صورة اليهود في الأمثال الشعبية المغربية


فئة :  مقالات

صورة اليهود في الأمثال الشعبية المغربية

صورة اليهود في الأمثال الشعبية المغربية؛

دليل التعايش والانتماء

رشيد الجانبي

مقدمة:

تتميز جغرافية الثقافة الشعبية المغربية بتعدد منابعها الثقافية؛ مما أدى إلى تشكل هوية مغربية انصهرت فيها مكونات مختلفة تعاقبت مع الزمن، وتوحدت داخل التعدد.

ويمثل المكون العبري عنصرا لا يقل أهمية عن باقي مكونات الهوية المغربية.

ولما كانت الأمثال الشعبية مرآة تعكس روح الأمة، وتلخص فلسفاتها، ومنبعا صافيا تستشف منه تجاربها وعصارة حياتها، فما أحوجنا إلى أن نعود إليها في محاولة للكشف عن طبيعة العلاقات القائمة بين مختلف مكونات الهوية المغربية وخاصة المكون العبري.

المكون العبري داخل الهوية المغربية

جاء في ديباجة الدستور المغربي أن ((المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية))[1].

فهوية المملكة المغربية حسب الدستور تتأسس على عناصر متنوعة من بينها العنصر العبري؛ في إشارة إلى المواطنين اليهود المغاربة الذين يرجع تاريخ تواجدهم بالمغرب إلى ماض سحيق. ويعدّ اليهود تاريخيا أول مجموعة غير أمازيغية وفدت على المغرب؛ ولا تزال تعيش فيه إلى يومنا هذا[2]، فالعنصر اليهودي مكون أساسي من مكونات الهوية المغربية إلى جانب باقي المكونات، وهو وليد تربة المغرب، حيث نشأ وترعرع، وعاش حوالي ألفي سنة[3]، فتربّى وتفاعل مع المحيط في ظل التقارب اللغوي وتشابه التكوين العقلي، وهم مغاربة أصليون أبا عن جد، يقول أحمد شحلان: "ما كان يهود المغرب في أصولهم إلا مغاربة أقحاحا رفضوا في قديم العهود الوثنية؛ واعتنقوا التوحيد الموسوي لما بلغتهم الرسالة"[4]، كما أن المؤرخ العربي الشهير عبد الرحمن ابن خلدون يعتقد أن جزءا من أمازيغ شمال أفريقيا كانوا يهودا؛ إذا فالمغاربة اليهود طائفة كبيرة ومؤثرة، وإذا كان العديد منهم قد هاجروا لأسباب مختلفة، فلازالت منهم طائفة حافظت على وجودها بالمملكة وأسندت ظهرها إلى إرث ثقافي وديني امتد لقرون؛ تعايشت خلالها اليهودية مع الإسلام المتسامح والمهيمن في المغرب، كما أن عددا كبيرا من اليهود المغاربة المهاجرين لا يزالون يحرصون على القيام بزيارات منتظمة إلى المملكة خاصة في بعض المناسبات كـ"عيد هيلولا"[5]؛ ورغم جنسياتهم المختلفة، لازالت ذاكرتهم مطبوعة بأصولهم المغربية، وقلوبهم متشبعة بالهوية المغربية دون أن يفرض عليهم أحد ذلك.

1/ الأمثال الشعبية ودورها في فهم العلاقات بين اليهود وباقي مكونات الهوية المغربية:

يختلف الناس في تسمية المثل الشعبي؛ فمنهم من يسميه المثل الشعبي، ومنهم من ينعته بالمثل العامي أو المثل الدارج، وغيرها من المسميات التي تؤدي إلى نفس المعنى.

ويعرف مروان عبود المثل العامي أو الشعبي بقوله: "المثل هو أدب الشعب وعنوان ثقافته، والدليل على عقلية الأمة الخام، وأخلاقها الأولية، ونتيجة اختباراتها في الحياة"[6]، وهو من أهم عناصر الثقافة الشعبية نظرا لقدرته على التعبير عن طبيعة الناس ومعتقداتهم؛ فهو لا يصور الوقائع والمواقف والحوادث الحياتية فقط، بل يتجاوز كل ذلك ليقدم النموذج الواجب الاقتداء به في مواقف عديدة، وكأنه نتيجة عملية مجربة تعبر عن الخبرة والتجربة العميقة.

وأهم ما يميز المثل الشعبي أنه يمكنك من دراسة خبرات كل شرائح الشعب، فلا يقتصر الدارس على فئة معينة دون أخرى، ولا أحد يناقش في مصداقية المثل؛ لأنه فرض نفسه في حياة الناس فصاروا يردّدونه، كلما وجدوا أنفسهم في موقف مماثل لموضوع المثل؛ لذلك، فالأمثال المغربية لم تنكر وجود العنصر اليهودي في طيات مواضيعها، بل نجده في عدد كبير من الأمثال؛ التي تكشف مواضيعها المتنوعة عن غنى العلاقات بين اليهودي المغربي وباقي المواطنين، العربي أو الحساني أو الأمازيغي أو الصحراوي، فهو معهم في مرتبة واحدة.

لذلك، لابد من الرجوع للأمثال لفهم العلاقات بين اليهود، وباقي مكونات الهوية المغربية نظرا لما تتمتع به من بنية لغوية مختزلة؛ تجعلها تتميز بوظيفة تفسيرية قوية تستمدها من قوتها الدلالية، لدرجة أن ابن عبد ربه نعتها بأرقى النعوت وأسماها، فهي عنده: "وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلي المعاني، والتي تخيرتها العرب ونطق بها في كل زمان وعلى كـل لسان، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها ولا عم عمـومها حتى قيـل: أسير من مثل"[7].

2/ اليهود في الأمثال الشعبية المغربية بين الرفض والقبول:

بعد تصفح مجموعة من الأمثال الشعبية المتعلقة باليهود، وجدنا أنها تعكس غنى العلاقات التي جمعت اليهود بإخوانهم من باقي المكونات، وهذه العلاقات تأخذ عموما اتجاهين متعارضين؛ اتجاه عبارة عن صور نمطية جاهزة تنطوي على التهميش والرفض والاحتقار؛ واتجاه آخر قوامه التعايش والجوار، وهذا التناقض لا ينطبق فقط على العنصر العبري، بل نجده حاضرا في الأمثال الشعبية التي تطرقت لباقي مكونات الهوية المغربية؛ لأنه بكل بساطة يعكس طبيعة العلاقات الإنسانية داخل أيّ مجتمع؛ فحيثما يكون التآلف والتجاور تجد الاختلاف والتنافر، يقول مأمون المريني تعليقا على هذا التعارض: "لا نريد من هذه المقاربة أن تفضي إلى أن اليهود -من خلال الأمثال الشعبية- قد قضوا في المغرب ولا يزالون شهر عسل دائم، ولا نريد أيضا أن نسم هذه العشرة بطابع الإقصاء والرفض والاحتقار؛ لأنه بالإمكان إيراد ما يكفي من الأمثلة والشواهد والشهادات على صحة الوضعين والحكمين معا، وهما -من الأكيد- بعيدين أشد ما يكون البعد عن الحقيقة والصواب. والحال أن النظرة والموقف يختلفان حسب موقع التعامل، تجاريا كان أو اجتماعيا أو دينيا. وما البحث عن هذه الحال إلا عبر مثل هذا الغوص في الذاكرة الشعبية، والاستعانة بما يفيد من علوم ومناهج أخرى، ويعين على نبش الذاكرة والاقتراب من حقيقة هذا التعايش الذي تتناقض فيه الآراء والمواقف حسب منطلقاتها السياسية والدينية والثقافية."[8]

ونحن في هذا المقال، لانريد تكرار ماجاء من أمثال في تهميش واحتقار اليهود؛ لأن هذا الاتجاه لم ينل من اليهود المغاربة فقط؛ وإنما طال يهود العالم أجمع، يقول الأستاذ محمد دخاي عن أمثال هذا الاتجاه: "هو جزء، من رؤية عامة تعمل على شيطنة المكون اليهودي بالكامل في الثقافة العربية، بل وفي الثقافة العالمية. ففي قصص التراث الديني يتم استحضار اليهود كنموذج للقتل، وفي الأدب كنموذج للجشع وحبّ المال؛ وذلك من خلال شخصية “شايلوك” في “تاجر البندقية” لشكسبير ومربي اللصوص “فاجن” الذي يجمع الشيطانية والشر في “أوليفر تويست” لتشارلز ديكنز، وكذلك في أول رواية ظهرت في فلسطين “الوارث” لخليل بيدس 1920، وتبدو فيها شخصية اليهودي انتهازية جشعة متكالبة على المال. وفي “زقاق المدق” لنجيب محفوظ (1947) يأتي وصف اليهوديات على لسان حميدة بأنهن متحللات من العادات والأعراف والتقاليد. ولا تختلف الصورة عند إحسان عبدالقدوس في رواية «لا تتركوني هنا وحدي» (1979) ففيها المرأة اليهودية التي تضحّي بكلّ شيء في سبيل المال، بينما تستحضر رواية «دم لفطير صهيون» (1971) لنجيب الكيلاني اليهودي على أنه المحتقر للآخرين والمستبيح دمهم، ونموذجا للخيانة والإرهاب والجبن والنفاق في رواية «أحمد وداود» (1986) لفتحي غانم"[9].

من جهة أخرى، فهذا الاتجاه النمطي الرافض لليهود؛ والذي همشهم ونعتهم بأقبح النعوت، لا يستطيع أبدا أن ينفي وجود التسامح وتقبل الآخر؛ والاعتراف بفضله تاريخيا واجتماعيا واقتصاديا، لذلك نريد في هذا المقال أن ننبش في أمثال الاتجاه الآخرالقابل لليهود، والذي ينبني على صور حقيقية من تعايش اليهود مع إخوانهم المغاربة المسلمين؛ وعززته شهادات كثيرة لمسلمين جاوروا اليهود جنبا إلى جنب، واقتسموا معهم الأفراح والأحزان لسنوات طويلة. هذه الأمثال التي عبرت بصدق وواقعية عن صور من التعايش، والتقارب، والانصهار، ضمن ثقافة واحدة هي الثقافة المغربية؛ في حين احتفظ كل عنصر لنفسه بحرية القيام بالشعائر الدينية.

و من خلال استقراء عدد كبير من الأمثال التي وردت في كتب مختلفة، وجدنا أمثالا كثيرة تعبر عن عيش اليهود جنبا إلى جنب مع باقي المكونات في سلام وأمان وتعاون، كما أنها في مجملها مشتركة بين اليهودي والمسلم لغة ومغزى بسبب الاشتراك الطبيعي في المنبت حسب تعبير أحمد شحلان[10]، وتعطينا دليلا على حسن الجوار والتعايش بين اليهود وغيرهم من المواطنين.

وفيما يلي، اخترنا للقارئ الكريم باقة من الأمثال، وسيكتشف بنفسه مدى تداخل وغنى العلاقات التي جمعت اليهودي بباقي مكونات التربة المغربية.

*- الإشادة بجمال اليهوديات:

  • الزين في أولاد ليهود الرطوبة والقدود[11].

يشير هذا المثل إلى سمة من سمات أبناء اليهود، وهي الجمال والحسن، وإذا كانت هذه السمة نابعة من قناعة المغاربة، وصارت متداولة حتى تركزت في المثل الشعبي؛ فهذا دليل على التعايش والتقارب بين اليهود وباقي المكونات. وفي تعليق على اعتراف الأمثال الشعبية المغربية بحسن وجمال اليهود، يقول السعيد بنفرحي: "إن أمثال الحسن والجمال تشهد على التساكن الحق والتجاور السليم اللذين كانا بين اليهود والنصارى والمسلمين"[12].

  • زينها ما هو عند النصارى ولا اليهود[13].

يذكر هذا المثل في موضع الإشادة بجمال المرأة الفائق الذي يفوق جمال اليهوديات والنصرانيات رغم اتصافهن بالحسن.

  • عندها ساك/ق عجمية أوسالف يهودية[14].

هذا المثل يشير إلى أن جمال المرأة يكتمل إذا اتحد العنصران النصراني واليهودي، واجتمعا في جسم واحد. وهذا مؤشر آخر على تعايش المغاربة من مختلف الأديان، كما أن هذا المثل يفصل في مواصفات الجمال وعلاماته، فاليهوديات اشتهرن بالسالف أي الشعر الطويل المنسدل على الظهر، أما الأعجيمات -و المقصود بهن غير اليهوديات من النصرانيات ومن سواهن- فاشتهرن بالسيقان الطويلة الممشوقة التي تعتبر من علامات الجمال الشهيرة.

*- النشاط المهني والتجاري لليهود المغاربة

قسم حاييم الزعفراني في الجزء الأول من كتابه يهود الأندلس والمغرب المهن التي كان يشتغل بها اليهود إلى ثلاثة أقسام: التجارة، والفلاحة، والحرف المتنوعة، وذكر أنهم كانوا يكونون جزءا مهما من السكان النشيطين[15]. ونجد في الأمثال الشعبية حرفا كثيرة لليهود تشير إلى اندماجهم وتعايشهم في المجتمع، وتشكل دليلا على إسهاماتهم في تطوير وتجويد الفنون اليدوية المغربية، ومدى حضورها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، فاليهود تعلقوا بالتجارة ومارسوا مختلف المهن والحرف اليدوية التي كانت تنتشر في الأرياف والأسواق والمدن، واحتكروا بعضها وأبدعوا في أخرى كالحياكة، وخياطة ملابس النساء والأفرشة، وتجارة التوابل، والصرافة والحلي، والعطارة، كما شغلوا مهنا أقل مستوى تهتم في أغلبها بمهام البيت وحاجاته؛ لذلك لا يمكن تصور سوق تجاري بلا يهود لدرجة أنه قيل في المثل الشعبي:

  • سوق بلا يهود مثل الخبز بلا ملح.

نجد المثل الشعبي ينصح كل من يريد أن يفتح دكانا للتجارة أن يعاشر اليهود والنصارى نظرا لما اشتهروا به في المخيال الشعبي من صدق في المعاملة قائلا:

  • إلا فتحتي حانوت للتجارة، اعمل مع اليهود أو النصارى[16].

وأيضا لما تميزوا به من مهارة؛ حتى صار المغربي يوصي ابنه قائلا:

  • خوذ الصنعة والحرفة من اليهود والشرفة.[17]

واليهود أيضا كانوا لا يستصغرون القيام بأي عمل مادام يذر دخلا، وإن كان ضئيلا، فلم يكن الكسل يثنيهم عن الاشتغال مهما كان الأجر، لذلك كان اليهودي مشتهرا بأنه:

  • حاجة بفلس اليهودي يقضيها[18].

أي إنه يقضي حاجات الناس ولو بفلس، والفلس هو فئة من فئات العملات المالية ذات القيمة الصغيرة، التي قد لا يرضى الكثيرون تقاضيها كأجر؛ لكن اليهود اشتهروا بالعمل مهما كان الأجر، وهذا ما جعل تواجدهم في الأسواق ضروريا مما يفسر تشبيه غيابهم عن السوق بغياب الملح عن الطعام كما جاء في المثل السابق الذكر "سوق بلا يهود مثل الخبز بلا ملح".

ويشير المثل التالي إلى مهنتين مهمتين من مهن اليهود؛ وهي خياطة المضارب أي أفرشة البيت، وصياغة الذهب، فالأب الخياط يدفع ابنه إلى ممارسة مهنة أفضل من مهنته خلافا للمثل الشائع "صنعة بوك، لا يغلبوك":

  • خياط المضارب يهودي ومول الذهب هو ولدو[19].

كما يحذره إذا تعامل مع يهودي أن ينتبه لدهائه وشطارته في البيع والشراء، ويسدي إليه هذه النصيحة الغالية:

  • إلا شفتي اليهودي كيقبح في السلعة عرفو غادي يشريها[20].

وهذا التحذير لا يفهم بمعنى الكره، والتباغض بين المسلمين واليهود ؛ وإنما هو نوع من الاحتكاك اليومي في التعامل؛ والذي يفرض الحذر والاحتياط بين الناس؛ والدليل على ذلك أننا نجد أمثالا تقدح في الأمازيغ؛ أو في سكان مدينة من المدن، ونسوق كمثال على ذلك المثلين الشعبيين التاليين:

وفي مثل آخر يقتفي المواطن المغربي أثر اليهودي في اختيار مجالات الكسب والرغد، فاليهود لم يكونوا يمتهنون بعض المهن المنهكة القليلة الدخل كالبناء والفلاحة، بل كانوا يهتمون بالتجارة وصناعة المعادن النفيسة وسك النقود، حيث كانت يد عاملة يهودية مهمة تشتغل في صياغة المجوهرات[21]، لذلك فالمسلم يدعو ابنه ليحذو حذو اليهودي ويطلب منه أن يكون:

  • بحال اليهودي ما يفلح ما يبني[22].

أي مثل اليهودي العازف عن المهن المتعبة كالفلاحة والبناء؛ لأن تعبها كثير وعائداتها المالية ضئيلة.

كما ورد لفظ اليهودي جنبا إلى جنب مع باقي مكونات الشعب المغربي داخل الأمثال الشعبية؛ مما يدل على امتزاجه وانصهاره داخل النسيج الشعبي المغربي، فيصيب نصيبه من المدح والقدح كباقي المواطنين، ويتضح ذلك جليا في الأمثال الشعبية التالية:

  • إذا شفت الفاسي مشموت عرف السوسي شمتو، إذا شفت السوسي مشموت اعرف اليهودي شمتو، وإذا شفت اليهودي مشموت عرفها من عند الله جاتو[23].

هذا المثل يبين بوضوح منزلة اليهودي المغربي إلى جانب باقي فئات المجتمع كالفاسي -أي المنحذر من فاس-، والسوسي -أي القادم من منطقة سوس الواقعة جنوب المغرب-، فهؤلاء جميعا يمكن أن يفرض عليهم التعامل اليومي الغش أو الخداع، وهذه حال كل البشر.

  • إلا شفتي اليهودي ربح عرف المسلم حداه[24].

مثال آخر يبين أن مصدر ربح اليهود هو المسلمين، وهذا أمر طبيعي فهم يتعاملون يوميا ويتعاونون، وهذه هي الغاية من التعامل وهي الربح وتحقيق العيش الكريم.

  • الجلابة[25] مسلمة واللي لابسها يهودي[26].

يشير هذا المثل إلى جانب آخر من جوانب التعايش، فلباس المغاربة واحد؛ وإن تنوعت دياناتهم ومعتقداتهم.

وفي المثلين التاليين، نجد دليلا آخر على التعدد داخل الهوية المغربية الموحدة؛ فكل طائفة تهتم بعاداتها وتقاليدها، وتنفق ما تشاء كما تشاء بحرية تامة، ونجد أيضا على أن كل عنصريتفهم خصوصيات باقي العناصر؛ مما يؤشر على التماسك والتمازج والتواصل اليومي بين المسلمين واليهود، وهذا التعايش لا ينبع من فراغ، بل هو ثمرة التعاون والاحتكاك الإيجابيين، المستندين إلى التآلف وحسن التجاور، والعمل المشترك في التنمية والتجارة:

  • فلوس النصارى كيمشيو في الضد أو العناد، أو فلوس اليهود كيمشيو فالسبوت أو العياد، أو فلوس - المسلمين فالحج أو الجهاد[27].
  • المسلمين في النوارة، والنصارى في الصنارة أو اليهود[28] في الميعارة[29].

ولا عجب أن يجد اليهود المغاربة المهاجرون في العقود الأخيرة صعوبة في الاندماج في المجتمع الإسرائيلي؛ لأنهم لم يتمكنوا من ممارسة الأعمال والمهن التي اعتادوا عليها في المغرب، فمعظمهم من أصحاب الحرف والمهن اليدوية التي لم تعد إسرائيل في حاجة إليها[30].

ولما كان اليهود يميلون إلى ممارسة المهن المذرة للدخل؛ وأهمها صياغة الحلي الذهبية فقد اتخذ المسلمون من رؤيه اليهودي لبريق الصقلي ولمعانه مثلا في الانجذاب والانسياق وراء المال الذي تدل عليه صفرة الذهب البراقة، وهذا يدل على طموح اليهودي الذي يرغب في الربح الوافر، حيث عبر المثل المغربي عن ذلك بقوله:

  • بحال اليهودي شاف الصقلي[31].

وفي موضع آخر، يشيد المسلمون بطبخ اليهود فهم بارعون في أطباق مغربية كالخليع[32]، لهذا نجد المسلم منبهرا بخليع اليهود قائلا:

  • ما أجود سيدي ميلود في خليع اليهود[33].

وينصح صاحبه بأكل طبيخ اليهود للذته وجودته قائلا:

  • كول ماكلة اليهود أو نعس في فراش النصارى[34]

*- العلاقات اليومية

  • اتعشى عند اليهودي وبات عند النصراني[35].

هذا المثل دليل على تعايش المسلمين مع باقي الطوائف المغربية، لدرجة أنهم فطنوا عاداتهم وتقاليديهم، ولا أدل على ذلك من شهادة أحد اليهود المهاجرين إلى فرنسا، وهو يحكي عن طفولته في المغرب قائلا[36]: "ترعرعت في حي الملاح، أبي كان تاجرا، كنا نتبادل الزيارات أسبوعيا، ويوم السبت المقدس، كان يتولى المسلمون العاملون في الأفران التقليدية الشعبية توصيل الخبز والأكل المطبوخ إلى منازلنا، كما أن الأعياد الوطنية المغربية كانت مناسبة تجمعنا للاحتفال سويا"[37].

وفي نفس السياق، يحث المغاربة بعضهم بعضا على الخلق الصالح وحسن السلوك، وبحسن المعاشرة مع الطائفة اليهودية:

  • سير مع اليهود، وخلي الجيران شهود[38]

كما أن مصاحبة المسلم التي لا طائل تحتها، ولا فائدة ترجى منها أقل شأنا من مصاحبة اليهودي ذي الخبرات المتنوعة التي قد تفيدك في أمور شتى، وهذا ما ينطوي عليه هذا المثل:

  • اصحب اليهودي ينفعك في هذي أوهذي[39].

فالعمل مع اليهود والنصارى أفضل من الكسل والجلوس في البيت:

  • الخدمة مع النصارى ولا لجلاس خسارة.

بالإضافة إلى ذلك، فالمعيار في المعاملة هو الثبات على الشعائر الدينية، فيهودي ملتزم بدينه قائم بتعاليمه أفضل من مسلم مقصر في صلاته:

  • سلم على اليهودي والنصراني أولا تسلم على تارك الصلاة[40]

بل الأكثر من ذلك، إن مبالغة بعض المسلمين في إساءة المعاملة يجعل المسلمين يسخطون عليهم ويشيدون بحسن سلوك اليهود، بل يفضلونهم على باقي المواطنين، وفي الأمثلة التالية ما يدل على ذلك:

  • فين ما مشى اليهودي معقول[41].

أينما حل اليهودي أو ارتحل فهو مستقيم السلوك.

  • يهودي حقيقي أولا مسلم خداع[42].

يهودي ملتزم بتعاليم دينه أفضل من مسلم منافق.

  • اليهودي في البيت أولا راجل خبيث[43].

وجود يهودي طيب في البيت أفضل من وجود مواطن آخر خبيث.

على سبيل الختم

صار المجتمع المغربي كبيرا، وانصهرت داخله الثقافات، وتوطدت العلاقات؛ فأصبح مزيجا واحدا ذابت فيه الخلافات؛ وصارت لا تفرق بين أمازيغي ويهودي؛ ولا بين حساني وعربي، الجميع جسم واحد، متين الروابط الاجتماعية والثقافية، ومرد ذلك بحسب إجماع العديد من الباحثين[44] أن أتباع الديانة اليهودية يشتركون في الكثير من المعتقدات والمفاهيم الدينية مع المسلمين، على الرغم من الاختلاف البين في معانيها وأسسها، الشيء الذي من شأنه أن يخلق أرضية دينية مشتركة بين الجانبين قائمة بالأساس على التوحيد، وعلى العديد من العقائد المشتركة، سواء منها الدينية أو الثقافية أو العادات الاجتماعية النابعة من عهود سحيقة من التجاور والاحتكاك بين الثقافتين العربية الإسلامية واليهودية المغربية، كما أن الأمثال الشعبية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الشعبية تشهد على التعايش الذي عرفه المواطنون المغاربة بشتى أطيافهم، مما يبصم على انتمائهم الأصيل إلى وطن واحد هو المملكة المغربية.

[1] دستور المملكة المغربية 2011 -التصدير-.

[2] حاييم الزعفراني، يهود الأندلس والمغرب، مرجع سابق، الصفحة 25

[3] حاييم الزعفراني، ألف سنة من حياة اليهود بالمغرب، ترجمة أحمد شحلان وعبد الغني أبو العزم، الطبعة الأولى، الدار البيضاء 1987، ص 7

[4] أحمد شحلان، اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى 2009، ص 7

[5] يزور اليهود المغرب كل سنة، من جميع أنحاء العالم، لإحياء يوم هيلولا، وتعني بالعبرية "يوم العيد".

[6] مروان عبود، الشعر العامي أمثال القرية اللبنانية وأغانيها وسهراتها واللغة العامية فيها، الناشر مؤسسة هنداوي سي آي سي 2019، ص10

[7] ابن عبد ربه، العقد الفريد، ص400

[8] مأمون المريني، اليهود في الأمثال المغربية، مجلة فكر ونقد العدد 35، ص 67-71

[9] محمد دخاي، صورة اليهودي في الامثال الشعبية المغربية: مقاربة سيمائية - لسانية، جريدة عالم اليوم بتاريخ 7 يناير 2021، ينظر الموضوع على الرابط: http://www.alampress.info/?p=36733

[10] أحمد شحلان، اليهود المغاربة من منبت الأصول إلى رياح الفرقةـ ص 7

[11] متن المثل المغربي الدارج، جمع وضبط وتحقيق الجمعية المغربية للتراث اللغوي.مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية.مطبعة المعارف الجديدة الرباط. 2011

[12] السعيد بنفرحي، اليهود في الأمثال العربية العامية والفصيحة، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، طبعة 2013، ص 30

[13] أحمد زيادي، الأحاجي الشعبية المغربية مجالاتها وبنياتها ووظائفها ومقارناتها وخصائصها، منشورات وزارة الثقافة، مطبعة المناهل الرباط 2007، ص 62

[14] محمد بن احمد اشماعو، مائة وألف مثل من الأمثال الشعبية المغربية، المجموعة الأولى، اختيار وتصنيف مع الشرح والتعليق، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 1986، ص 78

[15] حاييم الزعفراني يهود الأندلس والمغرب، الجزء الأول، ص 45

[16] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 48

[17] آنسة كحل العيون، أمثال شعبية من المغرب، المطبعة والوراقة الوطنية مراكش 2007، ص 240

[18] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 374

[19] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 405

[20] عبد الحي بنيس، أطيب الأحاجي والأمثال من أفواه النساء والرجال، تقديم خالد الجامعي، دون مطبعة 2009المجلد الأول ص 314

[21] ابن عسكر: دوحة الناشر، تحقيق محمد حجي، الرباط، 1977، ص 77

[22] محمد بن أحمد اشماعو، مائة وألف مثل من الأمثال الشعبية المغربية، المجموعة الثانية، اختيار وتصنيف مع الشرح والتعليق، محمد بن احمد اشماعو، 1986 مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص 119

[23] قصص وأمثال من المغرب، ج 1 الحسين بن علي بن عبد الله، تم طبعه بدعم من وزارة الشؤون الثقافية، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء 1996، ص 40

[24] عبد الحي بنيس، أطيب الأحاجي والأمثال من أفواه النساء والرجال، مرجع سابق، ص 242

[25] الجلابة أصلها الفصي: جِلباب، وهي تعتبر اللباس المغربي التقليدي، الأكثر انتشارا بالمغرب وهو لباس فضفاض مع غطاء للرأس متصل بأكمام طويلة، يلبسه الرجال والنساء. 

[26] هشام المغاري، زين الكلام، دار الآفاق المغربية للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المطبعة طوب بريس الرباط، ط1 2008، ص 77

[27] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، 515

[28] الميعارة هي المقبرة اليهودية.

[29] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 294

[30] أحمد الشحات هيكل، يهود المغرب في الأدب العبري الحديث وأوهام الخلاص الزائف، سلسلة الدراسات الأدبية واللغوية، العدد 21، منشورات مركز الدراسات الشرقية، جامعة القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، ص 80

[31] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، 335

[32] الخليع أكلة تقليدية مغربية يتم تحضيرها عبر تجفيف اللحم بالملح وبأشعة الشمس عدة أيام حتى يجف، ويحتفظ به لمدة طويلة، حيث تتم إضافته إلى عدة أطباق تقليدية ؛ أو أكله على حاله؛ أو مع البيض.

[33] عبد القادر زمامة، الأمثال المغربية دراسات ونصوص، إعداد وتقديم سعيد يقطين، دار القلم للطباعة والنشر، الرباط، 2010، ص 195

[34] محمد داود، الأمثال العامية في تطوان والبلاد العربية، إعداد حسناء داود، إصدارات المجموعة الحضرية بتطوان، مطبعة المهدية، تطوان، 1999 ص 118

[35] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، 699

[36] موقع SkyNews الرابط:

https://www.skynewsarabia.com/varieties/1385241-يهود-المغرب-حنين-دائم-بالمهجر-لوطن-يفارق-الذاكرة

[37] وفاء عماري، باريس، سكاي نيوز عربية، "يهود المغرب.. حنين دائم بالمهجر لوطن لا يفارق الذاكرة".

[38] محمد بن احمد اشماعو، مائة وألف مثل من الأمثال الشعبية المغربية، المجموعة الأولى، اختيار وتصنيف مع الشرح والتعليق، 1986 مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص 55

[39] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 92

[40] هشام المغاري، زين الكلام، مرجع سابق، ص 99

[41] الأمثال العامية في المغرب تدوينها وتوظيفها البيداغوجي، ندوة لجنة التراث التابعة لأكاديمية المملكة المغربية بالمشاركة مع الجمعية المغربية للتراث اللغوي. مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية سلسلة التراث، الرباط 2001، ص 357

[42] هشام المغاري، زين الكلام، مرجع سابق، ص716

[43] متن المثل المغربي الدارج، مرجع سابق، ص 716

[44] سامي الإمام، الفكر العقدي اليهودي، موسوعة الجيب، جامعة الأزهر، قسم اللغة العبرية، ص1