صوفية السحيري بن حتيرة: النص والجسد من منظور تاريخي أنثروبولوجي


فئة :  حوارات

صوفية السحيري بن حتيرة: النص والجسد من منظور تاريخي أنثروبولوجي

حوار مع الدكتورة صوفية السحيري بن حتيرة

 النص والجسد من منظور تاريخي أنثروبولوجي


الدكتورة صوفية السحيري بن حتيرة باحثة في التاريخ الإسلامي الوسيط. تعتبر من أهمّ الباحثين الذين تناولوا بالدرس التصورات الذهنية حول الجسد. وهي التي خصّصت بحثين أكاديميين حول الجسد الأنثوي بإفريقية في العهد الحفصي بمقاربة أنثروبولوجية أو أنثروبولوجية تاريخية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد، من خلال درسها لمدونة شاسعة تتكون من مصادر متنوعة فيها المطبوع وفيها أيضاً الذي مازال مخطوطاً من كتب تاريخ وفتاوى ونوازل وحسبة ومناقب وتصوف ورحلة وطب وأدب جنسي. وهذه المدونة للفترة الحفصية الممتدة من القرن 13م إلى نهاية القرن 15م.

التقينا بالدكتورة صوفية بن حتيرة، وأجرينا معها حواراً مطولاً، تطرقنا فيه إلى تغييب دور المرأة في التاريخ الإسلامي، وإلى الخوف من الجسد في ثقافتنا العربية الإسلامية، وإلى الجسد كمبحث تاريخي كما ذهبت المؤرّخة الجامعية بن حتيرة في تحليلها، مبيّنة تاريخيّة النصّ القرآني.

ماهية التاريخ

نبيل درغوث: نستهل حوارنا بسؤال كيف كُتب التاريخ عبر العصور؟ وهل تختلف هذه الكتابة من شعب إلى آخر؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: التاريخ علم وضعي أرضيّ يتناول فعاليات الأفراد والمجتمعات البشرية في الماضي، ويكمن دور وقوة المؤرخ في إعادة ترتيب وتركيب الأحداث والوقائع التي حصلت في الماضي بصورة أقرب ما يمكن للواقع.

كتابة التاريخ تتغير وتتطوّر لذلك يمكن أن نقول إنّ للتاريخ تاريخاً، مثلاً بالنسبة لكتابة التاريخ الإسلامي (التاريخ الإسلامي الأوّل الناشئ) فإنه اتخذ موضوعاً أساسياً هو حياة النبي محمد، اهتمّ بتسجيل كلّ حدث سواء كان فعلاً أو قولاً (ذلك لتثبيت النموذج - القدوة)، فيكون مجموع الأحداث المعروفة عن حياة الرسول هي "الأخبار"، وجمع الأخبار هي الكلمة الأصلية التي استعملت لتعني التاريخ، أي أنّ الاهتمام الأصلي لعلم التاريخ هو سرد حياة النبي. التاريخ عندهم هو "علم الأخبار والآثار"؛ أخبار وآثار النبي والسلف الأوّل، فكان علم التاريخ تابعاً للعلوم الدينية. مع الملاحظة أنّ لفظ التاريخ لا يوجد لا في القرآن ولا في الحديث ولا فيما عرف من أدب جاهلي. كلمة تاريخ استحدثت لاحقاً، وقد أرجعها أغلب المؤلفين المسلمين إلى أصل فارسي.

أمّا من حيث المنهج التاريخي فقد اتخذ منهج "الإسناد"، أي نقل الخبر أو القول المأثور، ابتدأ من شاهد أو شهود عبر سلسلة أو سلسلات من أشخاص نقلوه وتناوله عنهم آخرون، فتكونت سلسلات النقل أي "أسانيد الخبر".

التاريخ الإسلامي الأوّل هو "تاريخ الحديث" فأوائل المؤرخين كانوا في الآن نفسه رجال حديث. وهذا يعني أنّ ميلاد هذا العلم ارتبط بالحديث الذي اعتبره المسلمون المدشن لتاريخهم، أي "التاريخ - الأمة"، "التاريخ - الحق".

لكنّ التاريخ الإسلامي عرف تحويلاً منهجيّاً أنجزه ابن خلدون، ترتب عنه إخراج وانتزاع علم التاريخ من مجال العلوم الشرعية التي اعتاد المؤرخون والمؤلفون الإسلاميون أن يصنفوه داخلها. فابن خلدون عدّ علم التاريخ من علوم الحكمة أي من علوم الفلسفة "أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعدّ في علومها وخليق".

أخرج علم التاريخ عن دائرة الإيمان والمعتقد ووضع حدّاً نهائياً للإسناد كمنهج لعلم التاريخ فردّ أخبار التاريخ إلى واقع التاريخ، فقوانين التاريخ كما يراها جزء من قوانين العمران والاجتماع الإنساني والعمران جزء من العالم الطبيعي. فابن خلدون الذي وضع أسس أصول علم الاجتماع العقلاني الوضعاني طرق مجال العقلانية في العلوم الإنسانية دون أن يحدث قطيعة مع الدين والإيمان.

أمّا اليوم وبصفة عامة فإنّ العديد من المؤرخين يسعون إلى تقديم مقاربة واقعية للتاريخ تمزج بين مختلف عناصره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، إذ تتعاطى معها كوحدة أو سيرورة مستقلة عن كل ما هو متعال أو مفارق، فالمؤرخ في هذه الحال يبحث عن سرّ الأحداث في الوقائع ذاتها وفي المصالح المتضاربة التي تنبني عليها رهانات سياسية وإيديولوجية.

ووفقا لهذا المنهج المادي للتاريخ المقدس ذاته يصبح علم التّاريخ واقعة أو ظاهرة تاريخية قابلة للفهم والتحليل. لكنّه يبقى في لبّه معرفة حول الإنسان والمجتمع يمسّ في بعض الأحيان رهانات حيوية. كما أنّه كأحد العلوم الإنسانية يبقى علماً لا يتسم بالمصداقية الكافية كعلم الطبيعة أو الدقة والصرامة كالرياضيات، فهو قد لا ينفلت عن التأويلات، ولذلك على المؤرخ اتخاذ المسافة اللازمة مع واقعه، وأن يتّسم بالموضوعية والدقة والنزاهة وبالحذر في تأويلاته، وأن ينزع عن نفسه كلّ فكرة مسبقة أو خلفية إيديولوجية، همّه هو التفهم ومحاولة تفسير الأمور لا الحكم عليها.

نبيل درغوث: أنجزتِ أطروحة دكتوراه حول "الجسد" بمقاربة أنثروبولوجية، إلى أي مدى يفيد المنهج الأنثروبولوجي في دراسة التاريخ العربي-الإسلامي؟ وما هي الأنثروبولوجية التاريخية؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الأنثروبولوجيا، يطلق عليها أيضاً العلوم الإناسية، تبحث في أصل الجنس البشري وتطوره وأعراقه وعاداته ومعتقداته. ولدت الأنثروبولوجيا مع اكتشاف الآخر ومع قبول الإنسان الآخر كشبيه والآخر كمختلف. هي تاريخ وعي الإنسان باختلاف تكوّنه في المدى والزمن. إنّ الدراسات الحقلية للمجتمعات المفارقة بدأت مع ولادة الأنثروبولوجيا التي نشأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ميلادي. ولكن لا يمكن إغفال كتابات شبه أنثروبولوجية من أعمال فلاسفة أو جغرافيين أو علماء تاريخ قدامى أمثال هيرودوت، المسعودي، ابن حوقل، البكري، الإدريسي، ابن بطوطة، وخاصّة البيروني.

فالأنثروبولوجيا التاريخية علم يحلل تاريخ الإنسان الثقافي، ويهدف الى إدراك دقيق للمواضيع وفهم المعاني وفك الرموز، هو علم يكتسي أهمية بالغة لكونه يثري ويفيد العمل التاريخي، حتى لا يختصر التاريخ على تأريخ الأحداث أو تراجم الشخصيات، بل يتجه نحو ما هو أعمق وأشمل نحو التراكيب العميقة والدقيقة التي تهم الإنسان من قريب في تعامله مع أشياء الحياة.

واليوم بصفة عامة فإنّ مستجدات المناهج والدراسات تتداخل في الفكر المعاصر تداخلاً مذهلاً يزيح الحدود عن التصنيفية القديمة وينفي الاختصاص الجاف. فمؤرخو اليوم إلى جانب الوثيقة المكتوبة يعمدون إلى توسيع وتنويع المواد والشواهد التي يقرؤون بها الماضي. فعلم التاريخ اليوم وصل إلى نوع من النضج بتكاثف المعارف التي تصب فيه من اقتصاد وعلم اجتماع وعلم نفس وأنثروبولوجيا وعلم آثار... إلخ. البحث التاريخي اليوم لا يمكن أن يتجاهل هذه العلوم باسم الاختصاص لكي لا تكون دراسة التاريخ بتراء ضيقة الأفق.

الجسد كمبحث تاريخي

نبيل درغوث: أنجزتِ بحثين أكاديميين: الأول في نطاق شهادة التعمق في البحث، والثاني أطروحة دكتوراه حول الجسد الأنثوي بإفريقية في العهد الحفصي. لماذا كلّ هذا الاهتمام بهذا الموضوع؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الفترة الحفصية التي امتدت زمنياً على ثلاثة قرون تقريباً، من أواسط القرن الثاني عشر ميلادي إلى أواخر القرن الخامس عشر ميلادي، هي عبارة عن الرحم الذي حمل وأعطانا حاضرنا، فالكثير من معتقداتنا وتصوراتنا ومواقفنا اليوم من الجسد وتصرفاتنا معه وخاصة مع الجسد الأنثوي ليست إلا تواصلاً لهذا الماضي، فقد وجدنا رواسب هامة جدّاً غير واعية في أعماق الأنا والوعي، وهو ما ورثناه عن هذا الماضي القريب الذي مضى، لكنه طبع بعمق حاضرنا، وذلك من خلال ما استبطنه اللاوعي الفردي والجماعي، إذ لكل جماعة تاريخ مستبطن يزن على السلوكات والذهنيات، وبصفة عامة إنّ الفترة الحفصية أسّست الملامح الحضارية لتونس الحديثة مادياً ومعنوياً.

نبيل درغوث: هل يمكن اعتبار "الجسد" موضوعاً تاريخياً؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: بدأ تاريخ الإنسان على الأرض باكتشاف الجسد، وهذا الاكتشاف لم يأتِ عفواً، بل بعدما أكل آدم وحوّاء من الشجرة المحرّمة (محطمين بذلك أوّل تابو في التاريخ)، أكلا فاكتشفا عرييهما ورأيا أنهما جسدان. أوّل ما عرفاه هو الجسد. ومن هذا الاكتشاف الجميل كان الإنسان. وقبل هذا الاكتشاف لم يكن للإنسان من تاريخ بل كان الوجود سديماً لا زمن له. فالجسد هو فجر التاريخ. ثم إنّ استعمال الجسد هو تعبير وإنتاج ثقافي، فهيئته وأوضاعه وحركاته وثوبه وحليه وطقوسه... هي تعابير مختلفة لمعانٍ هي من معانيه الخاصة أو معاني المجتمع المنعكسة فيه، فهذا البعد الرمزي للجسد يخوّل لنا قراءة الجسد كنص. وفهم لغته يمكّننا من التعرف على مميزات حضارة ما. وطرح تاريخيّ علميّ قد يساعدنا على فهم مكونات شخصيتنا الثقافية في أبعادها المتعددة، فنضعه على بساط الدرس كموضوع له مسائل راهنة. الجسد كمبحث أصبح على مستوى التنظير والممارسة قطباً رئيساً للاهتمامات المعاصرة ومرجعاً ضرورياً يتناول الفرد والمجموعة في كلّ الأبعاد.

الخوف من الجسد

نبيل درغوث: ذهبت في أطروحتك إلى أنّ المجتمع الحفصي (القرن 13م –القرن 15م) أحاط الجسد الأنثوي بكل أنظمة التحريم. لماذا كلّ هذا الخوف من الجسد؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: مسألة الجسد الأنثوي أخذت منّا اهتماماً خاصاً، وذلك لما لها من أثر عميق في المجتمع ولأهمية الرواسب التي خلّفتها. فالجسد الأنثوي سادت حوله في المجتمعات تصورات خاصة حمّلت بدلالات وممارسات نوعية مليئة بالرموز، تشير إلى خلفيات حضارية تعكس مستوى العقليات وتأثير الرصيد الثقافي المتكون من جملة العادات والتقاليد والأعراف الجارية التي تناقلتها الأجيال. فقد اعتبر مصدراً للخطر يهدّد المجتمع ونظامه، وهذا ناتج عن تصوّر معيّن للمرأة يختصرها في جسد باعث على الإغراء والفتنة ومصدر فوضى. هذا الجسد أو هذا الآخر المزعج الذي حمل كلّ مساوئ الوجود وضعه المجتمع تحت المجهر وانتصبت حوله أطواق التحريمات واللعنات والحجب والأكفان. فوقع عزله وإقصاؤه وحجبه، وحدّد الفقهاء تعبيراته وحركاته ومجال تحركاته، وذلك عن طريق آليات العزل والإقصاء المتعددة لاحتوائه وضبطه، وهي مؤسسات تعمل على ترسيخ الهيمنة الذكورية، فكان الخوف من الجسد الأنثوي ممّا جعل المجتمع يبدو مهدّداً باستمرار وفاقداً لحسّ الأمان باستمرار. أمّا المرأة فقد انصهرت في هذه الرؤية وصدّقت أنها أقل درجة أو درجات من الرجل، صدّقت أنها سلبية بطبيعتها وهشة بحكم كونها أنثى، وهو اعتقاد مازال شائعاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.

إنّ المفاهيم السائدة التي تعلقت وعلقت بالجسد الأنثوي في إفريقية العهد الحفصي وبالمرأة بصفة عامة هي عبارة عن ترسبات وتراكمات تاريخية طويلة تمتد جذورها حتى من العصور التي سبقت الإسلام. هذه الثقافة الكابتة مازالت أصداؤها فاعلة فينا متردّدة في أفعالنا لم تتلاشَ تماماً من ذهنياتنا، بل بقيت كامنة ودفينة في اللاوعي الفردي والجماعي، فتحركنا من حيث نشعر ولا نشعر تحريكاً يتفاوت حسب الأفراد وحسب قوة حنينهم إلى هذا الماضي. وهناك اليوم من باسم الوفاء لهذا التراث ينادي بالرجوع لهذا الماضي ويعتبره نموذجاً يريد موافقته والتطابق معه، وكأنه كنز مفقود يريد استرداده في زمن تغيرت فيه الأحوال. وحسب اعتقادنا فإنّ على الباحث ألاّ يكتفي بدراسة الماضي وفهمه، بل لا بدّ من التفكير انطلاقاً منه في قضايا عصرنا. أمام هذا الارتداد الفكري والنكوس النفسي في هذه الفترة الغريبة والمفزعة من تاريخ العالم العربي الإسلامي فإنه على الباحث - حسب اعتقادنا- ألاّ يقتصر على دراسة الماضي وفهمه بل لا بدّ من التفكير انطلاقاً منه في قضايا عصرنا.

نبيل درغوث: ما موقفك من مسألة لباس الحجاب؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: أريد أن أشير أوّلاً إلى أنّ الفقهاء أنفسهم مختلفون حول مسألة لباس الحجاب. أحترم الاختلاف وأحترم حرية اللباس، ولكن هذا لا يمنعني من إبداء رأيي، فلباس الحجاب يشير إلى أمرين كلاهما سلبي:

الأمر الأوّل: الحجاب يكرّس رؤية المرأة لنفسها ولجسدها كعورة وفتنة ويكرّس إحساسها بالدونية وتشبعها بالصورة التي رسمها لها المجتمع الذكوري، وأنها عاجزة عن صون نفسها بدون هذا اللباس.

الأمر الثاني: يشير إلى أنّ الرجل مهما علا أدبه يعتبر خائناً وسارقاً للأعراض، يجب ألا يؤمن شرّه، فيبدو الحجاب كأنه وسيلة لحماية الرجل وليس المرأة، حمايته بطبيعة الحال من نفسه، وهذا في الحقيقة ينتقص من قيمة الرجل كونه إنساناً مسؤولاً قادراً على ضبط غرائزه، وهو ما يميزه عن الحيوانات.

نبيل درغوث: كيف هي علاقة التصوف بالجسد؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الولاية لعبت دوراً هامّاً على صعيد تاريخ الأفكار والعقليات والمؤسسات، وعلى صعيد التاريخ الاجتماعي ككل، وما زلنا نتحسّس آثارها إلى الآن في سلوكيات شرائح واسعة من المجتمع التونسي في علاقته بالمقدّس، ويتجلّى ذلك في مواصلة زيارة الأولياء والتقرب إليهم بواسطة النذور والأدعية والقرابين وخاصة في صفوف النسوة.

في هذا الإطار بحثنا عن علاقة التصوف بالجسد. فالمتداول في كتب الفقه والفلسفة والأدب هو أنّ التصوف ظاهرة روحية تدور حول عالم النفس والقلب والروح، وأنّ الجسد في أيّ تجربة روحية لا يمكن إلا أن يكون غائباً. ولكنّ القراءة المتحرّرة التي لا تستند إلى أيّ سلطة مرجعية سوى سلطة النص الصوفي تكشف عن حضور للجسد. إذ أنّ القداسة (فكرة القداسة هنا بمفهوم الاحترام والإجلال والرهبة) التي يتمتع بها الولي ناتجة عن كفاءات جسدية تتجاوز الكفاءات البشرية العادية، فيحضر الجسد في صورة جسد "مؤله" يتلبس بلبوس الكرامة الصوفية وقدرتها على الإشفاء وخاصة الإشفاء باللمس (اليد الشافية) وغيرها من الكرامات، إضافة إلى قدرتها على تحويل الأشياء.

إنّ جسد الوليّ، هذا الجسد البشري، قد نال قداسته بوظائف إعفائه وبكفاءات جسدية غير طبيعية فوق بشرية. كما يمكن اعتبار هذه الكرامات التي يستمدّ منها جسد الوليّ (حيّاً وميتاً) قداسته يمكن اعتبارها لغة الاستعارة، فكأنها تنتقم للجسد الغائب والمستلب في البنى والعلائق الاجتماعية والثقافية السائدة، فتضخمه وترفعه إلى مستوى "الألوهية"، فيبدو في الصوفية صقلاً للذات وإعادة اعتبار للشخصية الفردية المطموسة في الحضارة العربية الإسلامية حيث لا سلطة إلّا سلطة الجماعة.

تغييب دور المرأة عبر التاريخ الإسلامي

نبيل درغوث: لماذا تغيّب المصادر العربية دور "خديجة" في سندها لمحمد ولرسالته؟ هل هو عملية محو لدور المرأة؟ أم ماذا؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: خديجة بنت خويلد زوجة الرسول الأولى شهدت معه البعث وتقريباً نصف الرسالة في مكة، كان لحياتها مع النبي الأثر الأكبر في تقدّم الدعوة الإسلامية؛ فقد ساندته ووقفت إلى جانبه، ولكن المصادر تغيّب دورها وسندها لمحمد ورسالته، ولعلّ هذا التغييب يعود أولاً وبالذات إلى نوعية المجتمع القرشي فهو مجتمع أبوي ذكوري لا دور للمرأة فيه، ولكن أيضاً ودائماً في ارتباط مع المجتمع الأبوي الذكوري فإنّ المصادر العربية الإسلامية المتوفرة لدينا هي من النوع الرجالي صياغة ومضموناً، فالتاريخ كلّه كُتب من قبل الرجل ومن وجهة نظره وتطابقاً مع مصالحه، وهذا يكرّس التمييز الجنسي المعهود بمعنى تفضيل جنس الرجال في الماهية والكينونة والحقوق الإنسانية. فلعله لهذه الأسباب خديجة (والمرأة بصفة عامة) لها ماضٍ وساهمت في صنع التاريخ إلى جانب الرجل، ولكن ليس لها تاريخ، وحتى إذا قلنا بوجود بعض النسوة المثقفات أو المتعلمات (فخديجة مثلاً يبدو حسب ما يوجد من أخبار أنّها عاشت في محيط مثقف وعلى اطلاع على الأديان وخاصة المسيحية). فإنهن لم تشهدن على أنفسهن كتابة وتوثيقاً فاتسمت لنا صورتهن بالانعكاس.

تاريخية النص القرآني

نبيل درغوث: يقول طه حسين: إن "القرآن" يجب أن يكون مرجعاً أساسياً لفهم الحالة الدينية لعرب الجاهلية. إلى أي مدى يفيد "القرآن" المؤرخ؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: الجاهلية هي الفترة السابقة للإسلام، ودراسة هذه الفترة تعتبر في الحقيقة المقدمة الطبيعية لدراسة التاريخ الإسلامي، فهي تعبّر عن كنهه وأصالته وتميط اللثام عن الكثير من الحقائق، وتضع الدعوة المحمدية في إطارها المجتمعي. والقرآن حوى عدة عناصر مستقاة من محيط العادات والتقاليد الموروثة، كما أنه يعكس ذهنية العصر الذي جاء فيه ونمط التفكير والمعتقدات والمعارف والثقافة ومظاهر عدة من حياة قريش الاجتماعية والاقتصادية والدينية لفترة ما قبل الإسلام. وقد ساهم في ذلك قيام عمر بن الخطاب الخليفة الثاني بوضع تقويم لضبط الزمان التاريخي الإسلامي ـ إذ جعله يبدأ بالهجرة ـ (سعياً لتوحيد الذاكرة التاريخية لهذه الأمّة الناشئة)، هذا كأنه نسخ لكل التواريخ الأخرى وجعل التاريخ العربي كأنه يبدأ من القرن السابع الميلادي أي مع الإسلام، بينما تاريخ العرب قبل الإسلام فترة هامة لكونها ستفرز شعباً كان مهمّشاً داخل فضائه - شبه الجزيرة العربية - (رغم أنّه له هيكلة من جميع النواحي)، شعباً سيلعب دوراً تاريخياً كبيراً في الحضارة الإنسانية.

فالقرآن إلى جانب أنه كتاب سماويّ ودعوة دينية وأخلاقية وميتافيزيقية فهو أيضاً مصدر تاريخي بالغ الأهمية بالنسبة للمؤرخ، وذلك لأنّه من المصادر (القليلة) الدينية الصحيحة التي صوّرت الواقع، ولأنه خلا من ادعاء أي معجزة، والمعجزة مفهوم إيماني بحت لا يمكن أن توجد في الواقع، والبحث التاريخي لا ينطلق إلّا مما يستطيع العقل البشري أن يدركه ويقبض عليه بمفاهيم، فالقرآن منذ البداية كان ملتصقاً بالواقع بحياة النبي ومراحل دعوته ونشرها وبالصراع مع المشركين، كما أنّ القرآن يتضمن عدداً لا بأس به من الإشارات التاريخية المعاصرة والمؤكدة، فبعض الآيات ترتبط بأحداث عامة ومهمة، مثلاً فيما يخص المعارك الحربية. نجد على سبيل المثال:

- أجزاء من سورة "الأنفال" تتعلق بغزوة بدر

- أجزاء من سورة "آل عمران" تتعلق بغزوة أحد

- سورة "الفتح" تتعلق بصلح الحديبية

أمّا سورة "المائدة" فتتعلق بحجة الوداع

كما يحتوي القرآن على كثير من التاريخ النبوي فبعض الآيات ترتبط بأحداث خاصة تلقي الضوء على النبي وآل بيته على سبيل المثال:

- في سورة "النور" إشارة إلى السيدة عائشة ومسألة الإفك.

- في سورة "الأحزاب" إشارة إلى زواج النبي من زينب بنت جحش زوجة ابنه بالتبني.

- في سورة "عبس" لام الله فيها النبي على معاملته للأعمى.

إذاً هناك تزامن للنص القرآني مع تاريخية الأحداث. فبعض الآيات نصّها يكشف بوضوح أنّ سببها حادثة معينة. فالقرآن معاصر للأحداث فيكون اللجوء إلى القرآن كمصدر تاريخي مهم جدّاً لأنه المصدر الأكثر صدقاً ورجحاناً، ولأنّه يؤكد لنا عدّة أحداث نجدها في كتب السيرة والمغازي والأنساب وكتب الأخبار، القرآن يؤكدها ويجعلنا نتحقق من وجودها.

نبيل درغوث: سؤال أخير: لماذا اخترت ذلك النقش على الجبس (امرأة تمسك كتاباً) ليكون صورة غلاف كتابك "الجسد والمجتمع دراسة أنثروبولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد"؟

دة. صوفية السحيري بن حتيرة: صورة الغلاف تمثل نقشاً على الجبس يعود إلى مطلع القرن الثاني موجود بالمتحف الوطني بقرطاج يمثل امرأة قرطاجية تمسك كتاباً وتبدو بصدد قراءته. من خلال هذه الصورة أردت أن أشير إلى أنّ المرأة القرطاجية التونسية تبدو متعلمة، أو على الأقل تحسن القراءة وذلك منذ القرن الثاني، بينما اعتبرت القراءة والكتابة في العهد الحفصي صفة ذكورية إذ أنّ صرامة المدرسة الفقهية التابعة لابن عرفة أفتت بمنع خروج النساء لحضور الاجتماعات الدراسية والجلسات الدينية وإن كنّ منعزلات عن الرجال، وهذا أدّى بطبيعة الحال إلى ربط الثقافة بالرجل والجهل بالمرأة. والمفارقة هنا تتمثل في أنّ أول مدرسة أنشئت بالحاضرة التونسية أنشأتها امرأة وعلى نفقتها وهي الأميرة عطف زوجة أبي زكريا الحفصي، وهي المدرسة التوفيقية التي أنشئت سنة 650هـ/1272م في ربض السعود في رحبة الغنم معقل الزعيم حالياً، ولهذه الأسباب لا نجد كتابات نسوية تكون بمثابة شهادات ناطقة عن الوضعية الحقيقية للمرأة وموقفها من السلوك النموذج الذي حدّده لها الفقهاء ووافق عليه المجتمع الذكوري.