في الحاجة الجمالية للشرّ والقبح من الشيطان إلى المسخ


فئة :  مقالات

في الحاجة الجمالية للشرّ والقبح من الشيطان إلى المسخ

"موت الشيطان كان مأساة للخيال". والس ستيفنز

موت الشيطان... موت الإله:

تحمل قولة والس ستيفنز هذه عدة أوجه، وربما كان أهم أوجهها ما تضمنه من حاجتنا الماسة إلى وجود شيء شيطاني وقبيح، يجعلنا نعترف أو نلتفت إلى ما لدينا من جمال. وبذلك، فالجميل والقبيح توأمان لا نستطيع تبين أحدهما دون الآخر، ولكن ما يتميز به القبيح في رأيي هو تعذره على أفهامنا؛ ذلك أن الكل في المجتمع والمؤسسات يراهنون على إخبارنا وإطلاعنا على ما الجميل؛ ذلك أن الجمال مؤسس، وله في كل عصر من يتحدث باسمه. في حين أن القبح هو كل ما يُبعد إلى هناك، ولأنه بالضبط هناك وفي مكان آخر غير متوافر لإدراكاتنا، يظل يحرك فينا هذه الحاجة لتخيله والقبض عليه، ربما لهذا ذهب ستيفنز إلى أن موت الشيطان تراجيديا في حق الخيال، الخيال الذي لن يجد بعد الشيطان من يلهمه، ولنتذكر ما أسنده العرب القدماء للشيطان من حكايات وأخبار تتعلق بموضوعة الإلهام؛ هذه الموضوعة التي حصرته في الثقافة العربية الكلاسيكية في وظيفتين؛ هما:

1. "وظيفة تخيلية-مُتعوية، فلأن تلك الأخبار كانت غاية في التشويق، أقام معها العربي عقدا شبيها بالعقد السردي، يلتزم الغرض الخبر، بمقتضاه، بتمتيع السامع، مقابل التزام السامع بعدم النقد العقلاني.

2. وظيفة اجتماعية، يوكل فيها للشيطان باعتباره "مؤسسة اجتماعية" بالمعنى الأنثروبولوجي، تفسير ما أشكل على الفهم، كحالات الصرع والأمراض النفسية التي لم يتوصل الإنسان إلى فهمها".[1]

كان للشيطان إذاً في هذه الفترة ضرورة تفسيرية. إنه ما لا يرُى؛ مصدر الجمال المطلق الذي يتمثل في القصيدة، والشر المطلق المتمثل في المرض والجنون. هكذا، "يكون الشيطان محاصرا للإنسان في كل مراحله، بل إنه يغدو ضروريا، ليكون للعالم صورته تلك"[2].

يذهب فراس السواح إلى أبعد من ذلك بتأكيده أن اختراع الشيطان كان واحدا من الحلول الأربعة التي لجأت إليها الديانات التوحيدية، حتى تفسر سببا لوجود الشر في العالم، بالرغم من وجود إله واحد؛ ذلك أن الديانات الوثنية التعددية تحيل وجود الشر إلى تعدد الآلهة وتناقض أهوائها. أما وقد صار الإله واحدا، فقد كان من الضروري أن يعزى الشر إلى "شخصية ما ورائية كبرى ذات أصل سماوي تنشط في استقلال عن الإله. وهذه الشخصية ليست أزلية، بل مخلوقة من قبل الله الذي أعطاها الحرية منذ البدء، فقامت بكل وعي وحرية برفض التبعية لخالقها والاستقلال عنه"[3]. يبرز تموقع الشيطان على طرفي هذين القطبين على تناقضهما، وتوظيفه مرة لتفسير الجمالي ومرة لتعليل الشر، ما للشيطان من هيمنة على المخيلة الإنسانية. مما يدفعني للقول، إن موت الشيطان ربما قد يكون أشد وطأة على الإنسان من موت الإله، ذلك أن الإله قواعد وحدود في حين أن الشيطان سديم، والسديم بما يفترضه من لا معنى وفوضى دائما أبعث على الرؤية والرؤيا معا.

وإذا انطلقنا من الحديث النبوي: "إن الله جميل يحب الجمال"، سينضاف إلى دلالات الإله ورمزياته (السلطة، المعرفة، التسمية..)، دلالة الجمال والانحياز للجميل، وهو بالضبط ما جعله ينتصر لآدم على حساب الشيطان، مع أنه هو من خلقهما معا، فهل من الممكن أن يكون كره الشيطان، لأنه دليل على فشله في خلق الكمال؟

يبقى إذن بعد احتكار السماء للجمال الذي يكفي أن يعرف نفسه قائلا: "أنا هو أنا"؛ يبقى القبح متجسدا في كائنين، هما: الشيطان ذلك المخلوق الناري الذي ثار على الإله، والمسخ الذي لم يجد إلها يثور عليه، وكانت مصيبته بالضبط هو ولادته في عالم بدون آلهة.

الشيطان؛ نحو تأمل في سردية الخلق

متى بدأت تراجيديا الخلق البشري بالضبط؟ هل في لحظة طرد آدم من الجنة؟ أم قبلها حين عُلّم الأسماء وعرف الخطأ من الصواب؟ أم حين وجد نفسه ضحية رهان بين الإله والشيطان؛ إله يراهن على رفعة آدم ومشابهته له، ومن ثمة استحالة ارتكابه للخطأ، وشيطان يراهن على الشر الكامن فيه، ويراهن على إسقاطه وتجريده من استثنائيته التي اقتضت السجود له؟

لقد حاولت الأديان السماوية أن تجيب عن هذه الأسئلة، وكانت تخلص دائما إلى أن الله بما أنه الخير المطلق لا يمكن أن يبدر عنه الشر، وبما أن الله اختار آدم فيمكن أن نلتمس له العذر في خطيئته، التي لولا الغواية لم يكن ليقترفها. يبقى إذن من الثلاثة الشيطان وحده، إنه مبدأ الشر ولولاه لكان البشر الآن في الجنة ناعمين، ومن ثمة فإن أول وظيفة يؤديها الشيطان في المخيال البشري هي الوظيفة التسويغية، تسويغ طرد الإله لآدم وأبنائه، رغم أن هؤلاء لم يقترفوا ذنبا، ومع أنه هو نفسه قد قال في كتابه: "ولا تزر وازرة وزر أخرى"[4]. وتسويغا كذلك، لخطيئة آدم الذي لم "يقصد" الاقتراب من الشجرة، وبما أن هذين الاثنين ما كان لهما أن يخطئا، فقد كان من الضروري إدخال طرف ثالث حتى تستقيم المعادلة، وحتى يحمل أحد ما تبعات لحظة الخلق المنفلتة التي لا نملك أن نراها خالصة دون أساطير. في البدء إذاً كان هذان الاثنان: واحد في السماء وواحد في الأرض، ومن ثمة فلا يمكن أن تقترب منهما أية شبهة. كان على المشبوه الحقيقي، المحرك الرئيس للحبكة برفضه للسجود، أن يبقى في الظل في انتظار أن يُبئر ذات يوم كذات فاعلة. كان علينا إذن، أن ننتظر قرونا حتى تجيء الحداثة ومعها التشكيك في كل شيء بدءا بالسماء، ومع هذه الحداثة بدأت تظهر للشيطان دلالات أكثر راديكالية، ألا وهي الثورة والرفض. وربما هذا ما يظهر جليا في مقدمة قصيدة أمل دنقل رسالة سبارتاكوس الأخيرة، حيث جاء:

المجد للشيطان... معبود الرياح

من قال "لا" في وجه من قالوا "نعم "

من علّم الإنسان تمزيق العدم

من قال "لا" .. فلم يمت،

وظلّ روحا أبديّة الألم ![5]

هكذا، فإذا كان الشيطان ما قبل الإسلام رهينا بفعل "الإيحاء" بالكلمة، فهو في النص الشعري الحديث ينطق بها نطقا من قلب القصيدة. لقد غدا ذاتا متلفظة تبحث عن موقعها في عالم الخطاب، وتجهر بالرفض، وتعلم الإنسان كيف يواجه مصيره. وبذلك، يصبح الشيطان مثالا على ما يجب أن نفعله حين نخسر كل شيء، وحين لا يعود لنا شيء لنخسره يبتدأ العدم، ومع العدم تبدأ الحرية والتخلص من وصاية السماء. تحيل هذه النقلة النوعية، بشكل ما على التحول الذي خضع له الشاعر نفسه، إذ بعد أن كان لسان قومه في الثقافة الكلاسيكية، غدا في فترة الحداثة ناطقا بلسانه وحده، وسواء أكانت الجماعة هي من نفته أم هو الذي استقل عنها، فعموما لم يكن هناك خير من ثورة الشيطان في وجه الإله وسيلة للتعبير عن كلمة الشاعر التي لم تعد ملكا لسواه. إلا أن الصورة التي رسمها دنقل للشيطان على شاعريتها، وقعت في نفس المطب اللاهوتي الذي يؤطر الشخوص ويقيدهم بمنظومة مثالية، تفقدهم آنيتهم وتسلبهم تعددية أصواتهم من حيث تظن أنها تنطقهم.

وإذا كان الشعر قد حصر الشيطان في دوري الملهم الغيبي والمتمرد، فإن رواية أولاد حارتنا قد أوجدت له صورة ثالثة، لم تتمثل فحسب في كونه الابن الضال الذي عصى أوامر الأب/ الإله، بل كذلك كان هو وآدم الجدين الأكبرين للحارة. جاء في الرواية: "وفي تواريخ متقاربة ودع الحياة أدهم فأميمة ثم إدريس. وكبر الأطفال. وعاد قدري بعد غيبة طويلة ومعه هند ومعهما أطفال. نشأوا جنبا إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عددا. وانتشر العمران بفضل أموال الوقف، فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا"[6]. تعيد الرواية إذن صياغة قصة الخلق لتبين أن سائر البشرية ليسوا من آدم وحده، بل من آدم وإبليس معا، ذاك أن قابيل يتزوج من ابنة إبليس ويخرج من نسل هذين كل أبناء الحارة. ومع ذلك فقط، ظل أهل الحارة مصرين على كونهم "أبناء آدم". ومن ثمة، ينفى الشيطان من السردية ثانية، ولكن على الأقل بعد أن يكون قد أحدث بعض التوتر والضجيج حول ذلك الأصل الخارق والمثالي.

ليتبين من ثمة، أنه سواء أكان الشيطان ضرورة لتسويغ أم حكاية لتفسير اللامرئي أم لسانا يلهج بالرفض والمقاومة أم سردية تقلق صفاء السرديات الرسمية، فإن حضور الشيطان الدائم على المسرح، وإن بصور مختلفة يدل على أهمية دوره في المخيلة الإنسانية والحاجة الجمالية له في النص، إذ حتى أشد الأطفال سذاجة يعرف أن لا استقامة لقصة دون شر وشياطين وجن. إنهم الملح الذي لولاه لخرس لسان الحاكي.

إذا فهمنا هذه الحاجة الأنطولوجيا للشر، سيتيسر علينا من ثمة أن نفهم لماذا حملت الرواية على عاتقها مهمة إنطاق هذا الصوت السديمي ومنحه مساحات للتعبير، خاصة في عهد الحداثة وما بعدها، حين استطاع الإنسان أخيرا أن يرى مدى هامشيته في الوجود. ونتيجة للحظة الوعي هذه، بتشظي العالم وغياب المعنى بدأ البحث الإشكالي و"الشيطاني" عن المعنى في عالمٍ متشظّ فقد كليته، لتصبح الرواية من ثمة - وبتعبير لوكاش - "ملحمة عالم بدون آلهة"[7]. إن أهم ما يفترضه غياب الآلهة عن خشبة المسرح هو انطلاق الشياطين في بحث عن حكايتهم، هذه الحكاية التي لا تتجلى إلا بتبئير الجسد حتى في تشوهه وإعاقته، لتقول الرواية من حيث لا تدري "قد آن لهذه السماء المتعالية أن تكف عن تغييب جسمنا، تشطيره إلى نور وظلام، يمين ويسار، خير وشر، ملائكة وشياطين"[8]؛ آن للجسد أن يحتفي بتشوهه، في ردّ على الإله الجميل الذي لا يحب إلا من كان على شاكلته جميلا؛ آن للمسخ كذلك أن يظهر على المشهد الفرجوي ويعبر عن قبحه، ويحكي حكاية شيطان جديد لم يبق له في هذا العصر حتى إله يتمرد عليه، فلم يجد بدا في النهاية من القناعة بالأرض بعد أن انقطعت كل روابطه مع سكان السماء.

المسخ بين فرانكشتاين وسامسا:

1- المسخ وغياب الإله: فرانكشتاين

تمثل رواية Frankenstein or the modern Prometheus نقطة الانتقال من الشيطان للمسخ، أو من القبح السماوي إلى القبح الأرضي، وإن كان الاثنان سواء في مصيرهما؛ أي في النبذ والنفور الذي تلقياه. أما فعل إرداف اسم فرانكشتاين باسم برومثيوس، فيحيل إلى الخطيئة التي ارتكبها العالِم الشاب حين سرق سرّ الحياة من الإله، ليمنحه لمسخ خلقه هو من ركام جثث. ولكن إذا كانت النار التي سرقها المخلوق الأسطوري قد أفادت البشر، فإنها في حالة المسخ لم تجر عليه غير العذاب والإحساس بالغربة، خاصة وأن خالقه البشري ما فتئ يقرف من مسخه بمجرد ما رآه حيا. وإذا كانت الآلهة قد تدخلت وعذبت برومثيوس على فعلته، فإن المسخ قد تولى أمر هذه العقوبة وانتقم لنفسه من ذلك الذي ابتلاه بحياة لم يخترها. هكذا، وإذا كان الشيطان قد اكتفى بقول لا، فإن المسخ قد اقتص لنفسه من خالقه، ربما لإدراكه أنه ما عاد هناك حبل يربطنا بالسماء، وأن كل مصائبنا يجب أن تحل في الآن والهُنا.

يأتي صوت المسخ في الرواية داخل بناء سردي معلب، إذ بداية نجد السرد المؤطّر على لسان القبطان في شكل رسائل يكتبها لأخته، ثم المستوى الثاني على لسان فرانكشتاين، وهو يحكي حكايته مع المسخ، وأخيرا يحكي المسخ. إن هذا التعليب الذي يُعرض فيه صوت الشخصية، يجعلنا نتصور الشخصية وكأنها تصرخ من قاع بئر عميق دون أمل في أن يسمعها أحد. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على دواخلية المسخ التي فشلت في أن تجد أي تواصل مع الخارج، ولو حتى مع ذلك البشري الذي خلقها. ومع ذلك، فقد أصرّ المسخ على أن يتبّع خالقه ويجبره على الاستماع إلى قصته، التي بدأت في لحظة هروب الخالق وتركه لمخلوقه عاريا دون لغة أو طعام:

"كانت العتمة حالكة حينما استيقظت؛ شعرت بالبرد أيضا، وشيئا ما كنت مرتعبا... كنت كائنا ضعيفا، لا حول له، بائس ملعون؛ لم أعرف، ولم أقدر أن أميز، أي شيء، كل ما أعرفه أنني شعرت بالألم يخترقني من كل جانب. جلست وبكيت".[9]

إن المسخ الذي خلقه فرانكشتاين لا يطابق تماما المعنى الذي يحيل إليه المعجم، ذلك أنه لم يكن جميلا وصار أقبح، ولا كان إنسانا وصار حيوانا، إنه محض ركام من الجثث التي تبحث عمن يكلمها، أو يسمعها، حتى إذا كان هذا السامع عدوّا، المهم أن يجد من ينظر إليه، حتى لو كانت هذه النظرة مليئة بالحقد والكراهية، ذاك أن نظرة حاقدة خير من ألا يلتفت إليه أحد ولو حتى ليشتمه. هكذا، وحين يموت الخالق يختار المسخ الانتحار، ذلك أن محض بقاء فرانكتشاين على قيد الحياة كان يشعره بأن هناك من يعرفه ويهتم بأمره، حتى ولو كان فقط في سبيل قتله.

أتساءل حين فر فرانكشتاين من مخلوقه، هل كان يفر من بشاعته، أم من نقصان فعل الخلق الذي اقترفه هو؟ لماذا لم تنتبه شفقة ولا رحمة على هذا المخلوق الذي ترك هكذا عاريا ولا يعرف ما العالم ولا من هو؟ هل يكفي القبح سببا ليتخلى الخالق عن مخلوقه؟ حتى لو كان هو من اقترف هذا القبح وصنعه بيديه؟ لماذا فر من المسخ حينما رآه يتحرك؟ لماذا لم يفر قبل ذلك أم أنه لم يرتعب من القبح إلا حين رآه متحركا؟ ترى ألهذا تخلى الآلهة عن البشر وتوقفوا عن محاولة مساعدتهم أو إرسال من يحمل إليهم النبوة؟

إن هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابة بقدر ما تسعى إلى التدليل على أن القبح وحده، هو من يمكنه أن يثير أسئلة من هذا القبيل، في حين أن الجمال هو من الكمال، حيث يثير الطمأنينة إلى درجة تفرمل التفكير. فالجمال كما أشار بارت "لا يستطيع مثله مثل إله (وفارغ مثله)، أن يتفوه إلا بـ "أنا هو أنا""[10]. وفي هذا الجواب المستعلي المغلق ما يكبح كل إمكانيات التفكير النقدي والتخييل، مما يعيدنا إلى قولة ستفينز مرة ثانية، ولكن بصيغة أخرى، وهي أن غياب القبح سيكون تراجيديا في حق العقل البشري. ولعل هذا ما يدعونا للاطلاع على نص روائي آخر، جعل من المسخ بطلا، ولكنه في هذه المرة ينطق مباشرة دون حاجة لتعليب صوته، مما يبين أننا صرنا مع الزمن نقرب عدسة الكاميرا أكثر من القبيح، لنراه أو بالأحرى لنسمعه بشكل أوضح.

2- المسخ والتحول

إذا كان الشيطان هو ذلك الكائن الشرير غير المرئي، الذي تصوره البشر بعيون حمراء ملتهبة وقرنين أسودين وشكل ضخم يتناسب مع حركة تمرده على الإله، فإن المسخ على عكس من ذلك هو الجسد البشري المرئي في تشوهه وقبحه. جاء في قاموس محيط المحيط: "مسخه أي حوّل صورته التي كان عليها إلى غيرها أو إلى أخرى أقبح.. المسخ انتقال النفس الناطقة من بدن الإنسان إلى بدن حيوان آخر"[11]. ومن ثمة، فإن أول تعريف لحالة المسخ هي التحول أو الانتقال، ذاك أن لا أحد يخلق ممسوخا، بل نتيجة لذنب يعاقب بأن يُمسخ. لماذا هذا التبئير لحالة الانتقال؟ لتأكيد حقيقة واحدة هي تلك التي جاءت في الآية الرابعة من سورة التين: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم". هكذا، ولتبيان أن الله لا يخلق سوى الجميل والكامل، كان لا بد من التنصيص على أن كل ما يلحق هذا الجمال من نقص أو تشويه، هو نتيجة خطأ إنساني بحت، وبذلك يكون الجمال فطريا بينما القبح جزاءً وعقابا مستحقا.

يشير التعريف المعجمي إلى وجهين من المسخ؛ أولهما يفترض البقاء في نفس الجسد مع تشويهه، وثانيهما يذهب إلى أنه انتقال الروح من جسم بشري إلى آخر حيواني. ومن ثمة، فالحالتان معا تفيدان الانتقال من منزلة كاملة مقبولة لاهوتيا إلى أخرى مغضوب عليها اجتماعيا. عموما، فقد كانت الحالتان معا، حاضرتين دائما في مخيلة البشري، ولا أدل على ذلك إلا وجودها في الكثير من الحكايات الشعبية، التي لا تنتهي عادة إلا بتصليح الخطأ وعودة الجسد المشوه إلى أصله، إما بقبلة من الأميرة أو بقتل العجوز الشريرة وارتفاع لعنتها التي شوهت البطل.

يتقاطع هذا التعريف اللغوي للمسخ، مع تعريف كارل روزنكرانتز Rosenkrantz للقبح في كتابه Aesthetics of ugliness، إذ يبدأ أولا من تحديد الخصائص الجوهرية للجمال، المتمثلة في: الانسجام، التناسب، والكمال Integrity، ليبين من ثمة أن القبيح هو ما افتقد هذه الصفات، ليعرفه من ثمة بكونه: "غياب الشكل، غياب التماثل، اللاانسجام، التشوه، المسخ (الشقي، المنحط، التافه، التصادفي والاعتباطي، الفج)، مختلف الأشكال المثيرة للاشمئزاز (الموت، الفراغ، الشيطاني..)"[12]

لم يكن أمام الرواية إلا أن تكسر هذه المعايير التي يسودها الانسجام والتماثل إلى درجة تكرار نسخ لا روح فيها، وتبئير المسخ بكل ما يتضمنه من تعدد ولا تناسق ونشاز. إنه تشظي المعيرة والانسجام وكسر لقيم الجسد الممأسس الذي لا يملك إلا الخضوع لمبادئ متعالية تشيّئه. هكذا، تشرع الرواية في التركيز على العيوب الجسدية بل وتضخيمها لدرجة تقديم الشخوص بطريقة كاريكاتورية ساخرة، وإن كانت مبالغا فيها، فهي بشكل ما تعكس التشوه الداخلي الذي يعيشه الإنسان في عصر ما بعد الحداثة؛ هذا التشوه الذي ليس أمامه أن يتعامى عنه إلا بالانغماس في ما تتيحه التكنولوجيا من وسائل استلاب، أو أن يتناسى وجوده بالدخول في عجلة الروتين التي تسلب من التشوه حتى دهشته، أو بالأحرى "صدمته".

3- المسخ وإله الزمن الجديد: غريغور سامسا

إذا كان المسخ والتشويه يحصل في المخيلة الجمعية نتيجة خطأ، فإنه في الرواية يحصل هكذا دون سابق إنذار، ربما في محاولة للقول إن إنسان هذا العصر لا يملك إلا أن يكون مشوها وممسوخا، لأنه فقد حتى الآلهة التي كان لها أن تعاقبه وتجعل من مسخه حالة طارئة، أما وقد غابت هذه الآلهة وحلت محلها الرأسمالية والمؤسسات فلم يعد أمام الإنسان إلا أن يقنع بهذا التشويه الممتد في الزمان، الذي يمكن أن يحل في أية لحظة، ولا أدل على ذلك من افتتاحية رواية كافكا The metamorphosis[13]

ما يزيد الوضع سخرية وإثارة في رواية كافكا، أن الشخصية بمجرد أنها تحولت إلى حشرة، لا تجد حتى وقتا لتتأمل في أسباب هذا التحول، إذ سرعان ما تلتفت إلى الساعة وتكتشف تأخرها عن موعد دوامها، لتشرع في البحث عن أعذار أو وسيلة للذهاب إلى العمل قبل أن يكتشف المدير هذا التأخر. مما يبين أن الإنسان في العالم البيروقراطي لم يغدُ مشوها فحسب، بل إنه لم يعد يجد حتى وقتا للتأمل أو الوعي بالتشوه الذي يعيشه؛ لا وقت له ليفكر في ذلك مادام شبح المؤسسة قد سكنه إلى درجة أنه لم يطرده من باله حتى في أشد لحظات تحوله إلغازا[14]. من ثمة يغدو الزمن والمؤسسة إلهيي العصر الحديث، وهما فقط من يملكان معاقبة المسخ، وإن غابت حتى إمكانية أو أمل رده إلى حالته الأولى، لقد ولى زمن حكايات الجنيات les contes de fées، ومع ذهاب الجنيات ولت إمكانية العودة، وهو ما يتضح من الحالة التي مات عليها غريغور سامسا.[15] هكذا، يصبح آخر سؤال تطرحه الشخصية إذن هو: "ماذا الآن؟"، أي ماذا بعد المسخ؟ ليكون جواب النص ليس بعد المسخ إلا الموت، لقد انجلى زمن الحكايات والأساطير حين كان التحول لحظة توتر طارئة لن يعقبها إلا إعادة التوازن، والانتهاء إلى الجملة المسكوكة "وعاشا معا في تبات وهناء". وإذا كانت بنية الحكاية تفترض البدء والانتهاء بالتوازن، فإن بنية رواية كافكا، قد عوضت التوازن بالزمن. هكذا نجدها تبتدأ بالسابعة صباحا، وتنتهي بسماع غريغور لعقرب الساعة ينبئ بالثالثة صباحا وباقتراب انجلاء الظلمة. ولكن، عن أية ظلمة تتحدث شخصية بدأت مأساتها في أشد لحظات الصباح إشراقا وطاقة؟ لقد سلبت البيروقراطية من الزمن كل سعادة ممكنة من تأمل تحولات الزمن، لدرجة أن تقسيم اليوم إلى نور وظلمة أصبح ضربا من العبث، يقترب من عبثية التقسيم بين جمال وقبح، إذ أصبح المسخ حالة عامة كامنة في كل إنسان، فقط تختلف لحظات الوعي به، ولا أدل على ذلك من أخت غريغور الجميلة، التي سرعان ما حلت محل أخيها، وأصبح عليها بدورها أن ترى كيف تستغل جمالها حتى تعيل عائلتها بعد أن مُسخ المعيل وتُرك ليموت ببطء في الزاوية بعد أن عجز لتحوله عن إعالة أسرته. ولعل الرواية القصة كانت لتكون أكثر دلالة لو أن الأخت استيقظت لتجد نفسها بدورها حشرة، إذ لم يعد المسخ عقابا، بل مصيرا حتميا كالموت.

خاتمة:

خلاصة القول، إن المخيلة البشرية على خصوبتها وتعدد إمكانياتها، كانت دائما تجد نفسها في حاجة لخلق كائنات شوهاء وشريرة، ليس فقط لأنها في حاجة لتعلق عليها أخطاءها، ولا لرغبتها في أن تشعر بتفوقها فحسب، بل بالضبط لأن هذه الكائنات ملغزة ومستفزة لأشد المخيلات ركودا وخمولا، وإذا كان هوميروس قد ذهب إلى أن الآلهة قد اخترعت الألم والشر لتجد الأجيال اللاحقة شيئا تكتب عنه، فإن الأمر نفسه ينطبق على القبح الذي من شأنه وحده أن يشعرنا بحاجتنا لإبداع الجمال، حتى وإن كان هذا الجمال نهاية في ذاته، في حين أن القبيح والمسخ من النقص، حيث يشعران الإنسان بأهمية وجوده، ولو حتى ليحاول أن يردم أو يغطي (لأنه لن يصلح أبدا) النقص الكامن فيهما.

 

بيبلوغرافيا:

المصادر:

بالإنجليزية:

- Kafka, Franz. The metamorphosis and other stories, trans. Joyce Crick, New York: University of Oxford, 2009

- Shelly, Mary. Frankenstein or the Modern Prometheus, June 2008, ebook, www.gutenberg.net

بالعربية:

- دنقل، أمل. الأعمال الكاملة، الطبعة الثانية، القاهرة، دار الشروق، 2012

- محفوظ، نجيب. أولاد حارتنا، الطبعة السادسة، القاهرة: دار الشروق، 2008

المراجع:

بالإنجليزية:

- Eco, Umberto. On ugliness, London: Harvill Secker, 2007

- Forsyth, Neil. The satanic epic, New Jersey: Princeton university, 2003

بالعربية:

- باختين، ميخائيل. الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، القاهرة: دار الفكر، 1987

- بارت، رولان. س/ز، ترجمة: محمد بن الرافه البكري، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2016

- البستاني، بطرس. محيط المحيط، المجلد الثامن، بيروت: دار الكتب العلمية، 2009

- الخطيبي، عبد الكبير. مقدمة الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، بيروت: منشورات الجمل، 2009

- السواح، فراس. الرحمن والشيطان؛ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، الطبعة السادسة، دمشق: دار التكوين، 2007

- الغزي، ثامر. كاريزما الشيطان: بحث في تمثل الإنسان لأصل الشر، سوسة: جامعة سوسة، 2012

[1] ثامر الغزي، كاريزما الشيطان: بحث في تمثل الإنسان لأصل الشر، (سوسة: جامعة سوسة، 2012)، ص 162

[2] نفسه، ص 164

[3] فراس السواح، الرحمن والشيطان؛ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، الطبعة السادسة (دمشق: دار التكوين، 2007)، ص 10

[4] سورة فاطر، الآية 18

[5] أمل دنقل، الأعمال الكاملة، الطبعة الثانية (القاهرة، دار الشروق، 2012)، ص 83

[6] نجيب محفوظ، أولاد حارتنا، الطبعة السادسة (القاهرة: دار الشروق، 2008)، ص 119

[7] لوكاش، ورد لدى: محمد برادة، مقدمة الخطاب الروائي، لمخائيل باختين، ترجمة: محمد برادة (القاهرة: دار الفكر، 1987)، ص 12

[8] بنيس: مقدمة الاسم العربي الجريح لعبد الكبير الخطيبي، ترجمة: محمد بنيس (بيروت: منشورات الجمل، 2009)، ص 9

[9] Mary Shelly, Frankenstein or the Modern Prometheus, June 2008, ebook, www.gutenberg.net, p87 [my translation]

[10] رولان بارت، س/ز، ترجمة: محمد بن الرافه البكري (بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، 2016)، ص 74

[11] بطرس البستاني، محيط المحيط، المجلد الثامن (بيروت: دار الكتب العلمية، 2009)، ص ص 329-330

[12] Rosenkrantz, Aesthetics of ugliness. Quoted by: Umberto Eco, On ugliness (London: Harvill Secker, 2007), p16 [my translation]

[13] Franz Kafka, The metamorphosis and other stories, trans. Joyce Crick (New York: University of Oxford, 2009), 29

[14]Ibid. p33

[15] Kafka, The metamorphosis, p71