فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة: قراءة في كتاب محمّد عثمان الخشت


فئة :  قراءات في كتب

فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة:  قراءة في كتاب محمّد عثمان الخشت

يكشف كتاب "فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة"[1] عن قدرة عالية على الجدل ودحض الحجة بالحجة، وقدرة على الدخول والتعمق في القضايا الصعبة المراس، والخروج منها بالحل الذي يشفي غليل الحيارى، من خلال منطق جلي في الإبانة، وأداء قوي في الإقناع. ويمكن القول إنّ الخشت تتملكه في هذا الكتاب عقلية تنويرية واضحة، وموهبة في المناقشة، وقدرة على النقد البناء، على نحو ينقد معه بسهولة الفلسفة الحديثة، أو عصر الحداثة وما بعدها، دون أن يكون هدفه من ذلك التعصب البغيض للمذهب أو الملة، أو محاولة الانتصار لكل ما هو إسلامي، أو لمجرد الانتصار الزائف على الخصوم، أو حتى التظاهر بالعبقرية والتنوير خاصة، وقد أكد أهمية دور عصر الحداثة وما بعدها في الانتقال بالإنسان إلى مجال واسع من رحاب المعرفة والحقوقية والتقدمية.

لقد كانت دعوة الخشت في هذا الكتاب دعوة صريحة إلى البحث والتأمل والتدبر والتفكر في جوانب أساسية في الحياة، دعوة صريحة إلى الانقضاض على كل التصورات الخاطئة التي علقت بكثير من القضايا الفلسفية عامة والسياسية خاصة حول المواطنة على نحو ربما أصاب صورتها بالتشوه عند خاصة الناس قبل عامتهم، ولذا فقد كانت جهوده في هذا الكتاب محاولة جادة وهادفة لإعادة الصورة الحقيقية التي ينبغي للمواطنة الحقيقية أن تكون عليها، حتى تكون عامل بناء في المجتمع الذي يرنو بعد ثورته إلى الارتقاء في مدارج التقدم العلمي والأخلاقي.

وإذا كان الخشت قد بدأ فكره السياسي بالتمسك بالديمقراطية حلاًّ ومنهجًا، وإذا كان قد أردف ذلك بحديثه عن المجتمع المدني في مؤلفاته: المجتمع المدني عند هيجل، المجتمع المدني والدولة، فإنّ ثالث الثالوث الذي أكمل به مشروعه السياسي هو دراسته عن المواطنة من خلال كتابه الأحدث فلسفة المواطنة في عصر التنوير، ويعد مفهوم الخشت للمواطنة هنا دليلاً على ما يكتنفه هذا التعريف من إشكالية، وهي الإشكالية التي كان يدرك أنّها نتيجة اختلاف التحليلات الفلسفية، وتعارض النظريات الاجتماعية، فضلاً عن أنّه نتيجة عدم انتهاء النظريات السياسية إلى رأي أخير يوضح ماهيته، ومن ثم كان محصلة هذا كله التباين الواضح الذي عليه الأنظمة السياسية عبر العالم، بل عبر أحزاب الدولة الواحدة في تحديد معالمه ومضمونه وما يتعلق به.

وعليه فقد كان معنيًّا في هذا الكتاب بالإجابة على الأسئلة الآتية:

  • ما معنى المواطنة؟
  • وما أبرز سماتها وأسسها؟
  • وما مدى ارتباط المواطنة بفكرة الحداثة؟
  • وكيف تشكّل المواطنة الأساس الركين في بناء الديمقراطية؟

ومن ثم نفهم - في التحليل الأخير - أنّ النظام السياسي الصحيح يقوم عند الخشت على أسس ثلاثة:

  • الديمقراطية في الحكم.
  • المجتمع المدني.
  • المواطنة.

ويمكن القول إنّ الخشت كان معنيًّا في كتاب "فلسفة المواطنة" بالحديث عن موضوعات تندرج تحت الفصول الآتية:

ففي الفصل الأول: مفهوم المواطنة وإرهاصاته صاغ الخشت تعريفه للمواطنة وسط بحر خضمّ من الاختلافات العالمية والمحلية حول هذا المفهوم بما يتضمنه من قضايا فرعية تندرج تحته، ومن ثم فقد تعامل الخشت مع المفهوم بشيء من الاتساع، فالمواطنة عند الخشت مفهوم قد يضيق وقد يتسع، قد يضيق ليقتصر على نخبة، وقد يتسع ليشمل عدّة نخب، وقد يزداد اتساعًا، فيشمل كل المنتمين إلى دولة ما أو أمّة، وفي أحيان قليلة ربما يشمل مفهوم المواطنة كل الجنس البشري في إطار دولي عالمي قد يكون له شكل الدولة الواحدة، وقد يكون له شكل التكوين الفيدرالي الذي يجمع عدة دول في إطار حكومة عالمية أو عصبة أمم.

ومع هذا فإنّ الخشت لم يقف عند مجرد التعريف الاصطلاحي لمفهوم المواطنة، بل تعامل معه بوصفه كائنًا حيًّا له ماض وحاضر ومستقبل، ينشأ وينمو ويتطور، ويتراجع ويتقدم، ويقوى ويضعف، ويتداخل ويتخارج مع مفاهيم أخرى. فهو لم يقتطع المفهوم من وضعيته التاريخية وجذوره، وما آلت إليه صيرورته في الوقت الراهن. ومن ثم فقد توقف الخشت كثيرًا عند عصر التنوير باعتباره العصر الذي حمل معالم الارتباط العضوي بين المواطنة والحداثة؛ إذ كل عناصر الحداثة الماثلة في أعمال طائفة كبيرة من فلاسفة التنوير وكتابه ترتبط - عند الخشت - ارتباطًا نظريًّا مع مفهوم المواطنة عندهم؛ حيث يعكس هذا المفهوم أسمى ما قدّمه هذا العصر "لأنّه عصر عصور الفلسفة الغربية، ونقطة تحول في طريق الإنسانية نحو مفهوم واضح ومحدد للمواطنة، وفي هذا العصر مر المفهوم بمعظم التحولات عبر قرن واحد على الأقل من الناحية النظرية، وتمخض عن ثورتين من أكبر ثورات الإنسانية اللتين انطلقتا في قيامهما من مفهوم المواطنة: أي الثورة الأمريكية 1776 م والثورة الفرنسية 1789م، وتحولت الإنسانية معهما إلى أفق جديد مؤثر رغم أنّه غير مكتمل".[2]

ويمكن القول إنّ الخشت قصد من دراسته في هذا الكتاب المواطنة في الغرب خاصة في القرن الثامن، محاولاً نقل صورة المواطنة كما عبر عنها عصر التنوير الأوروبي إلى الشرق الإسلامي. ويحسب له أنّه تتبع معنى المصطلح في البيئة العربية اللغوية وفي البيئة اللغوية الأوروبية.

ومع كثرة التعريفات حول المواطنة وجد الخشت أنّه مجبر على الإدلاء بدلوه، فانتهى إلى تعريف يبدو جامعًا مانعًا في رأيي. يقول: "والمواطنة في شكلها الأكثر اكتمالاً في الفلسفة السياسية المعاصرة هي الانتماء إلى الوطن، انتماء يتمتع المواطن فيه بالعضوية كاملة العضوية على نحو يتساوى فيه مع الآخرين الذين يعيشون في الوطن نفسه مساواةً كاملةً في الحقوق والواجبات وأمام القانون، دون تمييز بينهم على أساس اللون أو العرق أو الدين أو الفكر أو الموقف المالي أو الانتماء السياسي، ويحترم كل مواطن المواطن الآخر، كما يتسامح الجميع تجاه بعضهم البعض رغم التنوع والاختلاف بينهم"[3]

وفي هذا الفصل أيضًا حاول الخشت أن يبحث عن الجذور التاريخية الجينية للمواطنة، فعرض لمفهوم المواطنة عند اليونانيين، معتبرًا مفهوم المواطنة اليوناني هو أصل مفهوم المواطنة في الفكر الغربي، وعلى الرغم من قصور مفهوم المواطنة اليوناني إلا أنّ الخشت – مقتفيًا أثر بعض المفكرين الغربيين كديفيد ميللر – رآه الرافد الرئيسي لمفهوم المواطنة الغربي. ونحن من جانبنا لا نتفق مع هذه الرؤية؛ لأنّ الفكر اليوناني نظر للمواطن نظرة معيبة على أنّه قَصَر على أفراد طبقة معينة دون غيرهم الحقَّ في المشاركة السياسية، فكيف نرى في ذلك أدنى معنى للمواطنة؟ فضلاً عن أنّ أفلاطون وأرسطو ذاتهما انتقدا هذا المفهوم القاصر لا لقصوره، ولكن لأنّهما نظرا إليه على أنّه مفسدة للشعب؛ زاعميْن أنّ هذا المفهوم القاصر يعطي المواطنين حق الحرية التي تعطيه حق الحياة، وحق المشاركة السياسية، وإدارة شؤون البلاد، والمشاركة في الحكم القضائي، فكيف نقول بعدها إنّ المواطنة في اليونان القديم كانت أصل مفهوم المواطنة الغربي الحديث؟ ومع هذا فإنّ الخشت كان يتجه في هذا الفصل إلى البحث عن المراحل التاريخية التي مر بها مفهوم المواطنة من الفكر اليوناني مرورًا بالعصر الروماني وانتهاءً بعريضة الحقوق سنة 1689م، وكأنّه يريد أن يؤكد أنّ المواطنة هي صنو التنوير، فكلما زاد التقدم والنهضة في مكان ما زاد ونما معهما بالضرورة مفهوم التنوير واعتلج بقوة في العقل والقلب معًا.

وفي الفصل الثاني تحت عنوان المواطنة والحداثة كان الخشت معنيًّا بقضية الحداثة وتجلياتها من الأبستمولوجيا إلى فلسفة السياسة، باعتبارها تمثل كشفًا للمراحل التي مرت بها تحولات الحداثة الأوروبية: حيث النبتة الأولى للحداثة في إيطاليا، ثم مرحلة بيكون وديكارت وغيرهما، ثم مرحلة فلسفة الأنوار على يد مونتيسكيو وفولتير والموسوعيين. كذلك كان الخشت معنيًّا بالحديث عن ارتباط المواطنة بالقانون الطبيعي وحقوق الإنسان في عصر التنوير، وارتباط بداية المواطنة بفكرة العقد الاجتماعي.

ويقوم توجّه الخشت في هذا الكتاب بالأساس وخاصة في هذا الفصل على تأكيد أنّ التأسيس الحداثي بشقيه: الأبستمولوجي والعملي هو الأرض الخصبة التي نما فيها مفهوم المواطنة في شكله الحداثي الأكثر تطورًا. فجوهر الحداثة ينظر للإنسان على أنّه نقطة البدء في المعرفة والعمل، إنّه كما يقول الخشت: "العقل الخالص، أو الأنا الفكرة، إنّه صاحب الإرادة الحرة، والفاعلية في المجتمع والسياسة والاقتصاد، وهكذا ظهرت العقلانية تعبيرًا عن الذات وفاعليتها في المعرفة والسياسة، وهكذا صار كل شيء موضوعًا أمام العقل لتمثله وفهمه وإصدار الحكم عليه، وأصبحت السياسة استنباطًا من العقل المشترك، ومن خلاله يتمكن الإنسان من سيطرته النظرية والعملية على العالم: الكون والدولة، الذي صار قابلاً للمعرفة على المستوى الأبستمولوجي، وقابلاً لإعادة التشكل على المستوى السياسي"[4]

لقد تأكّد للخشت الارتباط التام بين المواطنة والحداثة خاصة، وقد وقف على المنجزات الفكرية والسياسية للحداثة كالقانون الطبيعي وحقوق الإنسان والعقد الاجتماعي والفصل بين السلطات والنظام السياسي والدستوري والمجتمع المدني والديمقراطية، فلا مجتمع مدنيّ بدون مواطنة ولا مواطنة بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية حقيقية بدون مواطنين بمعنى الكلمة يمارسونها وينظّمون على أساسها علاقاتهم مع بعضهم بعضًا من ناحية وعلاقاتهم مع الدولة من ناحية أخرى.

ويكشف الكتاب عن الدور الكبير الذي قامت به كل من إيطاليا في القرن السادس عشر، وأنجلترا في القرن السابع عشر، وفرنسا في القرن الثامن عشر، وكأنّه أراد أن يقول إنّ كل دولة من هذه الدول وضعت لبنة في بنيان المواطنة والحداثة، من خلال نظرتها الفلسفية للحرية والحقوق الطبيعية للفرد والمجتمع، وتعريضها بالاستبداد والملكية المطلقة ونظرية الحق الإلهي. وأثنى الخشت على الدور الأمريكي من خلال الثورة الأمريكية على المستوى السياسي دون الفلسفي بوصفه محورًا رئيسًا في الربط بين الحداثة والمواطنة.

ويمكن القول إنّ الخشت قام بدراسته للمواطنة من ناحيتين: ناحية التطور الأفقي وناحية التطور الرأسي، ففي الناحية الأولى اتجه إلى تحديد مسار المواطنة ومفهومها من الأقلية إلى الأرستقراطية إلى شمول طبقات أخرى بمرور الزمن، إلا أنّه لم يبالغ في حكمه، حيث كان يرى أنّ المواطنة لم تشمل كل الأفراد من الناحية العملية على الرغم من المواثيق الدولية المتكررة وإعلان حقوق الإنسان. وفي الناحية الثانية تطور المفهوم عنده بشكل مواز لتطوّر المشاركة في صنع القرار السياسي وممارسة السلطة وتوسيع رقعتها، فقد كان التقدم تدريجيًّا نحو تحول سلطة القرار من يد شخص واحد من خلال مستويات متوسطة إلى يد عامة المواطنين وفق آليات الديمقراطية. ومع هذا فإنّ مفهوم المواطنة لم يتبلور عند الخشت من الناحية النظرية إلا عام 1948م، عندما صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أما من الناحية الواقعية الفعلية فلا تزال تعترض فكرة المواطنة عنده تحديات كبيرة في كثير من بلدان العالم.

وفي الفصل الثالث المواطنة ومتلازمة الديمقراطية والمجتمع المدني نرى أنّه لا يمكن قراءة هذا الفصل من "فلسفة المواطنة" دون أن نربطه بكتب محمد عثمان الخشت عن المجتمع المدني، وهي ثلاثة: المجتمع المدني، المجتمع المدني والدولة، المجتمع المدني عند هيجل. ومن ثم فإنّ قراءة الخشت في هذا الفصل تستوجب النظر بعين الاعتبار للكتب الثلاثة، حتى يتسنى لنا الربط بين معنى المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني، بما يعني أنّنا لن نقف عند حدود كتاب "فلسفة المواطنة" وحده.

لقد ظهرت ديمقراطية الخشت في أسمى معانيها عند حديثه عن المجتمع المدني، وما يجب أن يشكله من نواة أساسية في بناء أي نظام ديمقراطي، ومن ثم وجدناه ينادي بالشورى في الحكم والثورة على النظام الاستبدادي الفردي، الذي أثبت أضراره الكثيرة على الأمة الإسلامية، وينادي بضرورة إفساح المجال للشعب في صنع مستقبله وحياته السياسية هادفًا بذلك إلى توثيق أواصر التعاون بين البلاد الإسلامية سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً؛ بل في المجالات المختلفة، لقد كان المجتمع المدني عند الدكتور الخشت يمثل ثورة على النظام الطبقي في البلاد العربية، حيث تقسيمها إلى حكام وأعوانهم وإلى طبقات الشعب الكادحين الذين أذلهم الجهل والفقر والجبن من سطوة الحكام المستبدين، لقد أرادها الدكتور الخشت مساواة كما حث عليها الإسلام، مساواة لا فرق فيها بين حاكم ومحكوم، رئيس ومرؤوس.

ومن الجدير بالذكر أنّ المجتمع المدني جزء من المجتمع العام الذي يتشكل من: الأسرة والمجتمع المدني والدولة أو السلطة، والأسرة عند الخشت تسبق المجتمع المدني وإن لم تكن جزءًا منه، في حين كان المجتمع المدني عنده يتمثل في: النقابات، واتحادات العمال، والمؤسسات، والهيئات، والجمعيات الخيرية، والنوادي، ومجموعة المنظمات غير الحكومية، والغرف التجارية، والاتحادات المهنية، ومن ثم فإنّ المجتمع المدني يتسم بالآتي: الرابط بين أعضائه رباط اجتماعي فقط، ولا يقوم على القرابة أو الدين، أو على أساس وراثي أو قبلي أو طائفي أو عقدي، فضلاً عن أنّه لا يهدف إلى تحقيق مصالح شخصية أو نفعية براجماتية.

وبهذه السمات تتحقق قيمة المواطنة الحقيقية، ومن ثم فهناك علاقة واضحة ووثيقة بين المواطنة والمجتمع المدني والديمقراطية، فكل من ينحاز إلى الناس عند الخشت لا بد أن يفتح المجال للديمقراطية، ويعطي المجتمع المدني المساحة والدور اللائقيْن به، ولا يمكن أن يوجد مجتمع مدني حقيقي عنده إلا بتفعيل الديمقراطية، وإذا كانت الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل في إدارة المجتمع المدني، فإنّها لا يمكن أن تحقق أغراضها، بل لا يمكن أن تكون ديمقراطية حقيقية دون أن تعم سائر القطاعات من أسفل إلى أعلى، بداية من حقوق الفرد، مرورًا بحرية الصحافة، واستقلال القضاء والمؤسسة التشريعية وصولاً إلى كافة مؤسسات الدولة التي تتشكل وتعمل هي الأخرى وفق آليات ديمقراطية صارمة، فالديمقراطية عند الخشت يجب أن تكون كاملة وليست مبتورة بمعناها الغربي التقليدي أو بمعناها الشرقي المزيّف، ومن ثم فقد كان عليه أن يكشف أزمة الديمقراطية المعاصرة في العالم وفي الوطن العربي، ومن ثم فقد كان حل أزمات الديمقراطية عند الخشت لا يكون إلا بمزيد من الديمقراطية؛ إذ هي الآلية الملائمة للحكم وتداول السلطة، إضافةً إلى أنّها تمثل عنده أكبر ضامن للسلام الدولي.[5]

وفي الفصل الرابع: المواطن العالمي والنزعة العالمية حاول الخشت الإجابة على سؤال مؤداه: هل النزعة العالمية في أشكالها الجارية الآن يمكن أن تحل تصورًا عالميًّا حقيقيًّا للمواطنة محل مواطنة الدولة؟ وعليه فقد عالج موضوعه من عدة جوانب هي:

  • النزعة العالمية في مصطلح الحداثة.
  • صعود النزعة العالمية في القرن الثامن عشر.
  • مواطنة الدولة العالمية.
  • المواطنة والثورتان الفرنسية والأمريكية والانتقال من الفكر إلى الواقع.

لقد كان يرى في مفهوم المواطنة العالمية دون دولة عالمية في الواقع مفهومًا نظريًا لم يلامس الواقع، مثلُه مثَل النزعة العالمية؛ لأنّ النزعة العالمية تتضمن بالضرورة الالتزام تجاه دولة عالمية، ومادامت لا توجد مثل هذه الدولة التي تجمع البشرية بالفعل، فلا معنى للقول بمفهوم المواطنة العالمية، "لكن إذا كان معنى المواطنة العالمية هو كناية عن أسلوب الحياة، وليس الانتماء السياسي حرفيًّا، كما هو الحال عند بعض مفكري عصر التنوير في القرن الثامن عشر، فهنا لا اعتراض على المفهوم حتى ولو لم توجد الدولة العالمية؛ لأنّه بهذا المعنى لا يتعارض مع الانتماء السياسي للدولة الوطنية"[6]

ولعل المتأمل هنا يجد الخشت ينتقد النزعة المثالية عند القائلين بالدولة العالمية؛ لأنّ هذه النزعة أدت إلى الفشل الذريع الذي وقعت فيه الأمم المتحدة، والتي تعمل على تحقيق مصالح الدول الكبرى وخاصة أمريكا، ولذا فإنّ المواطنة العالمية أو الدولة العالمية تواجه عند الخشت صعوبات وتحديات جمة تمثل غياب دولة عالمية تعترف بالحقوق للجميع دون استثناءات، تشكك جموع الإنسانية في وجود مثل هذه الدولة، وتعارض المصالح والأيديولوجيات والأديان. ومن ثم يحق للخشت أن يتساءل، ويحق لنا أن نتساءل معه: ما الحل الذي نواجه به هذه التحديات؟!

وفي نهاية كتابه يرسم لنا الخشت الطريق إلى المواطنة والانتقال من الكوجيتو الديكارتي إلى الكوجيتو السياسي، أي من فلسفة التفكير فقط إلى فلسفة التفكير والفعل، وهو بذلك يحاول أن يسقط قلمه الحر على الواقع المصري. لقد كان يؤمن بأنّنا في حاجة إلى فلسفة للفعل تفهم طبيعة المخزون النفسي عند المصري خاصة والعربي عامة وتعيد بناءه للانتقال من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، من عالم الـ "أنا أفكّر" إلى عالم الـ "أنا أفعل"، من الكوجيتو الديكارتي إلى الكوجيتو السياسي. ولن يتحقق ذلك إلا بالمشاركة الفعالة في صنع بلادنا، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيرها من المجالات، وخص الخشت المشاركة السياسية واعتبر مفتاح ذلك الانتخاب القائم على إرادة حرة. وهذا له دلالات سياسية ثلاث عنده: دلالة الحرية، ودلالة القدرة على الفعل، ودلالة كون الإنسان غاية لا وسيلة.

ومن ثم فطريق المواطنة عند الخشت يقوم على: التفكير الحر، ثم الإرادة الحرة، ثم الفعل الحر على الترتيب، كما أنّ حقوقها ثلاثة: السياسية والاجتماعية والمدنية، والمواطنة عنده تعني الواجبات أيضًا التي على المرء القيام بها تجاه وطنه. والمواطنة تعني ضرورة بناء أركان نظام سياسي قوي يقوم على: برلمان منتخب، وحكومة الأغلبية، ودستور متوافق عليه من غالبية الشعب، وانتخاب رئيس جمهورية انتخابًا حرًا مباشرًا، مع العمل الدائم والتأكيد المتواصل على تداول السلطة.


[1] طبعة القاهرة، سلسلة «فلسفة»، إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط الثانية 2014م.

[2] فلسفة المواطنة وأسس بناء الدولة الحديثة، ص ص 7- 8

[3] السابق، ص 9

[5] انظر السابق، ص 70 وما بعدها.

[6] السابق، ص 123