لغتنا هويتنا: لماذا صار العربي مهملًا؟


فئة :  مقالات

لغتنا هويتنا: لماذا صار العربي مهملًا؟

لغتنا هويتنا: لماذا صار العربي مهملًا؟

 محمد أمجد كرارة

في مقال لمصطفى صادق الرافعي تحت عنوان {الاستقلال}، يقول: "وما ذلَّت لغةُ شعب إلا ذلَّ"([1]). حاولت فهم استباق الحدث، فأيُّهما يسبق الآخر؟ ذلّ اللغات، أم ذلّ الشعوب، فلو قلنا إن الأولى - أعني ذلّ اللغة - ستأتي بذل أهلها فيما بعد، لما كان للعرب أن يقعوا ضحية استعمار واستبداد وذلّ موغل في حياتهم؛ وهم ما قبل الاستعمار كانوا أهلًا للغتهم. أما لو قلنا إن الثانية - ذلّ الشعوب - ستعود بالذلّ على اللغة، فهنا نكون قد أدركنا بعض الصواب - حسب رأيي - فابن خلدون قال ذات مرة: "إن المغلوبَ مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"([2])، وبالتالي، فإن العرب أمام أنفسهم قوم منهزمون خاسرون، وحين يبحث أحدهم عن النصر وأسبابه، يُخيّل إليه أن النصر في اعتقاد ما اعتقده الرجل الأبيض الأوروبي.

طه حسين والعربي المُعاصر:

في كتابه "خصام ونقد" الصادر عام 1955م، حاول عميد الأدب العربي، طه حسين رحمه الله، أن يشرح أسباب إهمال العربي المُعاصر للغته وهويته، وظهور بوادر الكتابة العامية وقتذاك، على يد من أسموا أنفسهم - عَنوةً - بحركات التجديد والتغيير في الأدب، وما هم بتجديد أو تغيير، إنما هم في أوهامهم يسبحون، فأشار إلى أن ذلك الإهمال يتأتى من الشعور الانهزامي لدى العربي المعاصر، بجانب التقاليع الغربية التي غطت على أغلب جوانب حياته، نظرًا للخواء المعنوي والوجودي الذي صار يشعر به حيال سعة الفجوة بينه وبين تراثه، فهناك العديد من خريجي كليات التربية والآداب قسم اللغة العربية لا يقدرون على البحث في بطون كتب التراث، ككتاب الأغاني، ولا يعرفون لها فهرسًا([3]). فإن تسلل ذلك الفتور بين المُتخصص اللغوي والتراث العربي، فما بالك بالعامة الدهماء!

فكان من الطبيعي، من وجهة نظري ونظر أستاذنا طه حسين، أن تتسلل العامية الغلفاء إلى كتبنا المطبوعة المنشورة المقروءة، فتنخر تلك المُجتزة - أعني العامية - عقول ونفوس أبناء العرب، فيصير أحدهم مسخًا، يُجيد لغة الأوروبي، لكنه غير قادر على البحث في لغته.

هلك المتنطعون!

علّ السبب الرئيس الذي يتشنج به قليلو العلم أن العربية لغة صعبة عصية على الفهم، ومثل هؤلاء لا يكلفون أنفسهم عناء البحث والتنقيب، وأنا لا ألوم أحدهم، إنما اللوم يكون على المتنطعين الذين يظنون في أنفسهم حين يتحدثون بالعربية أنه لابد العودة إلى أهل البادية في لسانهم، فترى ألفاظًا عفا عليها الزمن، وأكلها الدهر وشربها وقضى حاجته عليها.

فلقد كانت اللغة الفُصحى - ولا زالت - معيارًا لعقلية الكائن اللبق السلس، ولم تكن يومًا قاصرة على فئة بعينها، بل هي مُشاعة للعامة والخاصة. وليس للتنطع عليها من سبيل، فقد قال النبي الأعظم (ص): «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون»([4])، والتنطع هنا ليس محصورًا في دائرة الدين فحسب، بل في كل شيء، حتى اللغة؛ وهي أساس وعماد القول، وهي أسلوبك ووسيلتك للتواصل، فقد قال النبي محمد (ص): "إِنَّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا"([5]). فكلما كان الأسلوب سلسًا سهلًا، كلما شدّ إليك القاصي والداني، أما أهل التنطع، أصحاب النخبوية اللغوية، فليس لهم علينا سلطان، فما كان هناك إنسان أشد على المتنطعين من الرسول الكريم.

فليس شرط الكتابة بالقول الفصيح أن تكون رافعيّ اللغة (نسبة لمصطفى صادق الرافعي، والذي رأى الكثيرون - وأنا منهم - أنه تنطّع كثيرًا في مقالاته، فأحدث فجوة بين القارئ والفكرة المراد توضيحها)، بينما تملك بين يديك كتبَ وعقلية رجل كفقيد اللغة طه حسين، والذي لم يكن ينطق حرفًا عامّيًا واحدًا في مجالسه ومحاضراته، وحين ينفض المجلس، يكتشف الجمع الحاضر أنهم وعوا وفهموا كل ما جال على لسان الأستاذ رحمه الله.

الفُصحى هوية كل العرب:

وكل من قال إن اللغة قاصرة على أصحاب دين ما، وما أكثر المتقوّلين بمثل تلك الترهات، فنقول لهم: إن اللغة انعكاس للهوية، والهوية أشمل من أيّ دين، فهويتنا الشرقية، مسلما كنت أو مسيحيا أو يهوديا، تدفع بك إلى التعبير عنها بلغة الشرق الأسمى، وهي العربية، وليس اعتدادي بهويتي من منطلق أثيني مثلًا، بل هو الحق في نظري. وكما يصلح للألماني والفرنسي أن يتفاخر كُلٌ منهما بهويته ولغته، فلي أنا أيضًا الحق نفسه؛ ما دام كان للغتي تاريخ عريق.

ثم إن كل من قال إن اللغة العربية تخص المسلمين وحدهم، فقد فاته الكثير من العلم، بل وتملّكه الجهل. فإليك إبراهيم اليازجي، وهو شاعر عربي وأستاذ لغوي عالي المستوى، لا يُشقّ له غبار؛ كان مسيحيًا، فانتدبه المرسلون اليسوعيون للاشتغال في إصلاح ترجمة الأسفار المُقدسة، وله العديد من المؤلفات والمقالات في اللغة، وجُمعت مقالاته اللغوية في كتاب سُمي بـ {لغة الجرائد}، وهو القائل:

"تَنَبَهوا وَاستَفيقوا أَيُّها العَرَب ** فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ

فيمَ التَعلُّلُ بالآمالِ تَخدَعَكُم ** وَأَنتُم بَينَ راحاتِ الفَنا سلُبُ"

وهذا الأب العلامة اللغوي أنستاس ماري الكرملي، صاحب مجلة اللغة العربية العراقية؛ كان شاعرًا وراهبًا وأستاذًا في مقارنة الأديان وعلم اللغات، وله العديد والعديد من الصولات والجولات مع عمالقة اللغة، ويظفر الأرشيف بمثل تلك المعارك اللغوية الدسمة، وأتمنى من القارئ العودة إلى المجلة المُشار إليها.

وهذا مكرم عبيد زعيم الأقباط، لا يُناظره أحد؛ فما من زعيم كفؤٌ له في بلاغته، ومازالت كتبه شاهدة وحاضرة على لغويته الفذة وعلمه الرفيع.

وذاك البابا شنودة، كان يحفظ ما يزيد على المئة ألف بيت شعري، وله ديوان في الشعر، وكان دائم الاستشهاد بآيات القرآن الكريم، مثل أستاذه مكرم عبيد، ومن أبياته:

"هو ذا الثوبُ خُذيه ** إن قلبي ليس فيه

أنا لا أملك هذا الثوب ** بل لا أدعيه

إنه ملكٌ لربي ** وقد استودعنيه

عبثًا قربك منه ** هو ذا قلبي اسأليه"

فمن جرؤ وادّعى أن العربيةَ قاصرةٌ على فلان دون عِلّان؟!

يوناني لا يُقرأ:

هؤلاء المهمِلون الذين ظهروا نتيجة العبث المدوّي في عالمنا العربي، فصاروا يُنحُّون الفصحى جانبًا ويستعيضون عنها بالعامية، فمثلهم مثل من استبدل الشر بالخير مطمئن البال، بل وتزداد جرأتهم على العربية، أن يقول أحدهم لقد ولّى ذلك العهد، واليوم عهد الثورة؛ أيّة ثورة تلك! إنما هي الفوضى، فأين مسؤولية المتفوه بذلك الكلام من ثورته وحريته، إن كان يعلم معنى المسؤولية في الأساس. ويقول بعضهم: إن العامية من العربية كما كانت اللغات الأوروبية المحلية كالإسبانية والإيطالية من اللاتينية الأم. ومثل هذا الكلام يحق فيه قول القائل: يوناني لا يُقرأ، فهو كلام بلا معنى ومليء بالتناقضات والأغلاط.

فلُغتنا العربية لم تكن يومًا بمعزل عن الناس كاللاتينية، والتي اقتصر تعليمها على نخبة من رجال الدين، فكان مصيرها عبر القرون أن تخرج اللغات المحلية كتعبير متمرد على السلطة الكنسية التي استحوذت على شتى نواحي الحياة، وأولها اللغة، حتى إن من أراد قراءة الإنجيل كان عليه تعلم اللاتينية أولًا. وبالتالي، خرجت لنا أدبيات ثائرة بلغات محلية على ذلك التسلط الكنسي، مثل الكوميديا الإلهية لدانتي الألجيري (وهي المأخوذة عن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)، وقد كُتبت بالإيطالية لا اللاتينية. ثم مرّ الزمان، حتى جاءت الضربة القاسمة لذلك التسلّط الكهنوتي، حين قام مارتن لوتر كينج مؤسس البروتستانتية بترجمة الإنجيل من اللاتينية إلى الألمانية.

فلو قارنت - عزيزي القارئ - حال لغتنا باللغة اللاتينية، فستقع في الفخ الذي يحاولون إيهامك به، فلا تشابه بين اللغتين في مصير كليهما من الأساس، والمُهمِل الذي يجهل ذلك الأمر، إنما يستحضر لنفسه وقومه وقوع الخراب، وتلك هي الطامة الكُبرى عندي.

فاللغة العربية بعيدة كلّ البُعد عما حلّ باللاتينية.

[1] مصطفى صادق الرافعي، الاستقلال، الرسالة، القاهرة، 1936م.

[2] عبد الرحمن ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، بيروت، دار الفكر، الطبعة الثانية 1988م، ص 184

[3] طه حسين، خصام ونقد، القاهرة، مؤسسة الهنداوي، 2013م، 23

[4] صحيح مسلم، باب العلم، (2670).

[5] صحيح البُخاري، باب الخُطبة، (5146)

البحث في الوسم
اللغة الهوية العرب طه حسين