كيف تفرّق شمل الإخوان؟


فئة :  مقالات

كيف تفرّق شمل الإخوان؟

تأسّس تنظيم الإخوان المسلمين على أساس رابطة إسلاميّة أهدافها سياسيّة. وإنّ الناظر في تاريخ تأسيسها، ليلمس صلة مباشرة بسقوط الخلافة الإسلاميّة وحلم استعادتها؛ ولعلّ ذلك الارتباط هو الذي جعل من التنظيم جامعا بين المقولات الدينيّة والمقاصد السياسيّة وأسّس لصدامه مع نظام الدولة القطريّة وولّد رفضا لسياساتها وشكلها. وقد تراوحت علاقة كثير من الحركات الإسلاميّة بجماعة الإخوان بين الانتماء ومحاولة النقد والاختلاف معها. فحركة النهضة مثلا، بدأت حركة دينيّة ذات خصائص دعويّة. ولكنّها سرعان ما تأثّرت "بأطروحات الإخوان المسلمين في مصر من خلال استلهام أدبيّات حسن البنّا وسيّد قطب وشقيقه محمّد قطب وفتحي يكن وعبد القادر عودة، وأدبيّات الداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي."[1] ولئن عرفت الجماعة الإسلاميّة منذ البداية اختلافات جوهريّة بين مؤسسيها أفضى منذ السبعينات إلى نشأة "الإسلاميين التقدّميين" كان أساسها الخروج عن الخط الإخوانيّ وبناء تجربة ذاتيّة. فقد انتهت بعد توليها السلطة إلى إعلان القطيعة مع الإخوان وانتهاج سياسة ليبراليّة تقبل بقوانين الانفتاح على السوق ولا تبقي من آثار الإسلام السياسيّ سوى بعض مسمّيات هياكلها مثل مجلس الشورى، وهو في الحقيقة مجلس استشاري لا يختلف عن المجالس الحزبيّة الأخرى داخل تونس أو خارجها. أمّا في الجزائر، فقد اتّجهت الحركة الإسلاميّة إلى مزيد من التشدّد بعد إلغاء انتخابات في 11 يناير 1992 "حيث اتخذت الحكومة قرارا بحلّ الجبهة في 05 مارس 1992". "فانطلقت حرب المساجد التي قادها رجل الجبهة الراديكالي عبد القادر حشاني بعد اعتقال عباس مدني وعلي بلحاج. وفتحت بذلك دوامة العنف والصراع المسلح بين الطرفين السلطة والجماعات المسلحة."[2] فقد ظلّت الأسانيد النظريّة التي تحكم التنظيمات المتأثّرة بفكر الإخوان أو المتبنّية له متراوحة بين اختيار العنف من أجل الوصول إلى الحكم، وبين القبول بالديمقراطيّة. وقد ظلّ هذا التفاعل قائما بين المقولات النظريّة المؤسسّة والواقع التاريخي الذي أثّر في وجهة "الإخوان"، وجعل شملهم يتفرّق.

نطرح في هذه الورقة الأسباب التي جعلت شمل الإخوان يتفرّق. وصيّرت الحلم بتكوين رابطة إسلاميّة جامعة أمرا طوباويّا تداعى مع التأثيرات التاريخيّة التي كانت بتأثير من الاختلافات الطبيعيّة بين الدول التي نشأت فيها تلك الحركات. فرغم ادّعاء المنظّرين الأوائل وجود طابع شموليّ يسم تلك الحركات بحكم مرجعيّاتها الإسلاميّة، فإنّ تأثير البيئة ظلّ أمرا طبيعيّا، بل إنّ العوامل الذاتيّة بدورها كانت مؤثّرة في الحركات. فمقولاتها ناشئة في جدل دائم بين تلك التنظيمات والأنظمة السياسيّة القائمة. فقد تفرّق فكر الإخوان بين الحلول الدعويّة السلميّة، وبين الاختيارات الصداميّة العنيفة التي تدعو إلى تغيير أنظمة الحكم باستعمال العنف. وانتقلت الحركات المتصلة بفكر الإخوان المسلمين من رفض الديمقراطيّة وتكفيرها إلى القبول بها، باعتبارها السبيل الأفضل للوصول إلى الحكم. ولئن أوهم كثير من دعاة الإخوان بأنّ مفهوم الحاكميّة يعني أن الحكم لله وحده، فإنّ حقيقة السياسة التي مارسها الإخوان حين تولّوا الحكم هي التي تعتمد على تصورات جماعتهم ومقتضيات الواقع الذي فرض عليهم تحويل كثير من المقولات الطوباويّة إلى نظم سياسيّة تتباين مقاصدها من دولة إلى أخرى، بل إن بعض الحركات التي بدأت بشعارات إخوانيّة انتهت إلى فكّ ارتباطها بالجماعة وإعلان فصل الدينيّ عن الدعويّ في أطرها الحزبيّة؛ ذلك مثلا ما أعلنته حركة النهضة في مؤتمرها العاشر بعد أن قبلت بالتوافق وانخرطت في مسار ديمقراطي، لم يعد فيه ممكنا احتكار الحقيقة الدينيّة ومن ورائها الحياة السياسيّة، وهو ذات المسار الذي طوّر فكر الإخوان في مصر وسائر الدول العربيّة من الرفض القطعي للديمقراطيّة إلى القبول بها، باعتبارها الآليّة الأمثل لاكتساب الشرعيّة الدوليّة. فقد أدرك الإخوان أنّ وقود القواعد الشعبيّة خطاب دينيّ ملهم يرسم متخيّلا طوباويّا لدولة الإسلام على أنقاض دول يسوّق لصورتها بأنّها لا تطبّق شرع الله وتستعبد مواطنيها، وأدركوا بالمقابل أنّ وقود الشرعيّة الدوليّة الانخراط في الديمقراطيّة والقبول بها، باعتبارها مجرّد آليّة للوصول للسلطة. وقد كان هذا التحوّل نتيجة الوعي بأنّ كلّ عنف تمارسه الجماعات الإسلاميّة سيهب الأنظمة الحاكمة شرعيّة أكبر لاستخدام عنف مضاد أدناه السجن والاعتقال وأقصاه القتل والتعذيب. وزادت أحداث الحادي عشر من سبتمبر يقين الإخوان بأنّ اختيار العنف يعني الحكم على تنظيمهم بالإعدام والفشل في كسب الشرعيّة الدوليّة التي كانت بوّابتها القبول بأسلمة الديمقراطيّة وعدم اعتماد العنف وسيلة للوصول إلى السلطة. وقد زوّدت سيرة كثير من دعاة الإسلاميين سلفهم من المنظّرين بمسارات تأويليّة جديدة أساسها الدعوة بالتي هي أحسن واحترام الاختلاف. وأدرك كثير من الإخوان أنّهم ساسة لا دعاة بعد أنّ ظنّوا أنّهم دعاة لا قضاة. ومراجعات الحركة الإخوانيّة ترتبط في مناسبات كثيرة بالعنف المسلّط على المنتمين إليها أو عقب فشلها في الوصول إلى الحكم أو الحفاظ عليه أو بالأحداث الدوليّة التي جعلت من صدام الحضارات فرصة للإخوان كي يثبتوا قطيعتهم مع العنف والإرهاب.

لقد ركّز الإخوان زمن حلمهم بالسلطة على مقولات روافدها دينيّة ومقاصدها رسم آفاق متخيّلة للسلطة الإلهيّة والعدالة الاجتماعيّة. ولكنّهم حين واجهوا الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ وجدوا أنّ عدّتهم النظريّة التي تغلب عليها الشعارات الدينيّة لا تصلح لرسم خطط تنمويّة ومواجهة مشاكل البطالة والفقر. وعجزت التجارب التاريخيّة التي أضفوا عليها القداسة بحكم إيمانهم بقابليتها المتجدّدة لتقديم حلول سحريّة لمشاكل الواقع عن الإيفاء بوعودها. وكانت الخيبة الأكبر أنّ الدول التي تولّى فيها الإسلاميون الحكم قد عرفت تدهورا أكبر في الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة وضعفا في الأداء السياسيّ بعد أنّ روّج الإخوان لِجِنَانٍ دنيويّة على أنقاض جحيم النظم القائمة. فأزمات المجتمع المصريّ زادت تفاقما بعد تولّي الإخوان الحكم إثر الانتفاضة الشعبيّة الأولى، وهو ما أفضى إلى انتفاضة ثانية وسقوط حكم الإخوان. وحكم الإسلاميين في تونس زاد من حجم الديون وفتح الأبواب على مصراعيها للدين الخارجي وتفاقمت الفوضى الاجتماعيّة وسوء التسيير. ممّا أثقل الميزانيّة بنفقات أكبر واضطرّ الحكومات اللاحقة إلى إيقاف التشغيل وفتح الأبواب للراغبين في الخروج من الوظيفة العموميّة سعيا إلى التخفيف من أعباء النفقات العموميّة. وشهدت الخدمات الصحيّة في تلك الحقبة تدهورا لا سابق له، فعجزت المستشفيات عن إيواء المرضى وشحّت الأدوية من الأسواق، وكثر الفساد في أجهزة الدولة، ووجد المهرّبون والمتهرّبون الضريبيّون ملجأ آمنا في ظلّ ضعف أجهزة الدولة وتفكّك كثير من أجهزتها.

لقد أتيح للأحزاب الإسلاميّة أن تتولّى فرصة تقديم صورة أنقى عن الثورة تحقّق أهدافها السياسيّة والأخلاقيّة التي انتفض من أجلها المحتجّون. ولكن هاجس السلطة والغنيمة والبقاء في الحكم شغل الحكّام الجدد، وكشف أنّهم على قدر اكتسابهم آليّات التأثير في الناخب والوصول إلى السلطة كان افتقادهم للقدرة على التسيير ورسم خطط تنمويّة واضحة تبعث أملا في أنفس العاطلين عن العمل، وتقدّم ضمانات للمستثمرين لإنعاش الاقتصاد المنهك؛ فقد تلخّصت سياسة الحكّام الجدد في استرضاء صندوق النقد الدوليّ وإغراق الدولة في مزيد من القروض، ممّا يجعل قيمة العملة الوطنيّة في تدهور مستمر وآفاق التعافي من الأزمة الاقتصاديّة أمرا بعيد المنال. ولعلّه من الطبيعيّ أن تشهد الأسعار ارتفاعا جنونيّا، وأن تعجز المنظّمة التي تدافع عن حقوق الطبقة العاملة[3] عن إيجاد توازن بين الأجور وحجم النفقات، ممّا جعل كثيرا من المنتمين إلى الطبقات الوسطى ينحدرون إلى طبقة الفقراء.

كانت تجربة الحكم نقطة افتراق كثير من الإخوان؛ فبعضهم كان متشدّدا في الدفاع عن المبادئ الأولى التي ناضل من أجلها وتكبّد المشاق من أجل الدفاع عنها، وبعضهم الآخر اندفع نحو السلطة رغبة في الحفاظ عليها ولو كان ذلك على حساب المبادئ الأولى التي ناضل من أجلها والتخلّي عن الأسس التي أقام عليها دعوته. وظلّت شعارات مثل "الإسلام هو الحلّ" أو "بالقرآن دستورنا" مجرّد عناوين لجماعات تفرقت طرائق قددا. وازداد الإخوان افتراقا حين تراوحت مواقفهم بين استرضاء القواعد التي آمنت بمقولاتهم وصدّقت حلمهم وببين الشرعيّة الدوليّة التي فرضت عليهم كثيرا من القواعد السياسيّة والمسارات الإصلاحيّة في الاقتصاد تحت ضغط الدَّيْن وإكراه الحاجة. ولئن اتّجه بعضهم نحو المشاركة السلميّة في حكومات ديمقراطيّة، فقد آثر البعض الآخر الاستقواء بالأجنبيّ واختيار العنف من أجل الوصول إلى الحكم. فشرّع بعنفه عنفا مضادّا وكانت النتيجة خراب الديار وهجرة السكان ومزيدا من النفوذ الخارجيّ مثلما حدث في سوريا.

لقد أضحى الإسلام السياسيّ تعبيرا عن رغبة هوويّة في إثبات الاختلاف ونيل السلطة، وتأسّست كثير من مقولاته على ردود أفعال في علاقته بالأحزاب الداخليّة أو الإيديولوجيات العالميّة، مثل الرأسماليّة أو الشيوعيّة. وظلّ يفتقر إلى رؤية تتيح الخروج من دائرة ردود الأفعال تلك. ففي الوقت الذي كان للشيوعيّة أثر سياسيّ واقتصاديّ في العالم اتّجهت كثير من المقاربات الإخوانيّة إلى محاكاتها في "العدالة الاجتماعيّة" مثل سيّد قطب؛ ولكنّ الإخوان انخرطوا في المنظومة الرأسماليّة، وقبلوا فروضها الدوليّة حين تولّوا السلطة زمن الهيمنة الأمريكيّة. وقد أثّر هذا الارتباك الإيديولوجيّ في سياساتهم التي لم تعرف منهجا واضح المعالم ولا افترعت سبلا جديدة في السياسة والاقتصاد، بل إنّها احتلّت مواقع الأحزاب القديمة التي كانت تسمها بالفساد والعجز، واستغلّت هياكلها لبسط نفوذها وتحقيق مصالحها.

كانت نهاية ألفة الإخوان حين تحوّلت أحلامهم بإقامة دولة أو رابطة إسلاميّة إلى آمال بممارسة عمل سياسيّ تحت راية حزبيّة وفي حدود دولة قطريّة؛ فحين خاض الإخوان تجربة الحكم واختبروا مقولاتهم النظريّة على أرض الواقع ازداد تفرّق شملهم وتباينت مواقفهم وكانت خطوط الصدع بينهم ناتجة عن خلطهم بين الدينيّ والسياسيّ. فلئن كان هذا الخلط سببا في فتن المسلمين وافتراقهم وتحوّل الصراع من وجهات خارجيّة إلى اقتتال داخليّ بينهم، فإنّ احتكار الإخوان للدين والزجّ به في الصراع السياسيّ قد أدّى إلى تفرّق شمل الإخوان أنفسهم مادامت للدّين قابليّة للاختلاف في التأويل ومادامت السياسة بحثا مستمرّا عن الممكن من أجل مقاربة مشاكل الواقع وإدارة شؤون الدولة.

[1] حركة النهضة إشكاليات السلطة والحكم بعد الثورة التونسيّة، مركز الفكر الاستراتيجيّ للدراسات، ص ص 6، 7

انظر الرابط التالي:

https://fikercenter.com//assets/uploads/ حركة-النهضة-..-إشكاليات-السلطة-والحكم-بعد-الثورة-التونسية.pdf

[2] الكر محمّد، الإسلام السياسي في ظلّ الإيديولوجيّة التكفيريّة للجماعات المسلّحة وآليات المعالجة بين أطروحات المواجهة وطرائق المصالحة (1990- 20126) الجزائر أنموذجا، ضمن كتاب: إشكاليّة الدولة والإسلام السياسيّ قبل وبعد ثورات الربيع العربي، دول المغرب العربي نموذجا، ط1، ألمانيا، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، 2018، ص 118

[3] عنينا الاتحاد العام التونسي للشغل.