مراجعة كتاب الحلولية ووحدة الوجود


فئة :  قراءات في كتب

مراجعة كتاب الحلولية ووحدة الوجود

في عالمنا المعولم ما بعد الحداثي، الذي يهجم بضراوة على كل ما يجعل الإنسان إنساناً، عبر موجات عاتية من المادية الاستهلاكية، التي تدمّر البيئة، وتحول الإنسان إلى وسيلة، وتستعبد الأمم والمجتمعات عبر ثقافة مادية شاملة، تسعى إلى جعل العالم كله سوقاً كبيرة، تتسع لجشع الإمبريالية الغربية وأسواقها وشركاتها التي لا تشبع، نحتاج إلى مناهج تفسيرية قادرة على كشف طبيعة هذا العالم، وكيفية التعامل معه، تستمد من تقاليدنا الحضارية، وتستفيد من الرؤى الإنسانية المختلفة.

ومن هنا، حاجتنا إلى فكر عبد الوهاب المسيري، الذي نذر عمره للدفاع عن الإنسان، ضد المادية الغربية، ومركزيتها المفرطة التي شوهت الإنسان، واستعبدته، ودمرت وشردت شعوباً، لتؤسس مجدها، وتراكم ثروتها. فقد أدرك المسيري، بعد رحلة طويلة مع الفكر الغربي، أن هناك حاجة ترقى إلى مرتبة الضرورة، لتطوير نماذج تحليلية للتعامل مع النموذج الحضاري الغربي. والدفاع عن الإنسان ضد طغيان المادية التي غزت كل جوانب الحياة، اقتناعاً منه بفشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان، وإدراك لأهمية البعد الديني في حياة الإنسان.[1]

يحلل المسيري، في محاور الكتاب التسعة، الحلولية ووحدة الوجود، في علاقتهما برؤية الكون والنظرة للإنسان والإله، وعلاقتهما باللغة والمجاز، وبالعلمانية والاستهلاكية والإباحية، والحرفية والأصولية في تفسير النصوص.

الحلولية والعلمانية في فكر المسيري

تعدّ كلا من الحلولية والعلمانية الشاملة، النموذجين الأساسيين في كتابات المسيري، بعد أن رفض الموضوعية المتلقية، وتبنى تصوراً للعقل، بحسبانه كياناً توليدياً، وللنموذج بحسبانه أداة تحليلية مناسبة[2]، وهو يحاول في هذا الكتاب، بيان كيف أنبتت شجرة الحلولية المادية، العلمانية الشاملة وما بعد الحداثة، بسيولتها التي لا حد لها ولا قعر.

مفهوم الحلول

بداية ينبهنا المؤلف، في تمهيد الكتاب، أن هناك عددا من المصطلحات، تستخدم للإشارة إلى مفهوم الحلول، من أهمها: الحلولية، وحدة الوجود، الكمون، الباطن أو الباطنية، المحايثة، الاتحاد، الفناء، الفيضية، التجسد، المبدأ الحيوي، إسقاط الصفات الإنسانية على كل الكائنات، الماكروكوزم (الكون الأكبر) والمايكروكوزم (الكون الأصغر، أي الإنسان).

وأن الحقل الدلالي لكل هذه المصطلحات، يفترض أن التنوع والثنائيات (خالق/مخلوق، مطلق/ نسبي. إلخ)، هي أمور تنتمي إلى عالم الظاهر، وما يحدث أن طرفي الثنائية يتصلان ثم يمتزجان، ويفنى أحدهما في الآخر ويذوب، حتى يكونا كلاًّ واحداً عضوياً، لدرجة يستحيل معها التمييز بينهما، فيختفي الحيز الإنساني، ثم الحيز الطبيعي (الناجمان عن انفصال الخالق عن المخلوق)، ويظهر في العالم جوهر واحد فيصبح عالماً واحدياً، ليدخل بنا بعدها إلى عالم الحلولية ووحدة الوجود، باعتبارهما الأكثر شيوعاً للحقل الدلالي الذي تصفه كل هذه المصطلحات. (ص ص 23-24)

ما الحلولية؟

مفهوم الحلولية، يشير، كما يوضح المؤلف، إلى أن الإله والعالم ممتزجان، وأنه هو والقوة الداخلية الفاعلة في العالم (الدافعة للمادة الكامنة فيها) شيء واحد، وأن هناك جوهراً واحداً في الكون، وهو الأمر الذي يسم المذاهب الحلولية، بالواحدية الصارمة، وإنكار الثنائيات الفضفاضة التكاملية، والسقوط في الثنائيات الصلبة، أو الاثنينية، وإنكار الحيز الإنساني. (ص ص 25-26)

وحدة الوجود: ثمرة الحلولية

تشير "وحدة الوجود" التي هي ثمرة الحلولية ونتيجتها النهائية، -كما يقول المؤلف-، إلى أن كل الموجودات هي "الإله"، وأن "الإله" هو كل الموجودات، وهما حقيقة واحدة، وهي نوعان:

ا-وحدة الوجود الجزئية: والتي تنجم عن تجسيد المبدأ الواحد في: شعب، أو أرض، أو شخص بعينه، يصبح مركز القداسة ويستبعد بقية الموجودات، ومن هنا تولد الثنائية الصلبة.

ب-وحدة الوجود الكونية: والتي تظهر حينما يتسع نطاق وحدة الوجود، ويحل المبدأ الواحد في كل الموجودات، وتظهر الحلولية السائلة الشاملة. (ص 98)

بين رؤيتين للعالم

تدور معظم رؤى العالم، كما يعتقد المؤلف، حول عنصرين اثنين: الإله من جهة، والإنسان والطبيعة؛ أي العالم من جهة أخرى. والاختلاف بين المنظومتين، يرتكز على الاختلاف بين رؤيتين للإله، تتفرعان إلى إجابات متضادة عن علاقته بالإنسان وبالعالم، وكيفية تواصله مع المخلوقات.

ويمكن القول، إن الركيزة الأساسية في كل من المنظومتين، هي تصورهما لطبيعة الإله، وعلاقته بالإنسان والطبيعة. (ص 54) وينتج عنهما، إجابتان للإشكاليات التي تواجه الإنسان:

1- الإجابة الحلولية الكمونية الواحدية التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، وهي الإجابة الإلحادية.

2- الإجابة التوحيدية، التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة، وهي الإجابة الإيمانية.

أولاً: الرؤية الحلولية الكمونية

مذهب الحلول أو الكمون (أو الحلولية الكمونية الواحدية، أو وحدة الوجود)، هو المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) مكون من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت، لا تتخلّله أية ثغرات، ولا يعرف الانقطاع، ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن ردّ كل الظواهر فيه، مهما بلغ تنوعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم، هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته، وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله. (ص 43-44)

فلم يعد الإله في مقابل الكون، وإنما أصبح هو الكون، ولم يعد الإنسان في مقابل الطبيعة؛ إذ أصبح الإنسان والطبيعة شيئاً واحداً، مهما اختلف الاسم. (ص ص 53-54)

وفي هذا المذهب، تبدأ المسافة بين الإنسان والإله بالتناقص، إلى أن تلاشى تماماً، حتى تصل إلى مرحلة وحدة الوجود، من خلال متتالية زمنية تبدأ ب: حلول الإله في العالم دون امتزاج تام، ثم مرحلة شبه اختفاء المسافة بين الإله والعالم- وأخيراً، مرحلة وحدة الوجود والحلولية الكمونية الواحدية، فيتوحد الإله بالمادة تماما، ولا توجد مسافة البتة. (ص 51-53)

الحلولية الصلبة والحلولية السائلة

يعتقد المؤلف أن الحلولية في الحضارة الغربية، مرت بمرحلتين:

الأولى: مرحلة الفكر الإنساني الهيوماني، التي تعبر عن الحلولية الصلبة، والتي تترجم نفسها إلى ثنائية الإنسان/الطبيعة؛ إذ يصبح الإنسان موضع الحلول والكمون، وتجسيداً للمبدأ الواحد. ولكن ما يحدث في واقع الأمر أن الإنسان الغربي، هو الذي يصبح موضع الحلول والكمون، في مقابل بقية البشر والطبيعة. لذلك، فقد ارتبط الفكر الإنساني الهيوماني بالمرحلة الإمبريالية في الحضارة الغربية، وإن كان هذا الارتباط في تصوره ارتباطاً تزامنيا عرضياً. وقد ظلت هذه المرحلة حتى نهاية القرن التاسع عشر.

والثانية: الحلولية الكمونية الشاملة السائلة، التي بدأت تؤكد نفسها منذ ظهور نتشه، وهو يعتقد، أنه منذ ستينيات القرن العشرين، مع حركة الحب المرسل، وتصاعد معدلات الاستهلاكية، والنسبية الأخلاقية والمعرفية، بدأ ظهور الإنسان الجسدي، وبدأت تسود الحلولية الكمونية السائلة المادية، التي تترجم نفسها بالدرجة الأولى، إلى هجوم على المركز، أي مركز، وإلى فكر ما بعد الحداثة. (ص ص 89-90). وهو يعتبر، أن الهيجلية، هي أكثر الصيغ الحلولية الكمونية شمولاً. (ص 144-146)

ثانياً: الرؤية التوحيدية

طور المسيري، مفهوم المسافة: التي تفصل بين الإنسان والطبيعة، وبين الخالق والمخلوق، وبين الجسد والروح، في مقابل الواحدية المادية التي تذهب إلى أن العالم بأسره (الإنسان والطبيعة) جوهر واحد[3]، وهو يرى هذا المفهوم، باعتباره جوهر النسق التوحيدي الإسلامي. (ص ص 235-236)

فالتوحيد، هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، منزه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث؛ فهو مركز الكون، المفارق له، الذي يمنحه التماسك، ويمنح الإنسان الاستقلال عن سائر الموجودات، والمقدرة على الاختيار، وعلى تجاوز عالم المادية، وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، فهي الإيمان بإله حال كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ؛ أي إن مركز الكون كامن فيه. فالتوحيد عكس الحلولية الكمونية. (ص 49)

وفي هذه المنظومة، يمكن رؤية أن الإنسان والإله، تفصل بينهم: ثغرة، أو مسافة، أو مساحة، ولكن توجد بينهما علاقة؛ فالإله قد كرّم الإنسان، ونفخ فيه من روحه عنصراً ربانياً حوله من مادة محضة، وجسد أصم، إلى جسد وعقل وروح، وعلمه الأسماء كلها، ثم وضعه في مركز الكون؛ أي استخلفه فيه حسب التعبير الإسلامي.

ومركزية الإنسان، هذه، مستمدة من علاقته بالإله، ومن العنصر الرباني الذي يسري فيه. ومن ثم فالثغرة ليست هوة، والمسافة ليست فراغاً، وإنما هي المجال الذي يتفاعل فيه الخالق مع مخلوقاته، ويتفاعل فيه الإنسان مع الإله والطبيعة.

ويمكن للإنسان، أن يدرك الإله من خلال التاريخ ومن خلال الطبيعة، دون أن يردّه إليهما، ودون أن يراه مجرد قوة كامنة فيهما. وهكذا يظل الإله (المرجعية النهائية المتجاوزة)، خارج أي نسق مغلق دائري، وتأخذ الحركة شكلاً حلزونياً متجدداً ومستمراً؛ إذ إن الدائرة لا تكتمل البتة. فالمسافة التي تفصل الإله عن الإنسان جزء أساسي من البنية، تماماً، مثل المسافة التي تفصل الطبيعة عن الإله، وعن الإنسان. (ص 51)

فكأن استقلالية الإنسان، وتميزه عن الطبيعة، لا يمكن أن تتحقق من دون المسافة التي تفصل الإله عن الإنسان، ومن دون الحدود التي تفرض عليه. وهذه المسافة لها أصداؤها أيضا داخل المنظومة المعرفية والأخلاقية التوحيدية (ص ص 50-51)

فالله لا يحل في الإنسان، وإنما يستخلفه في الأرض، فيعطيه قيماً مطلقة، ويأمره بتعمير الأرض (لا باستهلاكها أو غزوها أو تدميرها). وهذه القيم تفصل الإنسان عن الطبيعة/المادة، ولكن الطبيعة/المادة-هي أيضاً-ليست مجرد مادة ميتة صماء؛ فالإله خالقها، أيضاً، يبث فيها الحياة والمعنى، ولكنها تظل دون الإنسان منزلة.

الإله بين التوحيد والحلولية

الإله، في المنظومة التوحيدية، إله واحد لا شريك له، مبان للعالم، ومنزه عن قوانين الطبيعة والتاريخ، وهو واحد من جميع الوجوه، والكون لم يفض عنه، وإنما خلقه الله من العدم، وهو لم يهجر الكون، بل يديره ويمنحه الاتجاه والمعنى والغرض، وهو إله العالمين ويحاكم الجميع بقيم أخلاقية ومعرفية عالمية تستند إلى حضوره الدائم غير المنظور في الطبيعة والتاريخ دون حلول فيهما، والمسافة التي تفصل بينه وبين المخلوق مسافة مطلقة نهائية لا يمكن إلغاؤها.

بينما الإله، في المنظومة الحلولية الكمونية، لا يتجاوز الطبيعة والإنسان والتاريخ، فهو مبدأ واحد دافع للمادة كامن فيها، ليس له وجود متجاوز لها، يمكن أن تدركه الحواس، ويمكن تصويره وتجسيده وتشبيهه، والكون قد فاض عنه ليصبح هو ذاته العالم، عادة ما يحل في شعب بعينه، أو في أرض بعينها، ويوزع نعمه حيث يريد ويشاء، لا حسب قيم معرفية وأخلاقية متجاوزة. (ص 54-56)

وبينما يتوقف وجود العالم، في المنظومة التوحيدية، على وجود الله، لكن وجوده غير متوقف على وجود العالم. نجد أن الإله، في المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية، مرتبط بوجود العالم، مثلما يرتبط وجود العالم بوجود الإله. (ص 56)

الإنسان بين التوحيد والحلولية

الإنسان، في المنظومة التوحيدية، يحتفظ بهويته ومكانته في الكون، باعتباره مستخلفاً فيه، فالهدف من وجوده هو التوازن مع الذات والطبيعة بما لا يخل بمركزيته ومسئوليته. في حين أنه، في المنظومة الحلولية الواحدية، يصبح المركز الأوحد، الذي يغزو العالم، ويهدم كل المخلوقات، أو يذوب في الطبيعة تماماً حتى يصبح جزءاً منها (ص ص 58-59)

والإنسان، في المنظومة التوحيدية، يصل للمعرفة من خلال حواسّه وعقله وحدسه وإيمانه، دون الوصول إلى اليقين المطلق، الذي يؤدي إلى التحكم الكامل في الكون. بينما هو، في المنظومة الحلولية الواحدية التي لا توجد فيها معرفة، وإنما يوجد عرفان نتيجة للتواصل الجسدي المادي أو الروحي المباشر بين الخالق والمخلوق، يصل إلى معرفة يقينية مطلقة تمكن صاحبها من التحكم في الكون. (ص 59)

وفي الرؤية التوحيدية، ثمة ثنائية في العالم، وثمة مركز للعالم متجاوز له، والإنسان يقف في مركز الكون، على درجة أعلى من كل الكائنات الأخرى. ومن ثم، فإن فكرة المساواة المطلقة بين البشر، هي فكرة دينية محضة، مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الخلق من عدم، وبالخلود، وبالجوهر الإنساني المتميز الذي يحوي القبس الإلهي.

بينما في النظم الحلولية، يكون مركز العالم كامناً فيه، ولهذا لا ثنائية بين الإنسان والطبيعة، ولا أسبقية له عليها، وليس له أصل ربّاني، ولا جوهر إنساني متميز، ويسري عليه ما يسري على الكائنات الأخرى، وتتم تسويته بها، ومن هنا يمكن لبعض الشعوب أن تكون موضعا للحلول والكمون، ومن هنا تنتفي المساواة، ويظهر التنظيم الطبقي الصارم. ولهذا، نجد أن النظم الدينية والأخلاقية التي لا تعترف بالخلود، أو لديها فكرة مشوشة عنه، لا تعترف، نتيجة لذلك، بالمساواة. (ص ص 61-62)

الزمن بين التوحيد والحلولية

الزمان، في المنظومة التوحيدية، له معنى واتجاه، وهو مجال المسؤولية ورقعة الحرية، وثمة مجال دائماً للخلاص في المستقبل، وهناك إيمان بالخلود والبعث والحساب. بينما الزمان، في المنظومة الحلولية الواحدية، يفقد استقلاله، فلا قداسة له، ولا معنى دائري، بل هو زمن عبثي، لا مجال فيه لحرية الإنسان، لا يوجد خلود، إنما عود أبدي وتناسخ أرواح. (ص 59-60)

العلمنة والحلولية

يعرف المؤلف، العلمنة، بأنها جعل مركز الكون كامناً في العالم المادي، فيصبح الكون مكتفياً بذاته (مرجعية ذاته)؛ وهذه هي المرجعية الكامنة، وهي لابد من أن تكون واحدية، وتنكر التجاوز. (ص 29). فعمليات العلمنة، عادة ما يسبقها مرحلة يسود فيها الفكر الحلولي الكموني الروحي، ثم يصبح فكراً حلولياً كمونياً مادياً؛ أي علمانياً، في نهاية الأمر. (ص 45). ولهذا، فثمة علاقة وثيقة بين الحلولية الكمونية والعلمانية الشاملة؛ فالعلمانية الشاملة رؤية واحدية مادية (وحدة وجود مادية)، تدور في إطار المرجعية الكامنة (المادية). (ص 49)

ويوضح المؤلف، أن ما حدث في الحضارة الغربية، والمسيحية الغربية، هو تزايد معدلات الحلولية الكمونية تدريجياً إلى أن وصل الكمون إلى منتهاه، وأصبح الإله كامناً تماماً في الطبيعة والتاريخ، فظهرت المنظومة العلمانية. فالعلمانية ولدت من رحم كل من: اليهودية والمسيحية، بعد تراجع التوحيد والتجاوز، مع تزايد الحلول والكمون. (ص ص 75-76)

ومع تصاعد معدلات الحلولية الكمونية تزايدت محاولات تفسير الكون في إطار القوانين الكامنة فيه، دون أن يؤبه بأية قوانين خارجة عنه متجاوزة له. وهذا يعني تصاعد معدلات العلمنة والترشيد، وتزايد هيمنة الواحدية المادية. (ص 49)

ولهذا، فإن العلمانية الشاملة، هي رؤية واحدية تدور في إطار المرجعية الكامنة المادية، ترد الكون بأسره إلى مبدأ واحد كامن فيه. ومن ثم، فهي لا تفرق بين الإنسان والطبيعة، بل تراهما مادة واحدة (نسبية) لا قداسة لها، خاضعة لقانون طبيعي واحد؛ ومن ثم يمكن إخضاعها للمقاييس الكمية الرياضية، دون الرجوع إلى أية قيم مطلقة (معرفية كانت أم أخلاقية)، بهدف زيادة التحكم فيها وتوظيفها؛ أي إنها رؤية تستبعد الإنسان المركب الرباني، وتستبعد أيضا مقدرته على تجاوز ذاته الطبيعية، والطبيعة/المادة، يحل محله الإنسان الطبيعي المادي. (ص 63)

علاقة التوحيد والتجاوز بالعلمنة

ينتقد المؤلف، أطروحة ماكس فيبر وبيتر برجر، في قضية علاقة التوحيد والتجاوز بالعلمنة، القائلة بأن الديانات التوحيدية؛ وخاصة اليهودية، قامت بدور أساسي في عملية الترشيد، من خلال خلق مسافة بين الخالق والمخلوق، من خلال التخلص من السحر، والآلهة البدائية، وربط المبادئ الأخلاقية بالحياة العملية، مما أسهم في إعداد نفسي للإنسان والمجتمع للترشيد العلماني الحديث، ثم استمرت العملية، حتى حل البيروقراطي الحديث محل النبي في الحضارة الغربية. (ص 62-72).

وهو، يرجع الضعف الأساسي في متتاليتهما، يرى أنها لا تفسر: لم وكيف تم الانتقال من الترشيد التقليدي، في إطار المرجعية المتجاوزة والمتوجهة نحو القيمة، إلى الترشيد الإجرائي، في إطار المرجعية الكامنة والطبيعة/المادة.

كما أنهما، يقفزان من خطوة إلى التي تليها، دون أن يبينا الأسباب، لأن كلا الرجلين-وكل منظري علم الاجتماع الغربي-لم يستطيعوا التمييز بين الواحدية المادية الحلولية الكمونية، التي تسقط الثنائيات والمطلقات والمركز من جهة، والتوحيد بما يحوي من تجاوز وثنائية من جهة أخرى. فخلفيتهما الدينية الغربية، جعلت نموذجهما التحليلي غير قادر على رصد هذا الفرق الدقيق والجوهري. (ص ص 73-74)

ويذهب المؤلف، بعكسهما، إلى أن عملية الترشيد التي تتم داخل الإطار التوحيدي وداخل إطار المرجعية المتجاوزة تظل محكومة بالإيمان بالإله الواحد المتجاوز لعالم الطبيعة والتاريخ، الذي يصر على الرؤية الثنائية، يبرز الفروق بين النسبي والمطلق، وبين الإنسان الطبيعي والإنسان الرباني.

وإذا كان الترشيد، هو رد كل شيء إلى مبدأ واحد، لهذا فالمبدأ العام الذي سيرد إليه الكون في الإطار التوحيدي، هو الإله المتجاوز للطبيعة/المادة، وهو مبدأ وجود مسافة بين الخالق والمخلوق، وينطوي على الثنائية الفضفاضة، وعلى التركيب. كما أنه يمنح الواقع قدراً عالياً من الوحدة، ولكنها وحدة ليست واحدية مصمتة، لذلك فهي لا تجب التنوع والتدافع، ومن هنا يستحيل الالتصاق بالإله والتوحد معه ولا التجسد، ويستحيل أن تختزل المسافة بين الخالق والمخلوق، وأن يحل الكمون محل التجاوز.

في حين أن المنظومة الحلولية، هي التي تخلق في تصورنا قابلية للعلمنة في شكليها الروحي والمادي، فهي رؤية واحدية ترد الواقع بأسره إلى مبدأ واحد. فليس التوحيد، هو الذي يؤدي إلى العلمانية، وإنما الحلولية الكمونية. (ص 73-76)

المجاز والتجاوز والتوحيد والحلولية

يؤكد المؤلف، أن قضية الشكل والصور المجازية، جزء أساسي من التفكير الإنساني. (ص 152) فالصور المجازية، وسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يدرك واقعه دونها، أو حتى التعبير عن مكنون نفسه إلا من خلالها. فهي جزء أساسي من عملية الإدراك، وهي من ثم مرتبطة تمام الارتباط بالنماذج المعرفية والإدراكية ورؤية الكون، وخير وسيلة للتعبير عنها. (ص 156)

والمجاز، ليس وسيلتنا لإدراك الوجود الإنساني المركب فحسب، وإنما هو أيضا وسيلتنا لمعرفة الله، إذ إنه يربط بين بعض صفاته المتجاوزة للأسماع والأبصار من جهة، وبعض الشواهد المادية التي تدركها الأسماع والأبصار من جهة أخرى، فهو ربط بين المحدود الإنساني واللامحدود الإلهي. (ص 259) كما أن المجاز، يصدر عن إدراك الإنسان لحدوده الأرضية، ووسيلته لتجاوز المسافة التي تفصل بين الدال والمدلول بشكل جزئي، سواء الله أو الإنسان؛ فالمجاز والتجاوز صنوان.

المجاز في الحضارة الغربية

تعتبر قضيتا الجنس والجسد، من القضايا المهمة، التي اكتشف المسيري من خلالها بساطة الرؤية المادية الاختزالية، وأنها لا تؤدي إلى تحرير الإنسان وإنما إلى تفكيكه. وهو، يذهب إلى أن الجسد والجنس، يعبران عن الصورتين المجازيتين الأساسيتين في الحضارة الغربية: الصورة الآلية، والصورة العضوية، والصورة المجازية الأساسية فيها، خليط منهما أو تأرجح بينهما، يعبر عن إنكار للتجاوز، وتأكيد للكون والمرجعية الكامنة. وتحولت في عالم ما بعد الحداثة، إلى صورة مجازية جديدة، تعبر عن عالم سائل لا مركز له. (ص 167-185) مع تصاعد معدلات الحلولية والسيولة والعدمية، حتى يصبح كل شيء مرجعية ذاته، مكتفياً بذاته، يشير إليها، دون أيّ معنى أو مدلول، في عالم مادي مغرق في ماديته، لا توجد فيه أية ثنائيات أو تعرجات، يمثله نتشه ودريدا. (ص 187-213)

المجاز في الرؤية التوحيدية

يشدّد المؤلف، على أن المجاز، في الرؤية التوحيدية، يؤكد الصلة بين الأشياء، ولكنه في تأكيده الصلة يؤكد المسافة بينها، وهو يصدر عن الإيمان بثنائية العالم: الخالق والمخلوق. فالمجاز تعبير عن رؤية كاملة للكون: علاقة الإله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالطبيعة.

فالمجاز، تأكيد لإنسانية الإنسان وتركيبيته، ومقدرته على التجاوز، وتميزه عن عالم الطبيعة/المادة، وهو أيضاً تأكيد لإحساسه بالمسؤولية وحدوده واستقلاله باعتباره جزءاً واعياً من كل. وهو، أيضاً، تأكيد لوجود الله وتجاوزه وتنزهه عن عالم الطبيعة المادية الواحدية، وتعبير عن الاتصال والانفصال بين الله والإنسان والطبيعة، والمطلق والنسبي، والذات والموضوع. (ص 265)

تفسير النصوص بين الأصولية والحرفية

يؤكد المؤلف، أن النص المقدس، نص مجازي توليدي، لا يمكن فهمه إلا بإدراك طبيعته المجازية؛ فهو نص يشير إلى الدنيا والآخرة، وعالم الشهادة وعالم الغيب، عالم الحواس وما وراء الحواس، فهو نص ثنائي وليس واحدياً، بينما النص العلماني، نص دقيق، ترتبط فيه الدوال بمدلولات حسية أو مادية، فهو نص يشير إلى الدنيا، وعالم الحواس، والمادة وحسب. (ص 215)

ولهذا، فإن النص المقدس، توليدي مركب، متعدد المعاني والمستويات، من خلال الاجتهاد في تفسيره. ولذلك يشدد، على ضرورة التفرقة بين الحرفية والأصولية، عند الاقتراب من النصوص المقدسة وتفسيراتها. (ص 259-262)

فالأصولية، هي رفض لكثير من الممارسات الدينية، وبعض تفسيرات الكتاب المقدس التي تراكمت عبر العصور، ودعوة إلى العودة إلى أصول الدين الأولى، وممارسات واجتهادات الأولين، والصالحين، والحكماء، ومحاولة تفسيرها تفسيراً جديداً، وتوليد معان جديدة منها تتلاءم والزمان والمكان اللذين يوجد فيهما المفسر "الأصولي". وهذه الأصول لأنها "الكل" و"الجذر" و"القيمة الحاكمة"، تشكل الإطار العام لعملية اجتهاد مستمرة في كل عصر، يقوم بها عقل المؤمن المفسر المجتهد بالعودة إلى النص المقدس.

أما الحرفية في التفسير، فهي أن يلجأ المؤمن بكتاب مقدس ما، إلى التمسك بحرفية النص، دون اجتهاد أو إعمال عقل، كأن النص يحمل رسالة واضحة مباشرة صريحة؛ مثل القاعدة العلمية، أو اللغة الجبرية، أو الصيغة السحرية، أو الأيقونة التي تفضي بمعناها لمن يتعبد أمامها، بل كأن النص، هو تجسد للإله في العالم، وكأن العالم هو كل عضوي مصمت، لا ثنائيات فيه ولا أسرار. فيتم إلغاء المسافة، التي تفصل الدال والمدلول، وتلغي فكرة الزمان تماماً، وتلغي ثنائية الدنيا والآخرة،

ويعتقد المؤلف، أن الهجوم على لغة المجاز والاستعارة، هو هجوم على تجاوز الإله للعالم، وعلى فكرة أنه يتجلى في التاريخ والطبيعة دون أن يتطابق معهما أو يكمن فيهما، وهو هجوم على إنسانية الإنسان، باعتباره كائناً مركباً ربانياً يحوي داخله عناصر طبيعية، كما يحوي ما لا يمكن رده إلى المادة، وهي تخبئ نزعة أيديولوجية ما.

فالتفسيرات الحرفية، يمكنها أن تكتسب أي مضمون فكري يحمله المفسر الحرفي من خلال ليّ عنق النص عن طريق الاجتزاء، وأن يفرض عليه ما يشاء من معنى ثم يوظفه بالطريقة التي تروق له وتتفق ومصلحته، وهي تفسيرات شعبوية، لأنها سهلة للغاية تتفق والشخص العادي في العصر الحديث. (ص 215-230)

الدال والمدلول والحلولية

يؤكد المؤلف، أن علاقة الدال بالمدلول، التي تبدو إشكالية لغوية محضة، يتم من خلالها مناقشة الإشكاليات الفلسفية الكبرى في عالمنا المعاصر. وهو، يربط ظهور هذه الإشكالية، بظهور المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية، التي تلغي المسافة بين الخالق والمخلوق، ومن ثم بين الإنسان والطبيعة. (ص ص 231-232)

حيث يعتقد المؤلف، أن انفصال الدال عن المدلول في الحضارة الغربية، في نسختيها التنويرية والحديثة، ليس قضية لغوية فلسفية فقط، لكنها قضية معرفية عميقة الدلالة، لها أساس راسخ في بنية الحضارة الغربية، سواء في توجهها المعرفي الكلي والنهائي أم في بنيتها وإيقاعها الحضاري. فقد قامت الحضارة الغربية الحديثة، بتهميش أهم الدوال في الحضارات التقليدية: وهو الله، وأحلت محله مدلولات متجاوزة أخرى، مثل الروح الكلي-الإنسان-روح التقدم-روح الشعب-الحتمية التاريخية. إلخ، أهمها "الإنسان".

وليس هذا وحسب، بل أعلنت أن الإله إما غير موجود، أو أن وجوده غير مهم في عملية تفسير الكون الذي يحوي مركزه داخله. ومن خلال تصاعد معدلات الحلولية التي توصل إلى وحدة الوجود المادية، تم دمج "الإله" بالطبيعة، وأصبح الكون جوهراً واحداً، حيث أصبح الإله هو الطبيعة والطبيعة هي الإله؛ أي إنه فقد تجاوزه وألوهيته وأصبح دالاًّ دون مدلول.

ثم أكدت الحلولية، مركزية الإنسان في الطبيعة، ولم تلبث أن أزاحته لصالحها ليقع في قبضة الصيرورة، ويصبح دالاًّ من دون مدلول إنساني، وتم تقويض مفاهيم: الكليات، والمرجعيات، والماهيات، والجوهر، والذات، والموضوع، فهذه كلها قصص كبرى، وأقصى ما يطمح إليه الإنسان هو معرفته بالقصص الصغرى، وبذلك دخلت الحضارة الغربية مرحلة السيولة الشاملة، وقنعت بأن تدور حول مجموعة من المدلولات غير المتجاوزة التي ليس لها معنى مادي محدد. (ص 240-253)

التأيقن والحرفية والحلولية

الأيقنة، هي تجريد الظاهرة الإنسانية من طبيعتها التاريخية والزمنية وتحويلها إلى شيء فريد، لا يمكن فهمه أو تفسيره من خارجه. ولهذا، يضع المؤلف، التأيقن والحرفية في مقابل المجاز، لأنه إلغاء للمسافة بين الدال والمدلول، إلى أن يصبح الدال مثل الصورة يتحد من خلالها مع المدلول. (ص 262).

وعلى الرغم من أن الحرفية، على المستوى الظاهر، هي عكس التأيقن تماماً، ففي إطار الحرفية لا تكون للدال أية قيمة في حد ذاته، فهو يضاهي المدلول تماماً؛ إذ إنه يحاول أن يكون انعكاساً دقيقاً للواقع، فالتركيز على المدلول لا الدال، ومن ثم على المعنى الموجود بشكل مباشر في الواقع، أو النص، وما علينا إلا التوجه نحوه مباشرة، لكنا لو تعمقنا قليلاً-كما يقول المؤلف، لاكتشفنا التشابه التام بين التأيقن والحرفية، فكلاهما يتسم بالواحدية، وعدم تعدد المستويات، وثمة محو للثنائيات والمسافات وسد للثغرات. (ص 264-265)

وهذا ما يحدث في المنظومات الحلولية، مثل الغنوصية والهرمسية، حيث يمتزج الدال والمدلول امتزاجاً عضوياً، ويصبح الواحد كامناً في الآخر، وتتوارى الصور المجازية والرموز، التي تفترض علاقة اتصال وانفصال بين الدال والمدلول، وتظهر الأيقونة وتختفي المسافة. (ص 266-322)

الحداثة والعلمانية والغنوصية

يذهب المؤلف، إلى أن كل الفلسفات العلمانية، هي شكل من أشكال الغنوص. فالغنوصية، هي رؤية واحدية مغلقة، ومنظومة حلولية عضوية، ترد كل الظواهر إلى مبدأ واحد، يمكن أن يكون "الإله"، ويمكن أن يكون الطبيعة، ويمكن أن يتوحد من خلاله كل شيء. وهكذا العلمانية (وحدة الوجود المادية)، أيضاً، التي ترد كل شيء إلى مبدأ واحد هو الحركة المادية، فهي حلولية من دون إله. (ص 337-343)

وأخيراً

ربما يختلف البعض مع نموذج المسيري التفسيري للحلولية والعلمانية، وذلك يعود إلى أن النماذج هي نتاج عملية تجريد وانتقاء في إطار رؤية معينة، ومن ثم لا يمكننا أن نقول إن هذا نموذج خاطئ أو مصيب، وإنما علينا أن نخضعه لعملية اختبار، لنتعرف على مقدرته التفسيرية والتنبؤية، ومن ثم نقف على مواطن قوته ومكامن ضعفه، ومن ثم إعادة صياغته حتى يمكن أن يستوعب المعطيات التي أهملها أو المستجدة التي فشل في تفسيرها (راجع المجلد الأول من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: الجزء الثاني الخاص بالنماذج كأداة تحليلية)، ولهذا يظل هناك الكثير مما نستفيده من رؤية المسيري وتعامله، مع موضوع الحلولية ووحدة الوجود وما أنتجته من رؤية مادية شاملة ميزت الحضارة الغربية، ومن ذلك:

1- روح الثقة في النفس والذات الحضارية، التي تبدو واضحة في كل صفحات الكتاب، في نقده للغرب وحضارته وماديته، وهو خطاب يحتاج لأن يتبعه كل مفكر عربي في تعامله مع الحضارة الغربية، فلولا ثقته بنفسه وبحضارته لما استطاع أن ينقد ويطرح البدائل.

2- خطاب المسيري ورؤيته التوحيدية، تصلح مدخلاً هاماً لعلم كلام جديد، في الخطاب مع الأجيال الجديدة من الشباب المسلم وغير المسلم، الذي هجر الإيمان، لأسباب عديدة، في قلبها الخطاب الكلامي التقليدي، الذي لا يصمد أمام الأبحاث الجديدة في العلوم والفلسفة.

3- يعطينا المسيري، في هذا الكتاب، منهجاً في رصد الظواهر والتعامل معها، من خلال نموذج تفسيري يرتكز إلى رؤية إيمانية للكون، تطمح إلى فهم العالم من حولنا، بشكل يحفظ للإنسان إنسانيته، ويبعده عن الوقوع في هوة الحلولية السحيقة، التي لا مركز لها ولا قرار، فيسهل انجرافه في تيار العدمية، فينهار في نار الشهوة والجسد، ويسبح في نهر المادية القاتلة: فلا يحل حلالاً، ولا يحرم حراماً، ويستبيح كل الأشياء بل ويستبيح الإنسان ذاته في سبيل مآربه الشخصية، أو مآرب جماعته، كما فعل الغربيون بباقي العالم أمس، ومازالوا يفعلون اليوم.

4- رؤية المسيري للحرفية، تعطينا مدلولات واسعة، ويمكن استخدامها في تفسير شعبية كثير من: الخطابات الدينية، والقومية، والشعوبية في مجتمعاتنا العربية، في علاقتها بطبيعة الإنسان الذي أنتجته الحضارة الحديثة، الذي عزل عن تراثه وتاريخه، ولا يريد سوى أن يشعر ويدرك بحواسه الخمس ويفضل الدقة والتحدد والمباشرة والسطحية على التركيب والتجاوز.

5-ومن أهم ما يلفت المسيري، أنظارنا إليه، ويحتاج إلى تطوير ودراسات تتابعه، إدراك أن البعد المعرفي مرتبط بالبعد الديني؛ الذي هو شكل من أشكال البعد المعرفي، لأنه ينصرف إلى الأسئلة النهائية، مثل رؤية الإنسان للكون ولنفسه، والهدف من وجوده، ويساعدنا في فحص العلاقات الضمنية والصريحة بين المفاهيم العلمية والعقائد والمسلمات الكامنة فيها، كما فعل هو في رؤيته للعلمانية في ضوء الحلولية ومقارنتها بالرؤية التوحيدية.فالدرس المعرفي، الذي يقدمه لنا المسيري في هذا الكتاب وفي كل أعماله، هو الأهم، لأنه يعني التفتيش عن الجوهري في العلاقات بين الظواهر المختلفة، والانطلاق من نماذج اجتهادية ملائمة لدراستها، تنتج استنتاجات أكثر تفسيرية لتلك الظواهر.

6-ينبهنا المسيري، إلى ضرورة الاهتمام، بتحليل الصور المجازية كمدخل لفهم النصوص، أدبية كانت أم سياسية، وإدراك مستوياتها الواعية وغير الواعية- باعتباره منهجاً لم يستخدم بما فيه الكفاية في عالمنا العربي، مع أن مقدرته التحليلية والتفسيرية عالية إلى أقصى حد.

7-يذكرنا المسيري، أن وجود الله، هو الضمان الوحيد لوجود الإنسان، بجزأيه الطبيعي وغير الطبيعي، فالله هو التركيب اللانهائي المفارق لحدود المعطى النهائي، هو النقطة التي يتطلع إليها الإنسان ويحقق التجاوز من خلالها، ومن ثم بغيابه يتحول العالم إلى مادة طبيعية صماء، خاضعة لقوانين الحركة والضرورة التي يمكن حصرها ودراستها والتحكم فيها. وينضوي الإنسان تحت نفس النمط، إذ بغياب الله يتحول الإنسان إلى كم مادي يمكن تفسيره في إطار مجموعة من المعادلات الرياضية الميتة التي يمكن معرفتها والتنبؤ بها.

خاتمة

قد يظن البعض، ممن لم يقرأ أعمال المسيري كلها، ويتمرس مع خطابه النقدي، أنه في كتابه هذا، يشن حملة شعواء على الحضارة الغربية، ويقول أنها شر مطلق، ولكن الأمر بخلاف ذلك، فالمسيري، هنا، يحذر مما وقعت فيه تيارات ما بعد الحداثة الغربية، من مادية شرهة، وتسليع لكل شيء، وفي القلب من ذلك الإنسان. والقارئ لأعمال المسيري، سيجد أنه، فعلاً، قد نقد الحداثة بكل قوة، ولكن من منظور ينطلق من خوف حقيقي من جوانبها المظلمة على الإنسانية. فلم يرفض العقلانية ولا العقل، لكنه رفض العقلانية الأداتية، والمادية الوثنية الكافرة بكل قيمة إيمانية أو إنسانية.

لكن المتابع لباقي كتاباته، سيجده يؤكد على أن "إنجازات الحضارة الغربية، إنجازات عظيمة يمكن لكل البشر الإفادة منها، ولا يقلل أبداً من القيمة الإنسانية لهذه الإبداعات". فهو ليس لديه مشكلة مع العلمانية الجزئية، وإنما إشكاليته الرئيسة مع العلمانية الشاملة، التي تسقط القيمة وتتمحور حول المادة، وتقع في الحلولية وانعدام المركز والمرجعية، فتسقط في الإلحاد وتستمرئ الإمبريالية.

إن كتابات المسيري، كانت ومازالت، صرخة عالم آمن بالإنسان وبمركزيته في هذا الكون، كائن مؤمن بالله، مستخلف على أمانته التي حملها بملأ إرادته، قادر على أن يحقق توازناً حقيقياً على الأرض بين غاياته الروحية ومتطلباته المادية، ويحقق ذلك كله في التاريخ، ويقدم نموذج للمعرفة الإيمانية الواعية، ويرتق لعلم الله فيه، عندما خلقه بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً.

[1] المسيري، عبد الوهاب. رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر، القاهرة: دار الشروق، ط1، 2005، ص 302

[2] المرجع السابق، ص 380

[3] المرجع السابق، ص 177