قلق لوثر


فئة :  مقالات

قلق لوثر

قد يتساءل المرء: كيف أمكن لشخص معقد، مريض، تنهشه الأوجاع الداخلية أن يصبح أكبر شخصية في عصره؟ كيف أمكن لشخص، كمارتن لوثر، دفعته تأزماته المتفاقمة أكثر من مرة إلى حافة الهاوية أن يصبح البطل المنقذ للتاريخ؟ كيف أمكن له، بقدرة قادر، أن يقلب الأمور عاليها سافلها، فيحول الأسود إلى أبيض، والظلام إلى نور؟ من رحم الظلام ينبجس النور. كنا قد توقفنا طويلاً عند هذه الأسئلة في المقالات السابقة، ولكن أعترف بأني لم أشبع منها، ولم تشف الغليل. هذه الأسئلة طالما شغلت مفكري أوروبا ومؤرخيها ومحلّليها النفسانيين طيلة القرون الأربعة الماضية. وهذه النقطة هي التي تشكل جاذبية شخصية لوثر أو ـ حداثتهاـ إذا جاز التعبير. لكأنّ تجاعيد التاريخ عجزت عن أن تشيخ هذه الشخصية الفذّة فبقيت صامدة تتحدى الزمن وتشرف ـ من علٍ- على التاريخ. كنا نتخيل أنّ الشخصية العظيمة هي تلك التي تولد قوية لا تشوبها شائبة وتظل قوية على طول الخط. كنا نتخيل أنه لا يمكن أن يصيبها الوهن أو الضعف في أية لحظة من اللحظات، فإذا بنا نفاجأ بالعكس تماماً. إذا بنا نفاجأ بشخصية هشة، قلقة، مسحوقة تحت وطأة أمراضها الداخلية وعقدها المزمنة. ولكن ألا تكمن هنا بالضبط عظمة لوثر؟ فلو أنه كان منذ البداية قوياً، صحيحاً، ناجحاً، لما كان له أيّ فضل في نجاحه اللاحق. وبالتالي فعظمته تكمن في أنه انتقل من الحضيض إلى القمة، من أسفل سافلين إلى أعلى عليّين. عظمته تكمن في أنه خاض المعركة الداخلية مع نفسه على "المكشوف" دون أية مواربة أو مداراة. وعلى الرغم من أنّ خصومه استغلّوا هذه النقطة ضده في حياته، بل حتى بعد مماته، إلا أنه رفض أن ينكرها أو يخفيها. (حتى هذه اللحظة لا يزال عتاة اليمين الكاثوليكي يستخدمونها للنيل منه فيقولون إنّه كان مريضاً، أو مأزوماً، أو مهووساً، أو عصابياً مجنوناً...). ولكن ألم يتّهم مشركو مكة نبي الإسلام بالجنون؟ حتى في القرآن نجد أصداء ذلك. لكأنّ شخصاً في حجم لوثر يتنطَّح لقيادة التاريخ ويعرّض نفسه للخطر الأعظم يمكنه أن يكون شخصاً عاديا طبيعياً. .. ولكنه لم يخجل من هذه التهمة، بل راح يعترف بها على رؤوس الأشهاد ويعتبرها مفخرته، نعم إنّ مفخرته تكمن في ذلك الثمن الباهظ الذي دفعه لكي يتوصل إلى الحقيقة التي شفته من الداء العضال. فلوثر انتصر في نهاية المطاف على نفسه وأصبح أكبر قوة في ألمانيا: قوة لا تناقش ولا تُرد؛ ذلك أنّ من ينتصر على نفسه بعد صراع ضارٍ يستطيع أن ينتصر على الآخرين، يستطيع أن يزحزح الجبال... فمعركة الخارج لا يمكن أن تحسم إلا بعد حسم معركة الداخل. هذا هو الدرس الأساسي الذي نستخلصه من سيرة زعيم الإصلاح الديني في أوروبا.

تعجبني تلك الصفحات التي كتبها الأب إيف كونغار عن "قلق لوثر"[1]؛ فهي ملأى بروح التفهّم والتعاطف، فعلى الرغم من أنّ كونغار كاثوليكي وليس بروتستانتياً، فقد استطاع أن يحلّق عالياً وأن يرتفع فوق العصبيات أو الحزازات المذهبية وينصف لوثر. نقول ذلك، ونحن نعلم أنّ الكاثوليك ظلوا يلعنون لوثر طيلة عدة قرون، بل حتى الآن لم تُرْفَع عنه فتوى التكفير التي أطلقها البابا ضده في الثلث الأول من القرن السادس عشر[2]. يقول هذا اللاهوتي المجدِّد: إنّ الاكتشاف الكبير الذي توصّل إليه لوثر كان مرتبطاً بتجربته الشخصية أو أزمته الداخلية، ولكن هذا لا يعني أننا نختزل عقيدته في مجرد أزمة مرضية. لا ريب في أنه كان مصاباً بعصاب ثقيل في شبابه الأول، وقد استمرّ حتى نهاية حياته يشهد فترات متقطعة من الاكتئاب النفسي والقلق الأسود الغامض غير المفهوم. كان يغطس أحياناً غطسات طويلة قبل أن يعود... هذا يعني أنه حتى بعد أن جاءه الوحي وانفرجت أسارير نفسه ظلّ يشهد بعض هذه الأزمات النفسية التي قد تطول أو تقصر. ولكن هذا لم يمنعه من أن يقوم بواجبه، من أن يؤدي مهمته والرسالة التي بُعث من أجلها. كان يعرف أنّه مكلَّف برسالة عظيمة تتجاوزه، وعندما أحسّ بالتكليف شعر بالخوف والوجل، وكاد أن يتراجع. لقد خاف من حجم المهمة الملقاة على عاتقه. راح يتساءل: يا رب لماذا أنا أنا، وليس غيري؟ لماذا كلفتني بهذه المهمة؟ صحيح أنه شعر بنعمة الاختيار الرباني، بأنه مرشح لقدر استثنائي، ولكنه في الوقت ذاته أوجس خيفةً من حجم المسؤولية وعرف نوعية المخاطر التي تتربص به أو تنتظره على الطريق. ويقال إنه عندما جاءته اللحظة شعر كأنّ السماء قد انشقَّت بنور لمَّاح، وعرف عندئذ أنه هو هو وليس غيره. عرف أنه مدعو لقيادة معركة سوف تهتزّ لها أوصال المسيحيّة الأوروبيّة من أقصاها إلى أقصاها. وبقدر ما كانت معركته الداخلية مع نفسه عنيفة ومدمرة، راحت معركته الخارجية مع أعداء التغيير والحقيقة تتخذ أبعاداً شرسة وضارية. وهكذا انتقلنا من معركة الداخل إلى معركة الخارج، من الخاص إلى العام. لقد استطاع لوثر أن يكتشف نقطة التمفصل بين الخاص والعام؛ أي تلك الحلقة الضائعة، تلك الحلقة المفقودة التي يبحث عنها الجميع دون أن يروها. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح مسؤولاً عن تشخيص مرض العصر وعن إيجاد علاج له. لكن من يعرف ماذا كان يحصل في داخليّته عندما كان يختلي بنفسه؛ أي في "مطبخه" الداخلي، فيتقلَّب ذات اليمين وذات الشمال، ويقوم ويقعد، ويرغي ويزبد، ثم ينطرح أرضاً كأنّ به مسّاً من جنون؟... وعندما كان يغوص في أعماق أعماقه، أو ينزل إلى الطبقات السفلية الجيولوجية للذات الباطنية، هل كان مضموناً أن يخرج سالماً معافى إلى السطح؟ من يعرف حجم الثمن الذي دفعه هذا الرجل قبل أن ينفجر بالحقيقة: أي بالحل المرتقب منذ مئات السنين؟ كلّ مصير المسيحيّة الأوروبيّة كان يتوقف على كلمة تخرج من فمه.

ولكن بما أنّ أزمة لوثر مع نفسه كانت عميقة؛ فقد كان يلزمه حلّ جذري لا يقل عمقاً عن أزمته. آخر الدواء الكي، وهذا الحل يتلخص في كلمتين اثنتين: الإيمان أولاً، أو الإيمان وحده: أي الايمان المجاني الذي لا ينتظر جزاء ولا شكوراً. وقد يستغرب المرء: كيف يمكن لأزمة بمثل هذه الحدة والخطورة أن تُحلَّ بكلمة واحدة أو بكلمتين؟ أما كان من الأسهل عليه أن يؤمن منذ البداية ويريحنا من هذه المشكلة فلا يمرّ بكل هذه المخاضات والآلام؟ الواقع أنّ الأمر ليس بمثل هذه البساطة أو السهولة. فالإيمان لا يجيء بالواسطة أو بقرار من فوق. ولوثر لا يقصد به ذلك الإيمان التقليدي الموروث أباً عن جد، والذي لا فضل لنا في امتلاكه أو التعلُّق به لأننا نرثه بحكم العادة والألفة، وإنما يقصد شيئاً آخر مختلفاً تماماً. إنه يقصد الإيمان الشخصي الذي ينبت في القلب من الداخل كما ينبت الزرع في الأرض البوار. إنه الإيمان الذي ينبجس من داخلنا كما تتدفق الينابيع من أعماق الصخور. إنه الإيمان الذي لا نصل إليه إلا بعد جهد جهيد ومشقات وأتعاب. إنه الإيمان الذي لا يجيء إلا بعد إقفار وتصحّر ويأس قاتل مرير. هذا هو الإيمان الذي يتحدث عنه لوثر، والذي أمضى لياليه في البحث عنه دون أن يجده. لقد صلّى وصام وتهجَّد وتعبَّد مثلما لم يتعبَّد أي إنسان قطّ، ولكن دون أن يشعر بالطمأنينة، دون أن تنزل قطرة إيمان واحدة على قلبه، دون أن يصل إلى "برد اليقين" كما يقول الإمام الغزالي. ولذا، فإن لوثر فصل فصلاً تاماً بين العبادات والفرائض والطقوس، وبين الإيمان. فقد تصلّي مئة ركعة في اليوم، وتصوم شهور السنة كلها دون أن يدخل الإيمان الحقيقي إلى قلبك. وكم هو عدد الناس الذين يؤدون الفرائض والطقوس بشكل آلي ميكانيكي، أو خوفاً من عقاب أو تحسباً لمكافأة، أو مراءاة ونفاقاً أو حتى إرهاباً للآخرين؟ إلخ... لا ليس هذا هو الإيمان الذي يتحدث عنه لوثر. هذا إيمان امتثالي لا فضل لنا فيه، إنه يقصد بعبارة "الإيمان وحده" الذي يبررنا أمام الله، ذلك الإيمان المجاني الذي لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً. هذا هو الإيمان الحقيقي، وليس إيمان الطقوس والشعائر والعبادات والنزعات الامتثالية والخوف من الجيران أو من المجتمع.

كيف توصّل لوثر إلى هذا الإيمان الجديد؛ أقصد الإيمان الشخصي أو الذاتي الذي يختلف عن إيمان العصور الوسطى؟ وكيف، إذ توصل إليه، حلّ ليس فقط مشكلته الشخصية وإنما أيضاً مشكلة المسيحية الأوروبية بأسرها؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي أن نتوقف عنده لكي نفهم جوهر الثورة اللوثرية.

قلنا سابقاً إنّ مشكلة لوثر كانت تتمثل بكلمة واحدة: تبرير الذات. فالإحساس بالذنب كان يلاحقه باستمرار، والخوف من عقاب الله في الدار الآخرة ينغِّص عيشه. وكان يعتقد أنه هالك لا محالة، وأنّ روحه لن تنجو من عذاب النار مهما حاول أو فعل. إنه مُدان سلفاً، إنه مذنب، أبدياً، حتى دون أن يرتكب أي ذنب. وبالتالي فلم يكن يهدأ له بال، ولم يكن يستقر على قرار، وكان القلق ينهشه ويقضُّ مضجعه. وعندما توصل إلى الحل بعد أن أوشك على حافة الهاوية، على الانتحار، لم يكد يصدق عينيه، لم يكد يصدق أنه يوجد حل لمشكلة أخطبوطية في حجم مشكلته، في شراسة وعمق مشكلته. ولكن ها هو ذا الحل "يهبط عليه من السماء" برداً زلالاً... لقد انحلَّت عقدة لوثر، وبانحلالها انحلَّت عقدة التاريخ. من يستطيع أن يتصور فرحة لوثر عندها؟ من يستطيع أن يصف أحاسيسه ومشاعره في تلك اللحظة بالذات: لحظة الكشف الأعظم، لحظة التحرير الداخلي، لحظة انعتاق الروح؟... في الحياة هناك لحظات جميلة بدون شك: لحظة الحب مثلاً، خصوصاً إذا ما امتزج فيه الجسدي بالروحي، أو لحظة النجاح في الامتحانات ونيل الشهادات العليا والارتقاء في المناصب، أو لحظة النجاح في الحياة وتحصيل الأموال، إلخ... ولكن هناك لحظة واحدة من جنس آخر، لحظة تعلو ولا يُعلى عليها، إنها لحظة لا تعرفها إلا القلَّة القليلة في التاريخ، لحظة تصل السماء بالأرض، لحظة تغير مجرى التاريخ. من هذه اللحظات النادرة التي لا يجود بها الزمان إلا قليلاً، تلك اللحظة التي عاشها مارتن لوثر في برج كنيسة ويتنبرغ، ولم ينسها طيلة حياته كلها.[3] إنها لحظة "الولادة الثانية" التي لا تقلّ أهمية عن الولادة الأولى، إن لم تزد أضعافاً مضاعفة. إنها اللحظة التي تؤدي إلى ولادة الشخصيات العظام. ومن يذق طعمها لا ينساها. تكاد تشعر كأنه انزاحت عن كاهلك كوابيس وجبال بأسرها، الناس جميعاً يولدون مرة واحدة في حياتهم. وحدهم العباقرة الاستثنائيون يولدون مرتين: المرة الأولى عندما يخرجون من بطون أمهاتهم، والمرة الثانية عندما تنكشف لهم حقيقتهم ساطعة كقرن الشمس. لكن متى حصلت تلك اللحظة المباركة؟ لا أحد يعرف بالضبط. إنها تتموضع ما بين عامي 1513-1514. لوثر كان يختلي كثيراً في تلك الفترة في غرفة صغيرة واقعة في الجانب الشرقي من برج كنيسة ويتنبرغ. ومن المعلوم أنه كان أستاذاً لمادة اللاهوت وتأويل الكتاب المقدس في جامعة هذه المدينة. وكان يلفُّ ويدور مراراً وتكراراً حول تفسير كلام بولس الرسول في "رسالته إلى أهل رومية". وتسمَّر بصره بالتحديد على المقطع التالي: "في الإنجيل تتجلّى عدالة الله، والإنسان البارّ بالإيمان يحيا". ثم توقف بصره أيضاً على المقطع التالي من المزامير: "بعدالتك خلّصني، بعدالتك حرّرني"...

وكان يرتجف رعباً عندما يقرأ هذه الكلمات، وقد قرأها آلاف المرات دون أن يتوصّل إلى معناها الحقيقي، أو قُلْ إنّ معناها الشائع كان يرعبه. كان يعتقد أنّ عدالة الله التي يتحدث عنها القديس بولس هي قصاصه الرهيب وعقابه الصارم يوم الحساب. وبالتالي، فلا مفرَّ منها ولا نجاة. ذلك أنه مهما فعل، ومهما تهجَّد وصلّى وصام، فإنه سيظل مُقصّراً أو مُذنباً، ولن ينال مرضاة الله. كان يعتقد أنّ عدالة الله تشبه عدالة البشر على هذه الأرض: أي لها ميزان، كفّة للحسنات، وكفّة للسيئات. وكيف يمكن أن تتغلَّب الكفة الأولى على الثانية والإنسان مذنب بطبعه، وميَّال إلى الشهوات بطبعه، وناقص بطبعه، ومهما حاول فسوف يرتكب الذنوب حتماً؟ أكاد أقول كلما تنفس ارتكب ذنباً، هذا هو الكابوس الأخطبوطي الذي كان يلاحق لوثر. هنا كانت تكمن عقدته النفسية التي تؤرقه ليلاً نهاراً فقط. ولو أنّ هذه الحالة استمرت وقتاً أطول لقضت عليه، ولكنّ الله في آخر لحظة "حنّ عليه"، كما يقول هو شخصياً. كان يعتقد أنه لا يمكن أن ينجو بروحه في ظلّ هذه المحاسبة الصارمة، حتى ولو كان أتقى الأتقياء. نقول ذلك لأنّ صورة الله في العصور الوسطى كانت كالحة، ومرعبة، ومتجهمة، كما هي عندنا الآن. انظر الطالبان مثلاً أو سواهم. ويقال إنّ لوثر كان يرتجف رعباً عندما يرى صورة المسيح معلَّقة في مكان ما؛ فقد كان يرى فيه قاضياً صارماً لا يرحم. وكان يعتقد بأنه لن يحظى برضاه مهما فعل. إنه مُدان سلفاً وإلى الأبد. وفجأة "لمعت" في ذهنه الفكرة التالية: وماذا لو كانت عدالة الله التي يتحدث عنها الإنجيل ليست هي عدالة البشر؟ فربما كانت من جنس آخر مختلف تماماً. فالله غني عن صلواتي وصيامي، وركوعي وسجودي، وإذا شاء فإنه يستطيع أن يمنحني العفو والمغفرة بشكل مجاني، ودون أي مقابل. من أنا حتى أساوم الله على خلاصي ونجاتي؟ لا، إنه غفور رحيم لا يريد بي إلا الخير، وسوف يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر بمجرد أن أومن به وأضع نفسي بين يديه وأخلص النيات والأعمال. وإذن، فالإيمان هو الأساس، وإذا كان يعمر القلب، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون...

هنا يكمن الاكتشاف اللاهوتي الكبير لمارتن لوثر. وسوف تكون له انعكاسات هائلة ليس فقط بالنسبة له شخصياً، وإنما بالنسبة للمسيحيّة الأوروبيّة ككل. فصورة الله بالذات راحت تنقلب لكي تحلَّ محلها صورة جديدة. أقصد بذلك الصورة القروسطية لله؛ الصورة العابسة والمتجهمة؛ فقد راحت تنسحب من السماء لكي تحلّ محلّها صورة أخرى مبتسمة، وواثقة، ومُطَمْئِنة. في تلك اللحظة بالذات أحسَّ لوثر بأنه "وصل" أو "اتصل"، ولكم أن تتخيلوا حجم تلك اللحظة، معنى تلك اللحظة.."في كل ثانية محيط من القرون"، كما يقول الشاعر الكبير هنري ميشو.

بدءاً من تلك اللحظة هدأت سكينته الداخلية، وتبخّر قلقه المرعب الذي كان يلاحقه لسنوات طويلة. وما انفكّ يصرخ ويقول: "أعطني إلهاً رفيقاً رؤوفاً، أعطني إلهاً مساعداً...". هذا هو الانقلاب اللاهوتي الكبير الذي أحدثه مارتن لوثر، والذي ترتَّبت عليه كلّ الانقلابات اللاحقة: من أخلاقية، وروحية، واجتماعية، وسياسية، بل حتى اقتصادية. ذلك أنّ الإصلاح الديني هو مقدمة كلّ الإصلاحات الأخرى مجتمعة. الدين هو الذروة العليا التي تعلو ولا يُعلى عليها، وإذا ما فسدت فسد كلّ شيء. هذا هو الدرس الأعظم الذي نستخلصه من تجربة مارتن لوثر. فبعد أن نظّف المسيحية من تراكماتها وأوشابها أصبح الانخراط في العالم حلالاً طيباً، أصبح تحقيق الإنسان لذاته على هذه الأرض مباحاً مبرَّراً. ولم يعد الإنسان مرعوباً، يمشي والذنب يثقل كاهله، وكأنه يخشى حتى من ظله. هذه هي الهدية التي قدّمها مارتن لوثر للمسيحيين في عصره. لقد عرف كيف يكتشف الحلقة المفرغة، الحلقة الضائعة التي يدور حولها الجميع دون أن يروها. وكانوا أيضاً قلقين مثله، وخائفين على أرواحهم. ينبغي ألا ننسى: نحن نعيش في العصور الوسطى، حيث كان العالم الآخر أكثر أهمية ـ بل وواقعية- من هذا العالم. ولولا أنّ اكتشاف لوثر كان يلبّي مطالبهم العميقة، لما انتشر الإصلاح الديني انتشار النار في الهشيم في كل أنحاء أوروبا. هنا يتقاطع الخاص بالعام كما ذكرت أكثر من مرة. وهنا يتلاقى خلاص لوثر مع خلاص شعبه والبشرية الأوروبية بأسرها. فقد راح بضربة واحدة ـ ضربة مُعلّم كما يقال- يحلّ ليس فقط مشكلته الشخصية، وإنما أيضاً المشكلة العامة للعصر. بهذا المعنى كان لوثر "ظهوراً" في تاريخ ألمانيا والمسيحية الأوروبية ككل.


[1]- كتاب الأب إيف كونغار المشار إليه هو التالي: مارتن لوثر، إيمانه وإصلاحه، باريس 1983

- Yves Congar: Martin Luther, Sa foi, sa réforme. Cerf, Paris, 1983

للأسف، فإن موقف الأب كونغار ليس هو موقف جميع الكاثوليك من لوثر. فالجناح المتعصب أو المتزمت من الكنيسة الكاثوليكية لا يزال يلعنه حتى الساعة، ويعتبره زنديقاً شهيراً، بل يرى فيه المسؤول الأول عن انقسام الكنيسة المسيحية في الغرب الأوروبي. فقد شطرها إلى شطرين. وبالتالي لم يغفروا له فعلته تلك حتى الآن. ولكن هؤلاء "الإخوان الكاثوليكيين" المتشددين ينسون أنه هو الذي أنقذ المسيحية بعد أن تدهورت إلى أدنى مستوى، روحياً وأخلاقياً وإنسانياً.

[2]ـ عندما زار البابا السابق بندكتوس السادس عشر مدينة لوثر "ايرفورت" بتاريخ 23 سبتمبر عام 2011 كان البروتستانتيون يتوقعون أنه سيرفع فتوى التكفير عنه ولكنه لم يفعل، بل لم يعترف بالمكتسبات الإيجابية التي قدمها لوثر والإصلاح الديني للمسيحية، حتى بعد مرور خمسمائة سنة على الحدث، وهذا أكبر دليل على أنه ظل منغلقاً داخل السياج الدوغمائي المغلق للمذهب الكاثوليكي بالرغم من ثقافته الواسعة وعلمه الغزير. ولكنه مجّده ـ إلى حد ما ـ أمام ثلاثمائة شخصية تقف على رأسهم المستشارة انجيلا ميركل البروتستانتية ورئيس الجمهورية كريستيان وولف الكاثوليكي.. قال بالحرف الواحد: "الشيء الذي لم يكن يتركه يهدأ أو يرتاح هو مسألة الله. لقد كانت تشكل وجده الداخلي وشغفه العارم. لقد كانت المحرك الأساسي لشخصيته وجوانيته الداخلية. والسؤال الذي كان يؤرقه هو التالي: كيف يمكن أن يكون لي إله شفوق رحمن رحيم؟ هذه المسألة كانت تشغل لوثر في أعماق قلبه، وهي التي تقف وراء كل بحوثه اللاهوتية ونضالاته الداخلية". ولكن هذا التمجيد أزعج اليمين الكاثوليكي المتعصب فاتهم البابا بأنه يبرر الهرطقة والزندقة اللوثرية، وهذا يعني أن البابا الشهير كان أكثر انفتاحاً من قاعدته الأصولية وأقل انفتاحاً من الجناح الليبرالي في الكاثوليكية المتمثل بغريمه اللدود هانز كونغ. ومعلوم أن الكاثوليكيين المتشددين يعتبرون البروتستانتيين مجرد هراطقة. هكذا تلاحظون أنه يصعب تجاوز الحزازات المذهبية، حتى في أوروبا التي عاشت عدة ثورات علمية وفلسفية ولاهوتية. فما بالك بنا نحن؟ أضف إلى ذلك أن البابا استقبل في صباح اليوم نفسه بعض ممثلي الجالية الإسلامية في ألمانيا وصرّح أمامهم قائلاً: "أعتقد أن التعاون الخصب بين المسيحيين والمسلمين أمر ممكن". كثر خيره.

[3]- ولكن هل حصلت تلك اللحظة ضربة واحدة أم بالتدريج؟ بمعنى آخر: هل جاء الكشف كالضربة الصاعقة، أم على مراحل؟ يختلف المؤرخون حول هذه النقطة. وإن كنت أميل شخصياً إلى أن الكشف جاء تدريجياً، لأنه لو حصل دفعة واحدة لربما قتله في أرضه. ذلك أنه من الصعب جداً أن تتحمل انكشاف حقيقتك لك دفعة واحدة، وبخاصة إذا ما كانت مطموسة منذ سنوات طويلة. ما أصعب مواجهة الذات! وما أصعب مواجهة الحقيقة الداخلية التي نشيح عنها الوجه بكل سبيل وسبيل!.