مآلات التباين في مناهج السلفيين المغاربة


فئة :  مقالات

مآلات التباين في مناهج السلفيين المغاربة

ساعد سطوعُ نجم "داعش" على مجرى الأحداث الدوليّة، وردودُ الأفعال التي رافقته على قياس درجة التباين المنهجي بين منظّري التيار الجهادي والسلفي عموماً. ففي المغرب اجتمع من مازالوا يُعرفون إعلامياً بـ"رموز السلفيّة الجهاديّة": أبو حفص وحسن الكتاني ومحمد الفزازي وعمر الحدوشي، على نبذ ممارسات تنظيم "الدولة الإسلامية" الوحشية وسلوكياتها التكفيرية واعتبارها خارجة على الشرع. دون التطرق هنا لموقف عبد الكريم الشاذلي، خامس الشيوخ الجهاديين المعتقلين سابقاً على خلفية الأحداث الإرهابيّة التي ضربت الدار البيضاء سنة 2003، والمفرج عنهم بموجب عفو ملكي في خضم حراك سنة 2011، نظراً لاختياره العزلة منذ الإفراج عنه مفضّلاً الابتعاد عن أضواء الإعلام والإضراب عن كل نشاط ديني أو سياسي علني، مع شيوع الاعتقاد لدى البعض بأنّه تراجع عن كلّ أفكاره المتشدّدة التي ضمّنها عدداً من كتاباته، خصوصاً مؤلفه "فصل المقال في أنّ من تحاكم إلى الطاغوت من الحكام كافر من غير جحود ولا استحلال".

غير أنّ توافق الشيوخ الأربعة حول استنكار ممارسات داعش ورفض خلافة زعيمها أبي بكر البغدادي لا يعني التوافق حول قضايا الفكر والمنهج المؤطرين لخلفيتها النظريّة. وقد أدّى مقال محمد عبد الوهاب رفيقي، الملقب بأبي حفص، بعنوان "بين داعش والخوارج"1، يوم 19 غشت المنصرم، إلى الكشف عن جوانب أخرى أكثر عمقاً في الخلاف المنهجي بينه وبين حسن الكتاني الذي يُعتبر أقرب الشيوخ إليه وأكثرهم مصاحبة له.

بين داعش والخوارج: نحو إعادة النظر في مفهوم السلف الصالح

حمّل أبو حفص في مقاله المسؤولية المباشرة والكاملة للتراث السنّي في تشكيل المرجعيّة النظريّة لداعش ورفض تبريره بواسطة معتقدات الخوارج كما تفعل الخطابات السلفيّة عموماً، وذلك لكون داعش تخالفهم في أهمّ أصلين من عقيدتهم؛ وهما "التكفير بكبائر الذنوب وإنكار العمل بالسُنّة". فالمقال يقوم في الجوهر على مسّ مباشر بالقاعدة الصلبة التي يقوم عليها التيار السلفي ككل، وينطوي على إعادة النظر في مفهوم "السلف الصالح" المقدّس في المنظومة السلفيّة.

وقد صدر أول ردّ فعل على مقال أبي حفص من طرف عصام اشويدر الملقب بأبي الليث، المسؤول الإعلامي للجنة الدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، الذي اعتُقل بدوره في ملف السلفيّة الجهاديّة وأطلق سراحه سنة 2009، في مقال بعنوان "النقل في الردّ على أبي حفص في مسألة لا يطلق اسم الخوارج إلا على المكفّر بالكبيرة"2، تصدّى فيه لمضمون المقال الذي في نظره "برّأ الخوارج"، معتبراً ذلك "من التشويش على من يريد فهم ما يحدث، وضرب من الخلط". كما توالت ردود أفعال أخرى في سياق الدفاع عن التراث السنّي ودفع الشبهات حوله.

غير أنّ الغضب من المقال انتقل إلى مربع ما يُعرف بشيوخ السلفيّة الجهاديّة، إذ بادر حسن الكتاني الصديق الحميم لأبي حفص ورفيقه السابق في المعتقل إلى نشر ردّه على صفحته الفيسبوكية، يوم 25 غشت، بعنوان "هذا موقفي من مقال رفيقي حول داعش والخوارج"، قال فيه: "والحقيقة أنّني تمعّنته جيداً فوجدت فيه ظلماً لتراثنا الإسلامي وتبرئة لخوارج اليوم من الانتساب لأجدادهم خوارج أمس". كما استنكر ما تضمّنه من "كثرة النقد لتراثنا الإسلامي دون منهج معيّن مستمّد من العلم الصحيح"، حسب قوله.

ولم يكن عنف الردود مقتصراً على عباراتها القاسية، بل استبطن بعضها تشكيكاً مضمراً في الكفاءة العلمية لأبي حفص أو طعناً في التزامه بالمسلك الشرعي في النقد، وهو ما ترجم بمناداته بكلمة "الأستاذ" في ردّ اشويدر وعبارات "الأخ والصديق واﻷستاذ" في ردّ الكتاني، بدل عبارة "الشيخ" التي عادة ما يردف بها اسمه خاصّة في المناقشات ذات المحتوى الشرعي.

رموز السلفية الجهادية: تباين منهجي، وتفاوت في التكوين الشرعي

يُعتبر نقد حسن الكتاني الذي تناقلته المواقع الإلكترونية على نطاق واسع ضربة فارقة لمنهجين يتطوران نحو القطيعة، وليس مجرّد تقارع في الآراء والمواقف، أي المنهج المقاصدي المنفتح على القراءات الحديثة للفكر الديني لدى أبي حفص، ومنهج نصوصي "مركّب" منغلق في المنظومة السنيّة التقليدية لدى حسن الكتاني، ممّا يثير التساؤل حول مصير العمل المشترك بينهما في إطار "جمعية البصيرة للدعوة والتربية" التي يرأسها الكتاني ويشغل فيها أبو حفص منصب نائبه. وقد عبّر الأول عن نفوره من منهج رفيق دربه، في ردّه السابق الذكر، بالقول: "فقد ذكرت لك مراراً أنّي كنت من أنصح الناس لك، وأكثرهم دفاعاً عنك، حتى اتّسع الخرق على الراقع، ورأيتك مصرّاً على منهجك الذي يتطوّر سريعاً إلى وجهة لا أدري أين تنتهي"، موجّهاً له سؤال لوم وتحسر: "فإذا كان التراث الإسلامي العظيم غير صالح لزماننا فما هو البديل عنه بالله عليك؟" مضيفاً بالنبرة نفسها: "أليس هذا عين مقولة متديني العلمانيين الذين يقرؤون القرآن ويحبّون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنهم يزعمون تاريخية النصوص، وأنّ الشرائع القديمة لا تصلح لزماننا"؟

ولا يقتصر الخلاف المنهجي على حالتي أبي حفص والكتاني فقط، بل يشمل رفيقيهما السابقين في المعتقل عمر الحدوشي ومحمد الفزازي، اللذين فضّلا تجاهل المقال والإحجام عن الخوض في المسائل الخلافية. ومهما كان موقف رموز السلفيّة الجهاديّة، المعلن أو المضمر، من مقال أبي حفص فإنّه لا يخرج عن نسق المنهج الذي يسير عليه كلٌ منهم. فبالعودة إلى التكوين الفكري لشيوخ التيار السلفي الجهادي بالمغرب ونمط مقاربتهم الشرعيّة يتبيّن افتقادهم لأصول موحّدة حتى قبل تجربة الاعتقال التي عاشوها عقب تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003. غير أنّ "خصوصياتهم المنهجيّة" التي يتمّ طمسها ونكرانها غالباً برفع شعار "وحدة الأهداف" أو عبارة "الاختلاف رحمة" ستزداد ملامحها وضوحاً، كما ستزداد أفكارهم تباعداً، حتى تبلورت في أربعة أنماط متباينة أو مناهج مستقلة في التفكير والتفاعل مع مختلف الأحداث والقضايا.

أبو حفص: المنهج المقاصدي

تربّى أبو حفص على حُبّ الجهاد وتشرّب ثقافته، وكان قريباً من والده الذي اصطحبه معه سنة 1990، وهو في سن السادسة عشرة، إلى معسكرات المجاهدين بأفغانستان حيث كان متطوعاً كممرّض ضمن صفوف الأفغان المغاربة. كما تلقّى تكوينا دراسياً في التعليم العمومي وحاصل على البكالوريا في العلوم التجريبية، غير أنّه ترك التعليم العصري في المستوى الجامعي تخصّص "فزياء/كيمياء"، وانقطع للعلوم الشرعية التي كان يتلقاها منذ صغره، بالتوازي مع تعليمه النظامي على الطريقة التقليدية بواسطة عدد من مشايخ الدار البيضاء وفاس، لينتقل إلى السعودية ويحصل فيها على شهادة الإجازة من جامعة المدينة المنوّرة قبل عودته إلى المغرب، حيث حاز على دبلوم الدراسات المعمّقة من كليّة الآداب بفاس وسجّل في سلك الدكتوراه بالكُليّة نفسها.

وبمجرد دخوله المغرب أخذ يفصح من خلال خطاباته ومقالاته عن توجّه "سلفي جهادي" ينتظم في خط الجهاد العالمي الذي رفع لواءه تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، حيث وصف صنيعهما في أحداث 11 سبتمبر 2001 "بالعُرس المبارك الذي لم تكتمل أطواره"، قبل أن يلتمس منهجاً جديداً يقوم على الأبعاد المقاصدية للشريعة من أجل صياغة نموذج بديل للتديّن منفتح على هواجس الشباب ووضعية المرأة وجماليات الفن، بل عبّر عن جرأته في الإدلاء بحوار خاص لموقع شيعي مغربي3 وهو موقف لم تسبقه إليه حتى قيادات الحركة الإسلامية التقليدية، كما أصدر سلسلة من المواقف الشرعية "الجريئة" المشرعنة لأدوات التغيير المدني الحديث والمتماشية مع رغبته في التطبيع مع المجتمع ومكوّناته، رغم لزومه خط المعارضة للدولة في الجوانب السياسية والحقوقية، لا سيما أنّه صار يشغل منصب نائب الأمين العام لحزب النهضة والفضيلة الذي لم يقم حتى الآن بأيّ نشاط هام ـ خلافاً لما كان منتظراً- رغم التحاقه به رفقة سلفيين آخرين منذ صيف 2013.

حسن الكتاني: المنهج المركّب

أمّا حسن الكتاني فلم يكن سلفياً بالمعنى "الأرثوذوكسي" للكلمة، إذ كانت دروسه المسجديّة تقوم على مراجع الفقه المالكي، وإن كان يتصرّف باجتهاده الخاص في المسائل الفقهيّة، كما ألف كتاباً ـ إبّان تجربته السجنيّة- بعنوان "إظهار البشاشة في الجواب على أسئلة سجن عكاشة"، سنة 1420هـ (الموافق لسنة 1999م)، جمع فيه ردوده على استفسارات أتباعه حول المذهب المالكي ورجالاته، وقد "رثى" في أولى مسائل الكتاب الضعف الذي آل إليه المذهب في المغرب لكون العلمانيين، بحسب قوله، "حاربوا الدين كله حرباً شعواء، وأغلقوا أهم معاهده كالقرويين وغيرها، ثم فتحوها مع تفريغ محتواها، قاتلهم الله أنّى يؤفكون".

وهو على المستوى التربوي متأثر بالتوجّه الصوفي وكثير الاحتفاء برجالاته، لتتلمذه على بعضهم وقربه من الزاوية الكتانيّة التي ينتسب إليها جزء مهم من عائلته، ويتميّز خطابه بالمرونة في تمثل التصوّر العقدي، على الرغم من مقوماته السلفية، وهي المرونة نفسها طبعت سلوكه إزاء الحركة الإسلامية حتى أنه شارك في تحرير جزء من مشروع "البصيرة" الذي يجمع أدبيات حركة الاختيار الإسلامي، ولم يتردّد في التشنيع على الدعوة النجديّة بسبب تضييقها في "العذر بالجهل" المسبب لتوسيع دائرة التكفير4، وفي المقابل يُعرف عنه شدّة النكير على التيار الحداثي والقدح في مشاريعه، واشتراكه مع السلفيين الجهاديين في تبنّي القراءة الظاهرية للنصوص الشرعيّة وكيل التهم للسلطة بتهميش الشرع وتغليب المحرّمات.

وقد احتفظ باختياره المذهبي "المركّب"، الذي يعتبره البعض "هجيناً"، بعد خروجه من السجن، ممّا جعله هدفاً لأقلام أتباع الشيخ عبد الرحمن المغراوي، المحسوب على السلفيّة العلميّة، حيث بادر أبو الوليد المغربي بتحرير مقال، نُشر في يناير 2014، بعنوان "المدد الرحماني في بيان انحراف الشيخ حسن الكتاني" بسبب ما اعتبره طعناً منه في الشيخين محمد ناصر الدين الألباني ومحمد تقي الدين الهلالي. وقد قال عنه: إنّ "ميله إلى التصوّف أكثر من ميله إلى السلفيّة، أو إنّه يريد أن يفصّل سلفيّة خاصة به بحيث يجمع بين النقيضين السلفيّة والصوفيّة؛ لأنّه يرفض التخلي عن إرث أجداده المغرقين في التصوّف لكي يبقى له ذلك المجد الموهوم، فإنه إذا تبرّأ من أقربائه الكتانيين الخرافيين لم تبق له سمعة ولا شرف ولا مكانة".5

عمر الحدوشي: المنهج الحديثي

ظلّ عمر الحدوشي وفيّاً لمنهجه السابق على الاعتقال، شأنه في ذلك شأن حسن الكتاني، غير أنّه يصدر في مواقفه عن الرؤية السلفيّة في أنقى أصولها كما صاغها أهل الحديث، التي لن تقبل بأيّ مأخذ على الموروث الديني، ولن تعمل في أحسن الأحوال إلا على تبريره، كما ترفض المذهبية وتعادي التقليد، وتنفر من الرأي والقراءات المقاصديّة، وتعلي من شأن الأثر والمرويّات، وتغالي في القول بالبدعة، وتمجّ الفرق الاسلامية ومذاهبها، وتهاجم دعوات التقريب معها، وتشجب منتجات الثقافة الحديثة وقيمها في كل ما يتعلق بحقوق المرأة والطفل والمواطنة والمجتمع المدني.

ورغم تنوّع التوجهات المعرفيّة لشيوخ عمر الحدوشي، الذين كان من بينهم ذوو القناعات الصوفية كعلماء عائلة بن صديق من طنجة، فإنّه انحاز فكرياً إلى المدرسة السلفيّة، بل اقترب من أطروحتها "اليمينيّة" في القول إنّ العمل من شروط صحّة الإيمان وليس مجرّد شرط لكماله؛ كما ألف في الردّ على من يدّعي غير ذلك ممّن يصفهم بأهل الإرجاء. وغداة إعلان فرنسا حربها على جماعتي "أنصار الدين" و"التوحيد والجهاد" لمنع قيام إمارة إسلاميّة شمال مالي، في يناير 2013، وحصولها على دعم المغرب ودول إسلامية أخرى، كان أقوى زملائه عنفاً في التعبير عن رفضها بإصداره بياناً ضمّنه التأصيل الشرعي في تكفير من يظاهر "المعتدين".6

والتزاماً بمنطق المنهج السلفي/الحديثي يرفض الحدوشي، الذي يعترف له في وسط أتباعه ومحبيه بصفة الشيخ المحدّث بشكل مطلق وكُلّي، مؤسسات الدولة الحديثة ولا يتعامل معها إلا للضرورة والاضطرار، ويصبو لإقامة مجتمع إسلامي وفق مفهوم ضيّق للطائفة الناجية اقتفاء بشيخه محمد الأمين بوخبزة الذي يتماهى مع منطق المدرسة الحديثيّة المعاصرة التي نصب أوتادها محمد ناصر الدين الألباني، ويُعتبر تلميذه المصري أبو إسحاق الحويني أبرز ممثل لها في الوقت الحالي. وبالنسبة لنوع علاقته ومواقفه من مكوّنات الساحة السياسية والقضايا الفكريّة فهو أكثر زملائه تجاهلاً لسياسة الدولة وأقلهم اكتراثاً بدور الأحزاب السياسيّة وأبعدهم عن فصائل الحركة الإسلاميّة، وأشدهم عداء للزوايا والطرق الصوفيّة، وأقربهم من منظّري الفكر الجهادي العالمي.

محمد الفزازي: المنهج البرغماتي

أمّا محمد الفزازي الذي كان يقترب من أبي حفص في أصول الفكر الجهادي، واقتفى أثره في تلبّس شخصية الجهادي "التائب"، فلا يبدي بالمقابل أيّ اهتمام بمعوقات التراث الثقافي، واختزل أهم مراجعاته على مستوى البراديغم السياسي الذي جعله يؤمن بأنّ الإسلام لا يقوم إلا بواسطة السلطة القائمة بعد أن كان يعتقد قبل اعتقاله بأنّه لا بعث للإسلام إلا على أنقاضها وفق منهج أسامة بن لادن الذي سبق له أن وصفه بأنّه "صحابي من القرن الحادي والعشرين".

كما تميّز مساره العلمي هو الآخر بازدواجية التكوين المدرسي، إذ كان يتلقى تكويناً عصرياً في التعليم العمومي مكّنه من ولوج سلك الوظيفة العموميّة في التعليم كأستاذ للغة الفرنسية بجانب تكوين ديني تقليدي توّجه بالحصول على "إجازة" في العلوم الشرعيّة من تقي الدين الهلالي، غير أنّ شخصيته ارتبطت أكثر بمخزون معارفه الدينيّة الذي جعله ينخرط في بلورة مفهوم للدين يقوم على مركزيّة الجهاد وينبذ المذهبيّة ويكفر بالثقافة الحديثة ومنتجاتها ذات البصمة الغربيّة، ويتبرّأ من التيار السلفي التقليدي والحركة الإسلاميّة بمختلف أصنافها، ويحكم بالإرجاء على كبار علماء المؤسسة الدينيّة في السعوديّة. وفي هذا السياق أعلن سنة 2001 عن تأسيس جمعية "أهل السنّة"، لتوسيع دعوته، لكنها ظلت بدون اعتراف قانوني لغاية سنة 2003 تاريخ اعتقاله.

وبمجرّد معانقته للحريّة سنة 2011، انبرى لمضاعفة إشارات حُسْن النيّة إزاء السلطة، التي سبق له أن بدأها بتحرير بيان من زنزانته بعد أسبوع واحد من الحراك، يوم 27 فبراير 2011، بعنوان "بيان الشيخ محمد الفزازي حول الحركات التغييريّة في المغرب وخارجه"7، اعتبر فيها الخروج على النظام في المغرب "لا يستقيم ولا يجوز"، وأنّ الوقوف في هذه الظروف مع الدولة المغربيّة وعاهلها "يمليه الواجب الوطني قبل أيّ شيء آخر". وبالتوازي مع ذلك حقّق نوعاً من القبول داخل مكوّنات الساحة السياسيّة والإيديولوجيّة وحتى الفنيّة، لكن كلّفه في المقابل سُخط "ظاهري" من والده، الذي كشف في شريط مسجّل باليوتيوب تبرّأه منه خلال لقاء جمعه مع العالم السلفي محمد الأمين بوخبزة دون أن يتطوّر به الأمر إلى نبذه أو مقاطعته. كما تماهى مع الدبلوماسيّة الرسميّة في عدد من القضايا مثل التزام الصمت عن الدعم المغربي لفرنسا إبّان حربها على شمال مالي، خلافاً للشيوخ الثلاثة الآخرين، وتوجيه رسالة في مايو 2013 للرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يستنكر فيها موقفه بالإبقاء على إغلاق الحدود بين البلدين.

تمكّن الفزازي من نيل رضى السلطة والظفر بمنصب إمام في أحد أكبر مساجد طنجة سنة 2013، كما حظي بشرف إلقاء خطبة الجمعة في حضرة الملك أثناء زيارته للمدينة خلال شهر مارس الماضي ليكرّس موقعه في المؤسسة الدينيّة الرسميّة القائمة على صيانة الأركان الثلاثة للإسلام المغربي، أي المذهب المالكي والعقيدة الأشعريّة والتصوّف السنّي، التي تنهض كعوامل مناوئة للنسق الفقهي والعقدي السلفي.

وقد اكتفى محمد الفزازي ـ الذي تبقى مواقفه من المذهبيّة غير واضحة- بتغيير الجانب السلوكي في منهجه دون استتباعه بفحص جانبه النظريّ، وبالتالي لن يكون بمقدوره انسجاماً مع تحوّله "البرغماتي" اتخاذ أي موقف شرعي مرتبط بالشأن العام، إلا بعد عرضه على معيار علاقته بالسلطة وآثاره المحتملة على حضوره في مؤسستها الدينيّة.

خلاصة

قد تؤدي التطورات المتلاحقة في الشرق الأوسط وتورّط أعداد متزايدة من الشباب المغربي في وحل الصراعات العقائديّة والطائفيّة هناك، وكذلك الأخبار المتوالية حول تفكيك خلايا إرهابيّة داخل التراب الوطني، إلى تعميق النقاش داخل الحالة السلفيّة المغربيّة، والإسهام في إبراز المزيد من التباين وتفتيق الرؤى بين رموز التيار الجهادي، بل تدشين مرحلة القطيعة النهائيّة بينها نتيجة تفاقم الخلاف حول جملة المفاهيم المؤسسة لمرجعيتها.

وبغض النظر عن حجم الرجّة التي أحدثها مقال أبي حفص وتأثيره المستقبلي في توجيه النقاش حول الفكرة السلفيّة، ومهما كانت حدّة الردود عليه ووزنها الشرعي، وكيفما كانت مبررات من واجه المقال بالصمت والتجاهل، فإنّ ما هو مؤكّد الآن أنّ صاحبه قد حسم موقعه خارج المنظومة السلفيّة التي لطالما دافع عنها وسُجن بسببها، بل ونصّب نفسه في المعسكر المقابل لها الناقد لأرضيتها وأصولها.


1ـ نشر يوم 19 غشت 2014، موقع منتدى المفكرين المسلمين، على الرابط:

http://moslimon.com/details-287.html

2ـ نشر يوم 21 غشت 201 على موقع ريحانة بريس، على الرابط:

http://www.rihanapress.com/index.php/ecrivains-d-opinion/947-2014-08-21-11-45-31.html

3ـ تمّ الحوار مع موقع الخط الرسالي، ونشر يوم 21 يوليوز 2014، انظر: حوار الخط الرسالي مع الشيخ أبي حفص، على الرابط:

http://www.ressali.com/news/253?language=arabic

4ـ كتب حسن الكتاني أنّ كلام ابن عبد الوهاب في "العذر بالجهل مضطرب، فتارة تجده يصرح بإنكار العذر بالجهل كما في مواضع من مسائله على كتاب "التوحيد"، وتارة له كلام صريح بإعذار من يعكف على قبة الشيخ عبد القادر الجيلاني، رحمه الله تعالى، وغيره من الأضرحة لعدم وجود من يعلمهم". مضيفاً أنّ له كلاماً صريحاً في تكفير من يسميه (جاهل التوحيد). غير أنّ الكتاني يرى أنّ تلامذته من بعده اجتمعوا على "تضييق العذر بالجهل والتأويل"، بمن فيهم علماء كبار مثل عبد الرحمن بن حسن وابنه عبد اللطيف اللذين درسا في الأزهر. أمّا أشد النجديين اعتدالاً في هذا الأمر، فهو بحسبه، عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. انظر حسن الكتاني، الأجوبة الوفية عن الأسئلة الزكية في العذر بالجهل ومناقشة الحركة النجدية. ص 30-31، نسخة إلكترونية.

5ـ انظر: أبو الوليد المغربي، المدد الرّحماني في بيان انحراف الشيخ حسن الكتاني، نشر يوم 27 يناير 2014 على الرابط:

http://kulalsalafiyeen.com/vb/showthread.php?t=55990

6 ـ انظر: بيان عاجل للشيخ الأسد عمر الحدوشي ثبّته الله حول الحرب الصليبية على مالي، على الرابط:

http://alplatformmedia.com/vb/showthread.php?t=18494

7ـ انظر: "بيان الشيخ الفزازي حول الحركات التغييريّة في المغرب وخارجه"، على الرابط:

http://www.hanein.info/vb/showthread.php?t=229525