في إشكالية التنوع الثقافي


فئة :  مقالات

في إشكالية التنوع الثقافي

من نافلة القول، بداية هذا القرن، بأنّ العالم يعيش حقّا تحت وطأة عولمة اقتصادية ليبرالية الطبيعة والتوجه، وتحت تأثير طفرة تكنولوجية كبرى قوضت إلى حد بعيد ثنائية الزمن والمكان، تمامًا كما قوضت الأولى (العولمة أعني) ثوابت الحدود الوطنية والتراب الوطني والسياسات الوطنية وما سواها.

ولئن أضحت معظم الأسواق (على الأقل المالية والاقتصادية منها) شديدة الارتباط بعضها ببعض، خالقة بذلك فضاءً اقتصاديًّا "عالميًّا" (معولمًا يقول بعضهم)، تنتظم بصلبه مختلف تيارات السلع والخدمات، فإنّ تكنولوجيا المعلومات وشبكات الاتصالات قد خلقت، موازاة مع ذلك، فضاءً افتراضيًّا "كونيًّا"، تنتقل بصلبه شتى أشكال الرموز والبيانات، في زمن آني ودونما رادع جغرافي أو سياسي أو متأت من اللوائح والقوانين والتشريعات الوطنية.

بيد أنّه على الرغم من التسارع الملاحظ منذ عقدين من الزمن أو أكثر، على مستوى وتيرة تنقل السلع والخدمات وانسياب المعلومات والبيانات، فإنّ العديد من مصادر التهديد تبقى قائمة، لا بل وجدية في نظر بعضهم.

والواقع أنّ جنوح العولمة والكونية إلى استنبات "معتقدات" وتصورات و"قيم" جديدة بجل الفضاءات العالمية (لدرجة تطلعها إلى خلق مجتمع للسوق إلى جانب اقتصاده)، هذا الجنوح لا يقدم فقط في كونه يمثل تهديدًا للقيم والتمثلات التي تؤسس للهويات الثقافية المختلفة، بل وبالأساس في كونه توجهًا بجهة وأد مبدأ التنوع الثقافي باعتباره شرطًا أساسيًّا من شروط بقاء الجنس البشري المرتكز على الاختلاف والتدافع.

ولما كانت الثقافة هي مجموع السمات الروحية والمادية، الذهنية والنفسية التي تميز مجتمعًا ما أو جماعة بشرية ما، وتضم الفنون والآداب وأنماط الحياة وطرق العيش المشترك ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات، فإنّ تغييب مبدأ التنوع الثقافي (وفي صلبه مبدأ التعدد والاختلاف) إنّما هو تغييب لكل هذه المظاهر، لفائدة مظاهر أخرى "أقوى"، أو تدمير لمقومات التنوع ذاته لاعتبارات فوق/ثقافية، أو على خلفية من مواقف طائفية أو عرقية أو إثنية أو لغوية أو تاريخية أو غيرها.

ثم لما كان التعدد الثقافي هو مجموع المعارف التقليدية ومختلف أشكال الإبداع والممارسات التي تعتمدها المجموعات والهويات الترابية والمحلية، فإنّ الحفاظ على التعدد ذاته هو من الحفاظ على التنوع الثقافي، تمامًا كما أنّ الحفاظ على التعدد في الطبيعة هو من الحفاظ على التنوع البيولوجي، الذي يضمن البقاء للكائنات والنباتات والحيوانات وباقي مكونات الحياة.

بل قل إنّ التمييز بين التنوع الثقافي والتنوع البيولوجي غير دقيق لا بل وغير عملي، لا فحسب على اعتبار نقط الالتقاء التي تجمعهما، بل أساسًا بحكم احتكامهما معًا إلى محيط طبيعي يتغيأ البقاء ويتطلع إلى الاستمرارية. وهو ما يتراءى جليًّا وواضحًا بالعديد من المعاهدات ذات الصلة بالتنوع، إذ إنّ معاهدة ريو مثلاً قد ركزت على ضرورة الحفاظ على "الإمكانات الإيكولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للطبيعة"، وعملت على وضع الأسس القمينة بضمان حقوق الوصول وقواعد اقتسام المنافع المترتبة على استغلال الموارد الطبيعية.

ومعنى هذا أنّه بقدر ما لا يمكن فهم، أو الحفاظ على المحيط الطبيعي دونما فهم، أو الحفاظ على الثقافات الإنسانية التي صاغته لزمن طويل غابر، فإنّه لا يمكن فهم التنوع الثقافي دونما اعتبار المحيط الطبيعي الذي تنتمي إليه الثقافة وتتطور في ظله.

ومعناه أيضًا أنّ المفروض، زمن الكونية وتزايد منطق التجارة وتقدم منطق السوق، إنّما ضبط "العلاقات بين التعدد الثقافي والبيولوجي"، والمخاطر المشتركة التي تتهددهما، وكذا أنماط الاستهلاك والإنتاج غير القابلة للتجديد...والمخاطر التي تطرحها العولمة بوجه التعدد الثقافي والمعارف التقليدية، لا سيما بالنسبة إلى الجماعات الآيلة للانقراض.

بالتالي، فإنّ الكونية وانتشار الشبكات الألكترونية العابرة للقارات، لا تقدم فقط في كونها مكمن خطر على التعدد والتنوع الثقافيين، بل أيضًا في كون الرهانات الاجتماعية والإنسانية لذوات التعدد والتنوع هي لربما آخر المفكر فيه من بين ظهرانيها.

ليس من المبالغة في شيء إذن القول بأنّ المطالبة بصيانة مبدأ التنوع البيولوجي إنّما هو من المطالبة بصيانة مبدأ التنوع الثقافي، والعكس بالعكس. فهما معًا وجهان وشكلان لمسألة واحدة، مسألة التنوع التي ترهن حاضر البشرية ومستقبلها سواء بسواء.

وعلى هذا الأساس، فلو سلم المرء بأنّ التنوع الثقافي إنّما هو حق متكامل لا يقبل التجزيء في قناعة الأفراد وتمثل الجماعات، فإنّ صيانته والمحافظة على بقائه تبقيان رهينتي قدرة هؤلاء على ترويجه وإشاعة منظومته في الزمن والمكان.

فضمان حرية تعبير مختلف أشكال الممارسات الفنية والثقافية والاجتماعية والدينية والفلسفية هو من ضمان الحق في التنوع الثقافي، تمامًا كما هو الشأن فيما يتعلق بإسناد الممارسات الثقافية التي من شأنها إبراز (وتوسيع) مجال الهويات الثقافية وانفتاحها على ما سواها من هويات.

الشيء نفسه أو أكثر يمكن أن يقال فيما يخص الحفاظ على الإرث المادي واللامادي بكل مكوناته وعناصره، ومواجهة شتى ضروب الإدماج القسرية التي قد تسلكه ثقافة ما "غالبة" على ما سواها من ثقافات قد تبدو "مغلوبة".

ليس ثمة من شك، فيما يتراءى لنا ولأول وهلة، أنّه في حين أنّ طفرة تكنولوجيا المعلومات والثورة التي حملتها الشبكات الألكترونية (لا سيما الإنترنيت والمتعدد الأقطاب) إنّما من شأنها المساهمة في صيانة التنوع ذاته (عبر تجميع المخزون الثقافي والعمل على ترويجه على نطاق واسع)، فإنّ العولمة والكونية تبدوان وكأنّهما على النقيض من السلوك ذاته. فهما لا تقتصران على اعتبار مسألة التنوع الثقافي مسألة ثانوية، لا أولوية لها في صياغة النظام الكوني، بل وتعتبران أنّ الثقافة إنّما هي "سلعة خالصة" لا تختلف في إنتاجها وإعادة إنتاجها واستهلاكها عن باقي السلع الرائجة...تمامًا كما هو الحال مع التعليم والتربية والصحة وما سواها.

قد يكون من المبالغ فيه اعتبار العولمة نقيضًا مباشرًا للتنوع الثقافي، فهي عملية اقتصادية تحتكم إلى "منظومة في القيم" خاصة بها، لكنها تتمترس على النقيض منه بحكم توازي المجالين و"التعارض الطبيعي" الذي يميز مسار كل منهما، إذ ما دامت العولمة تكريسًا للسوق و"لثقافة السوق" ومنطقه، فإنّ ما سوى ذلك بالنسبة إليها لا يعدو غير كونه عاملاً خارجيًّا، طارئًا "من الواجب" صهره وفي تعذر ذلك تدميره.

بالتالي، فبما أنّ السوق أضحى هو السيد ومنطقه هو السائد أو المراد له أن يسود، فإنّ الحاصل أنّ كل ما يتعارض وتوجهه إنّما يبدو حالة نشاز سرعان ما "ستتبدد"، بل قل إنّها "مطالبة" بتحديد علاقتها بالسوق لفائدة هذا الأخير، لا بجهة خلق توازن فيما بينهما من نوع ما.