع على اعتبار أنّ المجتمعات في المنطقة العربيّة هي مجتمعات إسلاميّة الهويّة والحال أنّ الإسلام لا يمكن أن يكون هويّة حصريّة لمجتمع من المجتمعات بل هو في أحسن الأحوال عنصر من عناصرها فالإسلام « ليس جوهرًا يحدّد خصوصيّة ثقافيّة واجتماعيّـة وسياسيّة ما [...] الإسلام ليس خصوصيّة مجتمع أو حتى تاريخ، بل هناك مجتمعات وتواريخ اتّسمت بالإسلاميّة » (العظمة، 1990، ص53)، ويؤدي خطاب الخصـوصيّة والفرادة إلى إقصاء العلمانيّة عن الحياة والسّياسة العربيّة بدعوى خروجها عن خصوصيّة الذات الإسلاميّة لانتمائها إلى خارج مطلق على أساس فصل منهجي صارم بين الدّاخل والخارج، بين ما هو إسلامي وما هو غير إسلامي، فتغدو العلمانيّة على نحو ما فسّرنا في الفصل الأوّل من هذا البحث مناسبة لجوهر غير الجوهر الإسلامي لأنّها حلّ مسيحي لظاهرة مسيحيّة فتصبح المسافة بين التأكيد على أنّ الإسلام هو الأصل والزعم بأنّ الإسلام هو الحلّ والدّعوة إلى التخلي عن العلمانيّة خيارًا سياسيًا واجتماعيًا وثقافيّا غير بعيدة. وعلى هذا النحو تهجّن كثير من المفاهيم بالتحالف الفكري مع الإسلاميين إذ يصار إلى ردّها إلى أصول إسلاميّة فتتحوّل « الدّيمقراطية والعقلانيّة بذلك إلى مجرّد مناسبات لتأكيد الاستمراريّة التاريخيّة والادعاء الإسلامي الشامل للتاريـخ والمجتمـع، وإدغام نتائج التاريخ الحديث في سجلّ التسميـة الإسلاميّة» (العظمة، 1992، ص311)، تحت عنوان " أسلمة المعرفة " الذي يصار فيها إلى« إرداف النعت الإسلاميّ بمجالات شتى من الحياة لا يتبادر إلى العقل السّليم إطلاق الصّفة الإسلاميّة عليها: من الاشتراكيّة الإسلاميّة أو اشتراكيّة الإسلام إلى المجتمع الإسلامي إلى الدّولة الإسلاميّة مرورًا بالطبّ الإسلامي والاقتصاد الإسلامي » (العظمة، 1996، ص53) أسلمة المعرفة التي يروم دعاتها الإيهام بدينيّة واقع العـرب (العظمة، نفسه، ص31).

إنّ تحالف فريق من القوميين واللّبراليين مع المرجعيّة الدّينيّة الإسلاميّة كان نتيجة لما بدا على بعض الحركـات الإسلاميّـة من اعتـدال إيديولوجـيّ وتنديد بالعنف والإرهاب كوسائل للتغيير الاجتماعي السّياسي، وقبول بجملة المكاسب التي حقّقتها المجتمعات العربيّة في مسيرتها التاريخيّة الجديدة، على نحو ما حدث في تونس لمّا أعلنت حركة "الاتجاه الإسلامي" عن قبولها بالمسار الدّيمقراطي منهجًا للعمل السّياسيّ، وتخلي حركة "الإخوان المسلمين" في مصر عن جناحها السّري وانتقالها إلى العمل السّياسيّ الديمقراطي الذي تضمنه مؤسّسات الدّولة، لكن العَظْمَة يؤكد في نفس الوقت على أنّه يوجد « بين السّياسيين من الإسلاميين، وبين الحركيين والإرهابيين منهم، رابط أساسي هو هدف إقامة سلطة إسلاميّة وبرنامج اجتماعي مشترك، وليس في وجود الإرهابيين، إلاّ ما يجعل من السّياسيين أصحاب وجه معتدل وما يضفي عليهم صفة "تمثيليّة" على أساس من موقف وسطي يدّعونه» (العظمة، 1995، ص22). ويبدو واضحًا أنّ العَظْمَة لا يرى موجبًا للتمييز بين الحركيين والسّياسيين من الإسلاميين فكلاهما يبشّر بمشروع كلياني Totalitaireمتصلّب تخضع فيه كلّ جزئيات الواقع لمقتضيات الإيديولوجيا مهما كان هذا الواقع مغايرًا لها. يصرّ العَظْمَة في مختلف مؤلفاته على المخاطر المستقبليّة للتحالف مع المرجعيّة الدّينيّة، فينقد مفهوم الدّيمقراطيّة الذي خوّل لبعض الحركات الدّينيّة شرعيّة العمل السّياسي وأكسبها صفة قانونيّة كهيئة تنافس بقيّة الأحزاب على الحكم، فالدّيمقراطيّة مـن وجهـة نظـره « نصاب سياسيّ يقوم على المواطنية، والمواطنيّة لا تقبل الانتقاص ولا الحصر، بـل هـي ملك للجميـع » (العظمة، نفسه، ص16) سواء كان هذا الانتقاص باسم الدين أو العرق أو اللّغة، فرغم نص معظم دساتير الدّول العربيّة على حريّة المعتقد ومبدأ المواطنة كأساس للانتماء نجدها تسمح في غفلة عن نوايا الحركات الإسلاميّة بتأسيس أحزاب سياسيّة دينيّة وهذا ما يشكل تحدّيًا لحرّية المعتقد ومبدأ المواطنة، ويميز العَظْمَة في إطار تحليله للممارسة الدّيمقراطيّة العربيّة بين ثلاثة خطابات مختلفة، أوّلها خطاب الدّولة الذي تضطلع الدّولة بموجبه بمهمّة تهيئة المجتمع لتقبّل التعدّديّة السّياسيّة فتتبوأ مركز العمليّة السّياسيّة في المجتمع، وثانيهما خطاب يسميه العَظْمَة بالطلسمي ويقوم على نقد قصور الخطاب الدّيمقراطي الذي تمثله الدّولة لما فيه من قتل للممارسة الدّيمقراطيّة ويرى دعاة هذا الخطاب في تطبيق الدّيمقراطية الصرفة والكاملة الحلّ لكلّ المشاكل العربيّة بكلّ ما يعنيه ذلك من تخـلّ للدّولة عـن محـور العمـل السّياسي والتغيير الاجتمــاعي والتحديث الفكري الذي قامت على أساسه منذ حقبة التنظيمات فالدّولة في هذه المواجهـــة بالذات وعلى علاّتها الكثيرة كما يشيـر عزيز العَظْمَـة « ما زالت هي حاملة مسؤولية العمل التاريخي العربـي وقاعدتـه ورافعته» (العظمة، 1995، ص14)، وثالثها الخطـاب الصـادر عن الحركـات الإسلاميّة التي تبنت العمل السّياسيّ، ويقوم هذا الخطاب على ملاحظة انفصـال الدّولـة عن المجتمـع ويترتب عـن ذلك القـول بضـرورة عـلاج هذا الخلل « ويتلخص في إعادة لحمة التطابق بين الاثنين من أجل درء اغتراب الدّولة» (العظمة، 1996، ص81) عن أصلها المزعوم: المجتمع، رغم اختلاف نصاب المجتمع عن نصاب الدّولة، فتصبح مهمّة الدّولة الأساسية التطابق مع طبيعة المجتمعات وخصوصياتها. وهذا هو مناط الدّولة الشُعْبَويَة التي قامت الدّولة الحديثة على أنقاضها، وما هذا الخطاب إلاّ مدخل لإقامة الدّولة الإسلاميّة التي يجب أن تكون انعكاسًا مباشرًا لخصوصية رأينا أنّها إسلاميّة، فتشرّع الحركات الإسلاميّة لنفسها وتقدّم نفسها ممثلة لكلّ قوى المجتمع وتبشّر بالدّولة الإسلاميّة/الدّينيّة بديلاً عن الدّولة الحديثة ذات المرجعيّة العلمانيّة.

خاتمة

في حين سعت الدّولة الوطنيّة إلى تحديث المجتمع ببث ثقافة تقدّميّة حديثة علمانيّة المرجع، مارس المجتمع بقيادة دعاة المرجعيّة الدّينيّة عمليّة الشّد إلى الوراء فكانت الدّولة منفصلة في كثير من فعالياتها عن تطلّعات المجتمع المرتهن للمرجعيّة الدّينيّة، مرجعيّة رأت في المحافظة على البنى الذهنيّة القائمة الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تضمن لها الاستمراريـة في محيـط تميّز بسرعـة التغييـرات وشمولها. كانـت الدّولة الوطنيّة في كثير من الأحوال الفاعلـة الوحيدة في تحديث المجتمعات العربيّة وتركيز أسس الدّولة الحديثة بالقضاء على الهياكل السّياسية التقليديّة في اتجاه تركيز أسس جديدة للانتماء السّياسي تتجاوز الانتماءات الدينيّة والولاءات الطائفيّة. ولئن سعـت دولـة التنظيمات والدّولة اللّيبراليّة والدّولة الوطنيّة إلى تحديث النظم التقليديّة الخاضعة لوصاية المرجعيّة الدّينيّة، بتصفية المرتكزات الاقتصاديّة لدعاة المرجعيّة الدّينيّة، وبثقافة علمانيّة المرجع، وتحديث المؤسّسات التقليديّة، وتركيز أسس الدّولة الحديثة، ولئن نجحت الدّولة إلى حدّ في زحزحة النظام القديم وإزاحة المؤسّسة الدينيّة عـن مركز الحياة والمجتمع والسّياسيّة، فإنّها فشلت في إحداث حراك اجتماعي وثقافي حقيقي حامل للإيديولوجيا العلمانيّة ومدافع عنها، فلم تغص جملة الاختراقات التي أنتجتها الدّولة عميقًا في نظام القيم الاجتماعيّة، فبقيت القيم التي تبنتها الدّولة ودافعت عنها قيمًا فوقيّة هشّة، لأنّ المجتمع لم يشارك مشاركة فعالة في صياغة البديل الثقافي للنظام القديم .

عملت الدّولة الليّبراليّة على تعميق الاختراقات التي أنجزتها دولة التنظيمات فتجاوزت مستوى الإصلاح، واتخذت لنفسها منهج التثوير المنهجي للبنى التقليديّة بتحجيم فئة رجال الدّين وإخضاعهم للدّولة التي غـدت متحكمـة في مضمـون الخـطاب الدّيني وموجهة له بحسب مصالحها السّياسيّة، وبعلمنة النظم التعليميّة والتضييق على التعليم الدّيني، وبعلمنة القضاء بخلق نظم قضائية علمانيّة موازية لنظم القضاء الدّينيّة، لكنّ جملة إنجازات الدّولة الليّبراليّة بقيت كنظيرتها التنظيميّة فاقدة للسند الشعبي الذي كان يرى في علمنة النظم التعليميّة والقضائيّة تحديًا لهويّته العربيّة الإسلاميّة، فرضها عليه كيان المستعمر الكافر الذي يروم القضاء على أسمى ما في المجتمعات العربيّة من قيم : الإسلام.

لم تكن النخب السياسيّة التي قادت الدّولة الوطنيّة الاستقلاليّـة فـي المنطقـة العربيّة بمنأى عن التحوّلات الفكريـة والسّياسيّـة والقانونيّـة والثقافيّة التي خضعت لها "المجتمعات العربيّة" منذ بداية القرن التاسع عشر، فقد كانت الدّولة - في غياب السّند الاجتماعي - حاملة لشعار الحداثة التي غدت منقطعة عن المرجعيّة الدّينيّة، فانطلقت النخب السّياسيّة الحاكمة في تدعيم وتأصيل المؤسّسات العلمانيّة التي ورثتها عن دولة التنظيمات والدّولة اللّيبراليّة، وفي السير قدمًا بمسار العلمنة في اتجاه ترسيخ العلمانيّة في نظام القيم الاجتماعية، لكنّ بعض الدول الوطنيّة بدأت تتخلى عن المنحى الطّلائعي التوجيهي الذي وسمت به منذ حقبة التنظيمـات بتأثير جملـة من العوامـل الدّاخليّة والخارجيّة الضاغطة التي دفعتها إلى إخلاء مواقع وتقديم تنازلات مجانية إلى ممثلي المرجعيّة الدّينيّة في العصر الحديث "دعـاة الإسـلام السّياسيّ" الذين استغلّـوا فشل المشروعات الوطنيّة للتبشير بالحلّ الإسلامي والدّولة الإسلاميّة، بكلّ ما يعنيه ذلك من تنازل عن جملة المكاسب التاريخيّة التي حققتها المجتمعات العربيّة منذ ما يزيد عن قرن ونصف القرن على جزئيتها. لقد انساقت بعض الدّول الوطنيّة في سياق المزايدة على مطالب الحركات الإسلاميّة فتخلّت عن طلائعيّتها لتبث خطابًا شُعبويًّا رجعيّا هدفه استمالة الإسلاميين، للاستفادة من قاعدتهم الشعبيّة في ضرب الخصوم السّياسيين، فاكتسبت الحركـات الإسلاميّة المسيّسة للدين حقّ الوجود السّياسيّ ككيان منافس للدّولة، وتزايدت قدراتها التنظيميّة بل إنّ أجنحتهـا السّريّـة الموازية لم تتردّد في استعمـال العنف ضدّ المجتمع والدّولة في اتجاه إلزام كليهما بمشروعها الكلياني، بل إنّ بعض التيارات الفكريّـة اللادينيّـة غدت متفهمة ومتمثلة للمرجعيّة الدّينيّة. ممّا زاد في قوّة الحركات الإسلاميّة المسيّسة للدين وإضعاف كيان الدّولة. وساهمت كلّ هذه العوامل مجتمعة في انحسار مشروع علمنة المجتمعات العربيّة.

للاطلاع على البحث كاملا المرجو الضغط هنا

قائمة المراجع العربيّة:

- البنا (حسن) مذكرات الدّعوة والدّاعية، ط 2، 1966.

- الحصري(أبو خلدون ساطع) ما هي القوميّة ؟: أبحاث ودراسات على ضوء الأحداث والنظريات، ط 2، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ـ 1985

- زريق(قسطنطين) نحن والتاريخ، ط 6، بيروت، دار العلم للملايين، 1985.

- سيف الدّولة(عصمت) عن العروبة والإسلام، ط 1، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1986.

- شكري(غالي) أقنعة الإرهاب: البحث عن علمانيّة جديدة، ط1،دار الفكر للدراسات والنشر،1990.

- شكري(غالي) الثورة المضادة في مصر، الدار العربية للكتاب، 1983.

- عبد الفتاح(نبيل) المصحف والسيف: صراع الدين والدّولة في مصر، القاهرة، مكتبة مدبولي، [د.ت].

- العظمة(عزيز) العلمانيّة من منظور مختلف، بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1992.

- العظمة(عزيز) دنيا الدين في حاضر العرب، ط1، بيروت، دار الطّليعة، 1996.

- العظمة(عزيز) التراث بين السلطان والتاريخ، بيروت، دار الطليعة، الدار البيضاء،عيون المقالات 1990.

- العظمة(عزيز) العنف الأصولي: مواجهات السيف والقلم، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1995.

- عفلق(ميشيل) في سبيل البعث، ط2، بيروت، دار الطّليعة للطّباعة والنشر، 1978.

- عمامي(عبد اللّه) تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي: أنموذج النهضة، ط 1، تونس، الدّار التونسيّة للكتاب، 1992.

- فودة(فرح) حوار حول العَلمانيّة، ط 2، مراكش، دار تينمل للطباعة والنشر، 1992.

- لبيب(الطاهر) الانتلجنسيا العربيّة، ط 1، تونس، الدّار التونسيّة للنسر والتوزيع، 1990.

قائمة المقالات بالّلغة العربيّة:

- مجلّة دراسات عربيّة: نوفمبر1977.

قائمة المراجع باللّغة الفرنسيّة:

-Carré (olivier) Michaud (gérard) Les Frères Musulmans, Paris, éditions Gallimard/Julliard, 1983.

-Lamchichi (Abderrahim) Islam et contestation au Maghreb, Paris, l’harmattan, 1989

الهوامش

[1]- ينصّ الدّستور المصـري الصادر في 11 سبتمبر 1971، والدّستــور الكويتي الصادر في 11 نوفمبر 1962، ودستور الإمارات العربيّة المتّحدة الصادر في 2 ديسمبر 1971، والدّستور السّوري على أنّ الشريعة مصدر أساسي من مصادر التشريع.

[2]- شهدت مصر سنة 1977 أحداثا دامية نتجت عن الأزمة الاقتصادية وما صاحبها من ارتفاع في الأسعار.