"قضايا في نقد العقل الديني": كيف نفهم الإسلام اليوم؟ للمفكّر الجزائريّ محمّد أركون


فئة :  قراءات في كتب

"قضايا في نقد العقل الديني": كيف نفهم الإسلام اليوم؟ للمفكّر الجزائريّ محمّد أركون

قراءة في كتاب قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟

للمفكّر الجزائريّ محمّد أركون([1])


تمهيد:

يُعَدُّ محمد أركون (1928-2010م) أحد أهم المُفكّرين العرب المعاصرين؛ الذين راموا تجديد أسس القراءة النقدية للفكر الإسلامي، ويُعدّ الكتاب، الذي نحن بصدد قراءته (قضايا في نقد العقل الديني - كيف نفهم الإسلام اليوم؟)[2]، من أهمّ مؤلّفاته في هذا المجال؛ إذ عدّه الناشر المقدمة الإبستمولوجية للمشروع الأركوني، «ففيه يتحدّث عن الصعوبات المعرفية، التي تحول بينه وبين التواصل مع الجمهور الإسلامي العريض»[3]، ويعود الأمر - في تقدير صاحب الكتاب - إلى أنّ مشروعه النقدي لا يعترف بالمحظورات، ويسعى إلى تفكيك جميع البنى التي بُني عليها (العقل الديني).

مكوّنات كتاب (قضايا في نقد العقل الديني - كيف نفهم الإسلام اليوم؟):

إذا ما تأمّلنا الكتاب، موضوع القراءة، ألفيناه منقسماً إلى فصلين كبيرين يتمثّل الأول في خمس مقالات، نُشر بعضها في مجلات متخصصة في الثقافة العربية الإسلامية، أو ضمن أعمال ندوات علمية هنا وهناك، وبعضها الآخر يُنشر في الكتاب لأوّل مرّة، وقد وُسِمت المقالات بــــ:

المقال الأوّل: كيف ندرس الإسلام اليوم؟ التواصل المستحيل (ص17-61، ما يساوي 44 صفحة).

المقال الثاني: خرق الحدود التقليدية، زحزحتها عن مواقعها، تجاوزها، دراسة حول أعمال المؤرّخ الفرنسي كلود كاهين (ص63-152، ما يساوي 98 صفحة).

المقال الثالث: الإسلام المعاصر أمام تراثه والعولمة (ص153-197، ما يساوي 54 صفحة).

المقال الرابع: إضاءة الماضي لفهم الحاضر وبناء المستقبل (ص199-227، ما يساوي 28 صفحة).

المقال الخامس: التسامح واللا تسامح في التراث الإسلامي (ص229-271، ما يساوي 42 صفحة).

أمّا القسم الثاني من الكتاب (الملحق)، فتكوّن من أربع مقابلات أجراها المترجم هاشم صالح مع محمّد أركون، في فترات متباعدة، خلال سنتين، وهي:

المقابلة الأولى: الممكن التفكير فيه/والمستحيل التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر (ص274-297، ما يساوي 26 صفحة).

المقابلة الثانية: تشكّل الأصولية، التفاوت التاريخي، وتوليد فكر نقدي جديد عن التراث (ص298-311، ما يساوي 13 صفحة).

المقابلة الثالثة: المثقّفون العرب والغرب: عصر التنوير الحداثة وما بعد الحداثة (ص312-324، ما يساوي 13 صفحة).

المقابلة الرابعة: الظاهرة الأصولية وإشكالاتها (ص325-333، ما يساوي 9 صفحات).

وما يُستفاد من توزيع صفحات الكتاب، على النحو الذي أشرنا، تفاوت المقالات المكوّنة للقسم الأول، والمقابلات المشكلّة للملحق، من ذلك أنّ المقال الثاني (خرق الحدود التقليدية، زحزحتها عن مواقعها، تجاوزها، دراسة حول أعمال كلود كاهين) جاء في ثمانٍ وتسعين صفحة، في حين جاء المقال الرابع (إضاءة الماضي لفهم الحاضر وبناء المستقبل) في ثمانٍ وعشرين صفحة، وكذا الأمر، بالنسبة إلى الحوارات، التي أجراها هاشم صالح مع محمّد أركون، فالمقابلة الأولى الموسومة بــــ: (الممكن التفكير فيه/والمستحيل التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر) جاءت في ستٍّ وعشرين صفحة، في حين اقتصرت المقابلة الرابعة الموسومة بــــ: (الظاهرة الأصولية وإشكالاتها) على تسع صفحات.

أيعني ذلك أنّ الإشكاليات الموصولة ببعض المقابلات والمقالات أكثر غموضاً، وتحتاج إلى المزيد من التوضيح، مقارنةً بغيرها من الإشكاليات المتعلقة ببقية المسائل المعالجة في الكتاب، أم أنّ محمّد أركون كان يقمع القلم، ويكتفي بالإشارة، دون التصريح، في مواضع دون مواضع أخرى؟

مجالات اشتغال الفكر الأركوني:

إنّ المتأمّل في محتوى القسمين، يلحظ، بيسر، أنّهما متكاملان متجانسان، فالحوارات/المقابلات جاءت لتضيء ما ورد غامضاً ملتبساً غير بيّن في المقالات المكوّنة للقسم الأول؛ ذلك أنّ القسمين متصلين بإشكاليات متداخلة، ويمكن اختزالها في مجالات أربعة رئيسة هي:

المجال الأوّل: تجديد طرق التفكير في الموروث الديني والإرث الثقافي الإسلامي، في الدراسات العربية الإسلامية، والدراسات الغربية، لاسيما الدراسات الاستشراقية.

المجال الثاني: خصائص الخطاب الأصولي في مستوى الرؤية والطرح والآثار.

المجال الثالث: العوائق الإبستمولوجية؛ التي تمنع الباحثين العرب والغربيين من إقامة قراءات نقدية جديّة للفكر الإسلامي، وخطاب الحداثة، وخطاب ما بعد الحداثة.

المجال الرابع: آليات تفكيك بنية العقل الديني، وإعادة تشكيله، بما يوافق الواقع المعيش، وحاجات المسلمين، وما تفرضه عليهم العولمة.

واللافت للانتباه أنّ محمّد أركون، في تناوله الموروث الديني، ينطلق من سؤال محوريّ تكرّر في مواضع عديدة في الكتاب، بدءاً من عنوان المقال الأول، وهو (كيف ندرس الإسلام اليوم؟ التواصل المستحيل).

إنّ نصّ عنوان المقال الأول يختزل - في تقديرنا - الرؤية الأركونية، وذلك بالنظر في المقابلة القائمة بين التواصل/الاستحالة من جهة. ومن جهة أخرى، إنّ السؤال: «كيف ندرس الإسلام اليوم؟» يقوم - في تقديرنا - على فرضياتٍ، منها أنّنا لم ندرس الإسلام البتّة إلى اليوم، ومنها أنّ طرق دراسته التقليدية (المنزع التمجيدي، المنزع الاستشراقي، ...) قاصرة عاجزة عن تبيّن ماهية الإسلام وجوهره. وبناء على ذلك، إنّ ما أُنجِز لا يحقّق المراد، والدليل على ذلك - في تصورنا - أنّ الانتقال من السؤال: «كيف نفهم الإسلام اليوم؟»[4]، إلى السؤال «كيف ندرس الإسلام اليوم؟»[5] ينطوي على ربط واضح بين المسألتين (الدراسة/الفهم)، فنحن ندرس الإسلام لنفهمه، وكأنّنا لم ندرس الإسلام إلى اليوم، ولكن من نحن؟ هل يحيل الضمير (نحن) على المسلمين، وأيّ صنف من المسلمين تراه يقصد؟ هل المقصود بــــ: (نحن) المفكرون المسلمون المجدّدون، أو المقصود به عامة المسلمين، أو أنّ الضمير يتجاوز هؤلاء وأولئك، ليطال الباحثين في العقل الديني الإسلامي من مسلمين، وعرب، ومستشرقين، وباحثين غربيين؟

يبدو أنّ الحدود بين هذه الدوائر المعرفية، عند محمّد أركون، لا وجود لها؛ إذ لا بدّ من دراسة الإسلام دراسةً علميةً نقديةً في جميع أبعاده من قبل الجميع، مسلمين كانوا أم مستشرقين، أم...، ولا غرابة في ذلك، ففي المقالات والحوارات المكوّنة للكتاب، لهج محمّد أركون بأسماء المستشرقين ناقداً بعضهم، ومثمناً أعمال بعضهم الآخر، فالمقال الثاني، من القسم الأول، من الكتاب، خصّصه لدراسة أعمال الباحث الفرنسي كلود كاهين. ولسائلٍ أنْ يسأل: ما الجامع بين المقاربات الاستشراقية وقضية الأصولية، أو قضية التسامح واللا تسامح، وغيرها من القضايا التي عالجها محمّد أركون في الكتاب.

لقد وضّح أركون العلاقة بين تلك المجالات البحثية بالقول: إنّ «العقل الدوغمائي هو أهم العوائق التي تمنع الباحث من بناء رؤية إسلامية للفكر الإسلامي، وهي دوغمائية لا تقتصر على الأصوليين؛ بل هي تطال أغلب المستشرقين، وجماعة من الباحثين الغربيين المهتمين بالدراسات الإسلامية. والدوغمائية، في أبسط تعريفاتها، عند محّمد أركون، «قوّة بنيوية تكوينية... تؤدي إلى غلق ما كان مفتوحاً ومنفتحاً، وتحوّل ما كان يمكن التفكير فيه؛ بل يجب التفكير فيه، إلى ما لا يمكن التفكير فيه»»[6].

وبهذا المعنى، تنطوي الدعوة إلى نقد العقل الديني على دعوة إلى نقد أساليب قراءة الموروث الديني في البيئة الإسلامية، أو الدراسة الاستشراقية. فالعوائق متنوّعة - في تقدير محمّد أركون - لها أبعاد متعدّدة، فبعضها موصول بالمادة التراثية المدروسة؛ التي تمثّل مدار النظر النقدي، وبعضها مُتعلّق بطرق اشتغال البعد الديني عند المسلم الأصولي، وبعضها الآخر ناتج عن سوء فهم الغرب للفكر الديني الإسلامي، فَهُمْ أسّسوا صورة نمطية لها مسلماتها التي سيّجت كلّ محاولة تروم قراءة الموروث الديني. ويقول في ذلك: «إنّ الكتب ذات الطابع الصحفي السريع تهيمن على السوق. لماذا؟ لأنّها تركّز اهتماماتها على الموضوعات المثيرة، كالعنف السياسي، والخطابات الأصوليّة»[7].

فالعوائق، إذاً، مزدوجة من جهة مواقف الغرب من المثقّفين العرب المهاجرين، أو من جهة بنية الثقافة الإسلامية، وعداؤُها للمثقّفين العرب المجددين؛ الذين يجدون أنفسهم إزاء خطاب عدائي، أكثر خطراً من الخطاب الأول (الغربي/التحقيري)، ذلك أنّ الخطاب الثاني يقوم، بالأساس، على منطق «التكفير، والملاحقات القضائيّة على الكتب والمنشورات، ثمّ السجن، وأحياناً التصفية الجسديّة (الاغتيالات). هذا هو مصير المثقّفين النقديين في العديد من البلدان العربيّة والإسلاميّة»[8].

موقف أركون من المشاريع البحثية العربية المعاصرة:

النزعة التقليدية - في تصور محمّد أركون - وإنْ لم تكن خاصة بالفضاء الإسلامي، أكثر من الفضاء الغربي انغماساً في النزعة التقليدية، وهو ما تجلّى - في تقديره - في محاولات المفكرين العرب أمثال: محمّد عابد الجابري، وهشام جعيط، ومحمّد قبلي، ...، فعلى الرغم من تسلّح هؤلاء بآليات البحث الأكاديمي، فإنّهم لم يستطيعوا - في تقدير محمّد أركون - الغوص في عمق الإشكاليات.

وما يلفت الانتباه، في خصوص موقف أركون من المشاريع البحثية العربية/الإسلامية المعاصرة، أمران؛ أولهما: اعتداد المؤلّف بنفسه، وثانيهما: عدم تردّده في توجيه سهام النقد اللاذع للمفكرين العرب أمثال: المغربي محمّد عابد الجابري، والتونسي هشام جعيط، ...، واقتصر إعجابه على ما كتب المغربي عبد الله العروي، بيد أنّ إعجابه بهذا المفكر لم يخلُ من إشاراتٍ فيها تلميح إلى أنّ عبد الله العروي إنْ هو إلّا صدى لفكر محمّد أركون، وإنْ لم يُحِل عليه[9].

ويعيد محمّد أركون نزوع المفكرين العرب المسلمين إلى الرؤية التقليدية[10] إلى سيطرة النزعة اللا تاريخية، وهو، بذلك، يكون قد ميّز بين أمرين هما: الحداثة ظاهرةً فكريةً، والحداثة بمفهومها الزمني، فإلى جانب إشادته بمفكرين عرب قدامى أمثال: ابن رشد الحفيد، وأبي عثمان الجاحظ، وأبي حيّان التوحيدي، يُشير محمّد أركون إلى وجود مشاريع فكرية نقدية قديمة متميزة، ومثال ذلك مشروع جلال الدين السيوطي في كتاب (الإتقان في علوم القرآن)، الذي: «كان ينبغي على المفكّرين المسلمين، أو العرب، أن يستعيدوا هذا المشروع عن طريق توسعته، وتحديثه»[11].

وقياساً على هذا المشروع، يرى محمّد أركون أنّه: «يمكننا أنْ ننخرط في كلّ البحوث الابتكاريّة؛ التي تؤديّ إلى فهم صحيح للوظائف الثقافيّة، والنفسيّة، والسياسيّة، والأخلاقيّة؛ التي تقوم بها الأديان. ويمكننا أنْ نفهم، بشكل أفضل، الدور الذي تلعبه (كذا) في نشأة الحضارات، وتوسّعها، وانهيارها أو تفكّكها»[12]. وفي المقابل، ينبّه محمّد أركون على مشاريع حديثة في الزمن، لكنّها تصدر من رؤية تقليدية.

ويواصل، في هذا التمييز بين الظواهر، فيكشف، في أجزاء عديدة من الكتاب، عن المفارقات التي قام عليها خطاب الحداثة عند المفكرين العرب المعاصرين، وهو، بذلك، يشير إلى مجموعة من العوائق؛ التي تعوق نشر الفكر الديني النقدي المعاصر؛ إذ إنّ: «الكتاب العلميّ لا ينتشر إلّا بصعوبة في البلدان الإسلاميّة، وذلك لأسباب شتىّ، فهناك، أوّلاً، سعره المرتفع، الذي يتجاوز إمكانيات الطلّاب والراغبين في العلم عموماً. وهناك، ثانياً، مشكلة استيراد الكتب المؤلّفة باللغات الأوروبيّة، وهناك، ثالثاً، المراقبة الدائمة المفروضة على الكتب، سواء من جهة السلطات القائمة، أم من جهة ذلك القطاع»[13].

منهجية محمّد أركون في نقد العقل الديني:

حدّد محمّد أركون خياراته المنهجية بوضوح، فهو يدعو إلى اعتماد مقاربة منهجية تأخذ بشتات علوم عديدة، مثل: علم الاجتماع، والأنتربولوجيا، وعلوم اللغة، وعلم تاريخ الأديان/علم الأديان المقارن، وغير ذلك من العلوم؛ ليصل بنا إلى رؤية وَسَمها بــــــ: «الإسلاميات التطبيقية»[14]، وهو يسعى، من خلال هذا المشروع، إلى تفكيك بنية العقل الإسلامي، ويبدو أنّه قد استعار من إيمانويل كانط (1724م-1804م) (Emmanuel Kant) التصوّر العام لمفهومي النقد والعقل من كتب الفيلسوف الألماني، وفي مقدّمتها كتاب (نقد العقل الخالص)[15].

إنّ «الإسلاميات التطبيقية» تسعى إلى نقد العقل الإسلامي، باعتباره عقلاً «دوغمائياً»[16]، وهذا العقل هو عقل الإنسان المسلم اليوم؛ الذي لا يزال منغلقاً داخل (السياج الدوغمائي المغلق)، والسياج الدوغمائي مصطلح من نحت محمد أركون، ويقصد به الأنظمة المشكّلة للعقائد الإيمانية الخاصة بكلّ دين، والتي بقيت في منأى عن كلّ تفحص نقدي، أو علمي، بسبب سطوة النظرة الإيمانية التقليدية، وهذا الرفض يأتي من اعتقاد المؤمن التقليدي بأنّ تراثه مقدس، وبأنّه يعلو على التاريخية. وفي هذا السياق يقول محمّد أركون: «يعلم الباحثون في العلوم الإنسانية أنّ الفاعلين الاجتماعيين (البشر) يلجَؤُون، باستمرار، إلى عمليات نزع الصبغة التاريخية عن تراثهم؛ من أجل أن يتماشى ماضيهم الديني والثقافي والسياسي، مع همومهم ومشاكلهم في الوقت الحاضر»[17].

ولأنّ النقد - في تصور محمّد أركون - يقوم، في الأساس، على عملية التفكيك، فإنّه يتطلب، بالضرورة، الحفر في الأسس المشكّلة للفكر، بقصد إعادة بناء رؤية واضحة للموروث الديني والثقافي. وبهذا المعنى، يصبح النقد - عند محمّد أركون - فهماً للإسلام.

فالسؤال الأول؛ الذي ينطلق منه المؤلّف في عنوان الكتاب (كيف ندرس الإسلام؟) هو سؤال حول المقاربة والآليات، وهو، أيضاً، سؤال عن العوائق. أمّا السؤال الثاني؛ الذي ينطلق منه في مقاله الأوّل، وهو «كيف نفهم الإسلام؟» فهو، في الأساس، سؤال عن الآليات، والوسائل، والأدوات، التي بها نتجاوز (العقل الدوغمائي) إلى (العقل النقدي).

وفي هذا المقام، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ محمّد أركون يفهم الدوغمائية على أنّها وثوقية تنزع عن الإسلام البعد التاريخي، ولذلك يقول: إنّ مشروعه هو: «نقد العقل السياسي، أو العقل الشرعي، أو العقل الجدلي، أو العقل اللاهوتي، أو العقل الأخلاقي [...] فإنّما أهدف إلى استكشاف كلّ ما يتحكّم في نشاط العقل ونتائجه من عوامل متفاعلة، وقوى متصارعة، وأهواء متضادة، وتوترات داخل الذات، أو خارجية عنها»[18].

إنّه يهدف، بهذه المُقاربة، إلى العودة إلى البنية العميقة الموجّهة للعقل الإسلامي؛ التي أسّس معارفها بالنظر في آليات الخطاب وتشكيله للمعنى، وتجاوز المنطوق به إلى المسكوت عنه، بقصد الكشف عن آليات اشتغاله؛ إذ لا مجال، البتة، لبناء خطاب حداثي، ما لم نفكّك الصعوبات والعقبات الإبستمولوجية؛ التي تحول دون تحرير العقل الإسلامي[19].

وفيما يتعلق بهذه المسألة، لا يخفي محمّد أركون هدفه الرئيس من مشروعه النقدي، فهو يسعى، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إلى زحزحة الأسس الهشّة؛ التي ستظلّ عائقاً أمام تقدّم المسلمين، ذلك أنّنا لم نفكر فيها.

وما يشد الانتباه أنّ محمّد أركون، في صفحات عديدة من الكتاب، يستعمل مصطلحاً دقيقاً، وهو «الإسلام المغاربي»[20]، وكأنّه يراهن على بناء إسلام حداثيّ ينطلق من الفضاء المغاربي، باعتباره الفضاء الأكثر عقلانية من بقية الفضاءات الإسلامية (أركون لا يصرح بذلك).

من الواضح أنّ النقد، عند محمّد أركون، قام على محورين أساسيين هما: النقد الداخلي الموجّه إلى الموروث العربي، وبعض محاولات المفكرين العرب المعاصرين، والنقد الخارجي الموجّه إلى أغلب الباحثين المستشرقين، ولكنْ ما يلفت الانتباه، فيما يتصل بالممارسة النقدية، أنّ محمّد أركون لم يمارس أبداً النقد الذاتي؛ بل إنّه لم يصغِ إلى الأصوات؛ التي تعالت مشيرةً إلى ما تعتقد بأنّه نقائص في مشروعه. ويبدو أنّ محمّد أركون بنى دوغمائية خاصة توازي السياج الدوغمائي القديم، فهو يصف المفكرين المخالفين له في الرؤية، مثل محمّد عابد الجابري، بأنّهم لم يفقهوا شيئاً، وبأنّهم أضاعوا الطريق الصواب[21].

ولعلّ المتأمّل في تطوّر فكر الرجل يلمح أنّه لا يمتلك قراءة واضحة للموروث الثقافي، فهو، مثلاً، يَعُدُّ العصر البويهي[22] ذروةَ الإنتاج العقلي في الحضارة العربيّة الإسلاميّة. وفي المقابل، كان العصر السلاجقي[23] أوّل الانحدار والانحطاط والتراجع، من خلال تكريس الفكر المدرسي التلقيني. وهنا، يمكن للمرء أنْ يتساءل: أَلم يكن البويهيون من مؤسسي المدارس الشيعية التلقينية؟ وكيف يتمّ الانحدار والتراجع الفكري في فترة قصيرة بين البويهيين والسلاجقة؟ أَلا يكون للانحدار السلجوقي بذرات موجودة في الفترة البويهية؟

أمّا موقف محمّد أركون من المعتزلة حُماة العقل وأنصاره، من خلال القول بــــ: (خلق القرآن)، فهو - في تقديرنا - موقف يحتاج إلى مراجعة، وإعادة نظر، ذلك أنّ الموقف المُعتزلي هو، في الجوهر، موقف إيديولوجي، شأنه، في ذلك، شأن أغلب الخطابات الكلامية السائدة آنذاك، فالمذهب المعتزلي لم يكن بمعزل عن تأثير السلطة السياسية[24].

أمّا موقف محمّد أركون من الدراسات الاستشراقية، ففي تصوّره تعميم؛ إذ يرى أنّها دراسات لم تهتمّ بالهامش، بقدر ما اهتمت بالتاريخ، الذي أسسته الرؤية السياسية. وهذا الكلام غير دقيق، ذلك أنّ بحوثاً عديدة اهتمّت بالمُهمّشين، وكشفت المواضيع المسكوت عنها في هذا التاريخ، مثل دراسة الجنس في ألف ليلة وليلة، والفرق الكلامية المضطهدة (الخوارج، الحشاشون، ...)، ونصوص مؤرخيها، إلى جانب الاهتمام بالمهمّشين اجتماعياً (الشطّار، ...).

إنّ تراكم أسماء الباحثين الغربيين في مدوّنة محمّد أركون يوحي بأنّ الرجل مهووس بتطبيق المُحدث من النظريات، دون أنْ يتبيّن المرجعيات الثقافية المشكّلة له، فالرجل يشرّع لهذا الأمر بناءً على اعتقاده بأنّ الثقافات والأديان تخضع، في تشكّلها، لبنية واحدة في مستوى العقل الديني، وهو أمر يحتاج، اليوم، إلى تأكيد، في ظلّ البحوث المقارنة، التي تقول: إنّ الائتلاف بين الأديان يظلّ موصولاً بالظواهر التعبدية، والممارسات الطقسية، ولا يتصل أبداً بالجوهر، فالاختلاف ماثل بينها في التصوّر والرؤى، بما في ذلك الأديان التي تشترك في الإرث القصصي (الأديان التوحيدية مثلاً).

أضف إلى ذلك أنّ الإقرار بضرورة البحث في عمق التاريخ، قد يؤدي إلى نقض الأطروحة التي أقام عليها محمّد أركون بحثه، لا سيما قوله: إنّ الأديان قد خضعت للبنية نفسها.

وبناء على ذلك، إنّ نجاح المسلمين/العرب يمرّ بإعادة إنتاج تجربة الغرب مع المسيحيّة والعلمانية[25]، وقد أدّى ذلك - في تقديرنا - بأركون إلى إسقاط جملة من المفاهيم، والمصطلحات، والتجارب الغربية على تاريخ الإسلام، وهو أمر سبق أنْ حذّر الباحثين المسلمين منه[26].


[1] - نشر ضمن مشروع "تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية (2) محاولات تجديد الفكر الإسلامي مقاربة نقدية"، تقديم بسام الجمل، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.

[2] - انظر: أركون، محمّد، قضايا في نقد العقل الديني - كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة: هاشم صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط1، 1998م.

[3] - المصدر نفسه، غلاف الكتاب.

[4] - المصدر نفسه، نص عنوان الكتاب.

[5] - المصدر نفسه، نص عنوان المقال الأوّل.

[6] - المصدر نفسه، ص 7

[7] - المصدر نفسه، ص 19

[8] - المصدر نفسه، ص 5

[9] - يتحدّث محمّد أركون عن موقفه من كتاب: مفهوم العقل، للمفكّر المغربي عبد الله العروي، فيقول: «أشعر بالسعادة إذ أجد في عبد الله العروي رفيق درب [... تناول بالبحث إشكالياتٍ] كنت قد ركّزت عليها في كتابي (نقد العقل الإسلامي) الصادر عام 1984م. بعد أن اطلعت على كتابه، وجدت أنّ نقاط الاتفاق بيننا، فيما يخصّ التوجّهات الأساسية في النقد، عديدة جدّاً، إلى درجة أنّي دُهشت؛ لأنّه لم يُشِر إلى أيّ كتاب من كتبي، أو إلى أيّ فكرة من أفكاري». انظر: المصدر نفسه، ص ص 55-56

[10] - وجّه محمّد أركون نقداً لاذعاً لكتاب: الفتنة جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكّر، للباحث التونسي هشام جعيط، ولمشروع الباحث المغربي محمد عابد الجابري، في: نقد العقل العربي، عادّاً أنّهما لم يبلغا شأواً كبيراً في توظيف المنهج التاريخي، وأنّه كان بإمكانهما تقديم ما هو أفضل بكثير لو لــــــــم يتحاشــــــــيا الموضــــوعات الــــحارقة، والموضوعات الحاسمة في المجالين الديني والسياسيّ، وتحرّرا تماماً من أسر العقليّة التقليديّة. انظر: المصدر نفسه، ص 55

[11] - المصدر نفسه، ص 60

[12] - المصدر نفسه، ص 61

[13] - المصدر نفسه، ص 18

[14] - يقول محمد أركون في هذا الصدد: (إنّ الإسلاميات التطبيقية ممارسة علمية متعددة الاختصاصات. وهذا ناتج عن اهتماماتها المعاصرة، ومن وجهة نظر إبستمولوجية، فإنّ الإسلاميات التطبيقية تعلّمنا أنّه ليس هناك من خطاب أو منهج بريء. إنّها، في كلّ مساراتها، تعددية المناهج الفاحصة، من أجل تجنّب أيّ اختزال للمادة المدروسة).

[15] - U Kant (Emmanuel): Critique de la raison pure, puf, 1975

[16] - إنّ العقل الإسلامي، عند محمّد أركون، هو عقل السياج الدوغمائي المغلق. فنتيجة لإيمان المسلمين بالمصدر الإلهي للعقل، يصبح التدخّل الإلهيّ في التّاريخ واضحاً وجليّاً، فالوحي هو مصدر المعرفة الكليّة، وبهذا الشكل يتعطّل عمل العقل، أو يصبح دون عمل، والنتيجة أنّ النظرية الإسلامية للوحي، تُغلق حرية البحث أمام العقل البشريّ. فالعقل القرآنيّ، مثلاً، هو (عقل التعرّف على الشيء)، وليس (العقل الذي يندفع لمعرفة الشيء)، والفرق بينهما كبير. فالقرآن الكريم، في ذكر كلمة (يعقلون) (22 مرة)، وكلمة (تعقلون) (24 مرة). [راجع: عبد الباقي (محمّد فؤاد)، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، دار الفكر للطّباعة والنّشر والتّوزيع، بيروت - لبنان، ط3، 1992م، ص 594 - 595]، والتي يتّخذ منها بعض المفسّرين الإسلاميين دلالةً على تكريم القرآن الكريم للعقل البشري، ودعوته للتفكير والتدبّر في هذا الكون، لم يقصد بها القرآن الكريم -حسب أركون- السعي إلى معرفة الشيء، ولكن التعرّف إلى شيء موجود مسبقاً، ومنذ الأزل. وبهذا يتحوّل دور العقل من دور الإبداع، والاكتشاف، والخلق، إلى دور التعرّف و(الأرشفة) والحفظ، دون محاولة تغيير، أو تبديل معرفة طبيعة الشيء. وبهذا، انتفى دور العقل في النقد، والتفكيك، وإعادة التركيب.

لمزيد من التوسّع، في هذه المسألة، انظر: الفجّاري، مختار، نقد العقل الإسلامي عند محمّد أركون، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان، ط1، 2005م، لا سيما القسم الثاني من الكتاب الموسوم بــــ: العقل الإسلامي عند محمّد أركون بنية ومفهوماً، ص 67 -113

[17] - انظر: أركون، محمّد، قضايا في نقد العقل الديني - كيف نفهم الإسلام اليوم؟، مصدر سابق، ص 18

[18] - المصدر نفسه، ص ص 9 - 10

[19] - يقول أركون: «إنّ مشروعي في نقد العقل الإسلامي يُمثّل جزءاً لا يتجزّأ من هذا البرنامج الطموح والجديد حقّاً، والذي يهدف إلى تفكيك مناخين من الفكر، وليس مناخاً واحداً فحسب. فليس المناخ الفكري العربي الإسلامي وحده المستهدف بالنقد أو التفكيك، وإنّما المناخ الفكري الغربي، أيضاً، أنّي أهدف إلى تجاوز المنهجيّة الوصفية أو السردية.[...] أنّي أسلّط أضواء المنهجية النقدية التفكيكية على الممارسة التاريخية التي حصلت في الجهة العربية الإسلامية كما في الجهة الأوربية المسيحيّة أولاً ثمّ العلمانية». اُنظر: المصدر نفسه، ص ص 30-31

[20] - المصدر نفسه، ص 39

[21] - يقول محمّد أركون: «إنّ المثقفين العرب (والمغاربة بشكل خاص) لا يستشهدون بعضهم ببعض. إنّهم يأنفون من ذكر أسماء بعضهم بعضاً [...] هذا الانغلاق السكولاستيكي داخل الذات يكلّف ثمناً باهظاً على صعيد الحياة الثقافية والمناقشة العلمية في المجتمعات العربية بشكل عام». المصدر نفسه، ص 56. والسؤال الذي يطرح في هذا المقام: هل أحال أركون على المفكرين العرب/المغاربة أم أنّه تعمّد استنقاص تجاربهم؟

[22] - تُنسب الدولة البويهية إلى أسرة بني بويه (قبيلة فارسية أقامت في الجزء الغربي من بلاد فارس)، وقد ولّى الملك الديلمي مرداويج الزياري عليّاً بن بويه الكَرَجَ، وقد استطاع علي، بعد مهلك مرداويج، ضمّ أصفهان والري والأهواز... إلى سلطانه. أما دخوله إلى بغداد فكان بطلب من الخليفة العباسي المتقي لله؛ الّذي كان يريد التخلّص من نفوذ الجنود الأتراك، فقَدِمَ الأمير البويهي إلى بغداد سنة 334هـ في عهد الخليفة المستكفي بالله بعد أنْ خرج منها الأتراك. وقد دام الوجود البويهي في بغداد 113 سنة، بدءاً من 334 هــــ إلى 447 هــــ (تاريخ انتصاب السلاجقة في بغداد). اُنظر: منيمنة، حسن، تاريخ الدولة البويهية السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي (مقاطعة فارس)، سلسلة دراسات في التاريخ العباسي، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، (دون مكان)، 1987م، ص 198

[23] - تُنسب الدولة السلجوقية إلى سلجوق بن دقاق مقدّم الأتراك الغُز، وهي قبائل تركمانية (تركستان اليوم)، ويُعدّ طُغْرُلْ بَك أهم الملوك السلاجقة، ففي عهده امتد النفوذ السلجوقي إلى بلاد فارس والعراق، إذ استطاع طغرل بك كسب تأييد الخليفة العباسي القائم بأمر الله، فأصبح السلاجقة أصحاب القرار في بغداد بعد قتل الملك البويهي الرحيم أبي نصر (440 هــــ/447هــــ) بمباركة من الخليفة العباسي القائم بأمر الله (أبو جعفر بن عبد الله) (391 هــــ/467هــــ). اُنظر: البكجري الحنفي، علاء الدين مغلطاي، (ت 762هــــ)، مختصر تاريخ الخلفاء، تحقيق آسيا كليبان علي البارح، دار الفجر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، ط1، 2001م، ص ص 144-145

[24] - اُنظر، فيما يتعلق بهذه المسألة، بو هلال، محمد، إسلام المتكلّمين، دار الطليعة للطباعة والنشر، سلسلة الإسلام واحداً ومتعدّداً، بيروت - لبنان، ط1، 2006م.

[25] - لقد طرح محمّد أركون؛ لإعادة توحيد الوعي الدينيّ، من خلال البنية الخارجية للعقل الإسلامي، ثلاث مراحل تتمثّل الأولى في إلحاق الإسلام بالأديان التي شهدت العلمنة. أمّا الثانية، فتقوم، بالأساس، على إخضاع الإسلام للحفريات والنقود والتفكيكيات نفسها التي خضعت لها الأديان الأخرى. في حين يتمّ، في الثالثة، القيام بثورة تأسيسية لإصلاح الفكر الإسلاميّ.

وهذا مُمكن وواقعي في الإسلام في تصوّر محمّد أركون، وذلك بالنظر إلى أنّ الأديان السماوية الثلاثة تخضع للظروف والاعتبارات نفسها، وهي تنطوي على بنية واحدة للعقل الديني. وبناء على ذلك، لا خوف على الفكر الإسلامي من قطع هذه الخطوات؛ لأنّ من شأنها أن تحفظ للفكر الإسلاميّ فخره وتقدّمه، مثلما كانت هذه الخطوات وراء تقدّم الفكر الغربي؛ الذي استطاع قطع هذه المراحل في مراجعته لمسلّمات العقل الديني المسيحيّ.

[26] - من ذلك، إقراره بأنّ الإسلام، بدءاً من القرآن الكريم، وتجربة المسلمين في (المدينة)، انطوى على نزعة علمانية/علمنة، وقد لمّح إلى ذلك في الحوار الثالث من ملحق الكتاب، وصرّح بذلك في كتابه: العَلمَنة والدّين الإسلام المسيحية الغرب، دار السّاقي، لندن - إنجلترا، ط3، 1996م.