كيف تؤرّخ الفلسفة لمفهوم الآخرة؟


فئة :  مقالات

كيف تؤرّخ الفلسفة لمفهوم الآخرة؟

لماذا يفاجئنا "الآتي" في كلّ مرّة؟ رغم كلّ ما قيل عن نسبة الزّمن التّاريخيّ، ومن ثمّ نسبة مفهوم المستقبل إلى التّقليد المسيحيّ؛ فإنّ الإنسانيّة الحديثة - وحدها - الّتي طوّرت مفهومًا صريحًا عن المستقبل، وذلك بفضل نظريّات التّقدّم الّتي نجمت عن إنشاء فلسفة التّاريخ، على أساس فلسفة الذّات، قبل الأزمنة الحديثة كانت الإنسانيّات والتّوحيديّة منها، تعوّل على "الآخرة"، وليس على "المستقبل"، قد يُقال: إنّ الآخرة بلا تاريخ؛ أمّا المستقبل فلا يمكن تصوّره من دون مفهوم مكرّس عن التّاريخ، وإنّه من السّخريّة الكلام عن تاريخ الآخرة، ووحدها الإنسانيّة تؤرّخ لوعيها بالزّمان بعدّه معتمدًا على علاقة بنيويّة بإمكانيّة المستقبل.

لكنّ الوضعيّة - ما بعد الحديثة - يبدو أنّها حطّمت سرديّة المستقبل الحديثة، وحطّمت معها نظريّة التّقدّم، وهكذا؛ انتقلنا بالسّؤال: من تأمين "المستقبل" الّذي نتقدّم نحوه، إلى الخوف من "الآتي" الّذي يتقدّم نحونا، انتقلنا من فكرة التّقدّم إلى فكرة الكارثة، قال بنيامين: "إنّ التّقدّم هو الكارثة".

إنّه - في هذا السّياق بالذّات - نعني؛ بعد تعطّل سرديّة المستقبل الّتي رسمتها نظريّات التّقدّم التّنويريّة، عادت خطابات الآخرة إلى الاشتغال بحدّة مريعة، وصار على الفلسفة أنّ تخاطب هذا الضّيف الميتافيزيقيّ المرعب (الآخرة) على أنّه مطلب يوميّ لهذا الجيل ما بعد الدّينيّ، الّذي بات يهدّد جدار المستقبل لشعوب عدّة، ولكن ما هي الآخرة؟.

- "الآخرة" مصطلح نُحت في سياق معجمي أوسع، يضمّ مصطلحات عدّة؛ فالآخرة: على عكس ما يظنّ قارئ بلغة واحدة، لها أسماء عدّة حسب الثّقافات، لكنّ نواة المعنى - هنا - هي فكرة "العالم الآخر"، عالم هو بمثابة قبر أخير للإنسانيّة.

كان اليهود يسمّونه (شيول Shéol) أو (مقرّ الموتى) أو بئر الموتى، والعهد القديم - ربّما - لم يطوّر مفهومًا مستقرًّا عن "الآخرة" بما هي جهاز روحيّ صريح، "شيول"؛ يعني حسب سفر التّثنية (32: 22) "الهاوية السّفلى"، وحسب سفر الجامعة (9: 10)، شيول؛ هو الهاوية، وهي المصير المشترك لكلّ البشر أكانوا أخيارًا أم أشرارًا، وكان يعقوب قد بكى على يوسف كلّ مهجة، و"عندما قام جميعُ أبنائه ليُعزّوه أبى أن يُعزّى، وقال: إنّي أمضي إلى ابني نائحًا إلى الهاوية" (أي؛ إلى شيول).

"شيول" في نصوص العبرانيّين؛ لفظة تقابل "هاديس" (Hades، Hádês) عند اليونانيّين، وهذا ما وقع - فعلًا - عند ترجمة الكلمة إلى اللّغة اليونانيّة (في نصّ الإنجيل)، هما لفظان يشيران إلى عالم الموتى، عالم بارد حيث لا تمايز بين الموتى، في اللّاشيء أو الهباء الّذي ينتظر الجميع في آخر الزّمان.

وهاديس - في الأصل - هو الأخ الأكبر للإله (Zeus)؛ الّذي يحكم السّماء والإله (Poséidon) الّذي يحكم البحر، كأن نقول: إنّ الجحيم هو الأخ الأكبر لله التّوحيديّ، هذا كان مصير هاديس؛ أن يحكم ما تحت الأرض، ولُقّل "سيّد ممالك الجحيم" (les Enfers)، من الغريب أنّ اليونان قد سمّوا الجحيم في الجمع، نحن ليس لنا اسم جحيم في الجمع، وهاديس هو حارس الموتى حتّى لا يهربوا من الجحيم، أو أن يعودوا إلى إزعاج الأحياء، لكن يبدو أنّ اليونان، مثل العبرانيين، لم يعرفوا فكرة "الحساب" في العالم الآخر. هذه فكرة تُنسب إلى المصريّين القدماء، لكنّ اليونان لديهم "فردوس وثنيّ" أيضًا، يسمّى (Elysios)، ومنه بالفرنسيّة (les champs Elysées)، وهو الجزء الرّابع من مملكة الموت أو ممالك "الجحيم"، حيث يحكم الإله "هاديس"، وتسكن النّفوس الفاضلة بعد الموت، ونعثر على وصف شيّق له في الأوديسا (النشيد الحادي عشر "زيارة مملكة الموتى")، وله أسماء كثيرة، مثل؛ "الجزيرة البيضاء" و"جزيرة الأبرار".

ومع ذلك، يبدو أنّ فكرة "الشّيول" اليهوديّ، قد تطوّرت في معناها نحو إمكانيّة الفوز بما سُمّي "الحياة الأبديّة"، كما نرى ذلك في سفر دانيال (12: 2- 3)، وربما كان الأسر البابليّ هو أصل فكرة "الحياة الأبديّة".

منذ سفر التّكوين (2: 8)، كان ثمّة حديث عن "جنّة عدن"، وهو مسكن آدم الأوّل، لكنّ التّرجمة السّبعينيّة صارت تقول: "فردوس عدن"، ودخل لفظ الفردوس (الإيرانيّ-اليونانيّ) إلى الخدمة، ويعني في الإيرانيّة القديمة أو "الأفستيّة"؛ لغة الكتاب المقدّس الزّرادشتي "الحرم الملكيّ"، ثمّ ظهر لدى اليونانيّين بمعنى؛ حدائق الملك، وهي حدائق مغلقة حيث توجد حيوانات متوحّشة (ذكرها Xénophon)، لكنّ المسيحيين غيّروا المعنى الوثنيّ (الفارسيّ/ اليونانيّ)، واخترعوا فكرة "الفردوس السّماويّ"، واستعملوه كي يعيدوا تأويل فكرة "جنّة عدن" العبرانية الواردة في سفر التّكوين وامتلاكها.

غير أنّ هذا يعني؛ أنّ "الجنّة" (مسكن آدم) تقع في الماضي وليس في المستقبل، وزمن الإنسان هو زمن الطّرد خارج الجنّة، وحسب سفر التّكوين؛ كان الله ينوي إسكان آدم في الجنّة إلى الأبد، إذن، كانت الجنّة هي مستقبل الإنسان، لكنّ المستقبل كان له مصير آخر.

يبدو أنّ الآخرة فكرة موجبة لم تتبلور فعلًا إلّا مع الأناجيل المسيحيّة - تحديدًا - عندما حدث تغيير جذريّ في مفهوم الموت، ولم يعد الموت يقود إلى "الشّيول" اليهوديّ، أو "الهاديس" اليونانيّ؛ أي إلى ظلال العدم، والمسيح هو الّذي ألقى ضوءًا جديدًا تمامًا على ميدان "الآخرة"، عندما اخترع ظاهرة "الشّهادة"، فالشّهادة - وحدها - تفتح السّماء نحو الفردوس حيث ملكوت الرّبّ، وهي اختراع مسيحيّ محضّ، ونُصّب معجم جديد عن معنى "الآخرة" حيث يمكن الانتصار على الموت.

إلّا أنّه علينا أن نذكّر أنّ كلّ أنواع الآخرة هي محاولات لحلّ لغز الموت، سواء كانت وثنيّة أم توحيديّة، ونعني بذلك؛ أنّها اختراعات فذّة تجرّأ عليها البشر أي "الفانون"، من أجل اقتلاع معنى ما عن "المستقبل"، وكان الموت - دومًا - هو جدار المستقبل حيث تسقط النهايات، وخطّة الآخرة هي إحدى خطط المستقبل لدى الإنسانيّة التّقليديّة، تُأسّس - غالبًا - على اختراع سرديّات تجعل الرّحلة نحو عالم الموتى ممكنًا، وهو ما حكته ملحمة جلجامش، أو أوديسا هوميروس، أو أسفار العبرانيّين، أو أناجيل المسيحيّين، أو قرآن المحمّديّين؛ حيث نعثر على الصّيغة القصوى من تحوّلات ظاهرة "الآخرة"، الّتي تبلورت على مدى كلّ فترات العصر القديم.

فلو فحصنا عن مفردات "الآخرة" في المصحف القرآنيّ، عثرنا على جلّ المصطلحات الّتي اخترعتها شعوب الشّرق الأوسط القديم، سواء كانت وثنيّة؛ كالبابليّين واليونان، أم توحيديّة؛ مثل اليهود والنّصارى، من أجل مواجهة مستقبل الحياة بعد الموت.

ويمكننا أن نقسّم معاني "الآخرة" إلى ثلاث زمر:

الزّمرة الأولى: تتعلّق بمعنى "الجنّة": جنّات عدن - جنّات الفردوس - جنّات المأوى - جنّات النّعيم - جنّة الخلد - جنّة عالية - روضات الجنّات.

الزّمرة الثّانية تتعلّق بمعنى "الجحيم": النّار - الهاوية - الشّوى - اللّظى - السّموم - الحُطَمَة - الجحيم - جهنّم - السّقر - السّعير.

الزَمرة الثَالثة تتعلَق بمعنى "الآخرة": الآخرة - السَاعة - المعاد - اليوم الآخر - يوم البعث - يوم التّلاق - يوم الحساب - يوم الخروج - يوم الخلود - يوم الدّين - يوم الفتح - يوم الفصل - يوم القيامة - يوم الشّهادة - يوم النّشور.

هذه التّنويعات القرآنيّة تتبنّى البنى الثّلاث للآخرة، كما تبلورت في العصر القديم، لكنّها تُجري عليها تعديلات خطيرة، يمكننا أن نحصرها في ثلاثة:

1. المكان: الجنّة والجحيم (في الأصل العبريّ)، جهنّم من "جي هنّوم"؛ أي من "وادي هنوم"، أو وادي جهنّم؛ حيث كان اليهود يقدّم أُضحيات بشريّة للآلهة (سفر أخبار الأيّام الثّاني وسفر إرمياء)، مكانان يتعلّقان بنوعين متنافيين من "المستقبل"، وهذا المستقبل اختياريّ بشكل مرعب.

2. الزّمان: الآخرة "يوم" من الأيّام، لكنّه يوم فريد من نوعه؛ لأنّه لا يتكرّر، ولا يمكن أن يُردّ، بالتّالي، أنّ الوعي البشريّ بالزّمان، هو إطار مناسب لاختبار القدرة على الآخرة لدى أيّ كان، والآخرة عمل تجريبيّ، وليست نهاية تقع خارج الزمن البشريّ.

3. الفعل: أنّ الآخرة نوع من الفعل، وهو فعل إنجازيّ أو إنشائيّ، وليس معطى جاهزًا لأحد: الشّهادة، البعث، النّشور، التّلاقي.

ما هو مشترك بين جميع هذه السّرديات؛ هو السّعي المطّرد نحو تدجين سرديّ لفكرة الموت في أفق البشر، وذلك - بالتّحديد - في شكل "رحلة" نحو العالم الآخر، عالم الموتى، ومحاولة اختراع وضعيّة سرديّة تجعل الموت يتفكّك من الدّاخل، ويتحوّل إلى إمكانيّة سرديّة داخليّة في النّفس البشريّة، وليس خارجها، فما هو مزعج أبدًا في فكرة الموت؛ هو معنى "الخارج" المحض.

يجدر بالمتفلسف أن يضع تعبيرات "الآخرة" لدى الوثنيّين والإبراهيميّي على خطّ واحد، علينا أن نضع "فردوس زرادشت"، و"حدائق بابل"، و"سهول إليزيا" في أوديسة هوميروس، و"جنّات عدن" العبرانيّة، و"ملكوت" المسيحيّين، و"جنّات النّعيم" القرآنيّة؛ إذ إنّ كلّ هذه التّعابير الأخرويّة؛ هي محاولات القدماء في اختراع مفهوم "المستقبل"، الّذي يكون بإمكانه أن يقهر فكرة الموت، ويسيطر عليها سرديًّا.