عن الأمل وصندوق بندورا


فئة :  مقالات

عن الأمل وصندوق بندورا

عن الأمل وصندوق بندورا[1]

أدونيس غزالة

"الأمل مهين كالجوع"

بعد قراءة هذه الجملة الشعرية للشاعر السوري علي جازو، يبدو أننا سنستيقظ على التواء معرفي في عظم الثقافة. إذا كان (الأمل مهين) ألا يعني هذا أننا جميعاً قد تلقينا صفعةً قوية على وجودنا؟!

إذا أردنا البحث عميقاً في الأمل، انطلاقاً من هذه الجملة، لابد لنا من الوقوف مطولاً أمام الأسطورة الإغريقية "بندورا وسرقة النار"؛ ففي صندوق بندورا ربما تختبئ الإجابة.

يمكننا أن نستشف التميّز الذي حققته الأسطورة الإغريقية "بندورا وسرقة النار" على باقي الأساطير، من خلال تأويلاتها الكثيرة وقراءاتها، وتضمينها الكثير من المفاهيم، ثم الكشف بشكل واضح عن تلك الفترة التي كُتبت فيها. هي لم تكن عبارة عن سرد أحداث بريئة من قصدية ما. ففي النهاية، يختبئ وراء كل سطر مغزىً (لا يزال حيّاً) إلى يومنا هذا. فإذا كان الأمل هو المغزى الذي تُوّجت الأسطورة به، يمكننا قبل أن نتناوله أن نتقصى الطريق الذي أودى إليه، ابتداء بالهيمنة الذكورية على فضاء الأسطورة، إلى المرأة المدانة سلفاً بجرم لم تقترفه، ثم إلى الفضول بما هو اعتداء؛ إذ بينه وبين التلصص عرى وثيقة، وصولاً إلى الأمل الذي سنبحث فيه.

سأقوم باستعراض أحداث الأسطورة من خلال شخصياتها اعتماداً على الميثولوجيا الإغريقية في كتاب "أساطير الحب والجمال عند اليونان" للمؤلف "درّيني خشبة".

تبدأ الأسطورة مع بروميثيوس، وهو أحد ذراري التيتان العمالقة، وكانت الأرض من نصيبه، فقام بخلق البشر، ولكنه خلقهم من الذكور فقط، وجعلهم ينعمون بالحياة، ولم يكتف بذلك، بل قرر منحهم نعمة إضافية، فأهداهم النار التي كانت محرمة على غير الآلهة، لذلك عاقبه زيوس، كبير الآلهة، وعلقه أعلى الجبل وأرسل له رخاً ينهش جسده، حتى يبلغ كبده ثم ينصرف عنه، لتلتئم جراحه في الليل، ويعود الرخ في الصباح ليعيد الكرة، حتى أتى هرقل وأنقذه، وعاد بروميثيوس إلى عباده الذين فرحوا به لما كانوا ينعمون بفضله من رغد العيش.

عندما رأى زيوس عودة بروميثيوس وما ينعم به عباده، أراد أن ينتقم منه مرة أخرى، ولكن هذه المرة من خلال البشر الذين أنشأهم بروميثيوس نفسه، فخلق له بندورا، التي منحتها الآلهة الكثير من الهدايا، ولكن الهدية الملتبسة، التي ستشكل حجر الزاوية في الأسطورة، كانت هدية هرمز، رسول الآلهة، فقد أهداها قلب كلب، ونفس لص، ومكر ثعلب، وقام زيوس بإرسال بندورا إلى بروميثيوس، لكن بروميثيوس رفضها لعدم ثقته بالآلهة، فتزوجها أخوه أبيمثيوس، خالق الحيوانات.

أما صندوق بندورا، فهو الذي أرسله زيوس إلى بندورا لينتقم من البشر، وكان يحتوي جميع الشرور البشرية، من جشع وغرور وافتراء وفقر وجوع وكذب وحسد إلى أخره من الشرور، مضافاً إليها الأمل، وقد أوصاها ألا تفتحه حتى يأذن لها، ولكنها بسبب هدية هرمز، الذي منحها الفضول في تضاعيف الطبائع الثلاث، قامت بفتح الصندوق، فانطلقت منه جميع الشرور، ما عدا الأمل الذي أغلقت عليه في اللحظة الأخيرة مخافة أن يكون شراً إضافياً، ثم عاد زوجها أبيمثيوس وفتح الصندوق، لينطلق الأمل منقذاً للبشر.

يمكننا قراءة الهيمنة الذكورية التي تفوح من جوانب الأسطورة وثناياها، ابتداء من زيوس كبير الآلهة الذي خلق امرأة لينتقم من بروميثيوس، إلى بروميثيوس خالق البشر الذكور فقط، إلى أبيمثيوس الذي سُحر ببندورا وتزوجها بعدما رفضها أخوه، ثم إلى تسيده دور البطولة، عندما أعاد فتح الصندوق بدل بندور ليُنسب إليه الفضل في إطلاق الأمل، والذي اعتُبر روح الخير، وهنا نرى أن المرأة، بندورا، نُحّيت في هذا الحدث، ليبرز دور الرجل المنقذ، إضافة إلى التناقض الدلالي الواضح بين معنى اسم أبيمثيوس وهو الشخص المتهور، ومنع بندورا في البداية من فتح الصندوق مراعاةً لمشيئة الآلهة، لماذا انتصر فضول بندورا على تهور أبيمثيوس، وتُركت لها مهمة فتح الصندوق؟ ألا يشير ترك مهمة فتح الصندوق لبندورا على الإصرار الذكوري في إلصاق التهمة بالمرأة.

ولن يفوتنا بالطبع هرمز وهديته الخبيثة لبندورا، ففي قلب الكلب، سيرن بقسوة جرس التلهف والعطش، وفي نفس اللص، ستنمو بذرة التلصص والاعتداء، وهاتان الهديتان لا تتحققان دون الهدية الأخيرة: الخبث في مكر الثعلب. إذا نظرنا جيداً إلى هذه الهدية سنرى أنها، باجتماع عناصرها، ستسفر عن الفضول، الذي قد يحمل في عمقه قيمةً أكثر انحطاطاً، مما كنّا نظن، ثم ألا نرى أنه بقي ملتصقاً بالمرأة أكثر من الرجل إلى يومنا هذا، ناهيك عن ذلك أن الكاتب والقارئ يتحاملان على المرأة وفضولها، ويلقيان اللوم عليها لما تسببته من شرور، ناسين أو بالأحرى متناسين زيوس الذكر الذي قام بخلق بندورا لغرض في نفسه، ثم أرسل إليها الصندوق. وبالنظر إلى الأسباب والنتائج نرى أن زيوس هو السبب وبندورا هي النتيجة، ونحن غالباً ما نترك الأسباب ونحكم على النتائج، وهذا ينسحب على حياتنا اليومية، في أحكامنا وقراراتنا، وعلاقاتنا، وفي تربية أطفالنا أيضاً.

طالما شكلت الهيمنة الذكورية في هذه الأسطورة اعتداءً على الأنوثة أولاً، وإبراز سلطتها وتحكمها بمصير المخلوقات ثانياً، أليس من الأحرى أن ننتبه إلى الكمائن التي تنتظر خلف الأنساق الدلالية للمعنى. هل صناعة الأمل تقوم على إنقاذ الواقع فعلاً؟ أم أن الأمل وجد فقط، ليجعل الإنسان يتحمل آلامه من ثم ستستمر المعاناة؟

تم التعاطي مع الأمل في الأسطورة على أنه روح الخير، ولكن إذا نظرنا ملياً سنجد أنه شرٌّ أضيف إلى بقية الشرور، ولربما كان الأخطر بينها في تاريخ البشرية. لماذا؟ هذا ما سأحاول البحث عنه.

لو سلمنا مع الأسطورة، أن الأمل ذو قيمة إيجابية، فيتوجب حينها أن يكون موجوداً ما قبل الصندوق، على اعتبار أن الحياة كانت ما قبل الصندوق إيجابية لا شرور فيها، إذن ماذا يفعل الأمل في الصندوق؟ بندورا وزوجها، والبشر من بعدهم، الذين صدقوا أن الأمل روح الخير، قد انطلت عليهم خدعة زيوس، فزيوس، كما ورد في الحكاية، أرسل الصندوق لينتقم من بروميثيوس بتعذيب البشر، لا بإفنائهم؛ لأنه بتعذيبهم يضمن معاناة مستمرة لهم، ولكن بفنائهم تنتهي معاناتهم، بالتالي ستنتهي سلطته، ولكي يضمن عدم فنائهم أرسل الأمل من بين هذه الشرور، فلو لم يرسله لكان أمام البشر خياران: إما أن يفنوا مستسلمين لضعفهم، أو أن يعملوا على التغلب على الشرور، ولكن الأمل نفى فناءهم، وبالمقابل أقعسهم عن النهوض، وحدَّ من إمكانياتهم، هذه الإمكانيات التي تضاعفت بعد إهدائهم النار.

النار هي الرمز الأهم للمعرفة، فمن الطبيعي أن يغتاظ زيوس. المعرفة بالنتيجة تحتمل إمكان تهديد وتهديم أية سلطة. ولم يكن زيوس يحتاج إلى الذكاء ليستشرف الخطر الذي يحدق به بسبب حصول البشر على النار. إن شرور زيوس كافةً ما كانت لتفعل فعلها أمام المعرفة، وهنا علينا أن نقر: الأمل استطاع أن يلوي ذراع المعرفة، وحدَّ من إمكانية هؤلاء في التغلب على ما هم عليه، بل أيضاً جعلهم يتحملونه ويقبلون ضعفهم على أمل أن يتغير الحال، ولكن في الحقيقة، الأمل لن يساوي شيئاً أمام خيبات الكائن المتواصلة، هو فقط سيضاعف المعاناة ويطيل أمدها. من هنا كان نيتشه محقاً عندما عرف الأمل أنه أخطر أنواع الشر؛ لأنه يقوم بإطالة أمد المعاناة والألم.

الأمل في المعاجم يعني الرجاء، والفعل منه أمَل، ويعني ترجاه. تمناه رغب به، أو ترقبه تمنى وقوعه، أو رجاه وتوقعه وانتظره. وبالنظر للمعنى اللغوي، الأمل يجعلنا في زيارة دائمة للمستقبل، لأنه مرتهن بالمستقبل، فكلما امتلأت بحاضرك تضيق مساحة الأمل؛ عيناك المعلقتان على القادم تهمل الآن، آن/ ك. إيكارت تولي في كتابه "فلسفة الآن" يقول: (علينا أن نتصادق مع الحاضر ونقدره، ونعيش فيه، ولا بأس أن نقوم ببعض الزيارات للماضي والمستقبل، ولكن ليس العكس، لا يجب أن نعيش في الماضي والمستقبل، ونقوم ببعض الزيارات لحاضرنا). ألا يشكل هذا دعوة، لأن تحفل وتهتم بما بين يديك؟ أليس الآن هو النبع الذي يغذي الوجود؟ أليس الأمل تعبيراً فجّاً عن نقص ما لم يوجد بعد، واليأس هو إحساسك العميق بحرمانك من ملكيته؟

اليأس ليس ضد الأمل، إنما منبعه وبيته الضيق، بخلاف الأمل العمل، واليأس عكسه الاهتمام، أن تكون مهتماً يعني أن يكون لديك ما تفعله وتفعله بحب، وما دام هناك ما تفعله بحب فلن تقع في فخ اليأس. هو سينتفي بانتفاء الأمل. وبما أن العمل المثمر لا يمكن أن يقوم من دون الاهتمام، يمكننا أن نستنتج أن الأمل واليأس وجهان لعملة واحدة. الإنسان المتجرد من الثقة بالنفس، ومن ثم بالحياة، المتجرد من الفرح الذي هو صديق التفاؤل، لباسه اليأس، وعكازه الأمل، و يا له من مشهد مثير للشفقة.

الحياة الفاعلة تقوم على خطة وتنظيم وآلية تنفيذ، كما ذكرها الدكتور "مارتن سليجمان" مؤسس علم النفس الإيجابي، وهذه المقومات لا يدعمها الأمل، إنما التفاؤل، الذي هو عملية نفسية إرادية تولّد أفكار ومشاعر الرضا والتحمل والأمل والثقة، وتبعد أفكار ومشاعر اليأس والانهزامية والعجز، كما عرفته منظمة الصحة العالمية. بالطبع يرتبط الأمل في التعريف الآنف ذكره بحجمه الطبيعي أي قبل أن تنفخ فيه إيديولوجيا ما أفكاراً خلاصية. كما أن الثقة في التعريف السابق ستغدو المفردة الأهم؛ لأنها ستعمل على ارتقاء بقية المفردات إلى معناها الواقعي والحقيقي، ولكن في واقع خسرنا فيه الثقة بأنفسنا وبالحياة، سيستلم الأمل زمام الأمور، ويحرف مسار الأفكار ومشاعر الرضى والتحمل عن معناها الحقيقي. وبذلك يخرج التفاؤل عن كونه بعداً أنطولوجياً، ليغدو الأمل فضاءً إيديولوجياً يحتم على الجميع عماءً خلاصياً.

لن يفوتني سؤال يمكن أن يتردد في ذهن القارئ العربي. ولكن هذه الأسطورة لا تخصنا؟ حسناً. إنّ التجربة الإنسانية، رغم تبايناتها، تجربةٌ عامة وتغذيها جذور قبلية مشتركة. بالتالي إن اختلافات الصيغ الدلالية التي تتشكل من تعددية وتباين التجربة، لا تلغي الطابع المشترك للوعي الإنساني في مرحلة من مراحله، وأقصد الهيمنة الذكورية التي مازالت تشد الحياة إلى الأسفل؛ وذلك بتنحية وإقصاء البعد المؤنث وتهميشه. والسلطة التي رغم تغيّر أدواتها ما زالت تحافظ على جوهرها (التسلط)، واستمرار التسلط مرتهن في جانب من جوانبه للأمل، الأمل: المخدّر الذي تقوم السلطة بإهدائه لشعبها، هذه الهدية التي تزين المستقبل، وتضمن صبرهم على واقع مهترئ، وتضمن بالتالي استمراريتها بدون بذل جهد، وربما واقعنا العربي مثال على ذلك.

"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"؛ الأمل هنا ملاحقة عبثية لواقع الصورة لا لصورة الواقع، والعيش الضيق سيبقى ضيقاً مهما زخرفته أصابع الأمل. هو لن يدفعنا إلّا إلى سقطة تلو الأخرى، فكل سعادة قائمة على الأمل، سعادة زائفة؛ لأنها سعادة مؤجلة. أن تسعد بما ليس بين يديك مهملاً الفرح الذي يمكن أن تخلقه هاتان اليدان، يعني أن تزهر الأمنيات من جذر الحاجة، ومن عدم قدرتنا على تغيير ما لا يرضينا. من سيسقي الأمنيات غير الأمل. إن من يحرث الهواء لن يحصد إلّا الانتظار.

[1]- مجلة ذوات 38