لست أسير هويَّتي


فئة :  مقالات

لست أسير هويَّتي

لست أسير هويَّتي

(طبقات الهويَّة)[1]

سعيد يقطين*

1 . المزابي ـ الأصول:

سألت نفسي مرَّة: من أنا؟ فكان الجواب الذي انتهيت إليه مع مرور الزمن: لست ما وجدتني عليه، ولكن ما أريد أن أكونه، بين ما كنت، ومن أنا؟ هنا والآن، وما أريد، أو ما يمكنني، أن أكون، هذا هو سؤال الهويَّة. مع مرور الزَّمن كانت تتشكَّل طبقات من الهويَّات، ويترسَّب بعضها تحت بعض، أو يطفو فوقها، أو يتجاور إلى جانبها، فهل من سبيل للتحرّي والاستكشاف والاختيار؟

أتحيَّر على جيلالة[2]، وأُحضِّر على السَّواكن[3]، وأرقص على العيطة[4]. أدوِّح برأسي، وأنا أقلب يديَّ الممدودتين تحت رأسي، أو المشدودتين وراء ظهري، وأميل بجذعي يميناً ويساراً عند سماع التلاوات القرآنيَّة الشجيَّة. «الحال» هو ما يسم «حالي»، مهما كانت الأحوال والأهوال.

كنت لا أتفاعل مع الطَّرب الأندلسي، ولا الملحون[5]، ولا أغاني عبد الحليم ولا أمّ كلثوم، ولا الأغاني الفرنسيَّة، حتى وأنا تلميذ في الإعدادي. أعدُّ كلَّ ذلك غريباً عنّي، ولا أفهم الكلمات التي تتردَّد في تلك الأغاني. لكنّي في المقابل، كنت أعجب بالأفلام الهنديَّة وما تحويه من رقصات وأغانٍ، رغم أنّي بالكاد كنت أحاول تبيُّن المعنى العام الذي تومئ إليه. وفي الوقت نفسه، كنت أتفاعل كثيراً مع نغمات لوتار، وجرَّات كمنجة الأطلس، وإن كنت لا أفهم تمازيغت.

من كانت ملاعب صباه حلاقي[6]اشطيبة، وتسكّعه الدائم في سوق الكلب، وكريان[7] الزيزون في حزام الفقر الشديد في الدار البيضاء، وفتح عينيه على بائعات الخبز، والخيَّاطات في السُّوق... والحلاقي التي لا يشاهد فيها سوى القرادين، وحواة الأفاعي، وروايس[8]سوس، وشقلبات أولاد سيدي احماد وموسى، وشيوخ العيطة، وحضرة جيلالة... لا يمكنه إلّا أن يكون واحداً ممَّن هاجر أبواه من البادية إلى الدّار البيضاء في أواخر الأربعينيَّات بعد المعاناة الشّديدة من الآثار الخطيرة التي تركها الجفاف و«عام الجوع»، وما صاحب ذلك مع انتشار وباء الجدري. في هذا الفضاء بكلّ تشعُّباته وتناقضاته ستبدأ هويَّة ما في التشكُّل.

كانت الهجرات متعدّدة من كلّ نواحي المغرب إلى الدَّار البيضاء التي صارت أحياؤها الشعبيَّة فضاءات تجمع الفقراء-الغرباء. كان التعاطف الجماعي هو ما يوحّد بينهم، وقد تعدَّدت صوره وأشكاله. وكان «التراضع» أهمّ مقوماته، فصارت لي عدة أمَّهات؛ أرضعتني الشلحة السوسيَّة أمّي يامنة، والرحمانيَّة أمّي محجوبة، والصحراويَّة أمّي فاضمة. وكانت أمّي ترضع بالمقابل أولاد الشلحة والصحراويَّة والعروبيَّة، وسواهنَّ. وكان الإرضاع لمن لها بنت أن ترضع بنتاً، ومن لها ولد أن تفعل مع من يشابهه في الذّكورة، أملاً في التآخي، والتزاوج، ودرءاً للزَّواج من أخت الرّضاعة. كان التفكير في المستقبل الجماعي قيد الحلم والمحبَّة والأمل.

حين كانت أمّي - رحمها الله- تراني ألمُّ وأطمُّ، وأنظّم أشيائي، وأرتّبها كي لا تطالها يد عابثة، وأجمع وأمنع، وأقتصد في كلّ شيء، صارّاً الرّيال على ّالريال، تعلّق: أليست أمُّه يامنة؟ الله يذكرها بخير. ومثل هذا تقول حين أغضب غضبة مضريَّة، أو أناقش بعنف وشدَّة: إنَّ أمَّه صحراويَّة! أمَّا حين أغنّي وأرقص طرباً، فلا يجد خالي بوشعيب بُدّاً من قول: إنَّه ولد العلوة[9].

لم تكن هذه الأخوَّة من الرَّضاعة تمنعنا، ونحن نلعب أو نتشاكس، من أن يسبَّ بعضنا بعضاً بالعروبي، أو الشلح، أو الدراوي، أو بالتشوُّهات الخلقية: الأعور، المعمش، الأعرج، اكَعيَّة (الأحدب). لم تعد تنبت للأجيال الجديدة من المواليد حدبات؟ لكن في زماننا كان الكثيرون منَّا يتميّزون بهذه الزائدة الظهريَّة، أو بالإصبع السادس، أو بالأصابع الملتصقة...، كان قصر القامة، وطول الرأس أو تضخّمه أو عدم اتساق جوانبه، أو العمش، والقوب، والقرع، والعرج، ونقط الجدري، بادية على السّحنات، وكان سوء التغذية بادياً على ملامح الجميع. فكانت توحي لنا بتعيير أصحابها بها مهما كانت الأصول والألوان، والأعراق واللّغات. وكان ما يجمعنا أكثر ممَّا يفرّق بيننا: التسكُّع في الأسواق والحلاقي، وحبّ الغناء الشّعبي الذي يجمعنا، رغم تباين الأصول والفروع، والبحث عن رغيف خبز كارم، أو برتقالة ضائعة وسط السّوق.

كان الاحتفال بعيد العرش في الستينيَّات مناسبة توحّدنا؛ كان عيداً وطنيَّاً حقيقيَّاً لا يقلُّ أهميَّة عن العيد الصغير أو الكبير. وكما كنّا نضحّي بالكبش في عيد الأضحى، كان الاحتفال بعيد العرش بالدّيك الحبشي. وقد نظم الفقيه ولد قربال المذكوري قصيدة شعبيَّة سمَّاها: «ما وقع للرجل مع زوجته حول كبش عيد الأضحى، وبيبي عيد العرش». كان الاستعداد لعيد العرش يتمُّ تلقائيَّاً في كلّ الأحياء الشعبيَّة. تقام المنصَّات في كلّ الفضاءات والسَّاحات، وفي دار الخليفة (المقاطعة) وفي لاجونيس (دار الشباب)، وبين كريان الزيزون وكريان سيدي محمَّد وكريان الحفرة القريبين من درب ميلا والقشاشة. كانت تستقدم الفرق الفولكلوريَّة الشعبيَّة من مختلف الأقاليم والمناطق المغربيَّة: تسحرنا الألبسة التقليديَّة، والأدوات الموسيقيَّة المختلفة، واللّغات التي تصدح بها حناجر المغاربة في المناطق النائية والمعزولة. تثيرني الرزات على الرؤوس، والخناجر الفضيَّة المتدليَّة من الحزام، وملابس النساء المزركشة بالألوان الزّاهية والمتعدّدة. شلوح وعرب وصحراوة وكَناوة... ألوان متعدّدة، ولغات متنوّعة، ورقصات رجاليَّة ونسائيَّة ومختلطة عفويَّة ومنظَّمة ودقيقة بشكل لا يمكن أن يعلّم في المعاهد أو المدارس. هذا إلى جانب الفرق شبه «الغجريَّة» بألبستها الغريبة، وشعورها الطويلة المنفوشة: هداوة وحمداشة وعيساوة وأولاد بويا رحال، وهم يعزفون وصلات غريبة على إيقاعات الدربوكات الكبيرة المسندة على الأكتاف، وشرب الماء السَّاخن، وابتلاع الزجاج والأشواك، واللّعب بالأفاعي، وضرب الأيادي بالسكاكين، وإدخال المخاييط في الألسنة والأحناك.

بدأت أربط بين الوصلات الفولكلوريَّة ومناطقها البعيدة، حين يصرّح كلّ واحد منَّا نحن ـالأطفال ـ بوصل الفرقة باسم بلاده، فبيَّنت لي هذه المناسبة أنَّني أنتمي إلى بلد أعمّ من مزاب[10]، ومن العلوة، ومن الكريان. وأنَّ هؤلاء الكريانيين مثلي يجمعني بهم ليس فقط هذا الحي، وإنَّما وطن يتَّسع لنا جميعاً. هذا الوطن الغني بتراثه وتنوّعه وتعدُّد أجناسه ولغاته. ولمَّا كنت أربط العرش بالشّعب، من خلال مقولة: «ثورة الملك والشعب» التي كانت شعاراً إبَّان الحركة الوطنيَّة، كانت تتأكَّد لي هذه الهويَّة الجامعة: «احنا المغاربة».

أمَّا عاشوراء، فلم تكن أقلَّ جاذبية من عيد العرش. تتحوَّل روضة الشّهداء إلى فضاء متعدّد الأعراق والأجناس. يحجُّ المنشدون والمغنون، ليس فقط من ربوع المغرب. رأيت الواسطيين[11]برزاتهم العالية، و«المطرق» الذي يحمله كلُّ واحد منهم، والليرة التي تصدح بصوت رهيف، وألحانهم الرائقة الشجيَّة. وكانوا يأتون من السنغال بسحناتهم الداكنة، وطولهم الفاره، مع رشاقة القوام، بكَندوراتهم البيضاء أو الزرقاء، وطرابيشهم الحمراء، وهم ينشدون مدائح نبويَّة، أو يبيعون أشياءهم الأفريقيَّة الغريبة: الودع، والسبحات من اللبان، والأعشاب، وقوارير الاستشفاء.

فتحت عيني، أو سقط رأسي، سيَّان، في كريان الزيزون في الدّار البيضاء (بلوك 15، زنقة 7، رقم 5). كانت مقبرة الشُّهداء وراء ظهورنا، ولا يفصلنا عنها سوى جدار إسمنتي طويل يلتوي كحيَّة لا تسعى، عند استواء الطريق المؤدية إلى الرباط، وصارت الآن ممرَّاً للطريق السيَّارة بعد أن تمَّ هدم كلّ تلك المعالم التي ظلّت تتوارى في ذاكرة تشكَّلت في زمان ولّى قبل سنة 1976. ولم تكن أمامنا سوى ساحة مستطيلة، متربة في الصيف، موحلة في الشتاءات الطويلة. أتذكَّر في صغري أنَّ أحد الفلّاحين كان يزرعها بالقمح، ويسرح فيها البقر، ويمرح الدجاج وبيبي، وكنا نلعب فيها، قبل أن يخليها بعد تزايد أعداد السكان في الكريان. ثمَّ صارت مربط الحمير والبغال والخيول إلى جانب العربات الخشبيَّة التي تشرع تلك الدواب في جرّها مع غبش الفجر. ووراءها سوق الكلب، الذي كان يزخر بكلّ البضائع من الخضر واللّحوم، إلى الملابس والخشب، والحديد، والخردوات، وحتى أجزاء السيَّارات المتلاشية، بل كان فيها «العشَّاب» يبيع إلى جانب كلّ أنواع الأعشاب صغار حيوانات الصحراء من الثعالب إلى أشبال الأطلس! تمتدَّ هذه السوق العجيبة لتتَّصل بساحة اشطيبة التي لا تفصلها عن السوق سوى طريق متربة مستوية من جهة كريان الزيزون، ثمَّ تتحوَّل عقبة كأداء، عندما تصبح محاذية لحي البلديَّة ومبروكة. تجد الآن في هذا المكان الدوّار الذي يحملك إلى مبروكة ولالة مريم، أو إلى الطريق السيَّار نحو الرباط. كانت تمرُّ بها الشاحنات والدرَّاجات الناريَّة المتوجهة إلى حي مبروكة، أو بورنازيل يساراً، أو إلى حي البلديَّة وسيدي عثمان يميناً. كانت تملأ هذه السَّاحة عشرات الحلاقي، وباعة الكتب القديمة، والأعشاب، والمكسّرات، والآلات الموسيقيَّة الشعبيَّة. وعن هذه السوق قالت شيخات[12]زمان عن المرأة إنَّها: «غادية وتنقب/ حتى لسوق الكلب»، أو الأخرى التي تقول: «بارك ما تعجب/ هذا سوق الكلب».

تمتزج في هذا السّوق وتلك الساحة روائع نفاذة ومتنافرة. ويتجاور في هذا الفضاء الغناء، أماماً، في الحلاقي، بالتلاوات القرآنيَّة التي تتلى على قبور روضة الشهداء خلفاً. وفيه تفتَّحت عيناي وكلُّ حواسّي على رهبة المكان وفظاعته وجماليته، وعلى هدوئه وصخبه، وعلى وداعته التي تصل إلى درجة الطيبوبة المشفوعة بالسذاجة، وعنفه الذي ينتهي إلى حدّ القتل، أو جريان الدّم. بدأ تكويني بين هذين الفضاءين قبل دخول المدرسة. فكنت إلى وقت العصر أذهب إلى جامع السي الرجراجي في أقصى الكريان، لتعلّم القراءة والكتابة وحفظ القرآن، وبعد ذلك إلى الحلاقي لسماع الأغاني الشعبيَّة، وعجائب السير الشعبيَّة، ومعاينة خصومات الخضارة، وشطارات اللصوص والمشاغبين، وحيل السعاية والطلابة من كلّ الأجناس والأنواع. كان نصف النَّهار الأوَّل يتَّخذ وجهته إلى الخلف، بينما كان نصفه الثاني يسير إلى الأمام. هكذا الدّين والدّنيا، كلٌّ يجرُّنا إلى فضاء مختلف؛ بل ومتناقض حتَّى في الزَّمان.

هاجر أبي وأمّي إلى الدَّار البيضاء مع أخوي الكبيرين في أواخر الأربعينيَّات. وبعد السكن مع من هاجر قبل غيره من القبيلة إلى الدَّار البيضاء مدَّة من الزمن تمَّ شراء براكة في كريان الزيزون. وفي هذه البراكة سقط رأسي فعلاً، في أواسط شهر رمضان، سمَّتني أمّي سعيداً تيمُّناً بالاستقلال. لم أكن أعرَف إلّا بسعيد بين أقراني. فأنا: «السعيد»، هكذا كان بعض النُّسوة والرجال ينادونني. لكنَّ جارات أمّي، وهنَّ من قبائل متعدّدة، كنَّ حين يتحدّثن عنّي لا يميزنني إلّا بـ «ولد المزابيَّة». ومزاب إحدى القبائل المشهورة في الشاوية. وحين تكون أمّي مع امزابيات من قبائل غير قبيلتها، كنت أسمعهنَّ ينادينها بـ «الشبانيَّة»، ولا يمكن أن أكون إلّا «ابن الشبانيَّة». كانت القبيلة تعرف بـ «أولاد اشبانة»، وهي القبيلة التي يقول فيها المغنون الشعبيون، بمن فيهم محمَّد رويشة الفنان الأمازيغي: «أنتما أولاد اشبانة/ وهذا الحال راه بلانا».

لست أدري هل كلّ الذين يؤدون «ساكن العلوة» يعرفون بالضبط أين توجد «أولاد اشبانة»؟ لم يكن لقبيلة أولاد اشبانة مزار لجدّهم الأكبر، شأن أغلب القبائل المغربيَّة. كانوا يعمرون سيدي امحمد الفكاك، ويعتبرون من خدَّامه. وفي علاقة أولاد اشبانة بسيدي امحمد الفكاك نسمع في ساكن العلوة الذي يعدّد أولياءها وصلحاءها كما يأتي ذلك على لسان «إخوان لبصير»: «بويا الجيلالي/ العلامات فيك تشالي/ شكون الولي اللي حذاك/ سيدي امحمد الفكاك/ المعاريف أولادك/ أولاد اشبانة خدّامك».

في أولاد اشبانة كانوا يميزوننا بـ «أولاد بوحديد»، وداخلهم، نحن «أولاد بضو». وكان أبي ـ رحمه الله ـ حين يزور سيدي امحمد الذهبي قرب ابن أحمد، لا يناديه سوى بـ «البضيوي». فمن أكون؟

أنا سعيد المزابي، الشباني، البضيوي. انتقل الجدُّ الأكبر من مراكش، وترك أولاده في الشاوية ليكون دفين مكناس. يمكن اعتبار هذه الهويَّات أصولاً لستُ مسؤولاً عنها. لقد وجدت نفسي أولد في فضاء من أسرة هاجرت واستقرَّت في الدّار البيضاء، وفي كريان الزيزون تحديداً. كان أقراني في الكريان يسمُّونني سعيداً. وحين كنَّا نتعارك لأتفه الأسباب يسبُّني أحدهم بأنّي: «لعروبي»[13]، وأردُّ عليه بأنَّه «الشلح» أو «الدراوي». هنا بدأ يتكوَّن لديَّ الإحساس بأنّي «مزابي» تبعاً لأصول والدي. وعليَّ أن أقبل هذه «الهويَّة»، وفي الوقت نفسه العمل لا شعوريَّاً على «التنكُّر» لها. لقد كانت امزاب في المتخيّل الشعبي في الشاوية، وفي الدار البيضاء خصوصاً، ترتبط بالعنف والمغالبة وحبّ السيطرة وكثرة الشجار ولو لأتفه الأسباب. كان انتمائي إلى امزاب محلَّ اعتزاز، من جهة، لما عرف عن أولاد امزاب من شهامة وكرم، وسبَّة، من جهة أخرى، لما كان يتداول عنهم من عنف. ولذلك تقول الشيخة: «اوليدات امزاب/ يعلموا الأداب». وليس المقصود بالأدب هنا غير العنف الذي يجعل خصمهم هادئاً ومصيباً في سلوكه وتصرُّفاته في حضرتهم.

أنا المزابي؛ أي العروبي. هكذا أنا كما وجدتني، وأنا أواصل الحياة في هذا الفضاء. ماذا كنت سأكون لو توقفت عن الدراسة شأن المئات من أترابي وأقراني الذين كانوا ينقطعون عن الدّراسة في السنة الأخيرة من الابتدائي: «الشهادة»؟ وجاءت انتفاضة 23 مارس 1965 لتكون ردَّ فعل على السياسة التي جاء بها بلعباس التعارجي، لتضع حدَّاً لمتابعة الدّراسة لمن تقدَّم في السّن، وكان طرد الآلاف من التلاميذ.

كنت سأكون لو لم أكن ما صرت عليه إلى الآن: «الطالب أو الفقيه السي اسْعيد»، أو «الشيخ سعيد المزابي»، لما كنت أتوافر عليه من طموح: مقرئاً يتنافس المؤمنون على اقتناء تسجيلاته، أو مغنيَّاً تتسابق عليه الأعراس، وتتَّصل به دور التسجيل. وكنت سترى صورتي وأنا أمسك بالوتار، مرتدياً جبَّة مخطّطة، وعلى رأسي طاقيَّة على غلاف أسطوانات كازافون. ألا ترى أنّي حين فتحتُ عيني لم يكن إلّا الجامع ورائي، والحلاقي أمامي؟ أمَّا المدرسة في حي الفرح، فكنت أقطع إليها مسافات طويلة.

لم أنسَ، كنت سأكون لاعباً لكرة القدم. لقد كنت محبَّاً لفريق الرَّجاء البيضاوي. وفي الكريان، وفي المدرسة الابتدائيَّة وحتى الإعداديَّة، كان أقراني لا يلعبون إلّا إذا كنت حاضراً. كنت ألعب في الجناح الأيمن؛ لأَّنَّ النَّجم الذي كنت أحبُّه هو سعيد غاندي لاعب الرَّجاء المشهور. لكنّي عندما ذهبت لألعب في ملعب حقيقي، بكرةٍ حقيقيَّة، بناء على اقتراح أحد زملاء الدراسة (رضوان) الذي كان يلعب في الرَّجاء، تبيَّن لي أنَّ رجليَّ لا تستحملان هذه الكرة الصلبة، فلم يكن لديَّ حذاء للّعب، وكنت ألعب حافياً، وطول الملعب لا يمكن أن أملأه بالجري، فسوء التغذية، وضعف البنية (الخبز وأتاي) حالا دون أن يكون لي طموح في أن أكون لاعباً، ربَّما سيكون له دور في تاريخ كرة القدم المغربيَّة. فمحوت صورة اللَّاعب من مخيلتي، وبقيت أثير الإعجاب في ملاعب الحيّ الصغيرة، وبالكرات الرّطبة والصغيرة. أنا الرّجاوي الذي لا يزال في طبقةٍ من مخيلته حبُّ الرّجاء، وإن تبدَّل الزمان والفضاءات، وتغيرت الأجيال.

كانت كلّ طفولتي في كريان الزيزون. وكان قضاء فصل الصيف بكامله، حين كانت العطلة الدراسيَّة تمتد ثلاثة أشهر كاملة، في أولاد اشبانة. ولم يكن ذلك إلّا ليؤهلني لأكون أحد هذين الرجلين: الفقيه أو الوتايري. وفي قبيلتنا كان بعض الفقهاء يعزف على لوتار، بل إنَّ محمَّد ولد ملوك حجَّام القبيلة كان في المناسبات والأفراح يجلس مع الجْماعة (الشيوخ) بعد الظهر، يقرأ معهم القرآن، وفي الليل مع «رباعة الصّْغار» يغنّي العيوط والسواكن. ما أجمل هذا المزيج الرائع بين كلام الله وكلام الناس! وأنا إلى الآن أحبُّ هذين الرَّجلين حبَّاً جمَّاً. فأفرح حين أدعى إلى مجمع يتلى فيه القرآن سعادتي بحضور عرس تعزف فيه الأوتار، وتؤدَّى العيوط والسواكن العتيقة. لاحظ أنّ المجلسين معاً لا يخلوان من «الطعام» (الكسكس) الذي أحبه حبَّاً جمَّاً، وذاك جزء من ذاكرة جماعيَّة تحبُّ «طعام الجماعة»، والجلوس «مع الجماعة»، وتؤمن بـ «دعاء الجماعة» الذي لا يرد: إنَّهم فعلاً «ناس المحبَّة».

حين أنام، تتبدَّد هويَّتي؛ فلا أعرف من أنا إلّا بعد أن أستيقظ على إثر حلم برؤيا، أو كابوس، وأجدني ذاك الذي كان يستغيث من ورطة. حين أنام لا فرق بيني وبين أيّ متشرد أو متسكّع ينام في زاوية غير مأهولة قرب خربة أو محطة قطار ما.

2 . الكرياني ـ الميلاد:

دخلتُ المدرسة في بداية الستينيَّات، ووجدتني مع بداية السبعينيَّات في الإعدادي بحي درب الكبير، ثانويَّة المزرعة. كان أغلب التلاميذ الذين يدرسون معي يسكنون في دور عاديَّة مبنيَّة بالطوب والإسمنت ولا علاقة لها بمدن الصفيح أو القصدير. ولا فائدة من المقارنة، فمن يفتح الصنبور ليس كمن يجلب الماء من «العوينة»[14]. ومن يستضيء بحبابة كمن يشعل شمعة؟ وكانوا بهذا يفتخرون.

صرت أحسُّ بأنّي مختلف عن الآخرين؛ فالسكن في مدن القصدير مرتبط بالجريمة والسرقة والفقر الشديد. زالت عني هويَّة الأصول البدويَّة (العروبي)، كما هي في الحي، مؤقتاً، وصرتُ «الكرياني»، أو حين تُفرنَس «الكريانيست»، أو من «أولاد الكريان». تلك هي الصفة التي نوسم بها في الثانويَّة. وكما كنت أفتخر بالمزابي، وأتنكَّر لها، صرت أتنكَّر للكرياني التي هي سبَّة حقيقيَّة؛ أي من الأوباش والحقراء. وفي الوقت نفسه أعتزُّ بها، ولا سيَّما حين أجدني أتابع دراستي معهم، وأتفوَّق على العديد منهم، رغم الملابس التي أرتدي، أو الأحذية البلاستيكيَّة التي أنتعل. سمعت مرَّة امرأة صحراويَّة تسب أولاد الكريان، وهي أيضاً كريانيَّة بالمناسبة، بنعتهم بقولها: «أولاد الكَرْيان البَرْيان»، وأعجبتني جدَّاً هذه الصيغة. لا معنى لكلمة «البريان» سوى أنَّها من باب الإتباع والمزاوجة، كالذي نجده في «شُكْرا بُكرا».

أَتتمفصل هويَّةُ المرء وتتشكَّل على قدِّ صلته بالأصول، أم بالفضاء الذي تكوَّن فيه وجدانه ووجوده؟ هل الآخر هو الذي يعطينا هويَّة مختلفة تتَّصل بالفضاء أو بالأصول، ليصنع له هويَّة مباينة لنا؟ ألهذا نسعى إلى الاختلاف عن بعضنا بعضاً، أو به نختلف فعلاً، فنكتسب هويَّة ما؟

أنا العروبي، المزابي، الشباني، الرّجاوي، الكرياني. وأنا المحضار الذي لا يزال يذهب إلى الجامع لحفظ القرآن الكريم، حين يخرج من الإعداديَّة، وأنا التلميذ الذي يتابع دراسته في ثانويَّة المزرعة، رغم بعد المسافة، والإحساس بـ «الحكَرة»، والقهر، وسوء التغذية، وكم من أنا تشكَّلت منها ذاتي؟ وأين يمكنني ادعاء هويَّتي؟ وهل من سبيل لأختار من أكون؟

3 . العربي ـ المسلم: الاسم

في طريق العودة من ثانويَّة المزرعة، مروراً بمدرسة المقبرة، ونزولاً مع العقبة التي كان يتراكم فيها ما يُرمى من ردم البناءات والأزبال، وقد صارت الآن حي التيسير، كان راديو بائع الحريرة والحساء للمتوجّهين إلى المرسى، أو إلى مارشي كريو[15]، عبر طريق أولاد زيان، يصدح بالأغاني الحماسيَّة، وكان جمهور من الرّجال يتحوَّمون حوله متابعين الأخبار. كان يستفزّنا الصراخ، وكثرة التعليقات، فنتوقّف لسماع ما يقولون. كان صدى: «عروبتي ستنتصر» يرنُّ في أذني الصغيرة، محدثاً قشعريرة في كلّ جسدي، وأنا أفرح حين أسمعهم يقولون: سنقضي على اليهود. وبعد بضعة أيام، كنت، بعد رجوعي من المدرسة مارَّاً بالمتحلّقين حول بائع الحريرة، أرى دموعاً وأسمع تنهّدات وحشرجات، وتعليقات حول ما وقع للعرب، وأنَّهم انهزموا أمام شرذمة من اليهود، وأنَّ جمال عبد الناصر سيقدّم استقالته؟ كانت تلك هزيمة 1967. لم أتحمَّل أن يُهزم العرب والمسلمون، وبدأت أشعر بأنَّ اليهود، الذين كنت أعرف أنَّ منهم مغاربة، أعداء لنا، وأنَّنا ننتمي إلى الأمَّة العربيَّة-الإسلاميَّة. ربطت ما وقع بما تشكَّل لديَّ عن اليهود في القرآن الكريم، وبما كنت أسمعه من بعض شيوخ مسجد روضة الشهداء الذين كانوا بعد انتهاء صلاة الجمعة، يقفون خطباء يذكّرون المصلين بالتقوى، ويشيرون إلى الفساد الاجتماعي والسياسي، أو يتحدثون عن اليهود الذين احتلوا القدس وفلسطين، ويدعون عليهم بالتشتُّت والفناء.

أربط ما يجري اليوم بما صوَّره لنا القرآن الكريم، وما سمعته في الحلاقي عن الظّاهر بيبرس وشيحة جمال الدين، وفلسطين، وغزَّة، والفداويَّة الإسماعيليين، وديار بكر، ومصر، وبكلّ ما تختزله ذاكرتي عن سيرة عنترة، والأميرة ذات الهمَّة... فأرى أنَّ انتمائي أكبر من امزاب والشاوية والمغرب، وأنَّ الإسلام والعروبة يجمعاني بأناس آخرين في فضاءات نائية وأزمنة بعيدة، لا تقلُّ قدسيَّة عن مكّة، ويثرب، والقدس. وأنَّ الفقر الذي نعيش فيه، والتخلّف الذي نعاني منه، سببه عدم وحدة العرب والمسلمين. وأنَّ الوحدة هي التي يمكن أن نقضي بها على إسرائيل، وعلى الاستعمار الذي ما زال يتحكَّم فينا رغم الاستقلالات. وكان الرّصيد المعرفي الذي بدأ يتكوَّن لديَّ في المدرسة، وأنا الشغوف بالمطالعة، والإضرابات التلاميذيَّة التي رافقت هزيمة 67، والاعتقالات التي مسَّت العديد من تلاميذ ثانويتنا، أن بدأت تتشكَّل لديَّ هويَّة أخرى تتجاوز الفضاء الضيق (الكريان)، والفضاء الوطن إلى فضاء أوسع يتَّسع للتّاريخ العربي والإسلامي، ويمتدُّ على جغرافيا أخرى: اسمها الوطن العربي. وصارت فلسطين تحتلُّ جزءاً مهمَّاً من ذاكرتي الصغيرة.

كان محمَّد التَّطواني أحد جيراننا في الكريان من المقاومين الذين كانوا ينتمون إلى حزب الشورى والاستقلال. وكان كلُّ جيراننا في الكريان، ومن بينهم أبي وأخي، منخرطين في هذا الحزب. عانوا كثيراً مع حزب الاستقلال صبيحة الاستقلال. وكانت علاقتنا بهذا الجار قويَّة جداً، حتى إنَّها أصبحت عائليَّة. عانى السي محمَّد كثيراً بسبب تأسيسه مدرسة حرَّة في حي الفرح سمَّاها «عمر بن الخطاب». حورب واعتقل، مرَّات عديدة. وأخيراً لم يبقَ أمامه سوى تأسيس جريدة لإسماع صوت ما كان يسمّيه «النَّجم الثاقب». تزامن صدور العدد الأوَّل مع تأسيس منظّمة المؤتمر الإسلامي في الرباط في 25 أيلول/ سبتمبر 1969، على إثر حريق مسجد الأقصى في 21 غشت من السنة نفسها، فنشر فيها ملفاً خاصَّاً عن المؤتمر، وإحراق المسجد الأقصى، وضمَّنه صوراً للزُّعماء العرب. حمل إلينا أعداداً كثيرة من الجريدة، فقامت أمي بإلصاقها على خشب البراكة لتفادي الريح. فكنت أرى وأقرأ الجريدة، وهي مثبتة بين الفينة والأخرى، وأحاول فهم ما جرى. لكن ما كان يثيرني كثيراً هو صورة ملك السعوديَّة بالكوفيَّة والعقال المربَّع. كان اختلافه دالّاً على تميُّز خاص. فأحببت ذلك جدَّاً لأنَّه ربطني بأصول موغلة في التّاريخ العربي-الإسلامي. فتأكَّدت عندي علاقة الأحزاب القرآنيَّة التي نتلو في الجامع مع الفجر، والمغرب، ومسجد روضة الشهداء بمكَّة والحجاز. وفي الأغاني الشعبيَّة والحكايات التي تروى في الحلاقي كان حضور النّبي والصحابة، وخاصَّة علي بن أبي طالب، ورأس الغول، فكان الجمع بين كلّ هذه الشذرات يومئ إلى انتماء آخر إلى هذه الأمَّة الإسلاميَّة. وبالإنصات إلى الأسماء التي كانت متداولة بيننا كان هذا الإحساس بالانتماء يتزايد ويتعاظم. فأمّي فاطمة، وأخواي التوأمان اللذان توفيا عقب الولادة، سمَّتهما أمي الحسن والزَّهراء. وكان اسم صاحب الأرض الفلَّاحيّة في ساحة اشطيبة، الذي كنت أمرُّ على أرضه حاملاً الخبز إلى فران مبروكة «التامي»، وهو في الأصل «التهامي» دليلاً آخر على صلة أسمائنا بهويَّتنا. ولم يكن لاسمي «سعيد»، كما بدأت أعيه سوى التمييز بينه وبين «الشقي» في القرآن الكريم، حيث كلُّ الناس أحد اثنين: «ومنهم شقي وسعيد». وصار كلُّ طموحي أن أكون «السعيد»، بغض النظر عن أيَّة هويَّة محدَّدة.

حين أستيقظ صباحاً، وأركب سيَّارتي، أحسُّ بأنّي سائق لا يختلف عن أيّ سائق سيارة أجرة، يجوب شوارع المدينة كلَّ يوم، وأنَّ قانون السير يحكمنا جميعاً من دون أيّ اعتبار لمن أنا؟ وحين أكون راجلاً، أتوجَّس خوفاً، في الشارع العام، من أن يعترضني «شمكار» بسكّين، وهو يستخرج منّي نقوداً، أو يسألني هاتفي؟ فمن أنا؟

4 . البيضاوي ـ الفاسي:

في بداية السبعينيَّات رحلت إلى فاس لمتابعة دراستي عند أخي، وإلّا كنت سأكون «الفقيه» أو «الشيخ». من كريان الزيزون إلى ظهر المهراز، وسط الجامعة. وفاس ليست هي الدَّار البيضاء. لغة رقيقة، وأولاد مهذَّبون، ومدينة تعبق بالتاريخ. أحببت المدينة العتيقة، وكان ملاذي في أوقات الفراغ مكتبة البطحاء، أو القرويين، وحين أتعب كان جنان السبيل مستراحي. انتقلت من «فولكلور» اشطيبة إلى «الثقافة العالمة» في المكتبات العامَّة، وفي الطالعة الكبرى. وبدأت أحسُّ حين أشارك زملائي اللّعب أنَّهم ينادونني «البيضاوي»، فلغتي «الحرشاء» دليل على الانتماء. وكان لا بدَّ أن تتهذَّب لغتي مع الزَّمن، وظلَّ يطاردني حبُّ سماع الأغاني الشعبيَّة، بعد أن صارت أذني تلتقط باطراد الأغاني الأمازيغيَّة مع حجاوي وحادة وعكي، وبعد ذلك رويشة، كلّما مررت من الملاح أو فاس الجديد، وأنا أسمع تسجيلات الباعة.

في فاس صرت أحسُّ بأنّي «البيضاوي» الذي تجتمع فيه كلُّ الأنوات المشكّلة في فضاء اشطيبة، وأولاد اشبانة. وكان للتكوين الذي تحصَّل لديَّ من الثانوية، وبالأخصّ في دروس التاريخ، ومن خلال قراءاتي الخاصَّة، أن بدأت تظهر ملامح شخصيَّة أخرى: الهويَّة الثقافيَّة. دفعني التعرُّف إلى القوميَّة الألمانيَّة والإيطاليَّة، واستيعاب ما جرى في عصر النَّهضة، أن صرت أرفع شعار «اتّحاد الشعوب العربيَّة» (UPA)، وأخطّه على دفاتري، وأروّج له بين أصدقائي التلاميذ. وكان الإحساس بضغط الحياة اليوميَّة على المجتمع أن بدأت في التفكير في عمل شيء من أجل هذا الوطن. وكانت بدايات الانخراط في الكتابة والإيديولوجيا. وجاءت قضيَّة الصحراء في 1975 لتجدني أقتنع بأنَّ الوحدة مطلب لتحقيق التقدُّم. ووجدتني أجسّد قضيَّة الوطن والأمَّة في الحلم الجماعي بالتغيير، وكان الفضاء الذي أعيش فيه وسط الحي الجامعي يتيح لي فرصة معايشة القطاع الطلابي وما يموج به من تيَّارات واتجاهات، وكان عليَّ أن أختار الانتماء الذي يتَّصل برؤيتي الخاصَّة للأشياء. وكانت 23 مارس أقرب إليَّ من أيّ تنظيم آخر.

من الانتماء الذي يحدّده الفضاء والأصول، إلى الانتماء الثقافي والإيديولوجي يكون الانتقال من الاستناد على الماضي إلى الحلم بالمستقبل. وإذا كان الماضي الذي يمثل الجذور يشدُّك إلى فضاء محدَّد، بأشخاص معيَّنين، يكون المستقبل يجذبك إلى تجاوزه إلى الفضاء المفترض الذي يجعلك تلتقي مع أناس آخرين من عوالم أخرى، لا تربطك بهم أواصر الدّم أو القرابة، أو اللّغة، ولكن يوحّدك بهم الحلم بالإنسان بغضّ النَّظر عن كل التَّفاصيل الخاصَّة. ويظلُّ خيط رهيف هو ما يصلك بالتاريخ الشَّخصي، ليجعلك تتَّصل برؤية أخرى للتاريخ، وقد صار إنسانيَّاً، تراه ممهّداً لمستقبل أبعد تتوحَّد فيه مطامح الإنسان ليصير «سعيداً»، بغضّ الطرف عن أنواع السَّعادات الكائنة والممكنة والمحتملة.

أَأنا فعلاً بيضاوي؟ أم فاسي حين يتعامل معي أشخاص لم يعرفوني إلّا في فاس؟ أم أنا الكاتب والمناضل المنخرط في فضاء معرفي أوسع من أيَّة هويَّة خاصَّة؟ هل تتحدَّد هويَّتي بما كنته، أم بما سأكون عليه، وقد وضعت لي مشروعاً أبحث فيه عن الكلّي والمتعالي على الزمان والمكان؟ لقد انتقلت من الإيمان بـ «الإيديولوجيا العلميَّة»، إلى الإيمان بالعلم فقط، بعد أن تبيَّن لي أنَّ كلَّ إيديولوجيا لا يمكنها إلَّا أن تكون «زائفة» حين لا تتأسَّس على العلم. ووجدت نفسي مع تطوُّر السؤال المعرفي الباحث في السرديَّات، الذي يعمل على التفكير فيها كما يشتغل بها الفرنسي والأمريكي والأسترالي والألماني؟

أَتتحدَّد هويَّتي بأصولي المتجذّرة في علاقتي بأبوي، أم بالفضاءات التي انتقلت إليها من الميلاد، إلى الآن، وأنا أسكن بتمارة؟ أبما أقول، أم بما أفعل؟ أبعقلي، أم بمشاعري وأهوائي؟ أبانتمائي الإيديولوجي والفكري في زمن من الأزمنة، أم بعقيدتي الدينيَّة؟ أم بتخصُّصي العلمي، وتكويني الأكاديمي؟ أم بالأفق المعرفي، والمشروع الذي أشتغل به، والذي يجمعني بباحثين من العالم أجمع؟

تسألني إحدى بناتي عندما أدخل الدّار: كيف حالك أبي؟ فأجيبها مازحاً: «إني أحسن من أبيك»؟ فتردُّ عليَّ مشاغبة: «أبي أحسن منك أنتَ». فأقول لها: «أنا» لستُ «أنتَ»؟ إنّي «أنا»؟ و«أنا» أحسن من أبيها؟ إنَّه بحث دائب عن الهويَّة التي تجمعني بالآخرين، لا التي تشرنقني داخل ذاتي، لذلك لست أسير هويَّتي. أقصد بالآخرين كلَّ من يمكن أن تربطني بهم هويَّة الحلم بتحقيق «الإنسان السعيد»، في الدُّنيا والآخرة، مهما كانت هويَّاتهم الخاصَّة، أو التي يحملونها على أكتافهم، أو يعملون من أجل تثبيتها.

أنا الآن، لست أنا أمس، ولا أدري ماذا أكون غداً. تتعدَّد أناي بتعدُّد التجارب وأشكال الحياة. تظلُّ طبقات من هويَّتي في قرار النَّفس، لكنَّها خاصَّة بي، ولا يمكن أن يشاركني فيها أحد، حتى أولادي. تتحدَّد هويَّتي في اختيار «الإنسان» المتعالي على أيَّة هويَّة، وعلى أيّ زمان أو مكان.

لست أسير هويَّتي. الهويَّة الآسرة تمنع عنّي رؤية الذَّات، وهي تسعى للتطوُّر لتحقيق الإنسان «السعيد» الكامن فينا. هذا السعي المستمرُّ لتطوير الذّات هو ما يحدّد اختلافها عن ذوات أخرى تتشرنق داخل طبقة وحيدة تتمحور حولها، ملغية بذلك مختلف الطبقات التي تتشكَّل منها، في الزَّمان والمكان، وغير مدركة لمميزاتها التي تدفعها للقاء الآخر، والتَّواصل معه.

(شذرات مقتطعة من: «مـ... سيرة معرفيَّة»).

[1] - مجلة يتفكرون – العدد 12

* مفكر وأكاديمي من المغرب.

[2] ـ جيلالة: فرقة موسيقيّة شعبيَّة تؤدي وصلات ذات طابع صوفي شعبي، وتنسب إلى عبد القادر الكيلاني.

[3] ـ السواكن: ج ساكن، نوع من الغناء الشعبي يركّز على الأولياء والصالحين. والأصل في الساكن هو الجنّي.

[4] ـ العيطة: جنس غنائي شعبي، ويتضمَّن أنواعاً عديدة، يتضمَّن وصلات يرافقها الرّقص.

[5] ـ الملحون نوع من الغناء المغربي المديني، يتضمن قصائد من الدارجة القريبة من الفصحى.

[6] ـ الحلاقي: ج حلقة، وهي تجمّع من الناس على شكل دائرة يتوسّطها المغنون أو رواة الحكايات والقصص في ساحات عموميَّة.

[7] ـ تطلق الكريانات في المغرب على أحياء الصفيح. والأصل في الكريان (كلمة معربة) مقالع الأحجار.

[8] ـ الروايس: ج رايس، وهو مصطلح أمازيغي يعني المغنّي، أو العازف على آلة شعبيَّة.

[9] ـ العلوة: منطقة في الشاوية، قرب الدار البيضاء، معروفة بكثرة الأولياء والأضرحة.

[10] ـ مزاب قبيلة كبيرة في الشاوية، ولا علاقة لها بامزاب في الجزائر.

[11] ـ الواسطي، مصطلح كان المغاربة يطلقونه قديماً على الجزائري، ولعلّه متّصل بالمغرب الأوسط.

[12] ـ الشيخات، ج شيخة، وهي المغنيَّة الشعبيَّة.

[13] ـ العروبي تعني في الدارجة المغربيَّة البدوي.

[14] ـ العوينة، تصغير العين، وهي منبع الماء. تضم العوينة عدة صنابر يأتي السّقاؤون والسّكان يستقون منها.

[15] ـ مارشي كريو، السوق الكبيرة التي تباع فيها الخضار والفواكه بالجملة.