لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟


فئة :  مقالات

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟

لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الاسلاموية؟([1])

5- عندما يبرر فريق من باحثي الأكاديميا الغربية العنف الذي تمارسه الإسلامويّة

د. وائل صالح

غالبًا ما يبيّض قسمٌ وازنٌ من الباحثين المتعاطفين مع الإسلامويّة، بوعي أو دون وعي، العنف الذي تمارسه الإسلامويّة، سواء بنفي تلك التّهمة عنها بالمطلق دون تحليل معمّق، أو بتجاهل تشريعها وتنظيرها للعنف باسم الدّين. يستبعد هؤلاء الباحثون هذا الجانب من قائمة أدواتهم التحليليّة، مكتفين بالسعي لفهم أسبابه الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، أو بتقديم العنف التي تمارسه الحركات الإسلاميّة كمجرّد انحراف عن نهجها السّلميّ، وأنه ردّ فعل طبيعيّ ضدّ العولمة أو الإمبرياليّة الغربيّة. يتجاهل توصيف هؤلاء الباحثين المتعاطفين مع الإسلامويّين كل الأدلّة التي أظهرتها الوثائق الغربيّة السريّة (بعد مرور خمسين عاما) كيف أن الإخوان المسلمين كانوا باستمرار حلفاء للإمبرياليّة الغربيّة في ضرب مشروعات التحرّر الوطني والنّظم التي حاولت بناء التنمية المستقلّة، ولم يكونوا أبدا أعداءً للرأسماليّة.

‎هناك من الباحثين مثل كيركباتريك David D. KIRKPATRICK - ومن يأخذون عنه - من يُنكر أصلا أن الإسلاميّين يرتكبون أيّ عنف، مُدعيّن أن الإسلاميّين بالأحرى هم الضحايا الحقيقيّين للعنف. بالنسبة إلى هذا الفريق من الباحثين، فإن الإسلاميّين هم مجرّد معارضين لأنظمة الحكم الديكتاتوريّة القمعيّة في الشرق الأوسط، متجاهلين حقيقة أن مراكز ثقل وتحالف جماعة الإخوان الإقليميّة هي في قطر التي لا تطبّق الديمقراطيّة. ويذهب هذا الفريق من الباحثين إلى أن النظم القمعيّة في المنطقة هي التي تدبّر في الحقيقة كل هذا العنف والإرهاب بغرض تشويه صورة الإسلام السياسيّ، وطلبا لدعم الغرب لمساعدتها في التخلص منه، وعادة ما يكتفي هذا التيّار لتبرير ذلك الموقف بالقول إن الإسلاميّين “معتدلون”؛ لأنهم أوّل من يدين أعمال العنف التي تُرتكب باسم الإسلام.

وهناك من الباحثين من يعترف بالمقابل بأن هناك عنفا يمارسه الإسلاميّون بالفعل باسم الإسلام، ولكنه يستدرك قائلا إن هذا العنف يمثل انحرافا عن نهجهم السلميّ نتيجة للسّياق الذي يعيشون فيه، حيث يتمّ قمعهم من الأطراف السياسيّة الأخرى في مجتمعاتهم. وفي إطار هذا الاتجاه، تُستخدَم كل الحجج الأخرى الممكنة لتبرير هذا العنف أو التهوين منه أو حتى تطبيعه، ولا سيما القول إن الإسلاميّين ليسوا الوحيدين الذين يستخدمون العنف في المشهد العالمي الحالي.

‎يستشهد الباحثون الذين يستخدمون هذه الحجة باليمين المتطرف في الغرب وبالدول التي يطلقون عليها الدول “الإرهابية”، ثم يطالبون بفهم ظاهرة التطرّف والعنف باسم الإسلام فقط في هذا السياق؛ أي على أنها عنف مضادّ تلقائيّ لا يتم التنظير له ولا تبريره شرعيّا. وأخيرًا، يرى بعض الباحثين الغربيّين المنتمين إلى تيّار ما بعد الاستعمار أن عنف الإسلامويّة هو مسألة عنف شرعيّ، أو عنف مضادّ، أو نوع من المقاومة أو الانتقام لمرحلة الاستعمار، أو حتى ردّ فعل ضد العولمة أو نتاج للإمبرياليّة الغربيّة، أو ردّة فعل عليها أو نوعا من غضب ضحايا العولمة الرأسماليّة كما يؤكّد سلافوي جيجك على سبيل المثال.

وأخيرا هناك من الباحثين من يستثني من قائمة أدواته التحليلية فكرة “التنظير للعنف باسم الدين”، مكتفيا بالسعي لفهم الأسباب الاجتماعيّة السياسيّة الاقتصاديّة فقط، تلك التي يعتقد أنها الوحيدة التي تحفّز عمليّة التطّرف المؤدّي إلى العنف. هذا التيّار يستثني جماعة الإخوان المسلمين أيضا من دراساته بدعوى أنهم جماعة سلميّة. ويميل هؤلاء الباحثون أيضا إلى قصر تناولهم على دراسة العنف الجسديّ أكثر من العنف الفكريّ أو النظريّ أو الرمزيّ الذي يشكّل المرحلة الأوليّة الضروريّة لأي عنف جسديّ لاحق باسم الإسلام.

ثمّة حقائق وملاحظات لنقد ذلك التيّار المتعاطف مع الإسلامويّة (عرضتُ بعضها في مقالي النقدي لدراسات التطرّف المؤدّي إلى العنف باسم الاسلام المنشور في مجلة “دفاتر أبحاث السياسات التطبيقيّة” التي تنشرها جامعة شيربروك بكندا):

أولاً: يبدو أن هناك لوبيّات أكاديميّة تسعى إلى نشر حالة من “الفوضى المعرفيّة”، التي تسعى إلى تأسيس هيمنة معرفيّة، تهدف إلى فرض تفسير يتوافق فقط مع مصالح الجماعات الإسلاميّة وحلفائها الاستراتيجيّين. من وجهة نظري الخاصة، يجب فهم هذا الاتّجاه الذي ينكر أصلا أن الإسلاميّين يرتكبون أي عنف في هذا الإطار، سواء كان هذا التوجه واعٍ أو غير واعٍ من قِبَل بعض باحثي هذا التيّار.

ثانياً: التحريض على العنف، أو توفير غطاء أيديولوجيّ أو دينيّ أو تنظيريّ يضفي عليه الشرعيّة أو يبرّره أو يحرّض عليه، كلّها أمور لا يمكن استثناؤها من أي تحليل موضوعيّ مُنصف، وبالتالي لا يمكن فهْم التطرّف المؤدّي إلى العنف باسم الإسلام دون أخذها في الاعتبار، فوفقا لنظريّة أوستين عن “أفعال الكلام” «acts speechs of Theorie»، والتي أسّس لها في كتابه الشهير «How to do Things with Words»، والتي ينظر فيها بأنّ الأفعال السلوكيّة، إنما تنجز بالأقوال التعبيريّة التي عادة ما تسبقها وتمهّد لها. وبالتالي، سيكون كافياً لواعظ إسلاميّ مؤثّر أن يقول: “هذا معادٍ للإسلام أو يشنّ حربًا ضد الإسلام” ليعرّض حياة هذا الأخير للخطر. لا يمكن فهم لماذا وكيف يكون الشخص راديكاليّا إرهابيّا باسم فهمه للدّين، دون فهم الأفكار التي تحتوي على بذور العنف، والتي بدونها لا يمكن له أن يرتكب أفعاله تحت الرّاية الدينيّة.

ثالثاً: المناهج والنظريّات والنماذج المعرفيّة التي يلجأ إليها ذلك التيّار من الباحثين في الغرب، لفهم ظاهرة التطرّف المؤدّي إلى العنف باسم الإسلام، نادراً ما تتم مناقشتها بعمق أو التحاور بشأنها بين مناصريها أو إعادة النظر فيها وتحديثها بعد اختبارها وإثبات فشلها، فهذا التيّار يرفع من تخصّصاته العلميّة ونوع المعرفة التي ينتمون إليها إلى مستوى المسلّمات المقدّسة، بينما يقلّلون من أهميّة ما هو غريب عنها أو آت من خارج نطاقها المعرفيّ.

‎يقول “فرنسوا بورغا” إن “الإسلاميّين هم مجرد فاعلين سياسيّين فقط”. ولذا، فهو يقول إنه “يجب علينا التوقّف عن استخدام نهج الدّراسات الدينيّة لفهمهم”، فهو يرفض دراسة النصوص التأسيسيّة للإسلامويّة والتعويل عليها في فهم جماعات الإسلام السياسّي، لذلك يبدو أنه لا يستخدم مقاربة تتماشى مع ظاهرة التطرّف التي تؤدّي إلى العنف باسم الإسلام، ولكنه يركّز بدلاً من ذلك على ما يعرفه ويعرف كيف يتعامل معه؛ أي السلوك السياسيّ الظاهر لهذه الجماعات، ويقلّل في المقابل من أهميّة ما استثناه من قائمة أدواته البحثيّة، وهي الجوانب الخاصّة بنمط التديّن المتطرّف ونصوصه المؤسّسة التي يضعها القادة الفكريّين والسياسيّين لهذه الجماعات. إنه يلغي من قائمة أدواته التحليليّة الاختيار المتعمّد والواعي وبالتالي الإيديولوجيّ للإسلاميّين الذين يقرّرون الانخراط في التطرّف والعنف المسلّح والإرهاب كما يوضّح لنا أستاذ العلوم السياسية الفرنسي من أصول جزائريّة Seniguer Haoues.

يبدو الأمر وكأن بورغا يعمل على “تبييض” أو “غسل” العنف الذي يرتكبه الإسلاميّون، عن طريق تجاهل الأسس الأيديولوجيّة لهذا العنف. خلاصة الأمر أنه ممّا لا شك فيه أن الاختلاف في اهتمامات وتخصّصات ونمط معرفة الباحثين الدّارسين للتطرّف المؤدّي إلى العنف باسم الإسلام يؤدّي لعدم اهتمامهم بنفس الجوانب أو نفس الأبعاد أو نفس مناهج ملاحظة الظاهرة، ممّا يؤثّر بالطبع على نتائج البحث.

رابعاً: إن دراسة وفهم الأعمال الإرهابيّة التي يرتكبها الشباب وفقًا للعوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصادية فقط - على أهميّتها وتأثيرها - هو قصور معرفيّ ومنهجيّ، إذ تتواجد العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة في مجتمعات أخرى، وكأنّها لا تُنتج بالضرورة أعمالا إرهابيّة. بعبارة أخرى، إن الإصرار على هذا القصور المنهجيّ يمكن اعتباره بمثابة “تبييض” للعنف، نتيجة للاكتفاء بالتفسيرات الاقتصاديّة (مثل الفقر والبطالة) أو السياسيّة (مثل الديكتاتوريّة) فقط؛ لأنه يتجاهل عوامل أخرى لا تقلّ أهميّة - إن لم تزد - مثل الحاجة إلى دراسة عقليّة التطرّف التي تكشفها النصوص المؤسّسة لجماعات العنف باسم الدّين، وهو قصور عادة ما يؤدّي إلى فهم مبستر للظاهرة في أفضل الأحوال، وينتهي إلى نتائج جزئيّة ومتحيّزة.

في كل الأحوال لا يجب استبعاد الدّور الذي تلعبه الأيديولوجيّة الإسلامويّة والعوامل الأخرى التي تلعب دورًا في التطرف الذي يؤدّي إلى العنف باسم الإسلام، فإذا كان الإرهاب نتيجة للفقر وعدم المساواة الاجتماعيّة فقط، فسيكون العالم مليئًا بالإرهابيّين من أمريكا اللاتينيّة إلى أفريقيا بشكل خاص، وإذا كانت الديمقراطيّة ترياقًا فعّالًا، فسيتعيّن على الهند، أكبر ديمقراطيّة في العالم، أن تُواجه هجمات أقل من الدكتاتوريّات، مثل ليبيا في أيام القذافي على سبيل المثال. علاوة على ذلك، إذا كان السبب الرئيس للإرهاب هو الصراع العربيّ الصهيونيّ، فلماذا لم يوجّه الإرهابيّون طلقة واحدة نحو اسرائيل [بل توجد أدلّة إسرائيلية علنيّة على أن الإرهابيّين الإسلامويّين في سوريا تم علاجهم في مستشفيات إسرائيليّة وحصلوا على بعض الدعم اللّوجستي الإسرائيلي]، ولماذا يفجّر الانتحاريون مدارس الفتيات في أفغانستان بدلا من دعم مقاومة الشعب الفلسطيني؟ ولماذا يفجّر إرهابيّو مصر الإسلامويّين عام 2017 قنبلة قبل فتح النار على الضحايا، وهم يصلّون الجمعة في مسجد (صوفي) آمن في سيناء، ممّا أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص في لحظات؟

خلاصة الأمر، إن اتّباع مقاربة نقديّة ومتعدّدة التخصّصات يربط بين عوامل التهميش الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والنصوص المؤسّسة والمسوّغة للعنف مثل كتب سيد قطب والمودودي وفرج عبد السلام...إلخ. إن إعطاء كل العوامل وزنها النسبيّ هو أمر ضروريّ لفهمٍ أفضل لظاهرة التطرّف التي تؤدّي إلى العنف - كذبا - باسم الإسلام، دون الوقوع في فخ تبييض العنف. وحدها تلك المقاربة الابستمولوجيّة الشاملة القادرة على إيجاد حلول سياقيّة، وعلى:

1- تجاوز التفسيرات الاستشراقية أو الأصوليّة التي تؤكّد أن الإسلام، باعتباره تعسّفا، هو كدين، في حدّ ذاته، يمثّل العامل التفسيري الرئيس للتطرف المؤدّي إلى العنف.

‎2- تجاوز التفسيرات التي تُبدي تعاطفا أو انحيازا أكاديميّا مع الإسلامويّة بتبرئة نمط التديّن المنغلق والمتشدد الذي يتربوّن عليه في خاصيّة انتقالهم السريع لممارسة العنف، وهي تفسيرات تنكر تمامًا دور النص الإيديولوجي المؤسّس للعنف، وحصر أسباب هذا التطرّف والعنف والإرهاب فقط في التهميش الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، باعتبارها العوامل الوحيدة لهذا العنف.

[1] نشر هذا المقال أوّلا ضمن سلسلة المقالات الصادرة على موقع أصوات أونلاين.