فريدة التهامي طراد: قضايا في الجسد، والعالم، والطبيعة


فئة :  حوارات

فريدة التهامي طراد: قضايا في الجسد، والعالم، والطبيعة

الجزء الأول: "الجسد والعالم والنص" الرؤية والمنهج

د. نادر الحمامي: حوار جديد من سلسلة الحوارات التي نجريها مع الأساتذة والباحثين والجامعيين في مختلف الاختصاصات ضمن إطار العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة بصورة عامَّة كما يتمُّ التعارف عليها، هؤلاء الأساتذة الذين نحاول دائماً أن نحاورهم للإفادة ممَّا قدَّموه إلى البحث الأكاديمي من بحوث ودراسات، نفيد منها أوَّلاً من ناحية المعرفة وكذلك، وبالخصوص، من ناحية المناهج والمقاربات التي قاربوا بها بحوثهم ودراساتهم. وفي هذا الحوار الجديد نحن سعداء جداً بلقاء الأستاذة فريدة التهامي طراد، أستاذة الحضارة العربيَّة القديمة بكُليَّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة، ونشكرها جزيل الشكر على الموافقة على إجراء هذا الحوار معنا، حتى نستمع إلى آرائها منهجياً ومعرفياً، ومن أهمّ ما صدر للأستاذة فريدة طراد منشوراً هو أطروحة دكتوراه الدولة في الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، وهي الأطروحة المنشورة تحت عنوان "الجسد والعالم والنص المؤسس، الحيوان في الثقافة العربيَّة"؛ هذا الكتاب مليء بالإشكاليَّات والأسئلة التي يمكن أن نتحاور في شأنها مع صاحبته، وهو يفتح مجالات أخرى للنقاش حول جملة من القضايا المهمَّة في تقديرنا من ناحية المنهج بالخصوص. ونودُّ أن نسألها حول هذه العلاقات البارزة في الموضوع، بين ثلاثة مكوّنات أساسيَّة هي الجسد والعالم والنص المؤسس الذي له مفهوم خاص كما يبدو للمطّلع على هذا الكتاب، ولكن من خلال نموذج مخصوص وطريف في البحوث الجامعيَّة العربيَّة بصورة عامَّة، هو مبحث الحيوان في الثقافة العربيَّة، فما طبقته المناهج وما استقرأته النصوص كان في هذا البحث متعلقاً بالحيوان في هذه الثقافة؛ رمزياته ودلالاته والعلاقات بينه وبين الإنسان والصور والرؤى والرموز، وبودّنا أن تحدّثنا الأستاذة فريدة طراد حول هذه العلاقات البارزة في العنوان أوَّلاً.

ـ دة. فريدة طراد: شكراً أستاذ حمامي على الدعوة، وعلى تمكيني من الحضور ومن الحوار الذي سأخرج منه وأنا واثقة من أنَّني استفدت كثيراً، فكلَّما حاورت وجدت أنَّني أفتقر إلى الكثير من الإضافات، وبالنسبة إلى هذا العنوان "الجسد والعالم والنص المؤسس، الحيوان في الثقافة العربيَّة" كما هو على الغلاف يبدو جامعاً لعناصر بصفة خطيَّة (الجسد، العالم، النص المؤسس)، ولكنَّ هذه الخطّيَّة تفرضها اللغة وتفرضها الكتابة، لأنَّ الأمر يتعلق بشبكة من العلاقات وبتشابك بين هذه العناصر أو الحقول أو المكونات؛ الجسد باعتباره فضاء للكتابة وللرقن ولكتابة القوانين والأحكام ولقراءتها، أي الجسد باعتباره في حدّ ذاته علامة لها دلالات ولها وظائف، العالم باعتباره كالجسد هو أيضاً حامل لعلامات، وقد قرئ في الثقافة باعتباره حاملاً للعلامات وللآيات ومعبّراً عنها وناهضاً بتمثيلها وبتمثيل الآيات، النص المؤسس ومعنى النص كما لاحظته يفيض عن المدلول المتداول والنص القرآني، بالنسبة إليَّ النص صحيح أنَّه النص القرآني، لأنَّنا سنجد هذا الكتاب يعتمد فيما يعتمد على القراءات المختلفة والتوظيف المختلف للنص القرآني، ولكنَّه يشمل أيضاً وبالأساس تمثل المسلمين للنص المنزل؛ كيف قرؤوه؟ كيف تمثلوه؟ كيف ناقشوه؟ كيف اتفقوا معه؟ كيف اختلفوا في تأويله؟ كيف وظَّفوه؟...، الحيوان في الثقافة العربيَّة، هذا العنصر في الحقيقة هو القاعدة التي تلتقي عندها هذه الحقول (حقل العالم وحقل الجسد وحقل النص المؤسّس)، فنحن نجد أنَّ الثقافة العربيَّة والنصوص التي اشتغلت عليها تعقد صلة وثيقة بين مجمل هذه المكونات، والحيوان يحضر فيها بصفة معيَّة، ويحضر لا باعتباره مادة وحاملاً وعلامة ورمزاً فقط، بل يحضر باعتباره بانياً وفاعلاً، فهو لبنة من اللبنات التي تبني الثقافة، وقد أدرك العرب الحيوان على أنَّه علامات ورموز، ولكنَّهم أدركوا من خلاله وتمثلوا أشياء كثيرة، وانفعلوا وتفاعلوا من خلال الحيوان. النقطة الثانية التي أريد أن أشير إليها هي أنَّ هذه العناصر في علاقتها بالحيوان في الحقيقة لم أخترها ولم أفرضها، فهي ثمرة قراءة للنصوص القديمة وثمرة اشتغال على هذه النصوص المدوَّنة، وخاصة على النصوص التي تبدو بكراً ولم يتمّ الاعتناء بها أو الاستفادة منها كثيراً.

د. نادر الحمامي: قبل الوصول إلى هذه النصوص التي بقيت غائبة عن القراءة والاستقراء والتحليل، قبل تجاوز هذا العنوان البارز (الجسد والعالم والنص المؤسّس)، وأنت تحدثتِ عن شبكة العلاقات بين الجسد والعالم والنص المؤسّس بالمعنى الذي أضفته أنت، أي بالنصوص الحواف بالإضافة إلى النص الرئيس، هل يوجد تراتبيَّة معيَّنة بين هذه العناصر وهي تقيم علاقاتها؟ بمعنى هل هذه التصوُّرات والرموز تنطلق بداية من الجسد إلى العالم، أم أنَّها تنطلق من النصوص أوَّلاً؟

ـ دة. فريدة طراد: في الحقيقة، أنت تطرح مسألة تهمُّ سمة أساسيَّة من سمات الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة ومن سمات الثقافات القديمة هي أنَّها ثقافات لا تجزئ ولا تقسّم، وعندما ندرس كتب التاريخ عموماً، ليس فيما يخصُّ الحيوان فقط، فإنَّنا نجد مبدأ متحكِّماً في هذه النصوص، وهو مبدأ الوفاء للموضوع، نحن نقرأ كتباً للجاحظ مثلاً أو نقرأ تاريخ الطبري، فربما يثقل علينا هذا الجمع وتكديس المعلومات والخروج من موضوع إلى موضوع، الاستطراد، التضمين، إلى غير ذلك، وهذا موجود أيضاً في الثقافة الغربيَّة. هذا يخضع لمبدأ هام له إيجابياته وله سلبياته وهو الوفاء للموضوع، وعندما نقرأ كتب السيرة مثلاً أو كتب المغازي نجد أموراً لا تخدم السيرة، وهذا مهم، وهو أنَّنا عندما نعتمد النصوص لا نذهب إلى الأمَّهات ولا نذهب إلى المواضيع التي تخدم الموضوع (الحيوان) وإنَّما نبحث عن الضالة في حقولها وفي غير حقولها، والمهم هو في غير حقولها، لأنَّنا نعثر في المهمّش وغير الرسمي والجانبي والاستطراد والكذب والخرافي وكلّ ما أردت في هذا التنوع، نعثر على المعلومة التي لا توظف أحياناً. أحياناً نجد في نزاعات بين نساء الرسول عليه السلام أو مثلاً مناقشة نساء الرسول (ولي دراسة قادمة في هذا الموضوع) هذا نجده ولا يخشى المؤرّخ أو صاحب السيرة أو الإخباري، أو لا يهتم كثيراً بإيراده، نورده، فهذه المادة التي تبدو "مجانيَّة" هي التي تعيننا في فهم الخصائص وفهم السمات. وفي الحقيقة النصوص هي التي حدَّدت اختياري، وقد قلت مرَّة ما قاله نيتشه وغيره وقد ناقشني كثيرون في ذلك، قلت: "أنطلق في بحوثي دون منهج، ولكنَّني عندما أصل، فإنَّني أصل ومعي منهج"، صحيح بالطبع أنَّ لدينا ثقافة موسوعيَّة ودراية، فلا ندخل موضوعاً هكذا فارغي الذهن، فهذا موجود ولكنَّه نسبي في البحث، ففي البحث العلمي الأكاديمي في نظري المنهج العلمي يتبلور، ويتحكَّم فيه عاملان اثنان: العامل الأول هو طبيعة النصوص، أي أنَّنا نقوم بتأصيل النصوص كما وردت، أي طبيعتها واتجاهها، وهذا يتَّضح في اختياري للمنهج، الذي كان محكوماً في مرحلة أولى بهذه النصوص، أي بالخصائص وبالسمات، فالمنهج يحكم الموضوع، والموضوع يحدّد المنهج. أمَّا العامل الثاني فهو استثمار معطيات الدراسات والبحوث الإنسانيَّة، وبالتالي الأديان وغير ذلك، والوصول إلى هذا التأليف أو التجريد الذي يجعلنا ندرس الظاهرة وقد أصبحت المناهج والمعلومات في مستوى خلفي أي في الذهنيَّة، فأحياناً يسألونني عن تطبيق المنهج؛ صحيح أنَّ هناك المقاربة السيميائيَّة والمقاربة الرمزيَّة والمقاربة النفسيَّة والمقاربة المعجميَّة، ولكنّي لا أسقطها ولا أفرضها، فعندما أتعامل مع الظاهرة أجدها هي التي تفرض نفسها.

د. نادر الحمامي: يعني أنَّ النصوص هي التي تحدِّد المنهج لا العكس، أو الاثنان في الحقيقة، أي أنَّ مقاربة هذه النصوص وطريقة استقرائها تتمَّ وفق منهج يكتسبه الباحث من قبل، ولكنَّه يختار من تلك المقاربات والمناهج ما يتلاءم مع هذه النصوص؟

ـ دة. فريدة طراد: أنا في رأيي أنَّ المناهج يجب أن يستوعبها الإنسان ثم ينساها، هي كالثقافة، وهي ستعمل وتظهر في التعامل مع هذه النصوص، فأنا عندما اخترت أن أدرس الحيوان مدخلاً وقاعدة لدراسة هذه الحقول الأولى التي وضحناها، اخترته باعتباره مدخلاً أو مسلكاً للوصول إلى دراسة بعض سمات هذه الثقافة، لأنَّ هذه الظاهرة المهيمنة وغير المدروسة هي التي تفرض نفسها، لأنَّ فيما قدَّرت أنَّ هناك جانباً ليس مدروساً بالطريقة أو الرؤية التي هي مطروحة في هذه الكتب، فالحيوان مدروس علمياً ومدروس في القصيدة العربيَّة، خاصة في مطالع القصيدة العربيَّة، فهناك وصف الراحلة ووصف الناقة، لكن من الموقع الذي بدا لي فإنَّ هذا الجانب لم يكن مطروقاً.

د. نادر الحمامي: هذا الجانب غير المطروق هو ما تحدّده المداخل النظريَّة والمنهجيَّة التي كانت لاحقة لاستقرار النصوص ومتفاعلة معها، وهي اعتبار هذا الحيوان في الثقافة العربيَّة علامة.

ـ دة. فريدة طراد: من ضمن الاعتبارات، يعني في المنطلق صحيح، فهناك حضورُ مهيمنةٍ في الثقافة، وهي مهيمنة العلامات، أي العناية بالعلامات والتفكير بالعلامات وتوظيف العلامات، ومن ضمنها في ما يهمني، لأنَّه لا يمكن أن ندرس كلَّ العلامات في هذا المنحى، من ضمنها الحيوان باعتباره أعلاماً، ثمَّ هذه العلامة عندما تتطوَّر إلى رمز وتوظف فيما بعد في رمزيات، أي الحيوان باعتباره علامة، وهذا ما عنيت به، وليس العلامات في حد ذاتها، وإنَّما هذه العلامات عندما تكوّن نظاماً، فنحن ندرس الثقافة باعتبارها شبكة من الأنظمة، وعلامات الحيوان عندما تكوّن نظاماً مثل نظام الوسم فهي تصبح دالة، وتصبح ذات قيمة، وتكون ذات قيمة أهم، في نظري، عندما يتقاطع نظام الوسم وهو نظام سيميائي. فعندما ننظر في كتب الجاحظ نجد أنَّه يقول ما معناه "لا فرق بين الخطوط وبين الرقوم وبين الخط وبين الكتابة فكلّها كتابة"، أو عندما ننظر في ما كتب القلقشندي نجده يقول "اللفظ معنى متحرّك والخط معنى ساكن، وإن كان ساكناً فإنَّه يفعل فعل المتحرّك بإيصاله كلَّ ما تضمَّنه إلى الإفهام وهو مستقرّ في حيّزه ومكانه"، ويقول الجاحظ في تلخيصه لهذا، معنى الإفهام والإبلاغ والبيان: "كلُّ ما وظفته أو كلُّ ما وصلت به إلى الفهم والإفهام فذلك البيان". وهذا ما وصل إليه ديسوسير وبعض المدارس فيما بعد، إذ أنَّهم لم يكتفوا بالعلامة اللغويَّة واستعملوا في الدراسات وطبّقوا غير العلامة اللغويَّة أي العلامة المرئيَّة، وكلّها في الخطاب عناصر دالة، وقد نظرت إلى الحيوان في هذا النطاق من منطلق عناية العرب بالعلامات المرئيَّة، أي بالوسم باعتباره علامة يضعونها على الحيوان بتقنيات مختلفة؛ بالصوف أو بعلامات دمويَّة أو بالكيّ وغير ذلك، باعتبارها علامات مقروءة، فعندما نظرت في الوسم أضفت إليه العلامات المقروءة على جسد الحيوان، من ذلك عندما يقرأ العرب البياض على جبين الفرس، وعندما يقرؤون سواد الكلب، مثلاً، وكثير من العلامات الأخرى، فحتى الوسوم نفسها ليس لها البعد المرئي فحسب، وإنّما لها وظائف تختلف باختلاف الملكيَّة وباختلاف العلاج، وغير ذلك، وتنتقل فيما بعد إلى علامات.

د. نادر الحمامي: إذن هذا الوسم يحيل على تحوُّلات دلاليَّة ترتبط برؤية وبتصوُّر وتمثُّل كامل لهذا العالم، ومن هنا نعود إلى هذا العنوان حتى يُفهم لقارئه منذ البداية، تقريباً ما قلته في الأخير هو أنَّ هذه العلاقات تنتقل من الوسم، كما اشتغلت عليه باعتباره مثالاً، ليصبح نظرة إلى العالم، إذ له دلالة انطلاقاً من النصوص التي سمَّيتها نصاً مؤسّساً، والتي تتجاوز مستوى الكتابة إلى مستويات أخرى.

ـ دة. فريدة طراد: صحيح، إذن سنرى الوسم في استدعائه في مستوى الصورة وفي مستوى الشكل وفي مستوى الوظائف، وأهمُّ من ذلك في مستوى الانفعالات، أي الطاقة الدلاليَّة المصاحبة لإنشاء العلامات والرموز، وهذا نجده في الوسم ونجده في أنظمة سيميائيَّة قريبة من الوسم وبعيدة عنه، ولكنَّها تشترك في هذه الطاقة الانفعاليَّة، فعندما نقرأ الوشم نجد أنَّ الكثير من الانفعالات والوظائف الموجودة في الوسم حاضرة في الوشم، بل سنجد أنَّ نظامي الوسم والوشم يتقاطعان مع أنظمة بعيدة مثل التعبُّد والطقوس والسحر والفأل والتطيُّر، إلى غير ذلك، فهي أنظمة سيميائيَّة تشترك أحياناً وتتقاطع في بؤرة معقَّدة، على القارئ أن ينظر في بنائها وأن يقوم هو نفسه بالبناء؛ هذا الكتاب هو في الأبنية وفي الأنظمة، ولكنَّه هو نفسه قراءة تبني وتنسج وتتبع الخيط الرابط، والحاضر في هذا الخيط الرابط دائماً هو الحيوان، سواء درسنا الرمزيات أو درسنا النظام الأخلاقي من خلال الموقف من العنف على الحيوان أو تعذيبه، أو درسنا الإيديولوجيات أو درسنا التوظيف السياسي والتوظيف الديني، إلى غير ذلك، فنجد أنَّ الدين نفسه، على سبيل المثال، وظَّف الحيوان لا ليمثّل ويعبّر ويوصل المعنى والأحكام والقيم فقط، وإنَّما وظّفه ليتجلّى ويبدو هو نفسه، وبالتالي فالحيوان هو مدخل أساسي وهو موقع أساسي لفهم بنية هذه الثقافة. واسمح لي أن أوضّح ذلك.

د. نادر الحمامي: في إطار التوضيح سأستبق، فأنت الآن بصدد تقديم الدَّواعي العميقة والأساسيَّة لطرق موضوع يتعلّق بدراسة الحيوان في الثقافة العربيَّة.

ـ دة. فريدة طراد: نعم، فعندما قلت إنَّني أنطلق بلا منهج فلا يعني ذلك أنَّني أنطلق بلا معرفة موسوعيَّة، وهي معرفة تحضر فيها الذات ويحضر فيها التكوين، فعندما تدرس الطبري أو غيره تجد أنَّ تكوينه يؤثّر في تناوله لأيّ موضوع؛ أعطيك مثالًا، فقد ذكرت لك منذ حين أَّن عبد الله الغذامي عندما درس بعض خصائص الثقافة مثل هيمنة الفحل، انطلق من دراسة الأدب والشعر العربي فاعتبر أنَّ صورة الفحل المهيمن جاءت من الشعر، أي من القصيدة المدحيَّة وغيرها، وانتقلت إلى حقول أخرى (ويمكن أن نناقشه في ذلك طبعاً)، ورجاء بن سلامة أيضاً في دراستها للهيمنة الذكوريَّة وبنيان الفحولة نحت هذا المنحى عندما درست انتقال هذا البنيان من حقل إلى حقل، درسته في حقل السياسة لتقول الفحل البياني، ولعل ذلك يعود لدى الباحثين المذكورين إلى صلتهما بمجال الأدب، أمَّا بالنسبة إليَّ أنا فلي صلة بمجال الحضارة، والحضارة تنفتح على الأدب، وسترى أنَّني اهتممت كثيراً بالأدب، وبالتاريخ وبالدين وبالسحر وبمجالات مختلفة، عندما تتجانس ويتجانس البحث فيها ولا تكون مسقطة. فالاطلاع على هذه النصوص هو الذي قاد إلى هذا المدخل، والحيوان حاضر في كلّ ذلك، فإن ربطت بالقاعدة لهذا الحضور في أيّ مقام أو مقال فستجد أنَّ الأنثروبولوجي قائم على الطبيعي، أي على الحيوان في هذا المقام، وهذا من ضمن ما نستخلصه.

د. نادر الحمامي: ما تقولينه مهم جدّاً، الأنثروبولوجي قائم على الطبيعي وقائم على الحيوان الذي سيتخذ وظيفته الرمزيَّة التي تخترق تقريباً بنية الثقافة العربيَّة، فيصبح له هذه الوظيفة الرمزيَّة التي يمكن على أساسها قراءة بنية الثقافة العربيَّة كما قلنا، ويتَّخذ بعده الرمزي الكبير في إطار ما يُسمَّى المتخيّل بصورة عامَّة، وبناء الصورة التي من خلالها ينظر إلى العالم بأسره، هذا المنطلق الأنثروبولوجي الذي ينبني على الطبيعي ويحقق الرمزي سيكون الجزء الثاني من حوارنا.

الجزء الثاني: من الطّبيعي إلى الأنثروبولوجي

د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة فريدة التهامي طراد التي نعيد الترحيب بها وشكرها على قبولها هذا الحوار انطلاقاً من أطروحتها "الجسد والعالم والنص المؤسّس، الحيوان في الثقافة العربيَّة"، ومن خلال الجزء الأول من الحوار الذي تحدثنا فيه عن المقاربة المنهجيَّة وعن شيء من التصوُّرات التي انطلقت منها وأملتها النصوص، لأنَّ العمليَّة ليست معزولة الواحدة عن الأخرى، كنا قد وصلنا إلى نقطة أحسبها مهمَّة، ويمكن أن نستأنف بها حوارنا معها، أقصد ما تحدثت في شأنه في آخر الجزء الأوَّل من هذا التأسيس أو انطلاق الأنثروبولوجي الذي يتأسَّس على الطبيعي، ليكون ذلك منطلقاً للحديث عن المتخيّل الديني وعن الرموز والصور، وبودّنا من الأستاذة أن تكشف لنا عن هذا التأسيس للأنثروبولوجي على الطبيعي.

ـ دة. فريدة طراد: في البدء ربَّما علينا أن نوضِّح ما الذي نعنيه بالطبيعي؛ فالعرب خاضوا في الطبيعة دون أن يحددوا مفهوم الطبيعي بالمعنى الذي نعرفه الآن، فهم خاضوا في العوالم الثلاثة لكنَّهم عندما تحدَّثوا عن الكائنات لم يذكروا كلمة طبيعة إلا في العلم الطبيعي، وهو شيء آخر مختلف تماماً. وقد ركَّزت كثيراً في دراستي للجسد على جسد المرأة وعلى الجسد المخالف، وخاصة ما اعتبر مشتركاً وهو أدنى قيمة؛ مثل المخنَّث ومثل المرأة المترجّلة أو كما يقول الجاحظ "ذوات الشوارب واللحى"، لأنَّ هذه الفئات اعتبرت أقرب إلى الفطري أي إلى الطبيعة، والحديث عن المرأة لأنَّها بقيت بحكم الحيض والولادة والرضاعة أقرب إلى الفطرة، في حين أنَّ الرجل أبعد عن ذلك. إذن القرب من الطبيعة سيوظف لاحقاً في التقييم.

د. نادر الحمامي: كان لدى العرب في القديم أنَّ ما هو أقرب إلى الفطري الطبيعي هو أدنى مكانة؟ لكنَّنا نجد في التصوُّرات الدينيَّة العامَّة أنَّ الفطري هو الأنقى وهو الأرفع.

ـ دة. فريدة طراد: هذا أصبح لاحقاً في مراحل متطوّرة من الثقافة، وفي عصرنا اليوم الرجوع إلى الفطرة والطبيعة هو رجوع إلى النقاء، وحتى في الفن والرسم هناك إعلاء للوحشي والطبيعي وإعلاء لهذا الأصل، لكن عندما نجد مثلاً في النصوص الدينيَّة أنَّ حواء عندما نزلت إلى الأرض وعندما خدشت الشجرة فأجرت منها ما يشبه الدم، فكان الحكم عليها بأن تتألَّم وتدمى كلَّ شهر (أي تألّم المخاض والولادة إلى غير ذلك)، وتخبرنا بذلك النصوص الحافة لا القرآن طبعاً، فالنص المؤسس اعتبرْته عاماً لأنَّ التّأسيس كان بالقرآن وبالأحاديث وقصص الأنبياء وغيرها. فالفطري والطبيعي كما فهمته وضبطت له، هو أيضاً الحيواني الذي بقي قريباً من الطبيعة، وفي هذا الكتاب درست التمثل الذي نجده وراء تنجيس المرأة عندما تحيض، وتنجيس الكلب لأنَّه من الحيوانات التي تلعق الدم، وهناك أحاديث تنسب إلى الرسول أنَّه رأى أنَّ كلباً يلعق في دم آل البيت.

د. نادر الحمامي: ولذلك أصبح في الثقافة اليوم أنَّ الكلب الأسود شيطان، إلى غير ذلك، وهذا يدخل في الرمزيات.

ـ دة. فريدة طراد: مسألة الطبيعي أو الفطري في هذا المفهوم أي القرب من الطبيعة ومن الدم ومن الحيوان والحيوانيَّة، أي ليس الحيوان في حدّ ذاته ولكن تدخل في ذلك مسألة الحيوانيَّة، باعتبارها بُعداً عن الإنسانيَّة أو فيما يقابل الإنسانيَّة؛ فالأنثروبولوجي مبني على الطبيعي باعتبار أنَّني وظَّفت في ذلك دراسات جيلبار ديرون (Gilbert Duran) (1921-2012) التي درست فيها المتخيّل الرمزي انطلاقاً ممَّا اعتبره بنى ذهنيَّة مشتركة بين جميع البشر.

د. نادر الحمامي: يعني في إطار النظام الليلي والنظام النهاري.

ـ دة. فريدة طراد: ذلك فيما بعد، ولكنَّه انطلق من إرجاع نشاط المتخيَّل الرمزي إلى بنى حاضرة عند جميع الناس، وهي بنى طبيعيَّة، وردود الفعل ناتجة عن بنى ذهنيَّة، ثم أقحم الجسد، وفي رأيي أنَّ الجسد هو الأقرب إلى الطبيعة، والعقل بحسب الدراسات والتمثلات هو أبعد عن الجسد، ولذلك نجد أنَّ المتصوّف مثلاً عندما يصل إلى درجة السموّ والتماهي فإنَّه يتخلّص من الجسد ومن ثقله. إذن فأنا أعتبر الأنثروبولوجي بني على الطبيعي في مستوى الرمزيات التي تقوم على إقحام الجسد في إنشاء الصور والرموز، فالجسد لم يعد عنصراً محايداً، وإنَّما هو عنصر أساسي وفعَّال في إنشاء الرموز، فهي تنشأ من حضور الإنسان أي من وضعيَّات؛ كوضعيَّات صيد أو وضعيَّات وقوف في الفضاء أو وضعيَّات سكوت إلى غير ذلك...، لكنَّها تدرك بتأثيرات وبردود فعل إنسانيَّة هي أقرب إلى ردود الفعل الطبيعيَّة الأوَّليَّة. فمن هذا الجانب اعتبرت أنَّ الطبيعي هو الذي ارتبط به عنصر هام جداً وهو مفهوم النزعات ومفهوم الوجدان، ونحن في الأغلب عندما نسأل عن الثقافة نذهب إلى هذا النتاج الفكري أو المعرفي أو النتاج الذي يتنزَّل في مستوى أعلى والذي هو ثمرة مكاسب وأنشطة وأفعال وتطوُّر، لكن بالنسبة إلى ما اكتشفته في هذه النصوص أنَّ الوجدان والانفعال وغير الموضوعي والموضوعي والعقلي، كلّها تكوّن مادة أساسيَّة فعالة في جدليَّة قائمة بين الثقافي والطبيعي، وهي بانية في كثير من الأحيان لهذا الثقافي. هذا ربَّما يغيّر نظرة الإجلال إلى الثقافة باعتبارها نخبويَّة خاصة، إذا ما أخذنا بعض المفاهيم، لأنَّ مفهوم الثقافة واسع، لذلك حاولت أن أخرج من المفاهيم السائدة وأن أنظر فيها باعتبارها أبنية وباعتبارها جدليات وعلاقات ونشاط قوي بين هذه الأنظمة التي تنفتح على أنظمة قريبة وأخرى بعيدة، تتفاعل معها وأحياناً تعارضها، ولكنَّها في الآخر تكتمل حتى بهذا التعارض، فالتَّعارض نفسه يبني العلاقات ويبني الأنظمة ويكوّنها.

د. نادر الحمامي: قلت كلمة تتعلّق بمسألة الإنسانيَّة بصورة عامَّة، أنت درست الحيوان في الثقافة العربيَّة، وانطلقت من أسس نظريَّة كانت بعض الأطروحات التي أنجزت خاصة في الجامعة التونسيَّة، وأذكر من ذلك "العجيب والغريب" للأستاذ وحيد السعفي، والأطروحة الأساس ربما لهذا الاتجاه في الجامعة التونسيَّة وهي أطروحة الأستاذ محمد عجينة "موسوعة أساطير العرب عن الجاهليَّة ودلالاتها"، بالإضافة إلى جيلبار ديرون وغيره، هل لهذه النصوص، وهي نصوص الثقافة العربيَّة القديمة سواء كانت شعريَّة أو نثريَّة أو تنتمي إلى المجال الديني ومستوى التقاطعات، أي مع ما يُسمَّى المتخيّل الكوني أو المتخيّل الإنساني، هل لها خصوصيات في هذه التمثلات والرمزيات، أم إنَّها تنخرط في كونيَّة أخرى تجعل من نظريات يونغ مثلاً صحيحة؟

ـ دة. فريدة طراد: في الحقيقة يمكن، إن سمحت، أن ننطلق من المقاربة الرمزيَّة بصفة عامة، أو لأجيبك عن سؤالك ثمَّ أعود إلى ذلك، بالنسبة إلى هذه السيميائيَّة الفلسفيَّة أو السيميائيَّة الكونيَّة التي نجدها مثلاً عند فوكو (Michel Foucault) في كتابه الكلمات والأشياء "Les mots et les choses"، ففي رأيي عندما درست تقاطع العلامات والآيات في ما اعتبرته كتاب الطبيعة والكتاب المقدَّس والتي يصبح فيها العالم "حقلاً منثوراً" كما يقول فوكو بالعلامات على السطح، وما على الإنسان إلا أن يحفر وأن يتجاوز الطبقات حتى يعثر على الكنز المدفون؛ فهناك إذن العالم هو منثور العلامات وعلى الإنسان ليطّلع أن يبحث عن التوقيعات (les signatures) أي حضور الإلهي في الكوني، وفوكو درس كلَّ هذا في الثقافة الأوروبيَّة في القرن السادس عشر. ولكن هذا نجده عند الجاحظ، أي في كتاب الحيوان بصفة خاصة، وحتى الكتب التي اهتمَّ فيها بالإنسان وبالمخلوقات بصفة عامَّة، وكتاب الحيوان ليس في الحيوان فقط، فعنوانه الحيوان ولكنَّه في المخلوقات وفي الأكوان الثلاثة وفي أشياء مختلفة، فالجاحظ اعتبر أنَّ الكون ظرف محشوّ بالعلامات والآيات وعلينا أن نفتح هذا الظرف وأن نقرأه، فالموضوع متشابه وهذا في السيميائيَّة أيضاً. فالجاحظ قرأ صفات الحيوان ونمط وجوده ونمط غذائه؛ قرأ ذلك من منظور ديني وهو لم يميّز في الحقيقة بين الفاضل والمفضول واعتبرها كلها دالّة، كالقبيح كالجميل وكالصغير كالكبير، هي كلّها دالة على وجود الخالق، وهذا ضمن مفهوم الجاحظ للمعرفة، فهناك المعرفة الأوَّليَّة وهناك المعرفة الثانويَّة، ولكنَّها كلها تنطلق عنده من الموجودات ومن الواقع. وعندما نرى خصائص الرمزيَّة لدى الذين بحثوا في المتخيّل الرمزي وحدَّدوا نشاطه، نرى أنَّ أهمَّ ما أكَّدوا عليه هو المعين المادّي، والناس عندما يتحدَّثون عن الرمزي يتصوَّرون أنَّه شيء مجرَّد، في حين أنَّ مادة الرمز الأولى أو معينه الأوَّل هو العالم الفيزيائي.

د. نادر الحمامي: حتى بالرجوع إلى الإيثيمولوجيا وأصل الكلمة اللاتيني نرى أنَّها تعني الجمع بين أمرين ولا تتعدَّى ذلك.

ـ دة. فريدة طراد: أكثر من ذلك فالجاحظ من موقفه الإيماني الديني أقحم العلمي، فليس موقفه الإيماني المنغلق أو الذي لا يستعمل المنطق، وهذا ما سنجده فيما بعد عند المعري وعند إخوان الصفا، وقد مارس الجاحظ وإخوان الصفا قراءة الآيات وقراءة العلامات والمعجزات وغير ذلك للاستدلال على المبادئ والقيم والمعاني القرآنية، ولكنَّهم مارسوها للوصول إلى هذا الهدف من غير المسالك التي تتحدث عن المعجزات والخوارق، أي من مسالك أخرى مخالفة لقراءة الشريعة ولكنها تصل في نهاية الأمر إلى الشيء نفسه، وهو اختلاف في المنهج ولكنَّ الأغراض تبقى متقاربة في نهاية المطاف. وقد وجدت في هذه القراءات متعة كبيرة لأنَّها تتنزّل في الحاضر اليوم، فهناك خلفية فكريَّة ومنطق ومعقوليَّة جديدة تختلف عن أصحاب المذاهب والمدارس، الذين لديهم أيضاً معقوليَّة ولكنَّها من نوع آخر، وهناك نوع من التعقّل والتفكّر والنقد ولكنَّه يبقى في نطاق ما يمكن أن نسميه النقد الديني، لكن هناك من طوَّر وغيَّر وتجرَّأ على الخروج إلى التعديل والتصحيح.

د. نادر الحمامي: هذا الخروج هو الذي يسمح لنا في الحقيقة بالحديث عن هذا المتخيَّل والرمز والمتخيَّل الرمزي، الذي يمكن أن يكون باباً شارعاً للنظر إلى ما يُسمَّى في الفلسفة برؤية العالم، وهو أمر مهم نظرت له في بداية هذه الأطروحة قبل استقراء النصوص، وأرى أنَّ من بين الأمور المهمَّة في استقراء هذه النصوص هو هذا التركيز على الصورة والمتخيَّل الرمزي، وأحسب أنَّها مجال واسع لإعادة قراءة العديد من النصوص التراثيَّة.

ـ دة. فريدة طراد: صحيح، الرمزيَّة في الحقيقة هي وجه من وجوه توظيف الحيوان، وبالطبع فهو وظّف لغير الرمزيَّة. نركّز شيئاً ما على المعالجة الرمزيَّة، فقد استعنت بالنصوص التي تركّز على الرمزيَّة باعتبارها نظام رمز وباعتبار البحث في ماهيتها وفي وظائفها، فمن النصوص والدراسات الهامَّة التي اعتنت بالنشاط الرمزي في حدّ ذاته بنشوء المعالجة الرمزيَّة، أي متى تنشأ هذه المعالجة الرمزيَّة؟ تحدّثنا منذ حين عن جيلبار ديرون وقلنا إنَّه أرجعها إلى بنى ذهنيَّة وأقحم الجسد واهتمَّ بعلاقة الكائن الحاضر في الوجود وأمام وضعيات مختلفة؛ فيها أحياناً خطر وفيها خوف وفيها ما يخالف القاعدة المثاليَّة والمعيار، وركّز على دور الرمزيَّات باعتبارها تلطيفاً.

د. نادر الحمامي: وهذا من وظائف المتخيَّل الديني الأساسيَّة طبعاً.

ـ دة. فريدة طراد: نعم، وهذا ما سمَّاه هو الوظيفة الأنثروبولوجيَّة التي تساهم في تحسين وضعيَّة الإنسان في الكون، ومن الدراسات المهمَّة أيضاً التي تجعل للنشاط الرمزي نجاعة وفعاليَّة، النشاط الرمزي والرمزيات تنشأ عندما يخيب الجهاز الذهني في أن يوائم بين ما يأتينا من المحيط ومن الوسط ومن الحوادث؛ أي بين هذا الآتي والاستعداد في الثقافة الموسوعيَّة عند الإنسان؛ فعندما تنظر إلى حيوان لا يختلف عمَّا تعوَّدت عليه في التصنيف يطير ويعيش في الماء... فهذا يصبح مخيّباً للانتظار، وهو من ضمن التصوُّر الخائب الفاشل، ولكنَّ الذهن الإنساني جاهز لإعادة تشكيل هذه المعلومة وبنائها، وبالتالي إعادة تشكيل العالم؛ والرموز والرمزيات هنا لا تعيد تشكيل العالم فقط، ولكنَّها أيضاً تمكِّن من التواصل. لتوضيح هذا المعنى يمكن أن نذكر بعض الرمزيات التي درستها في هذا الكتاب؛ وقد استفدت من هذه الدراسات في الحقيقة ومن غيرها، وهو تجريد لما كتب وما استقرَّ في الذهن، فقد استعرت من جيلبار ديرون إجرائياً مفهوم النّظام، وهو ما أشرت أنت إليه منذ حين، وهو النظام الليلي والنظام النهاري، ما جعلني لا أعتبر بعض الحيوانات لها رمزيَّة قويَّة وأخرى لها رمزيَّة ضعيفة، باعتبار أنَّ من أهم سمات الرموز التعدُّد والازدواج وحتى التناقض. وعندما درست هذه النصوص وحضور الحيوان فيها، وجدت أنَّ المهم وما له رمزيَّة قويَّة ليس فقط ما له لون خاص أو نمط عيش يخرج عن المألوف أو الشاذ إلى غير ذلك، صحيح هذه عناصر هامَّة، ولكن ما له رمزيَّة حقيقيَّة هو ما ينوس وهو ما لا يتحدَّد.

د. نادر الحمامي: في هذه النقطة، واستناداً إلى ما نعرفه عن الرمزيات واشتغال الرمز وهذا التقسيم الثنائي لدى جيلبار ديرون للرموز، وأنَّ هناك تقسيمات ثنائيَّة وثلاثيَّة وصولاً إلى ما يُسمَّى الحركة البندوليَّة، ألا تعتقدين أنك خرجت من التصوُّر الثنائي لجيلبار ديرون إلى تقسيمات أخرى للرموز على البنية الثلاثيَّة والرباعيَّة وحتى البندوليَّة المتحرّكة؟

ـ دة. فريدة طراد: سأعطيك مثالاً يجيبك عن ذلك، فجيلبار ديرون خرج عن هذه الثنائيَّة الحادة، وما أراه من سمات هذا العمل أنَّه لا يذهب إلى الثنائيَّة الحادة، بينما يذهب إلى الازدواج والتكامل والتعقّد، فالأمور معقدة وليست بسيطة، وهو قد نظر إلى هذه الرمزيات في إطارين: إطار ما سمَّاه نظام الكمال وإطار ما سمَّاه نظام النقص، فهناك نظام ليلي ونظام نهاري، ولكن ذلك ليس في معنى الثنائيَّة الحادة، وهنا أورد لك المثال؛ فعندما درست رمزيَّة الخصب مثلاً رأيت أنَّها تتنزل ضمن نظام الكمال ونظام النهار؛ فالعرب يستبشرون بالأنثى في المولودات لدى الحيوان وخاصة عندما تكون الأولى، وهم يستبشرون بالكثرة ويعوّذون الحيوانات ويضعون لها علامات تحميها من العين، إلى غير ذلك، ولكن عندما يتجاوز الخصب الحد فهم يخافونه ويستعملون إجراءات رمزيَّة في مستوى الأقوال ومستوى الأفعال، فهم يستبشرون بالولادة مثلاً، والأنثى المئناث والذكر المئناث ويتفاءلون بذلك، ولكن عندما تكثر ولادات الإناث أو التوأم فهم يتشاءمون من ذلك ويتخذون ضدَّها إجراءات رمزيَّة، والكثرة في الإبل وغيرها خصب وهم يحبُّونه، ولكن عندما يفوق الحد كأن يلد الحيوان كثيراً ويصل قطيع الإبل إلى الألف مثلاً يفقؤون عين الفحل.

د. نادر الحمامي: هنا سنتوقف، لأنَّ فقأ عين الفحل يدخل في باب آخر اهتممت به كثيراً في أطروحتك، وهو المتعلّق بمسألة العنف المسلّط على الحيوان، وخاصة الموقف من ممارسة هذا العنف، وهو باب كبير يعنى بالنظر إلى العالم انطلاقاً من الحيوان، ضمن قضيَّة كبرى هي قضيَّة العنف التي سنتحدّث عنها في القسم الثالث من حوارنا هذا.

الجزء الثالث: العنف ضدّ الحيوان: الموقف والدلالات

د. نادر الحمامي: نستأنف حوارنا مع الأستاذة فريدة التهامي طراد، وكنَّا قد وصلنا في الجزء الثاني من الحوار إلى طَرْق مسألة مهمَّة جداً خصَّصت لها باباً كاملاً في أطروحتها التي أنجزتها حول "الجسد والعالم والنص المؤسس، الحيوان في الثقافة العربيَّة"، أقصد مسألة العنف، تحديداً، التي أخذتها نموذجاً تشتغل عليه لطرْق أبواب كثيرة ومفاهيم مهمَّة، من قبيل الألم والعنف والتعامل والمواقف من ممارسة العنف على الحيوان، أكثر من العنف ذاته أو الحيوان ذاته، وهذه المواقف التي قسمتها تقسيماً ثنائياً فيما فهمت من الأطروحة؛ هما: الموقف الأول المحافظ الأرثوذوكسي الذي يقسّم بدوره إلى عنف مذموم وقبله عنف محمود، قبل أن تتعرض إلى بعض المواقف المجددة في هذه الثقافة العربيَّة في ممارسة هذا العنف على الحيوان دون أن يكون هذا التقسيم حاداً في هذه الثنائيَّة، وهو ما ألحَّت عليه في الجزء الثاني من الحوار عند حديثنا عن جيلبار ديرون وهذا التقسيم الحاد. بودّي استئناف هذا الحوار انطلاقاً من هذا الموضوع المهم الذي يمثل بدوره رؤية أخرى للعالم انطلاقاً من نموذج العنف.

ـ دة. فريدة طراد: شكراً أستاذ نادر، لقد حاولت أن أطرق مسألة تتصل بالنظام الأخلاقي، أي بأخلاقيَّة التعامل مع الحيوان، وذلك من باب العنف، لا باعتباره سلوكاً وممارسة أصفها لأحدّد أنواع العنف وأصنافه ومبرراته، ولكن درسته من منطلق الموقف من العنف؛ هل نجد في الثقافة المدروسة مواقف، لا أقول تدين العنف أو تدافع عنه كما هو الغالب، ولكنَّني أرصد هذه المواقف وأحاول أن أقدمها. النقطة الثانية التي ذكرتها أنت، وأؤكّد عليها، هي أنَّني قسَّمت البحث إلى فصلين: الأول نظرت فيه في موقف النزعة الأرثوذوكسيَّة المحافظة، وفي القسم الثاني بحثت فيما اعتبر النزعة التجديديَّة أو النزعة المتلونة بصبغة "المروق والبدعة"، وما أشرت إليه هام في مستوى هذه الثنائيَّة، فلئن وجد تعارض فإنَّنا سوف نجد في النزعة الأولى مواقف ترتبط بالنزعة الثانية منذ البدايات، أعطيك مثالاً، فبالنسبة إلى النزعة الأولى والتي رأت العنف عنفين هما: مذموم ومحمود، ووراء كلّ نوع من العنف هناك مرجعية وهناك خلفيات وأسلوب، في نطاق الموقف الأول ممَّا اعتبر عنفاً مذموماً، نجده منذ الفترة الأولى مع وجود الرسول، نجد من الصحابة من جاء يقول للرسول إنَّني أرأف بالحيوان أن أذبحه، أي هذه الرأفة المانعة من ذبح الحيوان، وسيجيبه إجابة مطمئنة، وهو ما اعتبرته موقفاً انفعالياً وعاطفياً كان موجوداً منذ البدايات. وانطلاقاً من هذه النزعة الأولى، سنجد رجلاً مثل أبي حنيفة يقول عن الشعار، وهو وسم في سنام الناقة يكون بالجرح وإسالة الدم تكريساً لها لأنَّها من الحيوانات التي تهدى، يقول إنَّه يعتبر ذلك مُثلة وثار ضدَّه الكثيرون، لأنَّ الشعار مورس في عهد الرسول، وهو من الوسوم المتعارف عليها، فلم يتردَّد في اعتباره مُثلة وتعذيباً للحيوان، و"مالك" مثلاً، وهو ضمن النزعة الأولى في الموقف من الكلب، أنَّ الكلب نجس وأنَّ الإناء الذي يلِغ فيه الكلب يجب أن يغسل سبع مرات بالتراب، فهو يقول إنَّه يؤكل صيده فكيف لعابه؟ فالكلب عندما يصطاد الحيوان فهو يقبض عليه بفمه، ويورد مالك منطق المعقوليَّة ضدَّ غياب المنطق، وهذا ضدّ الأرثوذوكسيَّة التي ينتمي إليها. هذه النزعة الأولى قسَّمت العنف كما أسلفت إلى مذموم ومحمود؛ بالنسبة إلى العنف المذموم فقد نظروا إليه في علاقة بنظام الخلق والخالق، أي أنَّ هذا العنف يهدّد الأرواح والأموال والمصالح، وهو من نوع ظلم الأرض في معناه العام، من ذلك مثلاً خصاء الحيوان، هناك من اعتبره عنفاً مذموماً لأنَّه يحدُّ من العطاء والخصب والخلق الذي أمر الله بتجدُّده، ومن ذلك أيضاً العنف الذي يؤدي إلى الإخلال بالعلاقة مع الخالق واستباحة ما لا يباح؛ فوجه الحيوان لا يباح لأنَّ له نوع من الحرمة، وهذه الخاصيَّة لأنَّه يشرف بها على كامل الجسد كما يقول المفسرون، وعن أبي هريرة: إذا ضرب أحدكم الوجه فإنَّ الله خلق آدم على صورته، وفي ذلك إشكال هل هي صورة آدم أم صورة الخالق، ففي المسيحيَّة يقولون هي صورة الخالق، وفي الإسلام في التفسير يقولون هي صورة آدم، من أنواع هذا العنف ما وقف ضدَّه هؤلاء مثل العنف على ما يعتبرونه الحيوان المؤمن، وهنا يدخل التصنيف، فهناك بعض الحيوانات التي تعتبر أقرب إلى الإيمان ولا تستباح أرواحها، وكما جاء في القرآن: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ" (الأنعام: 38)، وذهب المفسرون مذاهب في تأويلها، من ذلك أنَّها مخلوقة دالة على الصانع محتاجة إليه مرزوقة من جهته، وأنَّها الحيوانات التي تسبّح لذلك يجب ألَّا يقع عليها العنف.

د. نادر الحمامي: عندما نرجع إلى التراتبيَّة نجد الكثير من النصوص التي تكرّم، "إنَّ أكرم الدواب هي الشاة"، وهي هذه التراتبيَّة المتأتية من الوضعيات الاجتماعيَّة أيضاً، ممَّا يعطي لها صفة الرموز الدينيَّة.

ـ دة. فريدة طراد: هذا ما سيعود إليه الجاحظ وإخوان الصفا، ليبينوا تهافت هذه المعاني وهذا التفاضل والامتياز، فعندما نذكر الخيل مثلاً في القرآن أو في تاريخ الفتوحات لأسباب مختلفة نجد أنَّ لها قيمة عليا، لكنَّ الجاحظ يبيّن أنَّ الفرس ليس أوفى لصاحبه من الكلب مثلاً، ويتحدَّث في مسألة النظافة مثلاً فيذكر الكلب الذي يقع اعتباره نجساً، ويقول إنَّ فمه أنظف من حيوانات مثل المواشي التي لها قيمة لأسباب أخرى، ويقول إنَّ العرب قديماً كانوا يعيّرون بأكل الدجاج لأنَّها حيوانات غير نظيفة، وحتى الإبل لأنَّها تأكل الجلّة، فهو قد قام بإعادة تقييم. لقد قلت إنَّ العرب قسَّموا العنف إلى عنف مذموم، وهو مذموم لاعتبارات الإيمان، خلق الله وتغيير خلق الله، ولو أنَّ تغيير خلق الله له معانٍ شتى في التفسير، واعتبروا مذموماً العنف المخل بنظام المدينة مثل عنف الحمَّالين، ومثل اللّعب بالحمام، مقابل ذلك العنف المحمود، وهو العنف الذي وجدوا له مبررات؛ من ذلك خصاء الحيوان بالنسبة إلى حيوانات جرت العادة بخصائها، يعني ذلك معيار العادة، أو مبرر العادة، من ذلك ما اعتبرْته العنف المقدَّس أو العنف باسم الدين، ونجد مثلاً الأضاحي، والعنف على المشترك من الحيوانات، والعنف على الكلب، وهنا لا بدَّ عند قراءة هذا أن نعود إلى الموقف من العلامات؛ أي البياض والسواد والعلامة الخالصة ولو كانت سوداء مستحبَّة، ولكنَّ الاختلاط عندما يتصل بالمشترك أو عندما يتصل بحيوان معيَّن يصبح هجيناً، والحيوانات المشتركة التي تنوس بين السبعيَّة والحيوانيَّة، والتي تعيش مع الإنسان كالكلب ولكن لها ساق في الغاب...، هذه إذن أنواع المواقف من العنف، وكلها لها مبررات سواء اقتصاديَّة أو قيميَّة، أو دينيَّة مثل العنف المقدَّس، مثل الحيوان الذي يدنّس أمكنة التعبُّد أو مهبط الوحي، إلى غير ذلك. مقابل ذلك نجد النزعة الثانية، وهي في نظري أهمُّ لأنَّها هي التي تحيل على وجود الشيء وضدّه، هذا موقف نزعة التجديد، بالإضافة إلى المواقف الأولى التي ذكرتها وهي مواقف انفعاليَّة أو ما سمَّيته العقل الديني عند مالك وعند أبي حنيفة، نجد تبلوراً للمنحى الفلسفي التّأمّلي في نطاق هذه النزعة، ونجد طرحاً آخر أو نوعاً آخر من الطرح، وكما يقول أحدهم: فساد النتائج من فساد الطرح، وهؤلاء طرحوا المسألة من باب الواجب نحو الحيوان؛ ففي الباب الأول الواجب أنَّك عندما تذبح الحيوان لا تؤلمه ولا تذبحه بقرب حيوان آخر، وأن تحسن إليه، وهذا بالأساس في إطار أخلاقيَّة دينيَّة، أمَّا مع النزعة الثانية فتُطرح المسألة من زاوية حق الحيوان، وهذا ما ورد في النصوص، أي في كتب الحسبة وفي غيرها من المصادر، يُقال حق الحيوان في أن يُحترم، ولم نعد نتحدث عن التسخير أو عن غير ذلك بل سيتحدَّث هؤلاء عن الألم، أي أنَّ القتل ليس مسألة حيوان جاهز أو أكلة جاهزة، وإنَّما هو مسار يمرُّ عبر الألم، لأنَّ ما يقدَّم على أنَّه لحم كان كائناً، ويقول المعرّي ذلك شعراً، وأحاول أن أترجمه نثراً؛ يقول "قبل أن يكون مأكولاً يُصبغ بالأدام، ويغيَّب أصله وماهيته، لقد كان كائناً"، فهو لا يريد أن يغيّب القتل ويستحضره ويحيّنه، ولا يجعل الإنسان يتكلم عن الحيوان، بل يجعل الحيوان يتكلم عن نفسه، كما عند إخوان الصفا أيضاً، نسمع صوت الحيوان باعتباره كائناً، وهذا الكائن يدافع ويعيد هو نفسه قراءة القيم والمعايير مع هؤلاء المؤلّفين.

د. نادر الحمامي: هذا سيؤثر في طبيعة الحياة التي يختارها، وحتى نستغل هذه المواقف المجدّدة، بدون هذه الحدّية في الفصل لأنَّها متداخلة شيئاً ما، ولكنَّ الموقف من العنف تجاه الحيوان مهما كان شكله في نهاية المطاف هو نظرة أخرى إلى العالم في كليته، وليس فقط مجرَّد موقف جزئي من الحيوان، وهو لا يتعلق بمسألة العنف وحده أو الحيوان وحده بقدر ما يتعلّق بنظرة أشمل فيما أفهم، خاصة من النتائج التي توصلتِ إليها في البحث في مستوى العنف.

ـ دة. فريدة طراد: نعم ذلك في الحقيقة ينطلق لدى هؤلاء "المجدّدين" من قراءة ومن نظرة للشريعة وللآيات القرآنيَّة التي هي سند في الحقيقة للذين يرون العنف محموداً أو واجباً أو لازماً أو ضرورياً، هم يعيدون قراءته ليبينوا بأنَّه ليس ضرورياً.

د. نادر الحمامي: وكأنَّه نقد للفكر الديني والاجتماعي السائد، ولكن من مداخل أخرى، ولذلك حتى ما نقوم به اليوم من بحوث وإن تبدو في ركن معيَّن من هذه الثقافة العربيَّة فإنَّها في نهاية المطاف هذا الجزء الذي يمكن أن يؤخذ الكلّ به فيما نبحث فيه، لذلك فلا غرابة مثلاً أن نجد إخوان الصفا أو المعري أو الجاحظ ممَّن يُرمون خارج دائرة المحافظة أو ما يُسمَّى الهرطقات والبدع.

ـ دة. فريدة طراد: المعري عندما رفض أكل اللحم فهذا لا يتجانس مع الشريعة، ولكنه دافع عن هذا الاختيار، من ذلك يقول إنَّ الإنسان خُلق عاشباً، وأنَّنا لم نخلق لأكل اللحم، وإنَّ في الطبيعة ما يكفي لأكله، ويقول إنَّ الحيوانات تأكل الناس وتأكل بعضها بعضاً، وتأكل اللحم، والإنسان ليس حيواناً، ولكن إن فعل ذلك فلا فرق بينه وبين الحيوان. وهذا تطرحه أيضاً الفلسفات الأوروبيَّة، أي العلاقة مع الطبيعة، ونحن نتجاوز في هذه المحاور الثقافة المحلّيَّة إلى العلاقة بالثقافات الأخرى.

د. نادر الحمامي: هذا ما كنت أودُّ سؤالك عنه تحديداً، حتى نفتح المجالات، لأنَّ الكثير ممَّا تحدثت عنه سواء كان في هذه النقطة، تحديداً، من خلال الأمثلة التراثيَّة أو في المحور الثاني، كان هناك هذا الفصل بين الأفكار الموجودة، وإن كانت هامشيَّة بالنسبة إلى السائد في الثقافة العربيَّة يمكن بطريقة أو بأخرى أن نجد لها أفكاراً نظيرة، أو أكثر تطوراً بحكم تطوُّر المعارف وليس بحكم التقسيم عربي غربي. هل من موقفك أنت يمكن أن نجد أصولاً لأفكار تبدو حديثة في النظرة إلى العنف في هذا التراث والثقافة العربيَّة؟

ـ دة. فريدة طراد: نجد هذه الأصول في الثقافة العربيَّة، والدليل على ذلك ما يقدّمه هذا الكتاب، الكثير من الآراء والأفكار والمواقف التي نجدها اليوم ونقرأ عنها بتفصيل وتعمق أكثر، نجد الكثير منها في الثقافة العربيَّة قديماً، ولكنَّه غير معروف وغير متداول، ولكنَّنا لا نجده في الثقافة العربيَّة فقط، وإنَّما نحن نجده في ثقافات سابقة، فعند اليونان مثلاً نجد من كان يعتبر أنَّ الحيوانات ليس لها أرواح مثلاً، ولكن نجد من كانوا لا يأكلونها، ويعتبرون ذلك نوعاً من تنقية الجوهر، وطبعاً إذا بحثنا في الثقافة اليونانيَّة، أو في الثقافة الهنديَّة، نجد العنصر الهندي أو البوذي والديانات القديمة حاضرة، ولو درسناها فكثير من الأشياء نراها موجودة عند المانويَّة وعند الديانات القديمة؛ كانت عندهم الصلوات وتحريم أكل الحيوان، وكانت عندهم أشياء كثيرة، فالثقافة إذن تتنزل في ما قبلها في ما بعدها، ونحن في إطار الرمز، فالرموز تسافر من حقل إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى، فالثقافات مفتوحة على بعضها بعضاً، والثقافة العربيَّة الإسلامَّية تمتح ممَّا يحيط بها ومن سابقاتها، المهم في النهاية هو هذا البعد الإنساني الذي يخرج إليه أصحاب النزعة الثانية، فنحن عندما ندرس هذا القسم الأخير الذي يتوّج الدراسة، هو بالأساس خروج في نطاق المشترك الإنساني، خروج إلى سمات غير مدروسة وغير معتنى بها، لأنَّنا إمَّا أن نقف في مستوى الدراسات التي تدافع من منظور ديني أو من موقع إيماني عن العنف، فنقول إنَّ الرأفة والشفقة موجودة، ولا نجد مثلاً دراسة عن العنف ضدَّ الحيوان، أنا درست الموقف من العنف، ولكن كان يمكن أن ندرس ما قبل ذلك.

د. نادر الحمامي: للوصول إلى وجود مواقف تنتمي إلى المشترك الإنساني، وبناء على ذلك وانطلاقاً من عنوان الدراسة التي قدَّمتها حول الحيوان في الثقافة العربيَّة، قد تبدو في ناحية منها جزئيَّة كثيراً، وهذا ما نودُّ من الباحثين الانتباه إليه، لأنَّ هناك ميلاً إلى بحوث تأخذ مجالات واسعة خشية ما تعرفينه من إكراهات البحث، وتوفّر الكتب، ولكن لا تصل مثل هذه البحوث التي تسعى إلى نتائج كبرى، في حين ربما علينا منهجياً ومعرفياً التوجُّه إلى شيء مخصوص، وقد يبدو في الأول جزئياً ولكنَّ مقارباته في الآخر منهجيَّة صحيحة تقوم على استقراء النصوص والوصول إلى نتائج، قد يوصل ذلك إلى ما توصّلتِ إليه أنت في نهاية المطاف أي هذا البعد الإنساني المشترك. ولذلك فإنَّ توجيه البحوث نحو الدقة ضروري، وهو أمر موجود اليوم في الجامعات الغربيَّة، ولكنَّه مفقود كثيراً في جامعاتنا العربيَّة بصورة عامَّة، وهو أن يتمَّ هذا التوجه نحو الحفر في شيء يبدو للباحث في البداية جزئياً.

ـ دة. فريدة طراد: أظنُّ أنَّ ممَّا التزمت به في هذا الكتاب هو ألَّا أختار بين التفصيل والدقة من جهة والشمول والتعميم من جهة ثانية، فأنا أرى أنَّهما لا ينفصلان، فيجب من منظوري أن يكون البحث دقيقاً في كلّ نقطة وفي كلّ نقطة هناك إحالة، لاحظتَ ذلك في الحاشية، فيجب أن يكون البحث دقيقاً، وهذا الالتزام بالدقة لا يمنع الشمول، والمشكلة هي في التوفيق، فلا أرى أنَّ هناك تناقضاً بين الشمول والدّقة، فهذا يستدعي ذاك في نظري. ويمكن أن تكون هذه الخلفية العامة الشموليَّة في نطاق هذا الجزئي الذي نركِّز عليه البحث.

د. نادر الحمامي: إذن المسألة أساساً منهجيَّة، في المقاربة في الاختيار وفي الانطلاق من مسألة تبدو جزئيَّة إلى مسألة شاملة في نهاية المطاف، لأنَّ تلك المسألة الجزئيَّة هي تعبير عن رؤية كاملة إلى العالم بأسره وإلى الوجود وإلى العلاقات في المجتمع أو خارج المجتمع.

ـ دة. فريدة طراد: طبعاً، والبحث ذاته يلزم الإنسان بمثل هذا الشمول أو هذه الكونيَّة، أي هذا العام، ويلزمه أيضاً أن يختار وينظّم ويؤلّف، فالمشكل ليس في الكثرة والشمول وإنَّما في التأليف؛ أي كيف تستوعب كلّ تلك الكثرة في المادة. فالعسير في المناهج هو كثرة المادة وتشعبها، كيف تستوعب ذلك في أطر وفي أنظمة، حتى يعرف القارئ وتعرف أنت نفسك كيف تتعامل مع هذه النصوص، وهي نصوص مهمَّة جداً، ومازالت تحتاج إلى مزيد من الصبر ومزيد من السبر.

د. نادر الحمامي: أي سبر النصوص باستقرائها مع الصبر في البحث فيها، والخروج دائماً من الدوائر المغلقة المتعلقة بهذه النصوص إلى النظر في الكثير في جزئياتها، كما قدَّمت أنت من خلال المقاربتين الكبيرتين؛ السيميائيَّة والمعجميَّة.

ـ دة. فريدة طراد: لو تدري كم تفيدنا معاجم اللغة وكتب الصفات وهي غير مدروسة! كم تفيدنا في دراسة الرموز والرمزيَّات!

د. نادر الحمامي: إذن هذا الإطار المنهجي والمعرفي العام، ولا أزعم أنَّ مثل هذا الحوار قد استوفى حقَّ هذا البحث ولكنَّه يؤدّي، على الأقل، إلى لفت الانتباه إلى مسألة المناهج ومسألة استقراء النصوص ومسألة الوثائق والمصادر والنظرة الشاملة انطلاقاً من الجزئي، وفي الحقيقة هذه استفادة منهجيَّة كبرى، واستفادة من الدلالات والرمزيَّات التي من شأنها أن تزيل هذه الثنائيَّات التي تصل إلى الصدام وتبعد عن التبسيط، لذلك أنت تستحقين كلَّ الشكر على ما قدَّمته في هذا البحث، وعلى تلبية دعوتنا إلى هذا الحوار، الذي أرجو أن يكون فاتحة تعاون علمي بيننا.

ـ دة. فريدة طراد: شكراً لكم جميعاً.