كتاب: ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد شتيفان فايدنر، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد


فئة :  قراءات في كتب

كتاب: ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد شتيفان فايدنر، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد

كتاب: ما وراء الغرب من أجل تفكير كوني جديد

شتيفان فايدنر، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد

"لا يكفي رؤية العالم من منظور غربي فقط. فمنذ زمن الاستعمار، تم تهميش التصورات غير الغربية بشكل متزايد، بل تم تدميرها جزئياً ومحوها. لقد جعل التغريب العالم أفقر وأكثر رتابة." شتيفان فايدنر

صدر عن دار مؤمنون للنشر سنة 2013م، كتاب للألماني المستعرب، شتيفان فايدنر، ترجمة حميد لشهب، مراجعة رضوان السيد. يضم الكتاب خمسة فصول: الفصل الأول: الخطوات الأولى، الفصل الثاني: إيديولوجية الغرب، الفصل الثالث: لَحْن فاصل، الفصل الرابع: مقاربات كوسموبوليتية، الفصل الخامس: الوصول إلى ما وراء الغرب.

الكتاب غني من جهة الأفكار التي عرضها، ومن جهة تتبعه للخط الإيديولوجي في الغرب وتصوره لذاته، مع إيضاح جوانب الهيمنة والتسلط الذي اتصفت به المركزية الغربية في نظرتها إلى العالم، وقد بين الكاتب أن الغرب عمل على تجديد ذاته دون أن يلتفت إلى غيره من الثقافات الأخرى عبر العالم، فمقولة نهاية التاريخ عند فوكوياما تعكس طبيعة تمركز الغرب حول ذاته، كأن التاريخ به بدأ وبه سينتهي، في إعراض تام عن مفهومات وتصورات عالمية أخرى لمفهوم التاريخ. أما مقولة هنتنغتون، فتعكس صورة الصراع التي تضمن استمرارية الغرب. فالعمل على بسط نماذج للتفكير الكوني، بالضرورة هي خروج وتجاوز لنمط التفكير عند الغرب في رؤيته للعالم وللعلم والتقدم.

الغرب والشرق

يوحي عنوان الكتاب "ما وراء الغرب" إلى أمرين: الأمر الأول، يرتبط بالشرق كمقابل للغرب، وهذا التقسيم لا ينحصر فيما هو جغرافي، بل يمتد إلى ما هو ثقافي وإلى مختلف رؤى العالم لكل من الشرق والغرب. فالثقافة العالمية في مجملها وبشكل عام، بالإمكان النظر إليها من زاوية الشرق والغرب، فكل من الصين والهند ودول آسيا وإفريقيا والعالم الإسلامي محسوبة على الشرق، بينما الدول الأوروبية وروسيا وأمريكا محسوبة على الغرب، هذا التقسيم يأخذ مصداقية من وجهة نظر كل من الشرق والغرب إلى الآخر والعالم، فكل من الشرق والغرب يستمد تصوره عن الطرف الآخر من خلال خلفيته الثقافية، عندما تدرس تاريخ الشرق، فأنت تلامس التنوع والتعدد الديني والثقافي، وعندما تدرس الغرب وتاريخه، فأنت تلامس النزعة إلى اختزال المتعدد في النموذج الواحد الذي لا يقبل الآخر، قد يبدو هذا الأمر في الأول للبعض مجازفة، ولكن المثقفين الغربيين هم من يقرون بذلك، فالغرب أحادي في كل شيء.

أما الأمر الثاني، فهو أن الغرب كما يتصور نفسه في مقدمة خط السباق سباق التقدم، وما دونه يتمركز وراءه، السؤال هنا بالنظر إلى مختلف مشكلات وأزمات العالم التي كان من ورائها الغرب، هل حلها يكمن أمام الغرب أم وراءه؟ هل الغرب اليوم مستعد ليلتفت وراءه إلى مختلف ثقافات الشعوب والأمم التي يعتقد أنها وراءه؛ أي الشرق؟

هناك مقولة سارت منتشرة بعد خروج الغرب إلى العالم، مفادها «الغرب» مستنير، لكنه فاقد للسحر؛ و«الشرق» ساحر، لكنه غير مستنير ومتخلّف، وهي مقولة لا مكان لها عند المستعرب الألماني المعروف ستيفان فايندر، الذي اكتشف الشرق في المغرب وفي دمشق وفي العراق... وهو يستغرب كيف لهذه الفكرة أن تستحوذ على أفهام الكثير من الناس في الشرق، وقد فهم ذلك من خلال نقاشات له مع الكثير من أصدقائه العرب. قوله: "كشف لي الأصدقاء العرب عن شرخ، عن انقسام في الصورة المشتركة، أشاركهم فيها أيضاً، عن الغرب ونقيضه المفترض، الشرق. كانوا يرون غرباً مختلفاً عنّي، كانوا يرون الغرب الحرّ سياسياً الذي أنْقَذهم، حيث كنت أرى أنه مهدد، مهدداً من طرف التفكير الفعال الساحق، من طرف ثمالة رأسمالية، من قبل المحرضين والشعبويين، من طرف الرضا عن النفس والراحة. كانوا يرون الغرب الملون والمبتكر والمجنون، في حين كنت أرى التصلب وربما فقدت بصري لرؤية الحرية الهائلة وفضاء الفسحة التي يتمتع بها الغرب بلا شك. علمني أصدقائي العرب - وما زالوا يعلمونني حتى يومنا هذا- أن أعطي قيمة لما بدا، من منظور محلّي لفترة طويلة، بأنه أمر بديهي وغير جدير بالملاحظة بشكل خاص: حرية التعبير وحرية السفر وحرية أن يكون المرء غير تقليدي، أو حتى أن يكون مجنوناً."[1]

اعتاد الغرب أن يسقط صورته وتصوراته على بقية العالم، فهو يرى أن نموذجه يشكل قاعدة يجب السعي من أجلها والإعلان على أنها صالحة عالمياً. فمختلف خصوصيات الشعوب والجماعات والثقافات الفردية، سيتم التغلب عليها عاجلاً أم آجلاً لصالح الغرب. الإنسانية في نظر الغرب تظهر على شكل موكب طويل من العربات المنتشرة على طول الطريق والغرب تقدمها. فهو وفي ومخلص لخطه تطوره التاريخي، كي يتبعه الآخرون؛ (المركزية أوروبية وهيمنتها)، تعتقد في فرضية أن هناك تاريخاً، له اتجاه، هدف، تقدم، يقود إلى مكان ما. وهذا الافتراض، المنتشر في الغرب وبين الأشخاص ذوي التوجهات الغربية، يبدو حتمياً.[2]

فالمجتمعات أو الأشخاص الذين لا يشتركون في النموذج الذي يقول به الغرب، سيتم حتماً تركهم في الخلف على المدى الطويل، وسيكونون آخر من سيصل إلى الهدف في رحلة تاريخ العالم؛ لأنهم متخلفون عن الركب، ولا يتمتعون بإنجازات الجزء المتقدم من الإنسانية. وبالتالي، فإن مناطق الحماية للأشخاص والمجتمعات التي تعمل على أساس تصور مختلف للعالم، سيتم تهميشهم وغض الطرف عنهم. وهذه مسألة سارية المفعول، فالإعلام الغربي يهمش كل منتقديه ولا يحتفي على الإطلاق، بمختلف الاتجاهات التي تنطلق من تصورات مخالفة لرؤيته للعالم وللتقدم. "وإن كان العديد من الناس في العالم العربي، (وكذلك في المناطق الأخرى غير الغربية)، قَاوَموا الغرب، فإن القيم الغربية قد تتغلغل بقوة في الثقافة العربية: قيم التقدم، التي تعد ذات قيمة في رأيي، ولكن أيضاً قيم مادية ومدمرة. وعلى العالم العربي أن يحاول تبني القيم التقدمية والإنسانية للغرب، (وأجزاء أخرى من العالم)، والتخلص من القيم المدمرة."[3]

لقد سار اليوم طرح الدعوة إلى نقد ترشيد فكرة التقدم التي يقول بها الغرب أمرا شائعا، بالمقارنة مع أواسط القرن العشرين "ما يطلق عليه اسم [الغرب]التقدم كما لو كان كافيا السير في أي اتجاه كان، لكي يحصل تقدم مؤكد، لكنه يتقدم نحو ماذا؟ إنه [الغرب]لا يفكر حتى في طرح هذا السؤال"[4]. "إنها ظاهرة الولع بالبحث باعتباره غاية في حد ذاته، دون أي اهتمام بغايته المتمثلة في حل مسألة ما، فبينما يبحث بقية البشر ليجدوا ويعرفوا يبحث المرء الغربي اليوم من أجل البحث بلا هدف منشود"[5]؛ لأن تحديد الهدف يرتهن إلى مبدأ كلي والمبادئ الكلية نستشفها بدرجة أولى من الميتافيزيقا، وعندما نتحدث عن المبادئ فذلك يعني أننا نلامس الجانب الأخلاقي، فالعلم من منظور الغرب غير مستقلّ عن الحرية؛ لأنه في الحرية فقط، يمكن للعلم أن يتطور ويزدهر؛ أي دون تصور لعالم معين، وبالتالي دون حدود أخلاقية.

ومن أوضح المشكلات الأخلاقية اليوم مشكلة التلوث البيئي، وهي مسألة محايدة تهدد الإنسان ووجوده بغض النظر عن الغرب والشرق "مؤتمرات المناخ ليست بأي حال من الأحوال مجرد مناقشات موضوعية حول كيفية تعامل المجتمع الدولي مع تغير المناخ. إنها أيضاً، بالمعنى الحرفي والمجازي، مفاوضات حول من يصنع الطقس ومن يُسمح له بصنع الطقس. لا عجب أن يكون الأثرياء والأقوياء قد صنعوا الطقس حتى الآن. فالسماح بتلويث البيئة هو مظهر من مظاهر القوة، والتصرف بوعي بيئي هو علامة على الضعف، وهذا ما يجعل هذا الوعي لا يحظى بشعبية كبيرة"[6].

الغرب يجدد أيديولوجيته

الغرب عمل على تجديد أيدولوجيته وتمركزه حول ذاته، من خلال نظرية كل من فوكوياما وهنتنغتون.

في نظر "شتيفان فايدنر" تعد نظرية فوكوياما عودة إلى حجر الزاوية الثابت لكل أيديولوجية غربية، وهي واحدة من أقوى صيغها، فقد أنجز فوكوياما ببراعة، مهمته المتمثلة في تزويد الغرب بأيديولوجية جديدة لفترة ما بعد عام 1989؛ ومن جهة أخرى، قاد تصور العالم هذا الغرب إلى طريق مسدود، يجعل من الصعب بشكل متزايد التوفيق بينه وبين «بقية العالم» غير الغربي.

ويسمح «الغرب» بتفسيرين محتملين: أن يُنظر له على أنه جزء من العالم ومندمج فيه أو ينفصل عن بقية العالم ويؤكد الخلافات ويوضح بأنه ليس هناك إلا تقاطعات خارجية بينه وبين بقية العالم، اقتصادية وعسكرية. إن «الغرب» غير ملزم، له معنى مفتوح، لكن ليس بالكامل: تسمح تسمية «الغرب» بتحديد هوية، دون أن يكون عليها أن تقول بالضبط ما المقصود به. إنه يشرِّع تمييزاً دون فرضه. يُسمح للغربي أن يكون غربياً والاختلاط مع ذلك بالعالم، وتمرير تصوراته لكل العالم، وبطريقة مثالية وكأنّه ليس بعد الآن إمكانية أُخرى وكـأنّ الغرب هو النقطة النهائية لتطور الإنسان. فالتوضيح الأيديولوجي المتمثل في الانهيار المنظور للكتلة الشرقية، ومُساواته مع «انتصار الغرب، الفكرة الغربية»، يعني «ذروة التطور الأيديولوجي للإنسان وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية، باعتبارها الشكل النهائي للحكومة البشرية».

أما بالنسبة إلى هنتنغتون، فمن المهم أن يحافظ الغرب على تفوقه، عندها فقط يمكنه على الإطلاق البقاء على قيد الحياة. وللبقاء في صورة الأرصاد الجوية، يجب أن يكون الغرب هو الطقس، وصانع هذا الأخير. ويجب على الآخرين التكيف مع الطقس والتفاعل معه. ولهذا السبب، فإن هنتنغتون لا يهتم بالثقافات الأخرى في حد ذاتها أو بصراعاتها مع بعضها البعض، بل فقط ودائماً باحتمال المواجهة مع الطقس: «الغرب والباقي».[7]

يعتقد "شتيفان فايدنر" أن مفاهيم فوكوياما وهنتنغتون تشكّل نوعاً من التضييق وسوء استعمال لمفهوم الديمقراطية الليبرالية. الحكمُ الأخير حول الديمقراطية الليبرالية لم يصدُر بعد. لربما ستعيش نهضةً ما، رغم أن عصرنا يؤكّد عكس ذلك. لكن ما فقَد اليوم المصداقية هو الديمقراطية النيوليبرالية، والتي أراد فوكوياما أن يضع أسسها الفلسفية.أجل، نشهد غياباً للديمقراطية الليبرالية في العالم الإسلامي، لكن ألا ترون أنها غائبة في كل بقاع العالم وأنها تلفظ أنفاسها حتى في الغرب، حيث نشهد تحوُّلها إلى ديمقراطية مزيَّفة ونيوليبرالية... ديمقراطيةٍ للنخب ومعادية للإنسان؟[8]

ونحن في القرن الحادي والعشرين، هل بالإمكان الحديث عن سردية أخرى مخالفة لسردية الغرب التي تدعي أنها رواية رئيسة، «نهاية التطور الأيديولوجي»، بالرغم من مقاومة هذه الرواية من الخارج ومن الداخل. فمن البديهي أنه لا يمكن ببساطة اختراع السرد البديل، أو إنشاؤه من فراغ، أو فرضه من فوق. لا يمكن أن ينشأ إلا من السرديات الموجودة بالفعل، من مجموع الخطاب المتشابك عالمياً، المدعوم من طرف الخطابات والسرديات اللامركزية، المحلّية. ولكي يتم اعتبار السرد سرداً شاملاً، أو سرداً رئيساً، أو سرداً جامعاً، يجب أن يدير فعل التوازن، المتمثل في الانفتاح بدرجة كافية.[9]

[1] الفصل الأول من الكتاب

[2] الفصل الثاني من الكتاب

[3] مقدمة الكتاب

[4] "شرق وغرب" ريني غينون/ عبد الواحد يحيا ترجمة عبد الباقي مفتاح، عالم الكتب الحديث، الأردن، الطبعة الأولى، 2016م ص.81

[5] نفسه، ص.101

[6] الفصل الثاني من الكتاب

[7] الفصل الثاني من الكتاب

[8] ستيفان فايدنر.. ما بعد الغرب وما وراءه، حوار منشور بموقع العربي الجديد، مع شتيفان فايدنر، أجرى الحوار رشيد بوطيب نشر بتاريخ: 19 أكتوبر 2018

[9] الفصل الرابع من الكتاب