فقه الدّماء وإدارة التوحّش


فئة :  مقالات

فقه الدّماء وإدارة التوحّش

إنّ شيوع ظاهرة العنف عبر التاريخ لا يقدّم الذّرائع للبشر في عصرنا، كي يسوّغوا جميع أشكاله ويضفون عليها الشرعيّة. ولئن رأى "كولن ولسون" (Colin Wilson) في "الحقيقة الثابتة أنّ التاريخ البشريّ كان بشكل رئيسي تاريخا من الإجرام."[1] فإنّه قد استدرك بالقول إنّ هذا التاريخ كان مليئا أيضا بالإبداع.[2] ولعلّ إبداع الإنسان قائم في قدرته على إخفاء عنفه بدل إشهاره وتقنينه بدل إطلاق العنان له. فالتمييز بين عنف شرعيّ وآخر غير شرعيّ يظلّ أمرا ضروريّا في ظلّ اختلاف مرجعيات العنف ومبرراته. وإنّ من أكثر المسائل إثارة للجدل، العنف المقدّس الذي تجلّت أشكاله التاريخيّة في طقوس الحرب ومختلف أشكال العنف المسلّط على الذات وعلى الآخر. ولكنّ استدعاء تلك الأشكال في ظلّ تحوّلات كبرى التي شهدها الوعي الإنسانيّ يثير كثيرا من الأسئلة حول علاقته بالخطاب الدّيني وتمثّله لمقاصد الأديان ومدى تلاؤمه مع ما وصلت إليه الإنسانيّة من مفاهيم أخلاقيّة مشتركة، مثل الحريّة وحقوق الإنسان وحقّ الاختلاف. فقد نبّه هابرماس (Jürgen Habermas) على "أنّه يمكن التوصّل إلى المعايير الأخلاقيّة عبر نقاش حرّ عقلانيّ، تبحث فيه نتائج كل معيار من المعايير الأخلاقيّة انطلاقا من خاصيته الكليّة؛ أي القبول والرضا العام عن طريق الإقناع العقليّ لا القوّة والقهر."[3]

وإنّه لمن الصعب تمثّل ماهية العنف بمجرّد تمييزه عن مفاهيم متقاربة في المعنى كالسلطة والقدرة والقوة والتسلّط[4]، وإنّما يتحقّق ذلك المقصد أيضا في إطار الوعي بالأزمات السياسيّة والتناقضات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي جعلت العنف اختيارا يحيد بالبشر عن السّلم والتّسامح. وقد يتحوّل خطاب العنف إلى مجرّد تبرير يخفي الأسباب الحقيقيّة؛ فاللغة هي أكثر الوسائل التي تمكّن المتكلّم من تورية مقاصده وإظهار ما لا يضمره. ومن هنا، يمكن من خلال المقارنة بين ما يواريه المتكلّم في خطابه ويكشفه الواقع الوصول إلى فهم أعمق للعنف وإدراك أسبابه وفهم مقاصده.

من الصعب تمثّل ماهية العنف بمجرّد تمييزه عن مفاهيم متقاربة في المعنى كالسلطة والقدرة والقوة والتسلّط  

إنّنا بهذا المعنى، ننطلق من فرضية أنّ العنف يمثّل تلوّثا للغة وصناعة لمتخيّل يرسم صورة مشوّهة للآخر في ظرف مرضيّ طارئ، وهو "مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشريين، فهو نتيجة الخطاب المشوّه السّائد بين الأصوليين وغيرهم. إنّه خطاب مشوّه، لأنّه لا يعترف بالآخر كما هو."[5]

ويهدف المتكلّم من توظيف الخطاب الدّيني إلى تورية مقاصد سلطويّة يحاول حجبها، فيهدر البعد الرمزي المشترك ويحتكر التأويل. "وبما أنّ الإنسان حيوان ناطق، فإنّ نبذ العنف والتبرّؤ منه يحدّدان الجوهر الحقيقيّ للوجود الإنسانيّ، وبالفعل فإنّ مبادئ اللاّعنف ومناهجه هي التي تؤسس لإنسانيّة البشر وتشكّل الوجود الإنسانيّ لتناغم وترابط جملة المعايير الأخلاقيّة المستندة إلى قناعات من ناحية وللشعور بالمسؤولية من ناحية ثانية. الأمر الذي يؤدّي إلى جعل العنف "إفسادا كليّا وجذريّا للإنسانيّة." وتتعرّض اللّغة للتلوّث بالعنف تحت تأثير أحوال مرضيّة طارئة تشوّه المنطق المتجذّر في عمق التواصل الرمزيّ."[6]، بل يمكن القول إنّ اتّخاذ الخطاب الديني وسيلة لتبرير العنف يقوم على فهم لطبيعة المقدّس وإدراك لقوّة تأثيره في جمهور بعينه؛ "ذلك أنّ كلّ لغة تتّجه من حيث كونها مؤلّفة من مفردات إلى تقديم أفكار أو مفاهيم. وهذا ما تعنيه اللغة، وكلّما أتى الأمر جليّا لا لبس فيه، أتت اللغة بمثله ونيّف. من هذا المنطلق، يميل بسط الحقيقة الدينيّة في اللغة ميلا لا انصراف عنه إلى التشديد على محمولات الله "العقلانيّة" ولكنّ... هذه المحمولات العقلانيّة تعجز عجزا عن أن تستنفذ فكرة الألوهة، حتّى إنها لتنطوي بالواقع على موضوع غير عقلانيّ، أو يفوق العقلانيّة."[7] فاختيار الإطار الذي يبثّ فيه الخطاب وانتهاز فرصة اللحظة التاريخيّة الحاسمة هو الذي يحقّق فاعليّته في الواقع، ويضمن تأثيرا أوسع في الجمهور المقصود بالخطاب. واستراتيجيات الخطاب تقوم على نسق عقلانيّ يضبط مراحل واضحة لتكوين الدولة الإسلاميّة، وينطلق من تشخيص للواقع تشخيصا يبرّر تلك المراحل ويشرّع قيامها. ولكنّه يقوم بالمقابل على جانب غير عقلانيّ أساسه الإيمان بقداسة الداعية (الثقة التامة في خطابه، وهي تبلغ مرحلة الإذعان والتسليم والطاعة العمياء) والمسار النضاليّ (الوثوق من أنّه مسار جهاد مقدّس) والمقاصد المنشودة (قداسة الدولة الإسلاميّة التي تطبّق فيها الشريعة الإلهيّة).

وتحقيقا لتلك المقاصد، فقد تواتر إصدار كتب تحثّ على "العنف الجهاديّ" بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولكن أضحى هذا الصنف من الكتب عند المؤمنين بقداستها "شريعة" تتجاهل تأويل الخطاب الديني على قاعدة التسامح والاعتراف بحقّ الاختلاف، وحاول الدعاة الذين تبنوا هذا المسار التأويليّ الإقناع بأنّ للخطاب الديني وجهاً واحداً يحضّ على العنف وقطع الرؤوس، وما دون ذلك تخاذل في نصرة الدين وتجاهل للتعاليم الإلهيّة. فكلّ متلقّ واقع تحت تأثير الخطاب الدينيّ العنيف وسحره لا يكلّف نفسه مشقّة البحث والتنقيب في مدى صحة المسار التأويلي وتلاؤمه مع روح الشريعة التي دُعِيَ إلى نصرتها، وإنما يتعامل معها تعاملا دوغمائيّا خاليا من النقد ومعدما لغيرها من التأويلات المتسامحة للدين أو السبل السلميّة لحلّ الأزمات. وبما أنّ أخلاق المتديّن مجبولة على الطاعة والانقياد، فقد كان يسيرا على أصحاب تلك "التعليمات الجهاديّة" التي اتّخذت قوالب فقهيّة التأثير في المؤمنين بقداستها والواثقين من سلامة مساراتها التأويليّة. فالإيمان والطاعة وحدهما هما اللّذان يقودان الإنسان إلى الوثوق بشرعية قتل الآخر أو الموت في سبيل هزمه. وحتما لا ينشأ التوحّش إلاّ من وجود توحّش مضاد وفق منطق المحاكاة. ولكن بعض التوحشّ خفيّ يُوارى بالقوّة والشرعيّة وبعضه الآخر سيء السمعة وصورته تتضخّم تحت مجهر الدعاية الإعلاميّة.

لقد أقام "أبو عبد الله المهاجر" مثلا متخيّله الجهاديّ على أساس فصل بين دار الإسلام ودار الكفر. وشرّع من خلال هذه القسمة الهجرة من ديار الكفر إلى دار الإسلام. وقد اجتهد في إيجاد دعائم شرعيّة من الكتاب والسنّة وفتاوى الأئمة لتبرير العنف وحشد المقاتلين، ليكونوا الأداة التنفيذيّة لمشروعه النظريّ ومتخيّله الجهاديّ. فيظهر من خلال تصدير كتابه بهذه المسألة ما يواريه خطابه من إستراتيجية حربيّة للحشد والمواجهة. فالفصل بين مملكة الإيمان والكفر يشرّع لهجرة المقاتلين من جميع أنحاء العالم بدعوى اتباع السنّة النبويّة والالتحاق بأرض "الجهاد". واستعمال السجلّات الدينيّة للتّبرير يقوم في سياق البحث عن آليّة تأثيريّة لها فاعليّة في المتلقّي ونجاعة في الحرب. فالشريعة "التي تفرض على المحارب التضحية بحياته هي نفسها التي تأمره بقتل عدوّه، وعبثا تسعى قوانين الحرب إلى أن تجعل منها لعبة شريفة وضربا من المبارزة التي يلزم العنف فيها حدود الاستقامة واللياقة، لكنّ القتل يبقى هو الأهمّ. والمهارة كلّ المهارة تكمن في إبادة العدوّ بمثل السّهولة التي يجري بها اصطياد الطّريدة؛ أي تدميره، إن أمكن بالانقضاض عليه وهو أعزل أو مباغتته أثناء نومه."[8] ولكن من البداهة أن يظلّ هاجس الإنسان إضفاء شرعيّة على عنفه وتبريره بلغة المقدّس ومرجعياته. وقد مثلت المؤلفات التي ظهرت لتشريع العنف وإضفاء القداسة الدينيّة على الحرب السند النظريّ للحركات التكفيريّة العنيفة، ولكنّها لم تكن مجرّد عناوين مؤلفات كتبها أصحابها لأغراض فكريّة، وإنما تحوّلت إلى ممارسات ترسّخ اليقين عند كثير من المؤمنين بقداستها بأنّها شريعتهم في التعامل مع الآخر المختلف. "فعندما أعلن أبو مصعب الزرقاوي تأسيس "جماعة التّوحيد والجهاد" أواخر 2003، كان يحمل معه كتاب أستاذه أبي عبد الله المهاجر "مسائل في فقه الجهاد". وقام لاحقا بطبعه وتوزيعه على أعضاء الجماعة، ليكون المنهج العمليّ في ممارسة الفعل الجهاديّ في العراق... وهذا الكتاب اشتهر تحت عنوان "فقه الدّماء". وكان هذا الكتاب مرجعا مهمّا للحركة الجهاديّة في العراق، بل إنّ أوّل الفصائل الجهاديّة اتّخذت من عنوان الكتاب الأوّل اسما لها "الطائفة المنصورة" بديلا لتسمية "التوحيد والجهاد" بقيادة أبي مصعب الزرقاوي. وكان الزرقاوي قد نشر كتاب "فقه الدماء" على نطاق واسع بالنشر والتدريس والتلقين. ولا يكفّ الزرقاوي عن الاستشهاد به في كلّ خطبة لتبرير ذبح الرهائن وقطع الرؤوس والتنكيل بالجثث وحرق الأسرى في تسجيلات تعجّ بالرعب والخوف."[9]

وقد طرحت تلك الأسانيد النظريّة في سياق أزمات عاشتها منطقة الشرق الأوسط بشكل عام والعراق بشكل خاصّ؛ ذلك أنّها ترتبط بنزاعات تأتلف خيوطها الداخليّة والخارجيّة، لتؤسّس شبكة عنف وعنف مضادّ تتنازع فيه الدول والتنظيمات على الأرض والسلطة. فعنف داعش الذي مثّل آخر حلقات التوحّش يجمع إلى ميراث العنف البعثيّ الذي انضمّ كثير من عناصره إلى التنظيم عنف التكفيريّين المتحمّسين إلى القتل باسم الجهاد والناقمين على السياسة الطائفيّة التي انتهجت في العراق على أنقاض الاستعمار الأمريكيّ وحكم المالكي.

لم تكن تلك الكتب معزولة عن سلسلة من الفتاوى والآراء التي فتحت الطريق للعنف المقدّس وشرّعته على أساس إرساء حكم الإله وقهر الطواغيت والكفرة. فقد أفتى "ابن تيميّة" بجواز قتال "تتار "ماردين" الذين يقدمون إلى الشام مرّة بعد مرّة وقد تكلّموا بالشهادتين، وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أوّل الأمر. وقد ادّعى أنّهم يوالون دين الكفّار، وأنهم يتبعون شريعة "جنكيس خان" الذي وضع له الياسة أو (الياسق) كشرع يتبعونه. وقال ابن كثير عن الياسق، إنّه كتاب مجموع من شرائع شتّى من اليهوديّة والنصرانيّة والملّة الإسلاميّة.[10] وقد أضحى ابن تيميّة ركيزة شرعيّة لكثير من فتاوى العنف والجهاد.

وقد أفتى "عبد الله عزّام" بقداسة الجهاد في أفغانستان. وأوّل آية "يا أيّها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار." بأنّ "أيّ بلد من الكفّار يجاورونكم فقاتلوهم."[11] واعتبر الجهاد الحربيّ فرض عين كالصلاة والصيام، ثمّ أوجد كلّ المبرّرات لتكون قبلة الجهاد أفغانستان بدل فلسطين، وهو ما سيؤسّس لفتاوى "جهاد الأنظمة الطاغوتيّة الكافرة" في العراق وسوريا وليبيا ومصر وغيرها من الدول التي عارضت فيها الجماعات التكفيريّة العنيفة النظم التي لم تحكم حسب وجهة نظرها بالشريعة الإسلاميّة ويؤخر إلى أجل غير معلوم تحرير الأراضي الفلسطينيّة.

ولم تكن تلك الكتب أيضا، رغم صبغتها النظريّة وأسانيدها الدينيّة معزولة عن البيئة التي ظهرت فيها تلك الخطابات ولقيت رواجها؛ فهي بمثابة المثير الذي وجد استجابة لدى جماعات وأفراد يبحثون عن مبررات لعنفهم ويحتاجون إلى شرعيّة دينيّة في ظلّ عجزهم عن نيل حقوقهم تحت سقف الشرعيّة القانونيّة التي ولدتها الانتخابات العراقيّة وآلت إلى حكم طائفيّ أو الشرعيّة الدوليّة التي انتهت إلى احتلال عسكريّ ونهب اقتصاديّ لثروات البلد وانتخابات مكنت الأحزاب الطائفيّة من تصفية حساباتها التاريخيّة. فقد وجد دعاة تلك الفتاوى وسيلة لتحقيق مقاصدهم في الانتقام والوصول إلى السلطة اعتمادا على مبررات دينيّة مثلما وجد المؤمنون بتلك الخطابات ضالتهم في الانتقام أو تحقيق مكاسب دينيّة ورمزيّة. ومثلما ارتبطت إدارة التوحّش بحلم تحقيق الدّولة الإسلاميّة وبلوغ مرحلة التمكّن، فقد كان فقه الدماء وسيلة لتصعيد العنف وضبط طرائقه الشرعيّة. ومن طرائق القتل التي يشرّعها أصحاب هذه الكتب، قطع الرؤوس. إذ يرون أنّه "لم يختلف أحد من فقهاء الإسلام في مشروعيّة قطع رؤوس الكفرة المحاربين وحزّها، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، بل ذلك عندهم من البديهيّات المسلّمات لتواتر المسلمين عليه في جهادهم لأعداء الله جيلا بعد جيل، وقبيلا بعد قبيل من عهد النبوّة وإلى يوم الناس هذا."[12] ويدعو "أبو بكر ناجي" إلى اعتماد الشدّة مع الكفّار. وحجّته في ذلك ما سلكه "أبو بكر الصدّيق" مع المرتدّين "وكانت وصاياه للجند تدور حول جز الرقاب بلا هوادة أو تباطؤ، حتى أنه رضي الله عنه حرق رجلاً يسمى إياس بن عبد الله بن عبد ياليل ويلقب بالفجاءة، لما خدعه في أخذ أموال لجهاد المرتدين ثم لحقهم، أو على الصحيح صار بها قاطع طريق."[13]

تعتبر تقاليد الأضاحي البشريّة عادة قديمة، ولكنّ استدعاءها إلى ساحات الحرب حديثا وإضفاء شرعيّة دينيّة عليها، يطرح تساؤلات حول مقاصد أصحابها وجدوى ارتباطها بالخطاب الدينيّ. ولكن أنّى لحزّ الرؤوس ونحر البشر أن يعادل ما يقف في الجيش الآخر من أسباب القوّة العسكريّة. فأسلوب القتل نحرا قد يتضخّم إعلاميّا ويصير عملا إجراميّا بشعا يحمل المشاهدين على إدانته واستنكاره، والحال أنّ إخفاء بشاعة الحرب أشبه بتجميل القبيح وإظهاره حسنا من خلال ادّعاء دقّة الأسلحة وزعم الذكاء في تقنياته ضمانا لتحييد المدنيين وتحقيقا لحرب نظيفة لا تستهدف إلا الأشرار وتستثني الأبرياء؛ ورغم أنّ مقولة الحرب النظيفة مقولة طوباويّة، فإنّ مقاصد الإقناع بدقّة الأسلحة ونظافة الحرب لأمر يوظّف من أجل إضفاء شرعيّة على العنف والحدّ من بشاعة تلقّيه.

تعتبر تقاليد الأضاحي البشريّة عادة قديمة، ولكنّ استدعاءها إلى ساحات الحرب حديثا وإضفاء شرعيّة دينيّة عليها، يطرح تساؤلات حول مقاصد أصحابها وجدوى ارتباطها بالخطاب الدينيّ  

ومهما تفهّمنا طبيعة الحروب القديمة في سياقاتها التاريخيّة التي أبيح فيها قطع الرؤوس ونقلها، فإنّنا نرى أنّ إشهار العنف بهذه الطريقة يفقده الشرعيّة ويحوّله إلى صورة من صور "الإرهاب" و"البربريّة" و"الهمجيّة". فشرط الحرب أن تكون الأسلحة من جنس أسلحة العدوّ أو أقوى وأن تكون أرض المعركة أصدق إنباء من الخطاب ولغة الحرب قناعا يجمّل قبحها ويواري بشاعتها. وكلّ من يعتقد بإشهاره للعنف وتلويثه لغة الديّن بالدماء أنّه يرهب عدوّه واهم، لأنّه لا يخدم إلاّ عدوّه الذي يقتل في صمت ويفتك من وراء ستار بضغطة زرّ.

تحتاج هذه التنظيمات إلى فهم أنّ العنف يمكن أن يتحوّل إلى "قوّة ناعمة" تحقّق الحدّ الأقصى من مقاصدها بأقلّ الوسائل عنفا وبأكثر العبارات إيحاء بالأخلاق والتسامح. ومن مزاياها "القدرة على الحصول على ما تريد من خلال الجاذبيّة بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبيّة ثقافة بلد ما ومثله السياسيّة وسياساته."[14] فقد ولّدت ثقافة النحر وحرفة قطع الرؤوس[15] خوفا من الإسلام و"فوبيا" من المسلمين الذين وسموا بأنهم إرهابيين ووحشيّين، بدل أن ترغّب في الدولة الإسلاميّة وتسوّقها للآخر، باعتبارها البديل المثاليّ من الأنظمة الليبراليّة والقوميّة والشيوعيّة مثلما روّجت في خطابها الدعويّ.

[1] كولن ولسون، التاريخ الإجرامي للجنس البشريّ سيكولوجيّة العنف، (ترجمة رفعت السيد علي)، ط1، مصر، جماعة حور الثقافيّة، 2001، ص 12

[2] انظر المرجع نفسه، ص 12

[3] أبو النور حمدي أبو النور حسن، يورجين هابرماس، الأخلاق والتواصل، ط1، بيروت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2012، ص 242

[4] انظر: حنّة أرندت، في العنف، (ترجمة إبراهيم العريس)، ط1، بيروت، دار الساقي، 1992، ص ص 38- 40

[5] محمّد الميساوي، السياسة بين التواصل والعنف في المجال السياسي العربي، محاولة للفهم في ضوء نظريّة "الفعل التواصلي لهابرماس، ضمن كتاب: العنف والسياسة في المجتمعات المعاصرة، مقاربات سوسيولوجيّة وحالات، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ج1، ص 64

[6] سلافوي جيجك، العنف تأمّلات في وجوهه الستّة (ترجمة فاضل جتكر)، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ص 65

[7] رودولف أوتو، فكرة القدسيّ التقصّي عن العامل غير العقلانيّ في فكرة الإلهيّ وعن علاقته بالعامل العقلانيّ، ط1، بيروت، دار المعارف الحكميّة، 2010، ص 24

[8] روجي كايوا، الإنسان والمقدّس، (ترجمة سميرة ريشا)، ط1، بيروت، المنظمة العربيّة للترجمة/ مركز دراسات الوحدة العربيّة، ص 239

[9] عبيد خليفي، الجهاد لدى الحركات الإسلاميّة المعاصر، من جماعة الإخوان المسلمين إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة، ط1، تونس، مسكيلياني للنشر والتوزيع، 2018، ص ص 461، 462

[10] انظر: سعود المولى، الجماعات الإسلاميّة والعنف، ط1، بيروت، مركز المسبار لدراسات والبحوث، 2012، ص ص 415، 416

[11] عبد الله عزّام، موسوعة الذخائر العظام في ما أثر عن الإمام الهمام الشهيد عبد الله عزّام، ط1، باكستان، مركز الشهيد عزام الإعلامي، 1997، ج4، ص 261

[12] أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، (نسخة إلكترونيّة)، ص 278. انظر الرابط التالي:

https://archive.org/details/ozaaloza_gmail_20131108

[13] أبو بكر ناجي، إدارة التوحّش، ص 32

[14] جوزيف س.ناي، القوّة الناعمة وسيلة النجاح في السياسة الدوليّة، (ترجمة محمد توفيق البجيرمي وعبد العزيز عبد الرحمن الثنيان، ط 1، المملكة العربيّة السعوديّة، مكتبة العبيكان، 2007، ص 12

[15] انظر: علي صالح مولى، ثقافة النحر وحرفة قطع الرؤوس أيّة معقوليّة؟ مقاربة تحليليّة نقديّة، ضمن كتاب: العنف والسياسة في المجتمعات العربيّة المعاصرة ثنائيّة الثقافة والخطاب، ط1، الدوحة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، ج2، ص ص 27- 59