لطيفة كرعاوي: أهمية المتخيل في دراسة الأديان


فئة :  حوارات

لطيفة كرعاوي: أهمية المتخيل في دراسة الأديان

لطيفة كرعاوي باحثة تونسيّة في اختصاص الحضارة، متحصّلة على شهادة الماجستير في اللغة والآداب والحضارة العربيّة برسالة بحث عنوانها: "صور الفردوس والجحيم في المتخيّل الإسلامي" تحت إشراف الأستاذ فرج بن رمضان، وقد نُشر هذا العمل في كتاب بدعم من مؤسّسة مؤمنون بلاد حدود والمركز الثقافي العربي.

والباحثة مهتمة بمبحث المتخيَّل، وشاركت في بعض الندوات العلميّة، وبصدد إعداد أطروحة دكتوراه في موضوع: "المتخيَّل الجغرافي الإسلامي بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية" تحت إشراف الأستاذ بسام الجمل، وتنتمي إلى وحدة البحث في "المتخيَّل" التابعة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، ولها مجموعة من المقالات والدراسات قيد النشر.

*****

سامح محمد إسماعيل: يلعب المتخيَّل دورًا كبيرًا من حيث دلالته الأنثروبولوجية التي قد تحمل تأويلا للعالم كما يقول جيلبار دوران، ويشق طريقه بوصفه قانونا وضعيا للعالم، كيف يلعب المتخيل دوره في تشكيل العقل الجمعي ومنطلقاته؟ وإلى أي مدى يمكن اعتباره مصدرًا من مصادر المعرفة؟

لطيفة كرعاوي: تعطي النظريات الحديثة المشتغلة بمبحث المتخيَّل أهميّة كبيرة للمتخيل، بما في ذلك جيلبار دوران حتى إنه يعطيه مكانة أهمّ من العقل؛ فالمتخيّل هو منطلق معرفة كل شيء بما في ذلك المتخيّل الجمعي وحتى عمل العقل نفسه.

دوران ينقد التصور السائد الذي يعطي العقل أهميةً قصوى على حساب الخيال، أو من يجعله تابعا له، والحال أنّ نشاط الخيال قد يكون سابقا للعقل. لهذا يؤكد أنّ الأكاذيب أولى بالاعتبار من الحقائق، ويبدو بالنسبة إليه أنّ "الأكاذيب الحيويّة"، والعبارة له، هي الأصح والأكثر صلاحية من "الحقائق القاتلة".

سامح محمد إسماعيل: هناك ارتباط مّا بين المتخيَّل والأسطورة، خاصة فيما يتعلّق بالبنى الرمزيّة وسيميائيّة الخطاب القائم على نظام لغوي معيّن، فكيف يمكن في هذا السياق المعرفي رصد الحدود الفاصلة بين المتخيَّل والأسطورة، خاصة فيما يتعلَّق بالفعاليّة الرمزيّة والدلالات الإشاريّة؟

لطيفة كرعاوي: أعتقد أنّ العلاقة بين المتخيَّل والأسطورة وثيقة الصلة، متينة الروابط، ولا يمكن دراسة أيّ منهما بمعزل عن الآخر، وإنْ كان حقل المتخيَّل أشمل من الأسطورة وغيرها. فالأسطورة هي بمثابة الرحم الذي تنبعث منه الصور مترجمةً للهواجس والأحلام والآمال والرغبات، وكل تمثّلاتها للوجود معبرةً بها منذ الأزل عن ثنائية الحياة والموت، وهي أيضا من أقدم النصوص التي يجد فيها المتخيّل ضالته؛ فيتجلّى فيها كأبرز وأعمق ما يكون التجلّي، فينتعش وينهل من المخزون الرمزي الذي يستبطنه المتخيّل الجمعي. بيد أنّ الأسطورة كلام منكر لتخيّليته ومن ثمَّ منكر لرمزيته، فالشعوب والجماعات لا تعترف عادةً بأنّ أساطيرها هي أساطير كما يراها الآخر، بل هي في نظرهم حقائق، وهي لا تعترف بالأسطوريّة إلا متى تعلّق الأمر بالآخر.

سامح محمد إسماعيل: في مرحلة ما قبل الديانات الإبراهيمية استلهم العقل الجمعي طروحاته وفق عقلية العصر، وطورها قدر المستطاع لتلائم ظروف واقعه المعاش، وتطور نظمه السياسية والاجتماعية، فمثلا جاءت نظرية الملك الإله لتواكب نشأة الدولة، وتطورت نظريات نشأة الخليقة وفق المتغيرات السوسيولوجية، وحاجات العقل الجمعي لترسيخ ثوابت بعينها ومنظومة قيم تتماهى وحاجات الإنسان، كيف يمكن أن نقترب أكثر من هذا، ونرصد بعضا من تلك المؤثرات التي شكلت الوعي الديني في تلك المرحلة الباكرة من التاريخ الإنساني؟

لطيفة كرعاوي: تطور الوعي الديني للعديد من الشعوب القديمة من مرحلة تعدّد الآلهة بتعدّد الظواهر الطبيعيّة ووظائفها إلى مرحلة الإله الواحد المتحكم في جميع المظاهر الطبيعية، وتجاوز نفوذ الإله المدينة الواحدة، ليصبح الإله المسيطر على المناطق الواسعة، أو هو الإله "القومي" الذي يمتد نفوذه امتداد نفوذ الدولة أو الإمبراطورية المهيمنة. وفضلا عن هذا لم تعد الشعوب تنظر إلى آلهتها على أنها تلك التي تسكن المعابد أو الهياكل، بل آثرت تجريدها والسمو بها إلى السماء لا الأرض، فتشكل الوعي الديني وفقا لمعطيات الواقع زمانيا ومكانيا، ويمكن أن نرصد هنا وهناك عديدا من المؤثرات التي تداخلت فيها عناصر الطبيعة بعوامل التطور الاجتماعي والاعتبارات السياسية والصراعات العسكرية.

سامح محمد إسماعيل: تمثل الديانات الإبراهيمية تقدّما ملحوظا في سياق تطوّر الوعي البشري وإدراكه للعالم الغيبي، خاصة فيما يتعلّق بمسألتيْ التوحيد وخلود الروح، هل ثمّة مؤثّرات سابقة على تلك المرحلة ساعدت على تشكل هذا الوعي وترسيخ منطلقاته؟

لطيفة كرعاوي: تُقدّم الديانات المكرّسة لمقولة الإله الأوحد نفسها على أنّها ممثّلة للدين الحقّ وللحقيقة، على خلاف الأديان الأخرى التي تتّهمها بالشرك والوثنيّة والضلال، بيد أنّه من الصعب التسليم بأنّ التوحيد بدأ مع الأديان التوحيديّة الثلاثة المعروفة، أي اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، لابدّ من وجود إرهاصات سابقة لليهودية، ولا شكّ في أنّ فكرة التوحيد وكل ما يتعلق بها من تفاصيل العالم الأخروي بما في ذلك خلود الروح قد مرّت بمراحل من الاختمار قبل أن تستقرّ في شكل ديانة منظّمة منتهية، ولا شك في أنّ هذا الاختمار ساهمت فيه أديان سابقة بشكل أو بآخر، قليلا أو كثيرًا، إلى أن استوى توحيدًا خالصًا.

لا أحد بإمكانه أن ينفي أنّ اليهوديّة، باعتبارها أولى الديانات التوحيديّة الرسميّة خطت خطوات مهمّة في مجاليْ التوحيد والتجريد، لكن هل يستقيم الحديث عن الديانة اليهوديّة مثلا بمعزل تام عن الوسط الديني الكنعاني وعن الأصول الأولى للتوحيد الإبراهيمي "الإيلي"؟ وهل يمكن الحديث أيضا عن "يهوه" إله العبرانيين بمعزل عن "إيل" إله كنعان ومنافسته للإله "بعل"؟ إضافة إلى هذا، كان للبابليين والفرس والمصريين إرثا دينيا وحضاريا عريقا سابقا لليهوديّة. فالبابليون، مثلا، قطعوا مراحل مهمّة في علم الفلك، ومالت معتقداتهم إلى التجريد أكثر فأكثر، وبدأت أفكار التوحيد لديهم تتشكل، واليهود تأثروا كغيرهم من الشعوب بالأفكار والمعتقدات الدينيّة البابليّة والسومريّة والآشوريّة والمصريّة وغيرها، ويبدو أثر الأديان السابقة لليهودية فيها في مواضيع مختلفة اقتبستها منها، على غرار فكرة الثواب والعقاب والصراط والجنة والشيطان والملائكة وغيرها من المواضيع. في تاريخ مصر القديم، نجد للتوحيد جذورا ممثّلا في الملك أخناتون، ومعلوم أنّ أخناتون سابق لليهودية ولعهد موسى. الزرادشتيّة بدورها خطت خطوات مهمة في اتجاه التوحيد فقد رفضت تعدّد الآلهة ورأت في الإله "أهورا مزداه" (Ahura Mazdah) رمزَ الحكمة والحب والخير.

هذه الأمثلة وغيرها تدفع الباحث إلى القول: أولا، إنّ فكرة التوحيد وما يتعلق بها ليست من اكتشاف الأديان التوحيديّة الثلاثة، رغم أنّ هذه الأخيرة تشكّل حلقة مهمّة في تطوّر الوعي الديني وإدراكه للعالم الغيبي وفي تاريخ تطوّر الأديان من الشرك إلى التوحيد، وما يُحسب لها أنّها نظّرت لفكرة التوحيد وأدخلتها ضمن منظومة كاملة. ثانيا، إنّ التوحيد نتاج لتراكمات وتأثيرات أديان سابقة، ثالثا، تبدو فكرة التوحيد هاجسَ كل ديانة متطورة، رابعا وأخيرًا إنّ التوحيد كان من نتائج آخر مراحل الصراع بين الديانات الأموميّة والبطريركيّة.

سامح محمد إسماعيل: الحياة الآخرة تمثل مقاربة ذهنية لتصورات العقل البشري عن النعيم اللامحدود والعذاب اللامحدود، فكيف لعب المتخيّل والموروث كلاهما دوره في تشكّل هذه التصورات؟ فالفردوس ابن الواقع البشري، وكذلك الجحيم، فالنخيل والأعناب والرياحين والرمان والحور الحسان كلها نماذج حسية تنتمى للبيئة التى تمّ فيها تداول النصّ المؤسّس؟ وكذلك تمثل النار نموذج الألم الحسي الأقصى في زمن الرسالة، فهل يمكن القول إن النص ابن البيئة؟ وابن العصر؟ وهل يمس ذلك قداسته؟

لطيفة كرعاوي: إن خصيصة المتخيّل أنّه يوسّع الأفق: فهو، وعلى طريقته، يفصّل ما هو مجمل ويشرح ما هو مبهم ويشخّص ما هو مجرّد ويضخم ما هو مألوف ويبسط ما هو معقد، ويعوض ما هو مفقود، إنه إجمالا يعزف على الأوتار الحساسة في الإنسان والرغبات الكامنة فيه ترغيبا وترهيبا.

لا يمكن بحال لدارس المسائل الدينية أن يغض الطرف عن الجغرافيا، فالجغرافيا تساعدنا على فهم منطق الدين، الحيوانات مثلا، حيث تعامل القرآن مع الحيوانات التي يعرفها المسلم في بيئته، أكيد يمكن القول إن النص ابن البيئة، وابن العصر؟ في مسائل عديدة، فالسور المدنية مثلا مرتبطة بظروف بعينها، أمّا في الاهتمامات ذات الأبعاد الإنسانية الكونية؛ فهنا يصبح القرآن غير مقيد بزمن مثل: برّ الوالدين، صلة الرحم، الإحسان، الصدق.

وأعتقد أن ذلك لا يمس قداسة النص، فكلما تمكنا من تطبيق مناهج متطورة على القرآن، كلما استطعنا الخروج بنتائج جديدة، فما قام به محمّد أحمد خلف الله في الفن القصصي في القرآن، لا يمكن بأي حال أن يمس قداسة النص أو يسيئ إليه.

سامح محمد إسماعيل: تمثل النصوص الثواني نموذجا لسطوة المتخيَّل على النص المؤسس، حيث يصبح فض الاشتباك بينها وبين التاريخ الذي تتبدى فيه، وتستقي مادتها منه أمرا عسيرا، كيف يمكن التعاطي مع النصوص الثواني التي اكتسبت قداسة، وأصبحت مصدرا للتشريع رغم تاريختها وتموقعها في عصر بعيد بات مفارقا لما نعيشه؟

لطيفة كرعاوي: الجواب في نهاية السؤال الذي طرحتَ: الحل هو الإقرار بنسبيتها وإنسانيتها وتاريخيتها، وإخضاعها لمناهج النقد التاريخي وتفكيكها للوقوف على حقيقتها، ثم الانطلاق لمساحات أكثر اتساعا ورحابة، المشكلة أن النصوص الثواني أصبحت مصدرا رئيسا من مصادر التشريع، حتى باتت تتجاوز النص المؤسس، وفي بعض الأحيان تهمشه، بدعوي أنها تشرحه وتفسره، وهو ما يقف أمام استلهام روح النص، والوقوف على منطلقاته الحقيقية وجوهر رسالته.