في مضارب الاستبداد ونوازع الاستعباد: الكواكبي شاهدٌ على العصر


فئة :  مقالات

في مضارب الاستبداد ونوازع الاستعباد:  الكواكبي شاهدٌ على العصر

"هي كلمة حق وصرخة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد" (عبد الرحمن الكواكبي)

تتوهج عبقرية الكواكبي وتتجلى في قدرته الهائلة على تحليل طبائع الاستبداد واستكشاف ماهيته وتحديد مساراته واستشراف منعطفاته. فبعد مرور قرن ونيف على رحيل الكواكبي، ما زال كتابه المتألق (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يتقدم على غيره منارةً عالية في قدرته على إضاءة تعقيدات الاستبداد السياسي العربي المعاصر، وكأن الكواكبي يبرهن اليوم على حضوره المظفر كشاهد عيان على ما يفيض به زمننا من أهوال التحولات السياسية التي تتجه إلى ترسيخ كل أشكال الاستبداد والإكراه والقمع الذي تمارسه الديكتاتوريات السياسية والثقافية المعاصرة.

دفع عبد الرحمن الكواكبي حياته ثمنا للنضال في سبيل الحرية ومناهضة الاستبداد والاستعباد والظلم والجور في عهد الدولة العثمانية

وفي هذا المقام، يجب علينا أن نعترف بأن فهم الواقع السوسيولوجي المتخلف وتحليل أبعاده وآفاقه لا يمكن أن يكون إلا بفهم معمق وشامل لطبيعة الاستبداد السياسي والاجتماعي القائم في المنطقة منذ العصور الوسطى حتى يومنا هذا، وإن أية محاولة حقيقة لإدراك طبيعة هذا الواقع سيكون من المحال ما لم يتم عبر فهم عميق لطبيعة الاستبداد بتجلياته وارتساماته التاريخية والاجتماعية. فالاستبداد السياسي يوجد في أصل التخلف العريب. ومن ثمّ فإن أيّ تحليل لهذا الواقع ورسم مساراته، يجب أن يبدأ بفهم شامل ومركّز لطبيعة الواقع السياسي العربي الذي يتصف بأكثر أشكال التسلط والاستبداد حضورا في التاريخ المعاصر.

وفي هذا المقام، تأتي الضرورة التاريخية لقراءة جديدة معاصرة لعبقرية عبد الرحمن الكواكبي في وصفه لطبائع الاستبداد الشرقي وتحليل مكوناته وآثاره ومساراته بطريقة عبقرية أذهل فيها العلماء والمفكرين والباحثين في مختلف أصقاع العالم. ويقينا بأن العبقرية السياسية للكواكبي تزداد تألقا اليوم في قدرتها على تقديم إضاءة تاريخية للثورات الشبابية العربية ضد كل أشكال القهر والاستبداد والظلم، حيث استطاعوا تحقيق معجزتهم التاريخية دكًّا لحصون القهر وقلاع الاستبداد في بلدانهم.

ومن يبحر اليوم في كتاب عبد الرحمن الكواكبي المشهور "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، سيجد ضالته المنشودة نحو فهم عميق وشامل لواقع الطغيان وطبيعة الاستبداد العربي المعاصر وإدراك أبعاده وإسقاطاته وتجلياته إدراكا يتصف بالعمق والدقة والشمول. وكأنّنا بالكواكبي يحلل طبيعة الطغاة المعاصرين ويدوّن يومياتهم ويحصي حركاتهم وسكناتهم ويصف نواميس استبدادهم.

تتمثل القدرة الهائلة للكواكبي في تحليله لقانونية الطغيان والاستبداد تحليلا سوسيولوجيا يجعله من أكثر المفكرين في العالم قدرة على اكتناه طبائع الاستبداد ومناهله وتحديد ومجرياته وصوغ قانونياته الكونية. ومن يترحل على صفحات كتابه "طبائع الاستبداد" سيمتلك فرصة نادرة اليوم لفهم الواقع العربي بحمولته الاستبدادية، وكأن الكواكبي يصف الواقع السلطوي والسياسي العربي اليوم وليس قبل قرن مضى وانصرم من الزمان قبل بداية الثورات العربية. وصدق الكواكبي حين قال في مطلع كتابه "هي كلمة حق وصرخة في واد إن ذهبت اليوم مع الريح لقد تذهب غداً بالأوتاد" نعم، إنها كلمة حق تنضح صدقا وحقا وعلما ومن عرفها يذهب بالأوتاد أوتاد الغيبوبة عن حال القاهرين والطغاة في العالم العربي المعاصر.

يتناول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد تعريف الاستبداد وتحديد أسبابه وأعراضه ونذره ودوائه، ويطرح أسئلة عديدة منها لماذا يكون المستبدُّ شديد الخوف؟ لماذا يستولي الجبن على رعية المستبدّ؟ ما تأثير الاستبداد على الدّين؟ على العلم؟ على المجد؟ على المال؟ على الأخلاق؟ على التَّرقِّي؟ على التّربية؟ على العمران؟ مَنْ هم أعوان المستبدّ؟ هل يُتحمّل الاستبداد؟ كيف يكون التّخلص من الاستبداد؟ بماذا ينبغي استبدال الاستبداد؟

ومضة في عصر مظلم؟

يعدّ عبد الرحمن الكواكبي أحد أهم رموز الإصلاح وأبرز فرسان النهضة فكريا ونضاليا في القرن التاسع عشر، دفع حياته ثمنا للنضال في سبيل الحرية ومناهضة الاستبداد والاستعباد والظلم والجور في عهد الدولة العثمانية. ولد في حلب من أسرة هاشمية عريقة المجد عام 1854، ثم نبغ في الفقه والدين والقضاء والسياسة، عرف كاتبا وفقيها ومفكرا ومصلحا مناهضا للاستبداد الذي كان سائدا في عصره، وعاش بعد نبوغه متخفيا خوفا من بطش السلطان العثماني ومترحلاً في أصقاع العرض تجنبا لانتقام الطغاة من السلطان العثماني، وانتهى به الحال إلى الاستشهاد على دروب الحرية مقتولا مسموما في مصر العدية عام 1903، وقد دفن عند جبل المقطم وعلى قبره نقش هذان البيتان من الشعر أبدعهما شاعر النيل العظيم حافظ إبراهيم يقول فيها يرثي الكواكبي:

هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى    هنا خير مظلوم هنا خير كاتب

قفوا واقرؤوا أمّ الكتاب وسلموا    عليه، فهذا القبر قبر الكواكبي

وقد أودع الكواكبي عبقريته السياسية في كتابه الخالد (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). ويعد هذا الكتاب من الروائع السوسيولوجية والسياسية التي ظهرت في بداية القرن العشرين، ويشكل سفرا عبقريا خالدا في وصفه وتحليله لكل التجليات الاستبدادية والاستعبادية في الأنظمة السياسية والاجتماعية القائمة في ذلك العصر. ويكمن عنصر الأهمية والإثارة في أن الكتاب يتضمن تحليلا بارعا لما هو قائم اليوم، إذ يتيح لنا أن ندرك مختلف التجليات السياسية والاجتماعية والفكرية للاستبداد في نسق منظومي متكامل، وكأني بالكتاب يجمع بين دفتيه خلاصات علم السياسة والدين والاجتماع وعلم النفس في فهم قضايا الاستبداد والتسلط والقهر في مختلف المجتمعات الإنسانية القديمة منها والمعاصرة.

يشكل البحث في أسباب الانحطاط التاريخي للعرب المسلمين الدافع الأساسي لبحث الكواكبي في مسألة الاستبداد

الاستبداد أصل الأدواء:

يشكل البحث في أسباب الانحطاط التاريخي للعرب المسلمين الدافع الأساسي لبحث الكواكبي في مسألة الاستبداد، إذ يرى منذ البداية أن الاستبداد هو في أصل الانحطاط، وأن الانحطاط يوجد في أصل الاستبداد. يقول الكواكبي في وصف الاستبداد: "لو كان الاستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال".

يقول الكواكبي في هذا السياق: "قد تمحّص عندي أنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي". فالسياسة عند الكواكبي هي «إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة» ويكون الاستبداد عندما تتحول السياسة إلى التّصرُّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى. ويعرف الكواكبي الاستبداد بقوله: "إن الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلاً أو حكماً، التي تتصرّف في شؤون الرّعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محقَّقَين". وتفسير ذلك هو كون الحكومة، إمّا هي غير مُكلّفة بتطبيق تصرُّفها على شّريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمّة، وهذه حالة الحكومات المُطلقة. أو هي مقيّدة بنوع من ذلك، ولكنّها تملك بنفوذها إبطال قوّة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التي تُسمّي نفسها بالمقيّدة أو بالجمهورية".

وأشدّ مراتب الاستبداد عند الكواكبي "هي حكومة الفرد المطلق، الوارث للعرش، القائد للجيش، الحائز على سلطة دينية". ولنا "أنْ نقول كلّما قلَّ وَصْفٌ منْ هذه الأوصاف؛ خفَّ الاستبداد إلى أنْ ينتهي بالحاكم المنتخب الموقت المسؤول فعلاً. وكذلك يخفُّ الاستبداد ـ طبعاًـ كلّما قلَّ عدد نفوس الرَّعية، وقلَّ الارتباط بالأملاك الثّابتة، وقلَّ التّفاوت في الثّروة، وكلّما ترقَّى الشّعب في المعارف. والحكومة من أيّ نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد؛ ما لم تكن تحت المراقبة الشَّديدة والاحتساب الّذي لا تسامح فيه، كما جرى في صدر الإسلام".

ويبين الكواكبي أن الاستبداد يقوم على أمرين أساسيين هما القوة العسكرية وجهل الأمة "وهما أكبر مصائب الأمم وأهمّ معايب الإنسانية، وقد تخلَّصت الأمم المتمدُّنة ـ نوعاً ماـ من الجهالة، ولكنْ؛ بُليت بشدة الجندية الجبرية العمومية؛ تلك الشّدة التي جعلتها أشقى حياةً من الأمم الجاهلة، وألصق عاراً بالإنسانية من أقبح أشكال الاستبداد". ويهاجم الكواكبي القوة العسكرية للاستبداد فيقول: "وأمّا الجندية فتُفسد أخلاق الأمّة؛ حيثُ تُعلِّمها الشّراسة والطّاعة العمياء والاتِّكال، وتُميت النّشاط وفكرة الاستقلال، وتُكلِّف الأمّة الإنفاق الذي لا يطاق؛ وكُلُّ ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم: استبداد الحكومات القائدة لتلك القوَّة من جهة، واستبداد الأمم بعضها على بعض من جهة أخرى".

ويصف الكواكبي المستبد بقوله: «المستبدّ: يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته». "إنه "عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقاً. ومن أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، ويُسمّى استبداد المرء على نفسه، وذلك أنَّ الله جلّتْ نعمه خَلَقَ الإنسان حرّاً، قائده العقل، فكفَرَ وأبى إلا أنْ يكون عبداً قائده الجهل".

والاستبداد كما يقول: "أعظم بلاء؛ لأنَّه وباء دائم بالفتن وجَدْبٌ مستمرٌّ بتعطيل الأعمال، وحريقٌ متواصلٌ بالسَّلب والغصْب، وسيْلٌ جارفٌ للعمران، وخوفٌ يقطع القلوب، وظلامٌ يعمي الأبصار، وألمٌ لا يفتر، وصائلٌ لا يرحم، وقصة سوء لا تنتهي".

الاستبداد والدّين والعلم

يفرد الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد بابا عن العلاقة الجدلية بين الدين والاستبداد فيقول: "لقد تضافرت آراء أكثر العلماء النّاظرين في التّاريخ الطّبيعي للأديان، على أنَّ الاستبداد السّياسي مُتَوَلِّد من الاستبداد الدِّيني". ويدرس الكواكبي هذه العلاقة بين الاستبداد الديني والاستبداد السياسي على صورة تشاكل وتكامل إذ يقول: إنَّه ما من مستبدٍّ سياسيّ إلى الآن إلا ويتَّخذ له صفة قدسيّة يشارك بها الله، أو تعطيه مقامَ ذي علاقة مع الله. ولا أقلَّ من أنْ يتَّخذ بطانة من خَدَمَةِ الدِّين يعينونه على ظلم النَّاس باسم الله، وأقلُّ ما يعينون به الاستبداد".

يضيء الكواكبي العلاقة المتناقضة بين العلم والاستبداد، فيرى أن الاستبداد نقيض العلم، وأن العلم نقيض الاستبداد وبأنهما لا يجتمعان حيث تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين الظلام والضياء أو بين الليل والنهار. يقول الكواكبي في هذا الشأن "لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء، فلو كان المستبدُّ طيراً لكان خفّاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشاً لكان ابن آوى يتلقّف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنّه هو الإنسان يصيد عالِمَه جاهلُهُ. والعلم قبسةٌ من نور الله، وقد خلق الله النّور كشّافاً مبصراً، يولّد في النفوس حرارةً وفي الرؤوس شهامةً، العلم نور والظلم ظلام، ومن طبيعة النّور تبديد الظّلام، والمتأمل في حالة كلِّ رئيس ومرؤوس يرى كلَّ سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته".

ويرى "أن فرائص المستبدُّ ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم النّاس الخطابة أو الكتابة وهم المعبَّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين.

والخلاصة التي يصل إليها الكواكبي هي: "أنَّ المستبدّ يخاف العلمَ ويبغضه لأن للعلم سلطاناً أقوى من كلِّ سلطان، فلا بدَّ للمستبدِّ من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً. ولذلك، لا يحبُّ المستبدُّ أن يرى وجه عالمٍ عاقل يفوق عليه فكراً، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملِّق. وعلى هذه القاعدة بنى ابن خلدون قوله: (فاز المتملقون)، وهذه طبيعة كلِّ المتكبرين، بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على كلِّ من يكون مسكيناً خاملاً لا يُرجى لخيرٍ ولا لشرٍّ.

وينتج مما تقدَّم أنَّ بين الاستبداد والعلم حرباً دائمةً وطراداً مستمراً: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبدُّ في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنَّهم هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا. ويُذلّ العوام بسبب الخوف الناشئ عن الجهل والغباوة، فإذا ارتفع الجهل وتنوَّر العقل زال الخوف، وأصبح الناس لا ينقادون طبعاً لغير منافعهم، كما قيل: العاقل لا يخدم غير نفسه، وعند ذلك لا بدَّ للمستبدِّ من الاعتزال أو الاعتدال.

بين الطاغية والحاشية والشعب

يصف الكواكبي العلاقة بين الشعب والمستبد على أنها علاقة مشحونة بالخوف والقلق والحذر، فيقول: "إنَّ خوف المستبدّ من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه؛ لأنَّ خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقُّه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل؛ وخوفه عن عجزٍ حقيقي فيه، وخوفهم عن توهّم التخاذل فقط؛ وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النّبات وعلى وطنٍ يألفون غيره في أيام؛ وخوفه على كلِّ شيء تحت سماء ملكه. ويستطرد بالقول: "كلما زاد المستبدُّ ظلماً واعتسافاً زاد خوفه من رعيّته وحتّى من حاشيته، وحتى ومن هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تُختم حياة المستبدِّ بالجنون التّام. قلت: (التام) لأنّ المستبدَّ لا يخلو من الحمق قطّ، لنفوره من البحث عن الحقائق، وإذا صادف وجود مستبدٍّ غير أحمق فيسارعه الموت قهراً إذا لم يسارعه الجنون أو العته. ويكون خوف الظالم الطاغية من حاشيته كبيرا فالطاغية كما يقول: "يخاف من حاشيته؛ لأنَّ أكثر ما يبطش بالمستبدين حواشيهم؛ لأنَّ هؤلاء أشقى خلق الله حياةً، يرتكبون كلَّ جريمةٍ وفظيعة لحساب المستبدِّ الذي يجعلهم يمسون ويصبحون مخبولين مصروعين، يُجهدون الفكر في استطلاع ما يريد منهم فعله بدون أن يطلب أو يصرِّح".

"وقصر المستبدِّ في كلِّ زمان هو هيكل الخوف عينه: فالملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته هي المذبح المقدَّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يُقدَّمون قرابين الخوف، وهو أهم النواميس الطبيعية في الإنسان، والإنسان يقرب من الكمال في نسبة ابتعاده عن الخوف، ولا وسيلة لتخفيف الخوف أو نفيه غير العلم بحقيقة المخيف منه، وهكذا إذا زاد علم أفراد الرعية بأنّ المستبدَّ امرؤٌ عاجز مثلهم، زال خوفهم منه وتقاضوه حقوقهم".

ويقول أهل النظر: إنَّ خير ما يستبدل به على درجة استبداد الحكومات؛ هو تغاليها في شنآن الملوك، وفخامة القصور، وعظمة الحفلات، ومراسيم التشريفات، وعلائم الأبَّهة، ونحو ذلك من التمويهات التي يسترهب بها الملوك رعاياهم عوضاً عن العقل والمفاداة، وهذه التمويهات يلجأ إليها المستبدُّ كما يلجأ قليل العزِّ للتكبُّر، وقليل العلم للتصوُّف، وقليل الصِّدق لليمين، وقليل المال لزينة اللباس.

الاستبداد بين المجد والتمجد

يدرس الكواكبي في هذا الباب العلاقة بين الاستبداد والمجد من جهة وبين المجد والتمجد من جهة ثانية، وبين دفتي هذه العلاقة تكمن أسرار الاستبداد وبعضا من طبائعه الخبيثة. والمجد كما يعرفه الكواكبي هو: إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب، وهو مطلب طبيعي شريف لكلِّ إنسان، لا يترفَّع عنه نبيٌّ أو زاهد، ولا ينحطُّ عنه دنيٌّ أو خامل. للمجد لذَّةٌ روحية ولذا؛ يزاحم المجد في النفوس منزلة الحياة. ويميز الكاتب بين منازل المجد مثل مجد الكرم ومجد الفضيلة، أو بذل النّفس بالتعرُّض للمشاقّ والأخطار في سبيل نصرة الحقِّ وحفظ النِّظام؛ ويُسمى مجد النّبالة، وهذا أعلى المجد؛ وهو المراد عند الإطلاق، وهو المجد الذي تتوق إليه النفوس الكبيرة، وتحنُّ إليه أعناق النبلاء. وكم له من عشاق تلذُّ لهم في حبه المصاعب والمخاطرات، ومن أمثلة المجد قولهم: خلق الله للمجد رجالاً يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمّة والإقدام والثّبات، تلك الخصال الثّلاث التي بها تقدَّر قيم الرجال. ويضرب الكواكبي أمثلة على طلب المجد إذ قيل لأحد النبلاء: "لماذا لا تبني لك داراً؟" فقال: "ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر"، وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها) وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها: "إن كنت على الحقّ فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت". والحاصل كما يقول الكواكبي: "أنَّ المجد هو المجدُ محبَّبٌ للنفوس، لا تفتأ تسعى وراءه وترقى مراقيه، وهو ميسَّرٌ في عهد العدل لكلِّ إنسان على حسب استعداده وهمَّته، وينحصر تحصيله في زمن الاستبداد بمقاومة الظّلم على حسب الإمكان".

ويقابل المجد، من حيث مبتناه، التمجُّد. وما هو التمجّد؟ "التمجّد هو التقرب من المستبدِّ بالفعل كالأعوان والعمال، أو بالقوة كالملقَّبين بنحو دوق وبارون، والمخاطبين بنحو ربِّ العزة وربّ الصولة، أو الموسومين بالنياشين، أو المطوَّقين بالحمائل، وبتعريفٍ آخر، التمجُّد هو أن ينال المرء جذوة نار من جهنم كبرياء المستبدِّ ليحرق بها شرف المساواة في الإنسانية". وبوصفٍ أجلى: هو أن يتقلّد الرّجل سيفاً من قِبَل الجبارين يبرهن به على أنَّه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلِّق على صدره وساماً مشعراً بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، وبعبارة أوضح وأخصر، هو أن يصير الإنسان مستبدّاً صغيراً في كنف المستبدِّ الأعظم".

وهكذا "يكون المتمجّدون أعداء للعدل أنصاراً للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها، فيسوقها مثلاً لحرب اقتضاها محض التجبُّر والعدوان على الجيران، فيوهمها أنَّه يريد نصرة الدين، أو يُسرف بالملايين من أموال الأمة في ملذاته وتأييد استبداده باسم حفظ شرف الأمة وأبهة المملكة، أو يستخدم الأمة في التنكيل بأعداء ظلمه باسم أنهم أعداء لها، أو يتصرَّف في حقوق المملكة والأمة كما يشاؤه هواه باسم أنَّ ذلك من مقتضى الحكمة والسياسة".

والمستبدُّ "لا يستغني عن أن يستمجد بعض أفراد من ضعاف القلوب الذين هم كبقر الجنة لا ينطحون ولا يرمحون، يتّخذهم كأنموذج البائع الغشاش، على أنّه لا يستعملهم في شيء من مهامه، فيكونون لديه كمصحف في خمّارة أو سبحة في يد زنديق، وربما لا يستخدم أحياناً بعضهم في بعض الشؤون تغليطاً لأذهان العامة في أنَّه لا يعتمد استخدام الأراذل والأسافل فقط، ولهذا يُقال: دولة الاستبداد دولة بُلهٍ وأوغاد.

والمستبدُّ يجرِّب أحياناً في المناصب والمراتب بعض العقلاء الأذكياء أيضاً اغتراراً منه بأنّه يقوى على تليين طينتهم وتشكيلهم بالشّكل الذي يريد، فيكونوا له أعواناً خبثاء ينفعونه بدهائهم، ثمَّ هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم يتبادر إبعادهم أو ينكّل بهم. ولهذا، لا يستقرّ عنه المستبدّ إلا الجاهل العاجز الذي يعبده من دون الله، أو الخبيث الخائن الذي يرضيه ويغضب الله.

ومن هنا نشأ اعتماد المستبد غالباً على العريقين في خدمة الاستبداد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم الأخلاق المرضية للمستبدّين، ومن هنا ابتدأت في الأمم نغمة التمجّد بالأصالة والأنساب، والمستبدّون المحنّكون يطيلون أمد التجربة بالمناصب الصغيرة فيستعملون قاعدة الترقّي مع التراخي، ويسمّون ذلك برعاية قاعدة القدم، ثمّ يختمون التجريب بإعطاء المتمرّن خدمة يكون فيها رئيساً مطلقاً ولو في قرية، فإن أظهر مهارة في الاستبداد، وذلك ما يسمونه حكمة الحكومة فبها نعمت، وإلا قالوا عنه: هذا حيوان، يا ضيعة الأمل فيه.

ولا تكون الحكومة المستبدّة إلا مستبدّة في كل فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كنائس الشوارع، ولا يكون كلُّ صنفٍ إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأن الأسافل لا يهمهم طبعاً الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أيٍّ كان ولو بشراً أم خنازير، آباؤهم أم أعداؤهم، وبهذا يأمنهم المستبدُّ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. وهذه الفئة المستخدمة يكثر عددها ويقلُّ حسب شدة الاستبداد وخفّته، فكلما كان المستبدُّ حريصاً على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجّدين العاملين له المحافظين عليه، واحتاج إلى مزيد الدقّة في اتِّخاذهم من أسفل المجرمين الذين لا أثر عندهم لدينٍ أو ذمّة، واحتاج لحفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة؛ وهي أن يكون أسفلهم طباعاً وخصالاً أعلاهم وظيفةً وقرباً، ولهذا، لا بدَّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمة، ثم من دونه لؤماً، وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان في لؤمهم حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه.

"والمستبدَّ لا يخرج قطّ عن أنّه خائنٌ خائفٌ محتاجٌ لعصابة تعينه وتحميه، فهو ووزراؤه كزمرة لصوص: رئيس وأعوان. فهل يجوِّز العقل أن يُنتخب رفاق من غير أهل الوفاق، وهو هو الذي لا يستوزر إلا بعد تجربة واختبار عمراً طويلاً؟!"، ووزير المستبدّ هو وزير المستبدّ، لا وزير الأمّة كما في الحكومات الدستورية. كذلك القائد يحمل سيف المستبدّ ليغمده في الرقاب بأمر المستبدّ لا بأمر الأمة، بل هو يستعيذ أن تكون الأمة صاحبة أمر، لما يعلم من نفسه أنَّ الأمّة لا تقلِّد القيادة لمثله.

ويتساءل الكواكبي: "كيف يجوز تصديق الوزير والعامل الكبير الذي قد ألف عمراً كبيراً لذّة البذخ وعزّة الجبروت في أنَّه يرضى بالدخول تحت حكم الأمّة، ويخاطر بعرض سيفه عليها فتحلّه أو تكسره تحت أرجلها. أليس هو عضواً ظاهر الفساد في جسم تلك الأمة التي قتل الاستبداد فيها كلَّ الأميال الشريفة العالية فأبعدها عن الأنس والإنسانية؟".

والنتيجة أنَّ المستبد فردٌ عاجز لا حول له ولا وقوة إلا بالمتمجدين، والأمة؛ أي أمة كانت، ليس لها من يحكُّ جلدها غير ظفرها، ولا يقودها إلا العقلاء بالتنوير والإهداء والثبات، حتى إذا ما اكفهرَّت سماء عقول بينها قيَّض الله لها من جمعهم الكبير أفراداً كبار النفوس قادة أبرار يشترون لها السعادة بشقائهم والحياة بموتهم؛ حيث يكون الله جعل في ذلك لذتهم، ولمثل تلك الشهادة الشريفة خلقهم، كما خلق رجال عهد الاستبداد فسّاقاً فُجّاراً مهالكهم الشهوات والمثالب. فسبحان الذي يختار من يشاء لما يشاء، وهو الخلاّق العظيم.

الاستبداد والأخلاق والمال:

يصف الكواكبي العلاقة بين الاستبداد والقيم والمال كما أوردنا أعلاه بقوله: لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: "أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضُّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال". فالاستبداد "يجعل المال في أيدي الناس عرضةً لسلب المستبدّ وأعوانه وعمّاله غصباً، أو بحجةٍ باطلة، وعرضةً أيضاً لسلب المعتدين من اللصوص والمحتالين الراتعين في ظلِّ أمان الإدارة الاستبدادية. وحيث المال لا يُحصَل إلا بالمشقّة، فلا تختار النفوس الإقدام على المتاعب مع عدم المنِّ على الانتفاع بالثمرة. وهكذا، فإن الاستبداد داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السّيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داءٌ إذا نزل بقومٍ سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء، والأرض تناجي ربّها بكشف البلاء. الاستبداد عهدٌ؛ أشقى الناس فيه العقلاء والأغنياء، وأسعدهم بمحياه الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحسدهم الأحياء.

الاستبداد كما يعلن الكواكبي يؤثر في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيُضعفها، أو يُفسدها، أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنِعَم مولاه؛ لأنه لم يملكها حقّ الملك ليحمده عليها حقّ الحمد، ويجعله حاقداً على قومه؛ لأنهم عونٌ لبلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حبّ وطنه؛ لأنَّه غير آمن على الاستقرار فيه، ويودُّ لو انتقل منه، وضعيف الحبِّ لعائلته؛ لأنه يعلم منهم أنَّهم مثله لا يملكون التكافؤ، وقد يُضطرّون لإضرار صديقهم، بل وقتله وهم باكون. أسيرُ الاستبداد لا يملك شيئاً ليحرص على حفظه؛ لأنَّه لا يملك مالاً غير معرَّض للسّلب ولا شرفاً غير معرَّض للإهانة. ولا يملك الجاهل منه آمالاً مستقبلة ليتبعها ويشقى كما يشقى العاقل في سبيلها.

إن أقلُّ ما يؤثّره الاستبداد في أخلاق الناس، أنَّه يرغم حتى الأخيار منهم على إلفة الرّياء والنفاق ولبئس السيّئتان، وإنه يعين الأشرار على إجراء غيّ نفوسهم آمنين من كلِّ تبعة ولو أدبية، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأنَّ أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من تبعة الشهادة على ذي شرّ وعقبى ذكر الفاجر بما فيه.

والاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره. وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناءً عليه، يرى الآباء أنَّ تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بدَّ أنْ يذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدىً.

ثمَّ "إنَّ عبيد السلطان التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم، بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، وأعواناً لهم عليهم. وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف التضييق. فالتوالد من حيث هو زمن الاستبداد حمق، والاعتناء بالتربية حمقٌ مضاعف!".

نهاية الاستبداد:

يهاجم الكواكبي الاستبداد ويتنبأ بسقوطه ويصف سبل القضاء عليه، فما له بداية يندثر في نهاية ولابد للاستبداد من نهاية يسقط فيها المستبدون سقوطا مدويا. ويرى الكواكبي بأن بداية نهاية المستبد تكون بشعور الأمة كلها بآلام الاستبداد، فيقول في ذلك: "إن الأمَّة التي لا يشعر كلُّها أو أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحقُّ الحريّة". ومن ثم، فإن الاستبداد لا يقاوَم بالشِّدة، إنما يُقاوم باللين والتدرُّج. ويشترط الكواكبي على أنه يجب على الأمة قبل مقاومة الاستبداد، تهيئة ما يُستَبدَل به الاستبداد.

ويذكر الكواكبي المستبدّين بما أنذرهم الفياري المشهور؛ حيثُ قال: "لا يفرحنَّ المستبدُّ بعظيم قوَّته ومزيد احتياطه، فكم جبّارٍ عنيدٍ جُنِّد له مظلومٌ صغير"، وإني أقول: كم من جبّار قهّار أخذه الله أخذ عزيزٍ منتقم.

ويؤكد الكواكبي على أهمية المعرفة والعلم في هدم بنيان الاستبداد فيقول: "فإذا وُجِد في الأمَّة الميتة من تدفعه شهامته للأخذ بيدها والنهوض بها فعليه أن يبثَّ فيها الحياة وهي العلم؛ أي علمها بأنَّ حالتها سيئة، وإنَّما بالإمكان تبديلها بخيرٍ منها، وينتهي بالتحمُّس ويبلغ بلسان حالها إلى منزلة قول الحكيم المعرّي:

إذا لم تقُم بالعدل فينا حكومةٌ       فنحن على تغييرها قُدَراء

يرى الكواكبي أنَّ الاستبداد لا يُقاوم بالشدة، إنما يُقاوم بالحكمة والتدريج هو: أنَّ الوسيلة الوحيدة الفعّالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقّي الأمَّة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس. ويذكر بأن الاستبداد محفوفٌ بأنواعٍ القوات التي فيها قوّة الإرهاب بالعظمة وقوّة الجُند، لا سيما إذا كان الجند غريب الجنس، وقوة المال، وقوة الإلفة على القسوة، وقوّة رجال الدين، وقوّة أهل الثروات، وقوّة الأنصار من الأجانب، فهذه القوات تجعل الاستبداد كالسيف لا يُقابَل بعصا الفكر العام الذي هو في أوَّل نشأته يكون أشبه بغوغاء، ومن طبع الفكر العام أنَّه إذا فار في سنة يغور في سنة، وإذا فار في يوم يغور في يوم. بناءً عليه؛ يلزم لمقاومة تلك القوات الهائلة مقابلتها بما يفعله الثبات والعناد المصحوبان بالحزم والإقدام.

والاستبداد لا ينبغي أن يُقاوَم بالعنف، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً. نعم؛ الاستبداد قد يبلغ من الشدَّة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجاراً طبيعياً، فإذا كان في الأمَّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتى إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسَّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد، ولا علاقة لهم بالفتنة.

ويحدد الكواكبي شروط الثورة الشعبية ضد الاستبداد، لأن العوام لا يثور غضبهم على المستبدِّ غالباً إلا عقب أحوال مخصوصة مهيِّجة فورية، منها:

1-         عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبدُّ على المظلوم يريد الانتقام لناموسه.

2-         عقب حرب يخرج منها المستبدُّ مغلوباً، ولا يتمكَّن من إلصاق عار التغلُّب بخيانة القوّاد.

3-         عقب تظاهر المستبدِّ بإهانة الدّين إهانةً مصحوبةً باستهزاء يستلزم حدَّة العوام.

4-         عقب تضييق شديد عام مقاضاةً لمالٍ كثير لا يتيسَّر إعطاؤه حتّى على أواسط الناس.

5-         في حالة مجاعة أو مصيبة عامّة لا يرى الناس فيها مواساةً ظاهرة من المستبدّ.

6-    عقب عمل للمستبدِّ يستفزُّ الغضب الفوري، كتعرُّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز في الشرق، وتحقيره القانون أو الشرف الموروث في الغرب.

7-         عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسم كبير من النساء في الاستجارة والاستنصار.

8-         عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدِّ لمن تعتبره الأمَّة عدوّاً لشرفها.

إلى غير ذلك من الأمور المماثلة لهذه الأحوال التي عندها يموج الناس في الشوارع والساحات، وتملأ أصواتهم الفضاء، وترتفع فتبلغ عنان السماء، ينادون: الحقّ الحقّ، الانتصار للحقّ، الموت أو بلوغ الحقّ.

المستبدُّ مهما كان غبياً لا تخفى عليه تلك المزالق، ومهما كان عتياً لا يغفل عن اتِّقائها، كما أنَّ هذه الأمور يعرفها أعوانه ووزراؤه.

ويؤكد الكواكبي على أهمية تهيئة ماذا يُستبدل به الاستبداد هو: "إنَّ معرفة الغاية شرطٌ طبيعي للإقدام على كلِّ عمل، كما أنَّ معرفة الغاية لا تفيد شيئاً إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقاً، بل لا بدَّ من تعيين المطلب والخطة تعييناً واضحاً موافقاً لرأيِّ الكلِّ، أو الأكثرية التي هي فوق الثلاثة أرباع عدداً أو قوة بأس وإلا فلا يتمّ الأمر، حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعاً، يكون الإقدام ناقصاً نوعاً، وإذا كانت مجهولة بالكليّة عند قسم من الناس أو مخالفة لرأيهم، فهؤلاء ينضمّون إلى المستبدِّ، فتكون فتنةً شعواء، وإذا كانوا يبلغون مقدار الثلث فقط، تكون حينئذٍ الغلبة في جانب المستبدِّ".

ثمَّ إذا كانت الغاية مبهمة، ولم يكن السير في سبيلٍ معروف، ويوشك أن يقع الخلاف في أثناء الطريق، فيفسد العمل أيضاً وينقلب إلى انتقام وفتن. ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة وإخلاص وإشهارها بين الكافّة، والسعي في إقناعهم واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك، بل الأَولى حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم. والمراد أنَّ من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أنْ يُستبدل بها الاستبداد، وليس هذا بالأمر الهيّن الذي تكفيه فكرة ساعات، أو فطنة آحاد، وليس هو بأسهل من ترتيب المقاومة والمغالبة. وهذا الاستعداد الفكري النظري لا يجوز أنْ يكون مقصوراً على الخواص، بل لا بدَّ من تعميمه وعلى حساب الإمكان ليكون بعيداً عن الغايات ومعضوداً بقبول الرأي العام.

وخلاصة القول إنَّه يلزم أولاً تنبيه حسّ الأمَّة بآلام الاستبداد، ثمَّ يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها؛ حيث يشغل ذلك أفكار كلِّ طبقاتها، والأولى أن يبقى ذلك تحت مخض العقول سنين، بل عشرات السنين حتى ينضج تماماً، وحتى يحصل ظهور التلهّف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا، والتمنّي في الطبقات السفلى، والحذر كل الحذر من أن يشعر المستبد بالخطر، فيأخذ بالتحذُّر الشديد، والتنكيل بالمجاهدين، فيكثر الضجيج، فيزيغ المستبدُّ ويتكالب، فحينئذٍ إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى، فتستولي على البلاد، وتجدِّد الأسر على العباد بقليلٍ من التعب، فتدخل الأمَّة في دورٍ آخر من الرقِّ المنحوس، وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة، وإمَّا أن يساعد الحظّ على عدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمَّة قد تأهَّلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها، وفي هذه الحال يمكن لعقلاء الأمَّة أن يكلِّفوا المستبدَّ ذاته لترك أصول الاستبداد، واتِّباع القانون الأساسي الذي تطلبه الأمة. والمستبدُّ الخائر القوى لا يسعه عند ذلك إلا الإجابة طوعاً، وهذا أفضل ما يصادَف. وإن أصرَّ المستبدُّ على القوّة، قضوا بالزوال على دولته، وأصبح كلٌّ منهم راعياً، وكلٌّ منهم مسؤولاً عن رعيته، وأضحوا آمنين، لا يطمع فيهم طامع، ولا يُغلبون عن قلّة، كما هو شأن كلِّ الأمم التي تحيا حياةً كاملة حقيقية، بناءً عليه؛ فليبصَّر العقلاء، وليتَّقِ الله المغرون، وليعلم أنَّ الأمر صعب، ولكن تصوُّر الصعوبة لا يستلزم القنوط، بل يثير همم الرجل الأشمّ.

يهاجم الكواكبي الاستبداد ويتنبأ بسقوطه ويصف سبل القضاء عليه، فما له بداية يندثر في نهاية

خلاصة:

هذا غيض فيض من عبقرية الكواكبي التي تجلت في كتابه الفريد طبائع الاستبداد، فكل كلمة في هذا الكتاب تعادل وزنها ذهبا لمن يعرف مكامن العظمة في الكلّم. وسيبقى هذا الكتاب تراثا فكريا حيّا لا تقدر كلماته وأحكامه بثمن لما ورد فيه من تعرية سوسيولوجية لطبيعة الاستبداد وتجلياته. ولست في موقع الناصح أريد القول بأن قراءة هذا الكتاب في ضوء الأحداث المعاصرة تحمل قيمة عظيمة يدركها أصحاب النفوس العظيمة وأولي الألباب، وليس لي إلا أن أذكّر القراء الكرام بأهمية قراءة هذا الكتاب والتأمل فيه من أجل إدراك أعمق واشمل لواقع الاستبداد في الحياة السياسية العربية وفهم السبل والإمكانيات التي تضعنا على طريق الرفض الشامل لكل أشكال الاستبداد من أجل الكرامة الإنسانية، ومن أجل النهضة الحضارية الإنسانية الشاملة في مجتمعاتنا التي هي أحوج ما تكون اليوم إلى ديمقراطية متدفقة بمعاني الحرية والكرامة الإنسانية.