علاقة أهل مكَّة بنصوص المسيحيّين المقدَّسة في الجاهليَّة


فئة :  مقالات

علاقة أهل مكَّة بنصوص المسيحيّين المقدَّسة في الجاهليَّة

علاقة أهل مكَّة بنصوص المسيحيّين المقدَّسة في الجاهليَّة[1]

رضا كرعاني*

أصبح من الشَّائع عند جمهور دارسي الأديان أنَّه لا يمكن تحقيق فهم صحيح لها دون دراسة البيئة التي نشأت فيها، وتأثّرت بها، وسعت إلى التأثير فيها؛ فالدّين في جانب كبير منه ظاهرة تاريخيَّة تحمل الكثير من خصائص المجتمع الذي ظهرت فيه، وتحظى مكَّة بأهمّيَّة خاصَّة في تاريخ الإسلام، ففيها وُلد النَّبي محمَّد، وأعلن نبوَّته، وعاش القسم الأعظم من حياته، ومنها ينحدر أغلب أصحابه المقرَّبين وفريق من أعدائه الألدَّاء. ونهتمُّ في عملنا هذا بعلاقة أهل مكَّة بنصوص المسيحيين المقدَّسة زمن ظهور الإسلام، ونقصد بنصوص المسيحيين المقدَّسة العهد القديم والعهد الجديد والنُّصوص التي أبدعها رجال الدّين، واكتسبت صفة القداسة عند عموم المسيحيين أو عند فريق منهم.

تنقسم المصادر، التي يمكن اعتمادها في دراسة علاقة أهل مكَّة بنصوص المسيحيين المقدَّسة زمن ظهور الإسلام، إلى قسمين كبيرين: يضمُّ القسم الأوَّل المصادر الأدبيَّة التي كُتبت بالعربيَّة، وظهرت في التَّاريخ الإسلامي ابتداء من القرن الثاني للهجرة، وتضمُّ اختصاصات متنوّعة من أهمّها كتب علوم الدّين وكتب التَّاريخ وكتب الأخبار وكتب نقد الشّعر ودواوين الشّعراء...، ويضمُّ القسم الثاني النص القرآني. ظهرت المصادر الأدبيَّة في زمن متأخّر عن عهد الجاهليَّة، وغلب عليها الطَّابع القصصي الذي يحفل بالمُحال والعجيب والطَّريف، ولا يهتمُّ كثيراً بالحقيقة التَّاريخيَّة.

يتَّفق جمهور الباحثين اليوم على عدم كفاية المصادر الأدبيَّة لدراسة مجتمع الدَّعوة الذي ظهر فيه الإسلام، ويختلف الباحثون في النَّص القرآني اختلافاً شديداً؛ إذ يرى فريق منهم أنَّه ظهر مع بداية نشوء الإسلام، وتشكَّل على امتداد سنوات النّبوَّة، ولم تلحقه إضافات مهمَّة بعد وفاة النَّبي محمًّد وتفجُّر الصّراع بين أتباعه، فالقرآن لا يذكر أيَّ شيء عن الأحداث التي جرت بعد زمن النّبوَّة مثل أحداث الفتنة الكبرى، وتولّي الأمويين ثم العبَّاسيين الحكم، ويتحدَّث عن النَّبي محمَّد باعتباره إنساناً عاديَّاً على خلاف مجاميع الحديث وكتب السّيرة، التي بدأت تظهر منذ النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، فهي قد جعلت منه صاحب معجزات كثيرة[2]. ويذهب بعض الباحثين إلى أنَّ النَّص القرآني إنتاج جماعيٌّ كُتب في بعض أجزائه في القرن الثالث للهجرة، إذ احتوى على معرفة مهمَّة بنصوص المسيحيين المقدَّسة لم تكن متاحة لمجتمع الدَّعوة، فمكَّة قرية وثنيَّة تكتسب أهمّيتها من احتضانها الكعبة أهمّ معلم ديني عند العرب الوثنيين، وهي بعيدة عن تجمُّعات المسيحيين الكبرى في جزيرة العرب وخارجها، وجاهلة بتراثهم الدّيني، وكان أغلب سكَّان يثرب على الوثنيَّة واليهوديَّة، ولا وجود للمسيحيين بينهم[3]. وتدلُّ قرائن عديدة على أنَّ المعلومات التَّاريخيَّة، التي بنى عليها أصحاب هذا الموقف رأيهم في النَّص القرآني، ليست صحيحة، إذ كان أهل مكَّة عارفين بنصوص المسيحيين المقدَّسة زمن ظهور الإسلام.

كان أغلب أهل مكَّة زمن ظهور الإسلام على الوثنيَّة، يعبدون آلهة عديدة، ويؤمنون على نحو غامض بوجود إله أعلى، ومن الممكن أنَّهم يطلقون عليه اسم «الله»، وكانوا يؤمنون بوجود كائنات غيبيَّة مفارقة مثل الجنّ والشَّياطين، ويجتمعون على تعظيم الكعبة والقيام بشعائر دوريَّة تعظيماً لها مثل الحجّ والعمرة. وكانت لهم مجموعة من الحكايات التي تفسّر نشوء بعض الظَّواهر الطبيعيَّة، وتروي حكايات أصول بعض الموجودات، وكانت هذه الحكايات تُتداول شفويَّاً، ولم يقع التَّعبير عنها بلغة تختلف عن لغة الخطاب اليومي، ولم يقع توظيفها في أيَّة ممارسة دينيَّة، ولذلك لا يمكن اعتبارها نصوصاً مقدَّسة.

لا تقدّم المصادر أيَّة إشارة يمكن أن تدلَّ على وجود نصٍّ مقدَّس عند أهل مكَّة، ويبدو هذا الأمر غريباً، إذ كان العرب يعتقدون أنَّ للبيان سحراً، وقد اعتنوا بالشّعر، وأرجعوه إلى الشَّياطين إنكاراً لقدرة الإنسان على أن يأتي بمثل ذلك الكلام، واعتقدوا بقوَّة الكلمة وقدرتها على التأثير المباشر في الوجود، ونسبوا أقوالاً مسجوعة إلى الكهَّان، ولكنَّهم لم يعتقدوا بوجود نصٍّ مقدَّس، ولم ينسبوا إلى آلهتهم نصَّاً يتضمَّن معتقداتهم ورؤيتهم للوجود وقصَّة أصولهم.

لم يكن لأهل مكَّة في الجاهليَّة نصٌّ مقدَّس، وتدلُّ قرائن عديدة على أنَّهم كانوا عارفين بالأديان التوحيديَّة عن طريق الرّحلات التّجاريَّة ونشاط رجال الدّين المسيحيين التبشيري. جاء في النصّ القرآني: «قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِين». [المؤمنون23/ 82- 83]، وكان أهل مكَّة مدركين لأهمّيَّة النُّصوص المقدَّسة، ويشعرون بضرب من النَّقص تجاه أهل الكتاب، ويتوقون إلى أن يكون لهم كتابهم، جاء في النّص القرآني: «أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ...» [الأنعام 6/ 156- 157].

اختلف المفسّرون اختلافاً كبيراً في الآية الحادية والتّسعين من سورة الأنعام: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ». [الأنعام 6/91]. يقول فخر الدّين الرَّازي في تفسيره لهذه الآية: «في هذه الآية بحث صعب، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنَّهم قالوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. إمَّا أن يقال: إنَّهم كفار قريش، أو يقال إنَّهم أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى، فإن كان الأوَّل، فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى. وذلك لأنَّ كفَّار قريش والبراهمة كما ينكرون رسالة محمَّد، كذلك ينكرون رسالة سائر الأنبياء، فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم؟ أمَّا إن كان الثاني، وهو أنَّ قائل هذا القول قوم من اليهود والنَّصارى، فهذا أيضاً صعب مشكل؛ لأنَّهم لا يقولون هذا القول، وكيف يقولونه مع أنَّ مذهبهم أنَّ التَّوراة كتاب أنزله الله على موسى، والإنجيل كتاب أنزله الله على عيسى؟ وأيضاً هذه السُّورة مكيَّة، والمناظرات التي وقعت بين رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وبين اليهود والنَّصارى كلّها مدنيَّة، فكيف يمكن حمل هذه الآية عليها؟ فهذا تقرير الإشكال القائم في هذه الآية»[4]. يتَّفق جمهور المفسّرين وعلماء القرآن على أنَّ سورة الأنعام سورة مكيَّة في كلّ آياتها أو في جلّها، وهذا ما يتناسب مع موضوعها، فهي احتجاج على مشركي مكَّة الذين ينكرون نبوَّة محمَّد، ويكذّبون بالبعث والنُّشور.

تثبت الآية الحادية والتّسعون من سورة الأنعام أنَّ أهل مكَّة كانوا في الجاهليَّة يمتلكون أسفاراً من نصوص أهل الكتاب المقدَّسة، وتدلُّ قرائن عديدة على حضور عدد من غير عبدة الأوثان في مكَّة، إذ أعلن ساداتها أنَّ محمَّداً في ما أتى به لم يكن يتحرَّك بصورة فرديَّة، بل يتلقَّى المساعدة من قوم آخرين، جاء في النَّص القرآني: «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤُوا ظُلْمًا وَزُورًا» [الفرقان 25/4]، ويُجمع جمهور المفسّرين على أنَّ القوم الآخرين المذكورين في هذه الآية هم جماعة من أهل الكتاب من ذوي أصول غير عربيَّة كانوا ينزلون مكَّة، وقال سادة مكَّة إنَّ القرآن الذي يزعم محمَّد أنَّه وحي يأتيه من السَّماء ليس سوى نقل عمَّا يخبره به بعض النّاس. «وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً» [الفرقان 25/ 5]، وحدَّدوا شخصاً معيَّناً، وقالوا إنَّه من تولّى تلقين محمَّد ما يدَّعي أنَّه كلام الله. «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ» [النحل 16/ 103].

يدلُّ النَّص القرآني على أنَّ الشَّخص، الذي عدَّه سادة مكَّة معلّم محمَّد، أعجميٌّ لا يتقن اللّغة العربيَّة، ما يدلُّ على أنَّه وافد على مكَّة، واختلف المفسّرون في تحديد اسم هذا الشَّخص ونسبه. «... قيل هو غلام الفاكه بن المغيرة، واسمه جبر، كان نصرانيَّاً فأسلم (...)، وقال ابن إسحاق: كان النَّبي -صلى الله عليه وسلّم- فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له جبر، عبد بني الحضرمي، وكان يقرأ الكتب، فقال المشركون: والله ما يعلّم محمَّداً ما يأتي به إلا جبر النَّصراني. وقال عكرمة: اسمه يعيش، عبد لبني الحضرمي، كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يلقّنه القرآن، ذكره الماوردي. وذكر الثعلبي عن عكرمة وقتادةَ أنَّه غلام لبني المغيرة، اسمه يعيش، وكان يقرأ الكتب الأعجميَّة، فقالت قريش: إنَّما يعلّمه بشر، فنزلت. المهدوي عن عكرمة: هو غلام لبني عامر بن لؤي، واسمه يعيش. وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التَّمر، اسم أحدهما يسار، واسم الآخر جبر (...)، وكانا صيقليين يعملان السُّيوف، وكانا يقرآن كتاباً لهم. الثَّعلبي: يقرآن التَّوراة والإنجيل. الماوردي والمهدوي: التَّوراة. فكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يمرُّ بهما، ويسمع قراءتهما، وكان المشركون يقولون: يتعلّم منهما (...). وقال القُتَبي: كان بمكَّة رجل نصراني يقال له: أبو ميسرة، يتكلَّم الروميَّة، فربَّما قعد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال الكفَّار: إنَّما يتعلّم محمَّد منه (...). وفي رواية: أنَّه عدَّاس غلام عتبة بن ربيعة. وقيل: عابس غلام حويطب بن عبد العزَّى، ويسار أبو فُكيهة مولى ابن الحضرمي، وكانا قد أسلما»[5].

اختلف المفسّرون والمؤرّخون في تحديد اسم من أعلن سادة مكَّة أنَّه معلّم النَّبي محمَّد، واتَّفقوا على أنَّه نصراني، وذهب أغلب الرُّواة إلى أنَّه يتكلّم الرُّوميَّة، والرُّوميَّة هي لغة الرُّوم، والرُّوم في الاستعمال العربي القديم هم سكان الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وقد تكلّموا بلغات كثيرة من أهمّها اللغة اللاتينيَّة واللغة اليونانيَّة التي أصبحت اللّغة الرَّسميَّة لهذه الإمبراطوريَّة بعد انتقال عاصمتها إلى القسطنطينيَّة. ومن المرجَّح أنَّ المسيحيين الوافدين إلى مكَّة كانوا يتقنون اللّغة السّريانيَّة لانتشار هذه اللغة في المناطق المتاخمة لجزيرة العرب، فمنذ القرن السَّادس قبل الميلاد أصبحت اللّغة الآراميَّة اللغة الأولى في منطقة شاسعة تمتدُّ من فلسطين على شاطئ البحر المتوسّط إلى نهر دجلة، ومن شمال بلاد ما بين النَّهرين إلى الخليج العربي، وظلت هذه اللّغة، بعد أن عرفت تغييرات عديدة وصارت تُعرف بالسّريانيَّة، محافظة على مكانتها حتى غلب العرب المسلمون على مناطق انتشارها في منتصف القرن السَّابع للميلاد[6].

تذكر أكثر الرّوايات انتشاراً أنَّ معلّم محمَّد في نظر سادة مكَّة ينحدر من عين التَّمر، وتوجد هذه القرية في العراق في الحدود الفاصلة بين الصَّحراء والأراضي الخصبة، وتبعد عن كربلاء (130) كيلومتراً من جهة الغرب، ويذكر بعض الإخباريين أنَّها كانت جزءاً من مملكة جذيمة الأبرش، ويذكر المؤرّخون العرب أنَّ المسلمين لمَّا غلبوا على هذه القرية سنة 12)) للهجرة وجدوا فيها كنيسة وبيعة؛ إذ كان فريق من سكَّانها على المسيحيَّة، وكان فريق آخر على اليهوديَّة[7]. ومن المرجَّح أنَّ مسيحيي عين التمر كانوا على النَّسطوريَّة زمن ظهور الإسلام، فهذا المذهب كان الأكثر انتشاراً في المناطق الخاضعة لنفوذ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة في ذلك الزَّمن[8].

لم يكن السّريان زمن ظهور الدّين المسيحي يتمتَّعون بوحدة سياسيَّة، وكانوا خاضعين للإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة والإمبراطوريَّة الفارسيَّة، وكانت الحدود بين الإمبراطوريتين متغيّرة وفق تغيُّر ميزان القوى، وكانت التًّجمُّعات السّريانيَّة ملتقى لتيارات ثقافيَّة كثيرة، وقد بدأ السّريان في اعتناق المسيحيَّة منذ زمن مبكّر، وعملوا على نقل نصوصها المقدَّسة إلى لغتهم، فجمع تاتيان (Tatian)، الذي عاش في القرن الثاني للميلاد، أناجيل متَّى ومرقس ولوقا ويوحنا في إنجيل واحد يُعرف بالإنجيل الرُّباعي (Diatessaron)، وهو أوَّل إنجيل ينقل إلى السّريانيَّة، وظلَّ لعدّة قرون متتالية الإنجيل الوحيد المستعمل في الطّقوس الدّينيَّة (liturgy)، وسيتحدَّث النَّص القرآني عن الإنجيل باعتباره كتاباً واحداً، وترجم المسيحيون السّريان العهد القديم إلى السّريانيَّة، وتُعرف هذه الترجمة باسم (Peshitta) الذي يعني في أصله اللّغوي البسيط، ويرجّح الباحثون أنَّ هذا النقل انطلق منذ زمن مبكّر واستغرق عدَّة قرون[9]. ومع مرور الزَّمان زاد عدد السّريان المسيحيين، وبدؤوا في نهاية القرن الثاني للميلاد في تكوين مؤسَّسات دينيَّة، وبتأثير من الموروث الهيلنستي شاعت بينهم المقالات الغنوصيَّة التي قالت بها بعض الفرق مثل المرسيونيَّة (Marcionism)، ووردت في بعض الأناجيل غير القانونيَّة مثل إنجيل توماس، وإنجيل فيليب...، وانتشرت حركات الزُّهد والانصراف عن ملذَّات الحياة الدُّنيا، ومع مرور الزَّمان أخذت النزعة الغنوصيَّة والزهديَّة تتراجع، وفي القرن الرَّابع للميلاد أصبحت المسيحيَّة السّريانيَّة أكثر اعتدالاً[10] .

شكّل تاريخ المسيحيين السّريان جزءاً من تاريخ المسيحيين العام، ففي سنة 250)) للميلاد بدأ الاضطهاد الرُّوماني للمسيحيين، وهذا ما دفع بالكثيرين منهم إلى الهجرة نحو الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، التي عرفت في منتصف القرن الثالث للميلاد بداية عهد السَّاسانيين، وفي سنة (313) للميلاد صدر إعلان ميلانو الذي أقرَّ حريَّة التّديُّن لرعايا الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وفي سنة (380) للميلاد أصبحت المسيحيَّة الدّيانة الرَّسميَّة للإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وهذا الحدث الكبير جعل حكام الإمبراطوريَّة الفارسيَّة يرتابون في المسيحيين الواقعين تحت نفوذهم، ويقومون باضطهادهم، ولم يستمرّ هذا الاضطهاد مدَّة طويلة[11].

في سنة 410)) للميلاد، وبطلب من الملك يزدجرد الأوَّل، اجتمع رؤساء الكنائس الواقعة تحت نفوذ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة في مدينة طيسفون عاصمة الإمبراطوريَّة، وقرَّروا في هذا الاجتماع قبول ما جاء به مجمع نيقية المنعقد سنة 325)) للميلاد والانفصال تنظيميَّاً عن كنيسة أنطاكية الخاضعة لنفوذ الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وتأسيس كنيسة سريانيَّة يرأسها أسقف طيسفون بعد نيل موافقة الملك، وقبل نهاية القرن الخامس نال رئيس تلك الكنيسة لقب الجاثليق (catholicos)، وبذلك أصبحت الكنيسة السريانيَّة الواقعة تحت نفوذ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة مستقلّة (autocephaous).

لم تقبل كنيسة السّريان إدانة مجمع أفسس المنعقد سنة 431)) للميلاد لنسطور (Nestoruis) (ت 450)، الذي رفض إطلاق اسم «أم الإله» على مريم العذراء، وأطلق عليها اسم «أم الإنسان»، وأصبحت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة ملاذاً لأتباعه الذين تعرَّضوا للاضطهاد من قبل الكنيسة اليونانيَّة وحكَّام الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة. وفي سنة 486)) للميلاد عقدت الكنيسة السّريانيَّة مجمعَّاً في طيسفون انتهى بقرار اعتماد عقيدة الطبيعتين كما صاغها ثيودور المصيصي (Theodore of Mopsuestia) (ت 428 م). وفي سنة 489)) للميلاد قام الرومان بإغلاق مدرسة الرَّها التي كانت أهمَّ مركز ثقافي سرياني مدَّة طويلة، فانتقل معلّموها وتلامذتها إلى نصيبين الواقعة تحت نفوذ الإمبراطوريَّة الفارسيَّة حينئذٍ، وعملوا على تعليم أفكار ديودور الطرسوسي (Diodoris of Tarsus) (ت 390 م) وثيودور المصيصي ونسطور ونشرها بين المسيحيين. وفي سنة 605)) للميلاد عقدت الكنيسة السّريانيَّة مجمعَّاً تحت رئاسة الجاثليق القدّيس غريغريوس، انتهى باعتماد مقالات نسطور، وأصبحت الكنيسة السّريانيَّة تُعرف بالكنيسة النّسطوريَّة[12].

انتشرت المسيحيَّة منذ زمن مبكّر بين السّريان، ونشأت الكنيسة السّريانيَّة في خضم الصّراع بين الإمبراطوريَّة الفارسيَّة والإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة، وامتازت بعدَّة خصائص؛ منها استبدال الحليب بالخمر في بعض المناطق وضعف سلوك التبتُّل؛ إذ تزوَّج الجاثليق باباي وخلفه الجاثليق سيلاس، وتعايشت المسيحيَّة في بلاد فارس مع الزَّرادشتيَّة دين الدَّولة الرَّسمي، ومع الوثنيَّة والصَّابئة اللّتين كانتا منتشرتين في بلاد ما بين النَّهرين.

كان العرب موجودين منذ زمن قديم في بلاد ما بين النَّهرين، وقد تزايد عددهم بمرور الزَّمان، ولكنَّ تناقُص الغطاء النَّباتي في جزيرة العرب جعلهم يرحلون نحو الأراضي الخصبة، وكان عرب بلاد ما بين النَّهرين من الحضر النازلين في المدن مثل الحيرة والأنبار وعين دباغ وصندودا...[13]، ومن البدو الرُّحَّل الذين يتنقَّلون بمواشيهم بمحاذاة نهر الفرات بين الخليج العربي والجزيرة الفراتيَّة، وبسبب مجاورة أولئك العرب للسّريان المسيحيين دخل قسم منهم في المسيحيَّة، إذ تشير المصادر إلى وجود أسقفيَّة عربيَّة في الحيرة سنة 410)) للميلاد، وقد شارك أسقفها في مجمع طيسفون للكنائس السّريانيَّة المنعقد في تلك السَّنة[14]. وتذكر بعض المصادر العربيَّة أنَّ ملك الحيرة النُّعمان (ت 418 م) «لبس المسوح وتنصَّر وترهَّب وخرج سائحاً على وجهه»[15]. وانتشرت المسيحيَّة انطلاقاً من الحيرة في شرق جزيرة العرب، ودخل فيها فريق من أبناء قبائل عديدة مثل حنيفة وتميم... وتذكر المصادر أنَّ الحيرة أصبحت من أبرز مراكز النَّسطوريَّة بعد دخول ملكها النُّعمان الثالث (ت 609 م) في هذه الفرقة[16].

دخل فريق من العرب في المسيحيَّة، ولم يكن لدخولهم تأثير كبير في البنية الاجتماعيَّة السَّائدة؛ إذ لم يؤسّس المسيحيون العرب كيانات خاصَّة بهم، وحافظوا على انتمائهم القبلي الموروث واحترامهم لكثير من الرُّموز العربيَّة الموروثة عن الآباء مثل الكعبة وعدد من آلهة العرب الوثنيين، يقول عدي بن زيد العبادي: (من الوافر)

سَعَى الأعْـــداءُ لا يَألُونَ شَرًّا

عَلَيَّ وَرَبِّ مَكَــــــةَ وَالصَّلِيبِ[17]

ويقول عمرو بن عبد الجنّ: (من الطويل)

أمَـــا وَدِمــــاءٍ مائراتٍ تَخالُها

علَى قُلَّةِ العُزَّى أوِ النّسْرِ عَنْدَمَا

وَمَا قَدَّسَ الرُّهْبانُ في كُلِّ هَيْكلٍ

أبِيلَ الأبِيلين المَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَا[18]

تدلُّ قرائن عديدة على أنَّ أهل مكَّة كانوا يعرفون عدداً من قصص الأنبياء الواردة في كتب المسيحيين المقدَّسة، لذلك طالبوا محمَّداً أن يأتيهم بمعجزات شبيهة بمعجزات الأنبياء السَّابقين، جاء في النَّص القرآني «بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» [العنكبوت 21/5]، وتثبت أخبار عديدة أنَّ أهل مكَّة كانوا يعرفون قسماً من المعاني والقصص التي يشترك فيها النَّص القرآني مع التراث المسيحي، مثل حكاية أهل الكهف. جاء في كتاب السّيرة النَّبوية لابن هشام: «... فلمَّا قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما: سلاهم عن محمَّد، وصِفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله، فإنَّهم أهل الكتاب الأوَّل، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم: إنَّكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهما أحبار يهود: (...) سلوه عن فتية ذهبوا في الدَّهر الأوَّل ما كان أمرهم؟...»[19]. تجمع المصادر على أنَّ الفتية، الذين سأل عنهم أهل مكَّة النَّبي محمَّداً، هم أصحاب الكهف المتحدَّث عنهم في النَّص القرآني، ولا شكَّ في أنَّ حضور أحبار اليهود في هذا الخبر مختلق لأنَّ قصَّة أصحاب الكهف تتعارض مع المعتقدات اليهوديَّة، وهي جزء من التُّراث المسيحي المكتوب بالسّريانيَّة[20]. ويدلُّ جدال أهل مكَّة للنَّبي محمَّد على معرفتهم بمعتقدات أهل الكتاب، «... فقال عبد الله بن الزّبعرى: (...) فسلوا محمَّداً أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنَّم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة، واليهود تعبد عزيراً، والنَّصارى تعبد عيسى بن مريم»[21] .

تدلُّ أسئلة سادة مكَّة لمحمَّد على أنَّهم يعرفون نصوص المسيحيين المقدَّسة، فتلك النُّصوص كانت تُتداول بين الناس في الحجاز قبل ظهور الإسلام، وكان فريق منهم يقرؤونها ويكتبونها. جاء في النصّ القرآني في سياق إثبات نبوَّة محمَّد: «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ» [العنكبوت 29/ 48]. وأدَّى انتشار نصوص المسيحيين المقدَّسة بين العرب إلى انتقال ألفاظ عديدة من السّريانية إلى العربيَّة، فوظّفها عدد من الشُّعراء في أشعارهم، فأميَّة بن أبي الصلت شاعر ثقيف «كان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفها العرب يأخذها من الكتب المتقدّمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب»[22].

يذكر النّص القرآني في آيات عديدة أنَّ أهل مكَّة كانوا يرون في ما يأتي به محمَّد أساطير الأوَّلين، وكلمة أسطورة من أصل سرياني، وتعني في لغتها الأصليَّة الشيء المكتوب، ومن الممكن أنَّ أهل مكَّة كانوا يستعملونها في هذا المعنى لاطّلاعهم على كتب الأوَّلين التي جاء النَّبي محمَّد بما يشبهها، وقد أعطى علماء القرآن في زمن متأخّر كلمة أسطورة معنى الخرافة والحكاية المختلقة.

تدلُّ قرائن عديدة على أنَّ فريقاً من أهل مكَّة كانوا يتقنون اللّغة السّريانيَّة التي كُتب بها جزء مهمٌّ من التُّراث المسيحي، ومن الممكن أنَّهم كانوا يعتقدون قبل ظهور الإسلام بمدَّة زمنيَّة مهمَّة أنَّها لغة مقدَّسة. تذكر كتب الأخبار أنَّ رجال قريش وجدوا كتاباً بالسّريانيَّة عندما قاموا بهدم الكعبة لإعادة بنائها قبل إعلان محمَّد نبوَّته بزمن قصير[23]. وقد تسرَّب الكثير من معتقدات أهل الكتاب إلى ثقافة العرب الوثنيين مثل القسم بالصليب وتقديس إبراهيم وعيسى وأمّه مريم العذراء ورسم صور الملائكة والقدّيسين في المعابد[24]. وتدلُّ قرائن عديدة على أنَّ أهل مكَّة نقلوا أجزاء من نصوص المسيحيين المقدَّسة إلى العربيَّة، وكتبوها في قراطيس، ومن المرجَّح أنَّ الكتابة العربيَّة ظهرت في نشأتها الأولى في الحيرة في سياق نقل نصوص المسيحيين المقدَّسة المكتوبة بالسّريانيَّة إلى العربيَّة، ثمَّ توزَّعت في مختلف مناطق جزيرة العرب، ووصلت إلى الحجاز[25]. وتحتفظ بعض كتب الجغرافيا بنصوص قديمة كانت منقوشة على بعض المباني بالحيرة، وتجسّد هذه النُّصوص الكتابة العربيَّة في طور مبكّر، ومن أشهر هذه النُّصوص النص الذي كتب على جدار دير هند الأقدم: «بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأمّ الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح وأمّ عبده وأمة عبده في زمن ملك الأملاك خسرو أنو شروان وفي زمن أفراييم الأسقف، فالإله الذي بنت له هذا البيت يغفر خطيّتها ويترحَّم عليها وعلى ولدها ويقبل بهما ويقومهما إلى إقامة الحق ويكون الإله معها ومع ولدها الدَّهر الدّاهر»[26]. وتذكر مصادر عديدة أنَّ أهل مكَّة أخذوا الكتابة العربيَّة من أهل الحيرة وتعلّموها من بعض المسيحيين العرب. «وقال الأصمعي: ذكروا أنَّ قريشاً سئلوا من أين لكم الكتاب؟ قالوا: من أهل الحيرة. وقيل لأهل الحيرة: من أين لكم الكتاب؟ قالوا: من الأنبار. وقال غيره: كان بشر بن عبد الملك العبادي علّم أبا سفيان بن أميَّة وأبا قيس بن عبد مناف بن زهرة الكتاب، فعلّما أهل مكَّة...»[27]. كانت الحيرة عند أهل مكَّة مصدر الكتابة العربيَّة وموطن المعرفة والتمدُّن، «وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممَّن يؤذي رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفنديار»[28].

كان سادة مكَّة مطّلعين على نصوص المسيحيين المقدَّسة، ودخل فريق منهم في المسيحيَّة وتركوا عبادة الأوثان، مثل ورقة بن نوفل، الذي أدّى دوراً مهمَّاً في تهيئة فريق من أهل مكَّة لقبول حدث النّبوَّة وتصديق ما جاء به محمَّد[29]. ومن المرجَّح أنَّ أهل مكَّة حصلوا على نصوص المسيحيين المقدَّسة أثناء رحلاتهم التجاريَّة، وقاموا بتوظيف معرفتهم بتراث أهل الكتاب المقدَّس في خدمة معاملاتهم التجاريَّة مع المجتمعات المسيحيَّة واليهوديَّة داخل جزيرة العرب وخارجها.

سيكون لنصوص المسيحيين المقدَّسة تأثير كبير في النَّص القرآني، فتعريب تلك النُّصوص أدَّى إلى إثراء العربيَّة بمفردات كثيرة محمَّلة بمعانٍ جديدة لم يألفها العرب قديماً، وسيستعمل النصُّ القرآني مفردات كثيرة مقترضة من اللغة السّريانيَّة لإبلاغ رسالته إلى أهل مكَّة وغيرهم من العرب، فكلمة قرآن مقترضة من السّريانيَّة، وتعني في لغتها الأصليَّة الكتاب المقدَّس[30]، وكلمة سورة مقترضة من السّريانيَّة، وتعني في أصلها السّرياني الكتابة والجزء من الكتاب المقدَّس[31]. ومن المرجَّح أنَّ كلمة نصارى من أصل سرياني، وهي في أصلها السّرياني اسم من أسماء المسيحيين[32]. وتمثّل المقترضات من اللّغة السّريانيَّة في صيغتها القديمة (الآراميَّة)، وصيغتها الحديثة التي كانت قائمة زمن ظهور الإسلام، نسبة كبيرة من مجمل المقترضات المعجميَّة الواردة في النّص القرآني[33]. وضمّ النَّص القرآني عبارات عديدة ذات أصل سرياني مثل: سبحانك، تباركت، سبحانك يا الله...[34]، ومن المرجَّح أنَّ هذه الكلمات والعبارات قد دخلت لغة العرب قبل ظهور الإسلام، ولهذا لم يجد مجتمع الدَّعوة صعوبة في تقبُّلها وفهمها.

استعمل النَّص القرآني مقترضات من اللّغة السّريانيَّة، وأورد معاني مشابهة لما جاء في الإنجيل في نقاط عديدة مثل تشبيه المؤمنين بالزَّرع (الفتح 48/ 29)، وقصَّة طفولة مريم وقصَّة يحيى وقصّة عيسى (آل عمران 3/ 35- 48، مريم 19/ 3 – 36 )[35]. وضمَّ النَّص القرآني معاني وصوراً تتعلق بقيام السَّاعة وملذات الجنَّة وأهوال النَّار تشبه إلى حدٍّ بعيد ما جاء به القدّيس أفرام السّرياني الذي عاش في القرن الرَّابع للميلاد، وكتب بالسّريانيَّة، واكتسب شهرة واسعة عند المسيحيين بمختلف فرقهم لزهده وعذوبة شعره[36].

يستعمل النَّص القرآني مفردات وعبارات مقترضة، ويورد معاني وصوراً عديدة سبق أن وردت في التُّراث المسيحي المكتوب بالسّريانيَّة «إلى درجة أنَّه يصعب على المؤرّخ أن يعتبر أنَّها من محض المصادفة، أو أنَّ هذه الأفكار أخذت بصفة شفويَّة عن رهبان متجوّلين سواء في عكاظ أو في اليمن...»[37]. ومن الممكن أنَّ الاسم «محمَّداً» أخذ من الكلمة السّريانيَّة (menahhemana) التي تعني في أصلها اللّغوي القائم من بين الأموات، ووقع استعمالها في الإنجيل السّرياني المنقول عن اللّغة اليونانيَّة ترجمة لكلمة «المعزّي» التي يعبّر عنها اليوم في الأناجيل المكتوبة باللغة الفرنسيَّة بلفظة (paraclet) المأخوذة من الكلمة اللاتينيَّة (Paracletus)، وكان المسلمون القدامى على معرفة بهذا التَّقارب الصَّوتي بين الكلمة السّريانيَّة والكلمة العربيَّة، وقد تحدَّثوا عن ذلك في سياق إيراد الأدلّة على صدق نبوَّة محمَّد. ينقل ابن هشام عن ابن إسحاق قوله: «والمنحمنَّا بالسّريانيَّة محمَّد، وهو بالروميَّة البرقليطس، صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم»[38].

تحمل نصوص المسيحيين المقدَّسة في التَّصور الإسلامي شيئاً من الحقيقة، فهي في أصلها وحي من الله، ولكنَّها تعرَّضت للتحريف والتغيير، ولهذا جاء النَّص القرآني موافقاً لهذه النُّصوص في بعض النُّقاط ومختلفاً عنها في نقاط أخرى، فالنَّص القرآني يرفض القول بألوهيَّة المسيح وألوهيَّة روح القدس التي اجتمعت عليها كلُّ الكنائس منذ مجمع نيقية المنعقد سنة (325) للميلاد، ويعلن بكل وضوح أنَّهما مخلوقان خلقهما الله الواحد الذي لا شريك له. جاء في النّص القرآني: «وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» [المائدة 5/ 116].

أدَّى انتشار نصوص المسيحيين المقدَّسة في جزيرة العرب إلى إثراء اللّغة العربيَّة بمفردات وتراكيب جديدة، وإلى إثراء معارف العرب الوثنيين بتصوُّرات ومعتقدات وقصص جديدة، ولهذا لم تكن دعوة محمَّد غريبة عنهم ولا خارجة عن دائرة ما يمكن أن يفكّروا فيه، إذ سبق لهم أن سمعوا ما يشبهها في نقاط عديدة، وعرفوا في رحلاتهم التّجاريَّة أهمّيَّة النُّصوص المقدَّسة في بناء المجتمعات وتماسكها، وتمنَّوا أن يكون لهم كتابهم على غرار الأمم الأخرى، وكانوا محاورين جيّدين لمحمَّد، وامتازوا بشيء من العقلانيَّة «عقلانيّة من الدرجة الأولى لم تتساءل عن شيء، ولم تكن فتحاً وتجاوزاً، ولم تكن كذلك مجرَّد حيوانيَّة، ولا غياباً للفكر»[39].

 

 

قائمة المصادر والمراجع:

1. المصادر:

- ابن قتيبة:

الشّعر والشُّعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، مصر، (د. ت).

المعارف، حقّقه وقدَّم له الدكتور ثروت عكاشة، دار المعارف، مصر، ط4، (د.ت).

- الأزرقي، أخبار مكَّة، تحقيق عبد الملك بن دهيش، مكتبة الأسدي، ط1، 2003

- ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، تحقيق وتعليق ودراسة الشيخ أحمد عبد الموجود والشيخ علي معوّض، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربيَّة السعوديَّة، ط1، سنة 1998

- الأصفهاني، الأغاني، تحقيق إحسان عبَّاس، إبراهيم السَّعافين، بكر عبَّاس، دار صادر، بيروت، سنة 2008

- البكري، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، (د.ت).

- الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق وتعليق علي مهنا، منشورات الأعلمي، بيروت، 1998.

- الرَّازي، فخر الدّين، التّفسير الكبير، دار الفكر، لبنان، ط1، سنة 1981

- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التّركي، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، لبنان، ط1، سنة 2006

2. المراجع:

العربيّة:

- ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحيَّة، تعريب جمال سالم، التنوير، بيروت، لبنان، ط 2، سنة 2010

- بالحاج صالح العايب، سلوى، المسيحيَّة العربيَّة وتطوُّراتها، دار الطليعة، بيروت، ط2، سنة 1998.

- الجميل، فتحي، المقترضات المعجميَّة في القرآن، بحث في المقاربات، كليَّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة، 2013

- جعيط، هشام:

تاريخيَّة الدعوة المحمَّديَّة في مكَّة، دار الطليعة، بيروت، 2007

الشَّخصيَّة العربيَّة الإسلاميَّة والمصير العربي، نقله إلى العربيَّة منجي الصَّيادي، وقام المؤلف بتدقيقه وتنقيحه، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط2، سنة 1990

الأعجميَّة:

- A. T. Welch, art Kuran E.I vol V (KHE –MAHI), Leiden E. J., Brill, 1986

- A.T. Welch, art sura E.I vol IX (SAN – SZE), Leiden Brill, 1996

- Claude Gilliot, art on the origin of the informants of the prophet, the hidden origins of Islam, Edited by Karl-Heinz Ohlig and Gerd-R. Puin. Prometheus books, New York, 2010, (p p. 153- 187).

- Fred M. Donner, Narratives of Islamic origins, The beginnings of Islamic historical writing, The Darwin press, Princeton, New Jersey USA Second Printing, 1999

- J.M.Fiey, art Nasara, E.I vol VII (MIF – NAZ) Leiden-New York, E.J Brill, 1993

- J. Wansbrough, Quranic studies: Sources and methods of scriptural interpretation, Prometheus books, New York, 2004.

- Karl-Heeinz Ohlig, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden origins of Islam, Edited by Karl-Heinz Ohlig and Gerd-R. Puin, Prometheus books, New York, 2010, (p p. 361- 401).

- R Paret, art Ashab alkahf, E I. vol I (A- B). Leiden E.J. Brill, 1986

- Saleh A. El-Ali: art Ayn al-Tamr E.I vol I (A - B) Leiden E. J. Brill, 1986

- Segio Noja Noseda, from syriac to pahlavi, The hidden origins of Islam.

Edited by Karl-Heinz Ohlig and Gerd-R. Puin, Prometheus books, New York, 2010, (p p. 283- 310)

- Tor Andrae, Les origines de l’Islam et le Christianisme, Traduit de l’allemant par Jules Roches, Librairie d’Amérique et d’orient Adrien- maisonneuve, Paris, 1955.

[1]- يتفكرون العدد11

[2] - Donner, Fred M., Narratives of Islamic origins, The beginnings of Islamic historical writing, The Darwin press, Princeton, New Jersey USA Second Printing, 1999, p. 2 - 5

[3] - Wansbrough, John, Quranic studies: Sources and methods of scriptural interpretation, Prometheus books, New York, 2004, p.52

[4] ـ الرَّازي، فخر الدّين، التّفسير الكبير، دار الفكر، لبنان، ط1، سنة 1981، ج 13، ص ص 78 - 79

[5] ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التّركي، مؤسسة الرّسالة، بيروت، لبنان، ط1، سنة 2006، ج 12، ص ص428 ـ 430

[6] - Ohlig, Karl-Heeinz, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden origins of Islam, Edited by Karl-Heinz Ohlig and Gerd-R. Puin. Prometheus books, New York, 2010, p. 362

[7]- Saleh A. El-Ali, art Ayn al-Tamr E.I vol I (A - B) Leiden E. J., Brill, 1986, p. 788- 789

[8] ـ ج. ويتلر، الهرطقة في المسيحيَّة، تعريب جمال سالم، التنوير، بيروت، لبنان، ط 2، سنة 2010، ص 94

[9]- Ohlig, Karl-Heeinz, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden origins of Islam, P. 366.

[10]- Ohlig, Karl-Heeinz, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden origins of Islam, P. 367- 368.

[11]- Ohlig, Karl-Heeinz, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden origins of Islam, P. 36.

[12]- Ohlig, Karl-Heeinz, Syrian and Arabian christianity and the Quran, The hidden originsof Islam, P. 370.

[13] ـ بالحاج صالح العايب، سلوى، المسيحيَّة العربيَّة وتطوُّراتها، دار الطليعة، بيروت، ط 2، سنة 1998، ص ص 46- 47

[14] ـ المرجع نفسه، ص 53

[15]  الأصفهاني، الأغاني، تحقيق إحسان عبّاس، إبراهيم السّعافين، بكر عبّاس، دار صادر، بيروت، سنة 2008، ج 2، ص 87

[16] ـ بالحاج صالح العايب، سلوى، المسيحيَّة العربيَّة وتطوُّراتها، ص 58

[17] ـ الأصفهاني، الأغاني، ج 2، ص 72

[18] ـ الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق وتعليق علي مهنا، منشورات الأعلمي، بيروت، 1998، م1، ص 441

[19] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، تحقيق وتعليق ودراسة الشيخ أحمد عبد الموجود والشيخ علي معوَّض، مكتبة العبيكان، الرياض، المملكة العربيَّة السعوديَّة، ط1، سنة 1998، ج1، ص 326 - 327

[20] - R Paret, art Ashab alkahf. EI. Leiden E.J. Brill, 1986, vol I (A- B), p.691

[21] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، ج1، ص 374 - 375

[22] - ابن قتيبة، الشّعر والشُّعراء، تحقيق أحمد محمَّد شاكر، دار المعارف، مصر، (د.ت)، ج1، ص 459

[23] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، ج1، ص 242

[24] ـ الأزرقي، أخبار مكّة، تحقيق عبد الملك بن دهيش، مكتبة الأسدي، ط1، 2003، ج1، ص ص 248 - 249

[25] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويّة، ج4، ص 29

24.Segio Noja Noseda, from syriacto pahlavi, The hidden origins of Islam, P. 291 - 292

[26] ـ البكري، معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع، تحقيق مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، (د.ت)، ج2، ص 606

[27] ـ ابن قتيبة، المعارف، حقّقه وقدَّم له الدكتور ثروت عكاشة، دار المعارف، مصر، ط4، (د.ت)، ص ص 552 - 553

[28] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، ج1، ص 326

[29] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، ج1، ص ص 279 ـ 280

[30]- A. T. Welch, art Kuran E.I vol V (KHE –MAHI), Leiden, E. J. Brill, 1986, p. 400.

[31]- J.M.Fiey, art Nasara, E.I Leiden-New York, E.J, Brill, 1993, vol VII (MIF - NAZ), p. 970.

[32] - A.T. Welch, art sura E.I vol IX (SAN – SZE), Leiden, Brill, 1996, P. 885.

[33] ـ الجميل، فتحي، المقترضات المعجميَّة في القرآن: بحث في المقاربات، كليَّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة، 2013، ص 556 - 557. من الممكن أنَّ أسماء الأعلام التي وضعها صاحب الكتاب ضمن المقترضات من اللغة العبريَّة قد انتقلت إلى العربيَّة من اللّغة السّريانيَّة.

[34] ـ جعيط، هشام، تاريخيَّة الدعوة المحمَّديَّة في مكَّة، دار الطليعة، بيروت، 2007، ص 172

[35]- Claude Gilliot, art on the origin of the informants of the prophet, the hidden origins of Islam, p. 163.

[36]- Andrae, Tor, Les origines de l›Islam et le Christianisme, Traduit de l›allemant par Jules Roches, Librairie d›Amérique et d›orient Adrien- maisonneuve, Paris, 1955, p p. 145 - 161.

[37] ـ جعيط، هشام، تاريخيَّة الدّعوة المحمّديَّة في مكّة، ص 167

[38] ـ ابن هشام، السّيرة النّبويَّة، ج1، ص 275

[39] ـ جعيط، هشام، الشّخصيَّة العربيَّة الإسلاميَّة والمصير العربي، نقله إلى العربيَّة منجي الصَّيادي، وقام المؤلف بتدقيقه وتنقيحه، دار الطليعة، بيروت، لبنان، ط2 سنة 1990، ص 139