مشروع الأنوار: بين الوعد المنشود والتحقق الموؤود


فئة :  مقالات

مشروع الأنوار: بين الوعد المنشود والتحقق الموؤود

لكل مشروع ثقافي شيخه أو شيوخه، ولمشروع الأنوار شيخاه: بيير بايل[1]، وبرنار لوبوفيي فونطونيل[2]؛ فما الذي قام به هذان الرائدان خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر والنصف الأول من القرن الثامن عشر؟

يجوز القول إن بايل وفونطونيل هما المؤسسان الحقيقيان لعصر الأنوار؛ فالنقد الشديد للديانة المسيحية في شخص أحد رموزها الكبار (القديس أوغسطين) من طرف بايل مثلا، دليل على التأسيس النظري لفكرة التسامح ولفكرة الفصل بين الدين والدولة. ولم يتنازل بايل عن أفكاره التنويرية تلك، رغم أنه كان مطلوبا من ملك فرنسا ومن ملك إنجلترا، وهي الأفكار التنويرية التي ألهمت كلا من ديدرو الذي اعترف بفضله عليه، وفولتير الذي سار على نهجه في معجمه الفلسفي. كما انتقل تأثيره إلى إنجلترا، وبخاصة إلى هيوم وباركلي، وكذا إلى التنوير الألماني. انتشرت أفكار بايل ولقيت إقبالا لدى المفكرين اللاحقين، وهي الأفكار التي زحزحت الكثير من القناعات الوسطوية التي رسختها الكنيسة بقوة. لقد دافع بايل عن حرية الضمير بشدة، حيث يرى أن الإيمان إذا فُرض بالقوة، فسوف يخلق أناسا منافقين يتميز سلوكهم بالرياء. فلا يحق لأيّ دين أن يدعي أنه وحده على طريق الحق، أو أن التصرفات التي يرتكبها أتباعه بريئة، بينما تصبح جرائم إذا ارتكبها الغير، بل إننا نجد بايل يذهب أبعد من هذا، حين اعتبر أن مجتمعا ما قد تكون سيرته حسنة بغض النظر عن تدينه، كأن يكون مجتمع الملحدين أفضل من مجتمع المسيحيين. فالمجتمع اليوناني مثلا، لم يمنعه إيمانه بالأساطير الوثنية أن يكون فاضلا. وهذا يعني عند بايل شيئا واحدا، ألا وهو ضرورة الفصل بين الدين والأخلاق.

أما فونطونيل، فقد كتب "جمهورية الفلاسفة"، تخيل فيها نظاما ديمقراطيا يسيره الفلاسفة الطبيعيون على شكل انتخابات. سخر من الصراعات المذهبية، وبخاصة بين المذهب الكاثوليكي والمذهب البروتستانتي، وهو أمر لم يكن مستساغا في عصره. ناصر فونطونيل فكرة التقدم -على غرار كوندورسيه- في كتابه "استطراد حول القدماء والمحدثين"، كما دافع عن فكرة التطور في مجال العلوم في كتابه "مطارحات حول تعدد العوالم". أما في كتابه "تاريخ النبوءات"، فقد خصصه لتبسيط الأسس التي يقوم عليها اللاهوت بطريقة يسخر فيها من أولئك الذين يعتقدون فيه بشكل دوغمائي. وسواء في رسالته "عن أصل الخرافات"، أو "محاورات الموتى"، فقد انتهج فونطونيل أسلوبا يتميز بالتورية والمواربة والسخرية، قصد تقريب أفكاره الجديدة والصادمة لعموم القراء. ففي كثير من المناسبات، كان فونطونيل قاب قوسين أو أدنى من السجن، بسبب جرأته ومواقفه وبسبب أسلوبه الساخر من مختلف المذاهب الدينية والسلط الكنسية.

1 - تأويل النصوص المقدسة وإعادة النظر في الموروث الثقافي

أ - بيير بايل وتأويل النص المقدس

كتب بيير بايل "تعليقات فلسفية عن أقوال المسيح التالية: أجبرهم على الدخول"، لكي يتصدى للفهم الذي كرسه القديس أوغسطين (354 - 430) للكتاب المقدس وللمسيحية عموما؛ منتقدا نزعة اللاتسامح التي تميز هذا الفهم، وداعيا في الوقت ذاته إلى ضرورة اعتناق مبدأ التسامح المدني مع جميع الديانات ومختلف المذاهب والطوائف. وقد اختبر بايل بنفسه هذه الإمكانية، عندما غامر بالتخلي عن المذهب البروتستاني واعتناقه للمذهب الكاثوليكي، ولكن سرعان ما عاد إلى ديانته الأصلية. ومع ذلك، لم تشفع له هذه العودة المتسرعة الذهاب إلى المنفى الاختياري بجنيف، ليدخل بعد ذلك إلى فرنسا متخفيا، حيث اشتغل فيها لبضع سنوات قبل أن يغادرها مكرها إلى هولندا.

كان بيير بايل يحلم بمجتمع مستنير، ولتحقيق ذلك ندب نفسه لإنجاز مشروع كبير ألا وهو تطهير الوعي الغربي من كل القيم المضادة للحرية والسلم والتسامح. وبما أن هذا الوعي كانت تحكمه المسلمات العقائدية والتعاليم المسيحية التي تم ترسيخها في هذا الوعي منذ زمن القديس أوغسطين، فقد وجد بايل نفسه مضطرا للدخول في مواجهة مع تأويلات النص المقدس الموروثة عن هذا الأخير. كانت المهمة شاقة وصعبة: الجرأة على انتقاد شخصية من وزن القديس أوغسطين لم تكن بالأمر الهين آنذاك، ثم الجرأة على إعادة تأويل كلام المسيح والرسل بطريقة تجعلها قابلة لتحمّل قيم النزعة الإنسانية الحديثة. ولعل من بين أهم القيم التي جاءت بها الأنوار قيمة حرية الضمير أي حرية الاعتقاد، وهي القيمة التي تنص على عدم إجبار الإنسان على اعتناق عقيدة معينة بالإكراه. وللدفاع عن هذه القيمة، يورد بايل أقوال القديس أوغسطين، ثم يعلق عليها منتقدا إياه ومقدما في الآن ذاته تأويله الخاص للقضايا المتضمنة في تلك الأقوال.

يُفترض في الأمم الحديثة أن تجنح نحو السلم وليس نحو الحرب، مادام تنظيمها الاجتماعي أكثر تماسكا وتناغما

ينقل بايل عن القديس أوغسطين قوله: "إن تقييد شخص مهتاج بالأصفاد أو إيقاظ شخص خامل، سيؤدي إلى إزعاجهما حقا؛ غير أن الدافع إلى ذلك الفعل يكمن في حبهما. فالله يحب حبا لا يستطيع أي إنسان أن يبلغه، ومع ذلك فهو لا يتردد في تحقيق وعيده وتهديده بالعقاب جنبا إلى جنب مع رأفته ورحمته". يعلق بايل قائلا: "إن المثال الذي يسوقه القديس أوغسطين - مثال المهتاج والخامل - لا يخدم القضية التي يدافع عنها، إذ بوسعنا أن نحب هذين الشخصين دون القيام بما يزعجهما، ودون أن نكون راضين على ما يروقهما؛ فنحن لسنا في حاجة إلى كسب اتفاقهما معنا.. أدخلوا زنديقا إلى السجن، أرسلوا على إثره الجند لتخريب منزله، قيدوه بالسلاسل؛ إنكم لن تحققوا أي شيء في سبيل خلاصه ما لم يصبح عقله متنورا، وما لم يقبل بمحض إرادته بما ترغبون فيه"[3].

إن الأمر يتعلق بحرية الاعتقاد، أي عدم إجبار الناس على الإيمان بهذا المذهب أو ذاك، مهما تكن مبررات هذا الإجبار هنا أو هناك، لأن إرغام الناس على الإيمان لا يتم إلا بممارسة العنف، والعنف يقدم دوما تحت غطاء مقبول (أو "مشروع" بتعبير ماكس فيبر). فالقديس أوغسطين قدم تبريرا دينيا لممارسة العنف ليس فقط ضد الوثنيين، بل ضد المسيحيين المنشقين عن الكاثوليكية. يقتبس بايل عن القديس أوغسطين قوله: "قد يجوز أن يوجد من بين المسيحيين المغررين من هم في عداد خراف المسيح الذين سوف يدخلون الحظيرة - بعد ضلالهم - إن عاجلا أو آجلا. ولهذا السبب، نستسيغ استعمال القسوة ضدهم، مع ضرورة مراعاة قدر من اللين والاعتدال فيما سيلحق بهم من خسائر وعقوبات النفي والإبعاد التي نضطر إليها، كي نعيدهم إلى أنفسهم"[4].

من هم هؤلاء المغررين والمضللين من المسيحيين الذين يجوز في حقهم النفي والإبعاد مع استعمال العقوبات القاسية؟

إنهم الدوناتيون[5]؛ أي الجماعات المسيحية المناهضة للأرثوذوكسية. لم يعترف القديس أوغسطين لهؤلاء بحق الوجود، بل كان يحرض عليهم الأباطرة الرومان لاستئصال مذهبهم وإعادتهم إلى حضن المذهب الأرثوذوكسي الرسمي. وهذا ما أثار غضب بايل بعد حوالي ثلاثة عشر قرنا من الزمن الفاصل بين الرجلين! فلماذا العودة إلى هذا الزمن الغابر، والانخراط في صراع عقائدي مضى عليه مثل هذا التاريخ؟ إن الأمر لا يتعلق بالدفاع عن الدوناتيين، كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، بل يتعلق الأمر بالدفاع عن الحق في الاختلاف، والوقوف في وجه الرأي الأوحد الذي تمثله حجة السلطة في شخص القديس أوغسطين. يضاف إلى ذلك، أن هذا الصراع العقائدي القديم، يمثل البذور الجنينية الأولى لمسألة الفصل بين الدين والدولة. باختصار، إنها بعض من المبادىء التي سترفعها الأنوار شعارا لها. فماذا كان رد بايل إذن على النزعة الاستئصالية التي يدعو إليها القديس أوغسطين؟

كان رد بايل قويا، كاد يصل إلى حد التشهير، يقول فيه: "هكذا يتكلم هذا الكاتب [يقصد القديس أوغسطين] الذي يمجد بعض القوانين [الرومانية] التي لا تذهب إلى أقصى الحدود ضد الدوناتيين. فلو ذهب الأباطرة [الرومان] إلى حد الحكم عليهم بالإعدام، فلن يتخلف [القديس أوغسطين] عن تبني لغة أخرى، والبحث عن مبررات مستساغة. فما يقوله القديس أوغسطين هنا عن الخراف الضالة التي ينبغي أن تعود إلى الحظيرة عاجلا أو آجلا، لن يجدي نفعا، لأن هذه الأخيرة إن كانت في حاجة إلى العقوبات والسجون، والمنافي؛ وإلى سائر أشكال العناء الأخرى، لكي تعود إلى حال سبيلها ولكي تتعلم؛ فما من شك أن الخوف من الموت سيكون أجدى لها من أي شيء آخر"[6]؛ بمعنى أن تحقيق الهداية بواسطة الإكراه والعنف إذا كان مجديا، فإن تحقيقها سيكون أكثر جدوى إن حصل بواسطة التهديد بالموت. إنها النتائج المنطقية التي تفضي إليها تحليلات القديس أوغسطين، وهي نتائج تبرر الوسيلة بالغاية.

يضيف القديس أوغسطين، لتبرير ممارسة العنف ضد الدوناتيين، ما يلي: "لا يوجد أي واحد منا أو منكم (أيها الدوناتيون) لا يقبل بقوانين الأباطرة الموجهة ضد شعائر الوثنيين، بالرغم من كون تلك القوانين أكثر قسوة - لأنها تعاقب بالموت من يرتكب جرم الإلحاد - في حين أن تلك الموجهة ضدكم تهدف إلى إبعادكم عن الخطيئة، وليس معاقبتكم على الجرم الذي اقترفتموه"[7]. يتساءل بيير بايل، في تعليقه على هذا النوع من الحجاج، عما إذا كان من الجائز التمييز بين مضطهدِين أشرار ومضطهدِين أخيار. ثم يتساءل مرة أخرى، عن الغاية من ممارسة العنف الأقسى على البعض، في مقابل العنف الأخف على البعض الآخر. فإذا كان العنف يجبر الهراطقة على العودة إلى جادة الصواب، فلماذا لا يؤدي نفس الدور بالنسبة إلى الوثنيين؟ ألسنا نحن المؤمنين - يتساءل بيير بايل - هم أحفاد الوثنيين؟ وفي كلتا الحالتين "إن القديس أوغسطين يجيز استخدام العنف في حق الهراطقة وفي حق الوثنيين"[8]. وهذا كله يتناقض مع روح الديانة المسيحة التي تقوم على مبدأ المحبة والصفح عن الأعداء، وتحقيق ملكوت الله في السماء وليس في الأرض. ورغم أن القديس أوغسطين رام الوصول إلى غاية نبيلة، إلا أن الوسيلة لم تكن نبيلة. ويستخلص تزفيطان تودوروف من هذه العلاقة الشاذة بين الوسيلة والغاية، أن "الغاية سوف تضيع في الطريق. ونفس هذه الطريقة هي التي سار عليها المستعمرون الذين أخضعوا شعوبا بأسرها تحت ذريعة إقامة المساواة بينهم. وهي نفس الطريقة التي تسلكها القوات المسلحة اليوم، هنا أو هناك، بحجة فرض الحرية على تلك الشعوب. وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، لا تتردد هذه القوات في إمطارهم بوابل من القذائق "الإنسانية""[9].

ب - برنار فونطونيل وإعادة النظر في الموروث الثقافي

في دراسته "استطراد حول القدماء والمحدثين"، يرى فونطونيل أن قدماء الفلاسفة والحكماء ليسوا أكثر شأنا ولا أعلى قدرا من المفكرين المحدثين. وإنه من الخطأ القول إن حكماء اليونان مثلا لا يمكن مضاهاتهم، ولا يمكن للمحدثين أن يبلغوا في الفلسفة أو المسرح أو العلم أو الشعر مبلغ أولئك. يقول: "إذا ما فهمنا جيّدا مسألة القول بتفوق القدماء على المحدثين، فمن الجائز اختزالها في معرفة ما إذا كانت الأشجار التي كانت تملأ حقولنا في الماضي، أكثر طولا من الأشجار الموجودة اليوم. وفي حالة ما لو كانت كذلك، فإن هوميروس وأفلاطون وديموستين لا يمكن مضاهاتهم في القرون الأخيرة. أما إذا كانت أشجارنا مثل الأشجار السابقة من حيث طولها، فهذا يعني أننا من الممكن أن نتساوى مع هوميروس وأفلاطون وديموستين. لنوضح هذه المفارقة: إذا كان القدماء يمتلكون عقلا أكثر من عقلنا، فمعناه أن الدماغ البشري في تلك الحقبة كان أكثر استعدادا، ومكوّنا من ألياف عصبية أكثر صلابة أو أكثر رقة"[10]. ولكن إذا ثبت أن الدماغ البشري واحد، وطول الأشجار لا يتزيّد ولا يتناقص؛ فمعنى هذا أن المحدثين ليسوا أقل شأنا من القدماء في درجة الإبداع وفي قوة التفكير. وفي هذه الحالة، لابد من التساؤل عن مبرر الإعجاب بالقدماء، وتنزيلهم منزلة تفوق كل اعتبار. لذا يضيف فونطونيل: "ليتنبه المعجبون بالقدماء وليأخذوا حيطتهم حينما يقولون لنا إن هؤلاء الأشخاص هم مصدر الذوق السليم والتعقل، وهم مصدر الأنوار الكفيلة بتنوير الآخرين؛ وأننا لا يمكن أن نكتسب فضيلة التعقل إلا بقدر ما نعجب بهم، وأن الطبيعة قد استنفذت طاقتها في إنجاب هؤلاء العظماء"[11]. بعد هذا التنبيه، يتدخل فونطونيل لتقويم مثل هذا الاعتقاد، منتقدا النزعة الوثوقية لدى أنصار الموروث القديم. يقول: "إن الطبيعة تملك بين يديها طينة تعمل على تقليبها وإعادة تقليبها على ألف وجه وبدون كلل، لتنشئ منها الناس والحيوانات والنباتات، وهي بكل تأكيد لم تنشئ أفلاطون ولا ديموستين ولا هوميروس من صلصال خالص أكثر، ومحضّر أكثر، من فلاسفتنا وخطبائنا وشعرائنا اليوم"[12].

انتبه فونطونيل كذلك إلى دور الاختلاف في بروز الأنوار هنا أو هناك: ففعل التنوير يحمل تأثير الثقافة لدى هذا الشعب أو ذاك، كما يتأثر الغطاء النباتي بالظروف المناخية في هذا البلد أو ذاك. فـ"إذا كانت الأشجار متساوية على طول العصور، فهي ليست كذلك في جميع البلدان. وهذه الاختلافات حاصلة أيضا بالنسبة للعقول. إن اختلاف الأفكار مثله مثل اختلاف النباتات أو الأزهار، فهي لا تأتي على نفس الشاكلة متى تعددت طبيعة المناخ"[13]. معنى هذا أن فعل التنوير يظهر لدى جميع الشعوب بدرجات متفاوتة، ويتخذ أشكالا متباينة، بيد أن خيوط التنوير القادمة من شتى الحضارات الإنسانية ستلتقي في رقعة جغرافية واحدة بعد ذلك، ألا وهي أوروبا الغربية. فكيف حصل ذلك بالطريقة التي حصل بها، بُعيد غياب فونطونيل بقليل؟

يعتقد تودوروف أن فكر الأنوار هو فكر كوني، عرفته الصين والهند والبلدان الإسلامية بطرق وتجليات مختلفة. وظهر ذلك من خلال تعايش الديانات: "البراهمية والبوذية في الهند، والكونفوشية والبوذية في الصين، وحضور المسلمين واليهود والمسيحيين والزرادشتيين والمانويين في الشرق الأوسط، أو تواجد الإسلام إزاء التقاليد الوثنية في أفريقيا السوداء"[14]، إلا أن أوروبا القرن الثامن عشر نضجت فيها فكرة التسامح، وتم تفضيلها على فكرة الحرب، كما تمت فيها الدعوة إلى العلمانية أي الفصل بين سلطة الدولة وسلطة الدين، حيث تم التعبير عن "الرغبة في تسيير المجتمع البشري على قاعدة مبادئ إنسانية خالصة، ومن ثمة تصبح السلطة بيد الأمير بدل أن تكون بيد وسطاء اليوم الآخر"[15]. وبعد كل هذا، يعاودنا السؤال من جديد: لماذا لم تظهر الأنوار في شموليتها في البلدان التي سبقت أوروبا إلى الفكر المستنير (في الصين أو الهند أو بلاد الإسلام)؟ رغم أن الجواب عن هذا السؤال معقد جدّا نظرا لتشابك عناصره وتعددها، إلا أن ذلك لم يمنع تودوروف من تقديم الملاحظة التالية: "إن أوروبا هي في الوقت نفسه واحدة ومتعددة. وقد لاحظ ذلك رجال الأنوار؛ فالقوى الأوروبية تشكل فيما بينها نوعا من النظام، إذ تربط بينها التجارة والسياسة، وترجع إلى نفس المبادئ العامة... والأوروبيون لديهم، في الوقت نفسه، حساسية تجاه الاختلافات التي تفرق بلدانهم. ويعود الفضل إلى هذه الاختلافات، في الفائدة التي يجنونها من ذلك"[16]. فكيف نشأ حلم الأنوار في أوروبا القرن الثامن عشر؟

2 - روح الأنوار: خروج الأفكار من النصوص إلى الواقع

لقد تحققت نبوءة بيير بايل عندما قال إن "القرن المقبل سيزداد تنويرا يوما بعد يوم"، حيث ظهرت حركة فكرية قوية تقوم على النقد، هدفها نقل الوعي الأوروبي من الظلامية إلى المعرفة العقلانية. وتسمية هذه الحركة بـ"الأنوار" وليس بـ"النور" لها دلالتها: لم يعد مصدر النور واحدا يأتي من السماء عن طريق الوحي في اتجاه عمودي، وإنما أصبح متعددا يأتي من الأفراد في اتجاه أفقي. إنه النور الفطري الذي تحدث عنه ديكارت، ذلك النور الذي يولد معنا ونتقاسمه بعدل. أما طريقة استخدامه، فهي تدل على اختلافنا. وبعد ذلك، سيطلق كانط صيحته المدوية في جوابه عن سؤال "ما الأنوار؟": "تجرأ على استخدام عقلك الخاص!" ويقصد بذلك "الاستخدام العمومي للعقل"، للتعبير عن الرأي. سيتم إذن تعويض نور الإلهام بنور العقل، وتعويض فكرة الخلاص الأخروية بفكرة السعادة الدنيوية. وهكذا سيعلن ديدرو: "سنعيش في هذا العالم في سكينة أكثر، عندما نتيقن أن لا شيء نخافه في العالم الآخر"، ليضيف بنوع من الجرأة: "إن فكرة عدم وجود أي إله لا تزعج أحدا، بقدر ما تزعج فكرة وجود إله بالطريقة التي يرسمونها لي"[17]. بيد أن هذه الجرأة المعلنة لا تحمل في طياتها مضمونا إلحاديا، لأن مفكري الأنوار كانوا يؤمنون بدين طبيعي. إنه الدين الذي يقوم على الاعتدال، دين لا يغالي في تصوير الإله على هيئة الجبابرة أو على هيئة الجبناء. يوضح ديدرو الصفة التي يلزم أن يكون عليها الإله: "لا يجب أن نتصور الإله بوصفه طيبا جدا ولا شريرا جدا، لأن العدل يوجد بين الغلوّ في الرحمة والغلوّ في القسوة. كما أن العقوبات المحدودة توجد بين عدم العقاب، والعقاب الأبدي"[18]. ولعل هذا التصور المتوازن لمفهوم الألوهية هو السبب الكامن وراء تصنيف مفكري الأنوار في خانة الإلهيين Déistes، وهم بهذا المعنى ليسوا ملاحدة عكس ما يشاع عنهم. بل أكثر من هذا، فالخصم العنيد للإلحاد ليس هو الإيمان، بل هو الفكر المستنير (الفكر المؤمن بالألوهية وبخلود النفس). لذا يقول ديدرو: "الإلهي هو وحده من يستطيع أن يواجه الملحد، لأنه لا يعتمد قوة الخرافة مادام إلهه كائنا من صنع الخيال"[19]. الخرافة الكامنة في النصوص المؤسسة هي المسؤولة عن الضرر الذي لحق بمفهوم الألوهية، والخرافة تبدأ منذ الطفولة مع التلقين والتنشئة والتربية. يشخص ديدرو مفعول الخرافة في أذهان الأطفال كما يلي: "يحدثوننا مبكّرا عن الله وهذا خطأ، لأنهم لا يحدثوننا عن حضوره. فالناس يباركون الألوهية فيما بينهم، ويحاصرونها في مزار ما. فأصبحت أسوار المعبد تسيج الرؤية إليها، ولا يمكن أن توجد خارج تلك الأسوار. إنكم لمعتوهون: حطموا هذه المعاقل التي تقلص أفكاركم، وسّعوا حدود فكرة الله، انظروا إليه حيث هو؛ أو فلتقولوا إنه لا يوجد في أي مكان"[20]. الإله، إذن، يوجد في كل مكان، فهو يتوحد مع الطبيعة. وإذا كانت الألوهية غير محصورة في مكان محدد، وغير مخصوصة بشعب معين، فهذا يعني أن الدين هو معتقد كوني مثله في ذلك مثل الحق الطبيعي أو الحق في التفكير والتعبير أو الحق في معرفة الحقيقة... وغيرها من القضايا الكونية الأخرى.

الكونية هي مطلب الأنوار، والاختلافات بين النّاس ليست حواجز أمام انتشار الأفكار المستنيرة. فالناس لهم حقوق يتساوون فيها، بغض النظر عن ثقافتهم ومعتقداتهم. لبيان ذلك، كتب روسو "مقال في أصل وأسس التفاوت بين الناس"، أدان فيه التناقضات الصارخة بين الفئات الاجتماعية التي تملك أكثر مما هي في الحاجة إليه، والفئات المعوزة التي لا تجد ما تسدّ به الرمق. ومن أجل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف كتب روسو مصنفه "في العقد الاجتماعي"، دعا فيه إلى إقامة المساواة بين المواطنين الذين يخضعون لنفس الشروط ويتمتعون بنفس الحقوق. كما أدان مونتسكيو من جهته ظاهرة الاسترقاق، واعتبر العبودية منافية للحق الطبيعي. وللوصول إلى تحقيق هذا الهدف كتب مصنفه "في روح القوانين"، داعيا إلى ضرورة الفصل بين السلطات يعني الفصل بين السلطة التشريعية والسلطتين التنفيذية والقضائية؛ وذلك من أجل إقامة دولة العدل والحق والقانون؛ أي الدولة التي يعيش فيها المواطنون سواسية أمام القانون.

كان كوندورسي من جهته يحلم بمجتمع إنساني تتساوى فيه جميع الشعوب، وتؤدي فيه فكرة التقدم دورها الفعال لتحسين النوع البشري. يقول: "يمكن اختزال آمالنا بخصوص الوضعية المقبلة للنوع البشري في ثلاث نقاط مهمة: القضاء على التفاوت الموجود بين الأمم، تطور المساواة داخل الشعب الواحد، وأخيرا استكمال تطور الإنسان في الواقع"[21]. فهل يمكن لهذه الآمال أن تتحقق؟ يجيب كوندورسي: "إننا بواسطة فحص مسيرة وقوانين هذا التطور نحو الكمال، يمكننا فقط أن نعرف مدى آمالنا وحدودها"[22]. إنه الإيمان بقيمة العلم في الكشف عن قوانين التطور: قوانين تطور الروح، وتطور بنيات المجتمعات، وتطور ملكات الأفراد. والخطوة الأولى في تحقيق هذا التطور تبدأ بالتربية والتكوين، ثم بعدها تتضافر خطوات أخرى تقوم بها سائر الشعوب المتنورة لإنجاز الوعد الكبير: تقدم النوع البشري وتحقيق رغد العيش للجميع.

إن تحقيق رغد العيش لجميع أفراد المجتمع لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل حكم مدني تقوم فيه الدولة برعاية الخيرات المادية، شريطة ألا تطال تلك الرعاية نفوس الأفراد لئلا يتم السقوط تحت طائلة الدولة الدينية. وهذا ما نبه عليه جون لوك في رسالته الشهيرة عن التسامح، والتي يقول فيها: "واجب على الحاكم المدني أن يؤمّن للشعب كله، ولكل فرد على حدة - بواسطة قوانين مفروضة بالتساوي على الجميع - المحافظة الجيدة، والامتلاك لكل الأشياء التي تخص هذه الحياة.. وسلطة السلطة المدنية تنحصر في المحافظة على تلك الخيرات وتنميتها خصوصا دون غيرها، ولا ينبغي أو لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تمتد إلى نجاة النفوس. أولا، لأنه لا الحاكم المدني ولا أي إنسان آخر مكلف برعاية النفوس. فالله لم يكلفه بذلك، لأنه لا يتضح أبدا أن الله قد منح مثل هذه السلطة لأحد على آخر، حيث يرغم الآخرين على اعتناق دينه.. ثانيا إن رعاية النفوس لا يمكن أن تكون من اختصاص الحاكم المدني، لأن كل سلطة تقوم على الإكراه. أما الدين الحق المنجّي، فيقوم على الإيمان الباطن في النفس، الذي بدونه لا قيمة لشيء عند الله؛ وإن من طبيعة العقل الإنساني أنه لا يمكن إكراهه بواسطة أية قوة"[23]. إن الأمر يتعلق هنا بحرية الضمير، أو حرية الاعتقاد. فالإيمان شأن شخصي لا يحق للدولة أن تتدخل فيه، سواء بالعقاب أو بالجزاء: إن الله وحده هو الذي يختص بشؤون المعتقد. وعندما تنأى الدولة بنفسها عن التدخل في الشأن الديني، فإن جميع الطوائف ستتمتع بنفس الحقوق؛ أي إنها ستتعايش في نفس المجال الاجتماعي. ومن ثم، سيتعرف أفراد المجتمع الواحد على قيمة التسامح، والتي تتمثل في احترام حرية الغير في ممارسة معتقداته وشعائره. وخرق مبادئ هذه الحرية بفعل التعصب لمذهب واحد أو ملة بعينها، سيؤجج الحقد والكراهية بين الأفراد الذين سيفقدون على إثر ذلك صفة المواطنة، ويتحولون إلى كائنات تتقن لغة العنف فقط. يقول فولتير بهذا الصدد: "من الجلي أن من يقوم باضطهاد أخيه الإنسان، بدعوى أنه ليس على رأيه، لهو وحش"[24]. وهذا ما دفع فولتير إلى كتابة "معجم فلسفي" يعرض فيه ليس لتاريخ المفاهيم الفلسفية - كما قد يتبادر إلى ذهننا لأول وهلة - بل يعرض فيه لقضايا لاهوتية بالأساس، قضايا تتعلق بالتوراة، بملوك ورسل العهد القديم، بالمسيح وحوارييه وأناجيله، بالمجامع المسكونية والهرطقات، بالتفتيش والمحرقات... إنه معجم لاهوتي أو على الأصح معجم مضاد للاهوت. كما اهتم في هذا المعجم أيضا بالقضايا التي انشغل بها مفكرو القرن الثامن عشر مثل روسو وديدرو؛ أي القضايا التي تطرحها مشكلة السلطة السياسية من قبيل الحرب والعنف والتعصب واللامساواة وفصل السلط... وغيرها. وقد سبق لبيير بايل أن ألف هو أيضاً "المعجم النقدي والتاريخي" يحلل فيه قضايا النصوص المقدسة، باحثا عن أصول اللاتسامح والعنف والاضطهاد، بينما انشغل معاصره فونطونيل بالبحث في "أصل الخرافات"، لبيان كيف انتهى زمن النبوءات والمعجزات مع مجيء المسيح. وفي المقابل، اهتم روسو بالبحث "في أصل وأسس التفاوت بين الناس"، للوقوف على جذور اللامساواة وأسباب رسوخها بين البشر. أما ديدرو ودالامبير، فقد أسسا لمشروع ضخم هو "الموسوعة"، من أجل بسط جميع مناحي المعرفة العقلية والعلمية ونقد المعارف الأسطورية واللاهوتية.

هكذا راح فلاسفة الأنوار يجوبون الأقطار الأوروبية لإنجاز هذه المشاريع الضخمة، إما هربا من الاضطهاد الديني والسياسي، وإما طلبا للمساعدة من طرف بعض الحكام المستنيرين في هولندا وبروسيا أو حتى روسيا. وكان منهم من اضطر إلى المنفى الاختياري بسويسرا أو إنجلترا وبالخصوص هولندا: بعضهم ذاق مرارة السجن (مثل فولتير) والبعض مات فيه (مثل كوندورسي) والبعض الآخر تعرضت عائلته للأذى (مثل بايل الذي مات أخوه بالسجن)، ومنهم من قضى حياته متشردا (روسو).

لقد آمن هؤلاء الكبار بمجتمع إنساني تسوده مبادئ الحرية والإخاء والمساواة والتسامح.. وخرجت أفكارهم من النصوص إلى الواقع، بعد حصول الثورات السياسية التي هزت أركان الأنظمة القديمة. لكن جاء القرن التاسع عشر بما لم يكن في الحسبان، إذ حمل هذا القرن معه أنظمة استعمارية عملت على اضطهاد شعوب أخرى باسم نفس المبادئ التي نادت بها الأنوار، ثم أعقبه القرن العشرون، وهو القرن الذي شهد بروز أنظمة فاشية ونازية زادت الطينة بلة، لتعصف بحلم الشعوب الأوروبية وغير الأوروبية في تحقيق الشعارات التي بشرت بها الأنوار.

وبعد انصرام هذه الفترات العصيبة التي هيمنت فيها القوى الاستعمارية من جهة، والأنظمة الشمولية (الفاشية، النازية، الشيوعية) من جهة أخرى، هل ما يزال حلم الأنوار قائما؟ هل المجتمع الحداثي الغربي الراهن، هو المجتمع الذي تصوره فلاسفة الأنوار والحداثة؟

3 - إخفاق وعد الأنوار؟

يعتقد تودوروف أن فكر الأنوار هو فكر كوني، عرفته الصين والهند والبلدان الإسلامية بطرق وتجليات مختلفة

لاحظ بنجامين كونسطان B. Constant في أثناء القرن التاسع عشر أن أوروبا بدأت تنحرف عن أهداف الأنوار ومبادئها، وذلك بسبب انخراطها في الحروب والغزوات. فكتب "روح الغزوات" ليبين أن الأمم الحديثة تتناقض في هويتها وبنائها مع روح الحروب التي كانت تطبع الشعوب والأمم القديمة، وقد كتب مثل هذا الكلام في عصر نابليون بونابارت، وهو الإمبراطور المشهور بانتصاراته، وفتوحاته على امتداد الخريطة الأوروبية، وهو الذي وصلت رحلته إلى مصر وروسيا. لم يرَ كونسطان في تلك الانتصارات (وقد كان معاصرا لبونابارت) سوى هزائم وتراجعات لعقل الأنوار، ولمشروع بناء الدولة الحديثة على المبادىء التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية. يدعو كونسطان إلى ما يشبه تحريم الحرب على الأمم الحديثة، لأن غريزة الاحتراب من شيم الشعوب القديمة والقبائل والعشائر البدائية. يقول: "كانت وضعية الشعوب المحاربة في القديم، هي المسؤولة عن روح الاحتراب التي كانت تميزها. فبما أنها كانت مقسمة إلى قبائل، فقد كانت تتنازع الأرض فيما بينها بذراع مسلحة. وكانت تتدافع بفعل الحاجة، وتتحارب أو يهدد بعضها البعض بدون انقطاع. ومن لم يكن غازيا من بين تلك القبائل، كان ممسكا بالسيف على الدوام مخافة التعرض للغزو. فالجميع كان يقايض أمنه واستقلاله ووجوده كاملا، بثمن الحرب. أما عالمنا اليوم فهو، من هذه الزاوية، نقيض للعالم القديم"[25]. إذن بدل أن تفصلنا مسافة زمنية وذهنية عن روح العقلية البدائية (المحاربة) بعد فاصل الأنوار، عدنا إلى الحقب التاريخية السابقة التي ميزت العصور الوسطى والقديمة على السواء.

يُفترض في الأمم الحديثة أن تجنح نحو السلم وليس نحو الحرب، مادام تنظيمها الاجتماعي أكثر تماسكا وتناغما، وليس لديها ما تخشاه من القبائل البربرية المجاورة كما كان عليه الأمر في السابق. يُفترض في الأمم الحديثة كذلك أنها حققت مرحلة من التقدم وصلت فيها إلى "عصر التجارة، وهو العصر الذي يجب أن يخلف عصر الحرب.. فالحرب والتجارة هما وسيلتان مختلفتان للوصول إلى نفس الهدف: الوصول إلى امتلاك ما نرغب فيه. فالتجارة ليست شيئا آخر عدا رد الاعتراف لقوة المالك، من طرف الطامح إلى التملك. إنها محاولة للحصول، بالتراضي، على ما لا نأمل في الحصول عليه سوى بالغزو عن طريق استعمال العنف. فالإنسان الذي يجد نفسه دوما في مرتبة الأقوى، لن يقتنع قط بفكرة التجارة"[26]. العصر الحديث هو عصر التجارة وليس عصر البطولات، هو عصر الكسب المشروع الذي وعدت به الرأسمالية، في مقابل الكسب غير المشروع الذي كان معروفا في جميع الأزمنة. فالإنسانية عرفت أشكالا مختلفة من الكسب مثل النهب واللصوصية والغزو والبغاء والسطو والسرقة .. قبل ظهور نظام الاقتصاد الرأسمالي. وقبل هذا الظهور، كانت الأديان تحاول كبح جماح الكسب غير المشروع بالاعتماد على أخلاق الوعظ والإرشاد، وتتوعد الذين يكنزون الذهب والفضة بالعقاب الأخروي. وجاءت الرأسمالية لتحث الناس على الكسب والإقبال على مباهج الحياة، ولكن بشرط الخضوع للقوانين المشروعة التي يقوم عليها الإنتاج والتوزيع والاستهلاك. إنها قوانين المجتمع الليبرالي الحديث الذي يُبجّل الفرد، ويقدس الحرية الشخصية، ويدعو إلى المنافسة التي تحميها ترسانة من القوانين التي تقف في وجه الجشع والاحتكار.

يقارن بنجامين كونسطان بين الحرية عند القدماء والحرية عند المحدثين، ويحصر خصائص الحرية عند المواطن الأوروربي أو الأمريكي في كونها: "تعني لدى كل واحد عدم الخضوع سوى للقوانين، وعدم التعرض للتوقيف أو الاعتقال أو الموت، وعدم التعرض للإساءة بأية طريقة كانت بفعل إرادة تعسفية من طرف فرد واحد أو مجموعة أفراد. كما تعني لدى كل واحد الحق في التعبير عن رأيه، واختيار ممارسة مهنته، وحق التصرف في ملكيته وتبديدها إن شاء ذلك، والحق في الذهاب والإياب دون طلب إذن ودون الحاجة إلى تبرير أسباب ذلك أو خطواته. إن الحرية كما يفهمها أي فرد تعني حق الاجتماع مع الآخرين، سواء من أجل الحديث عن مصالحه أو من أجل الدعوة إلى العقيدة التي يفضلها بمعية شركائه، أو من أجل ملء فراغ الأيام والساعات بطريقة تناسب ميوله أو هواجسه. وأخيرا، تعني الحرية لدى كل واحد الحق في التأثير على إدارة الحكومة، سواء على مستوى تعيين الموظفين أو البعض منهم، أو على مستوى التمثيليات والعرائض والمطالب التي يلزم أن تأخذها السلطة بعين الاعتبار". هذا بالنسبة إلى مفهوم الحرية لدى المحدثين. أما بالنسبة إلى مفهوم الحرية لدى القدماء، فإنه "يكمن في الممارسة الجماعية والمباشرة للعديد من أجزاء السيادة مجتمعة، مثل التشاور - في الساحة العمومية - في شؤون الحرب والسلم، وإبرام اتفاقيات التحالف مع الأجانب، والتصويت على القوانين، والنطق بالأحكام، ومناقشة أجور القضاة وممارساتهم وتدبيرهم للأمور، وعرضهم على أنظار الشعب، لاتهامهم ومعاقبتهم أو تبرئتهم. وإذا كان هذا هو ما يعنيه القدماء بالحرية، فهم يقبلون في الوقت نفسه خضوع الفرد للسلطة بأسرها، وهو خضوع ينسجم مع هذه الحرية الجماعية. فلن تجد عندهم تقريبا أية متعة من تلك التي أتينا على ذكرها لدى المحدثين، ومعنى هذا أن كل الأفعال الخاصة تخضع لمراقبة صارمة. فلاشيء يُمنح للاستقلال الفردي، سواء على مستوى الآراء أو على مستوى المهنة أو على مستوى الدين. فملكة اختيار المعتقد الخاص، وهي الملكة التي ينظر إليها اليوم بوصفها إحدى أثمن الحقوق، كانت تبدو للقدماء جريمة وانتهاكا للحرمات"[27].

إذا كان هذا هو الفرق بين المجتمع القديم والمجتمع الحديث؛ أي الفرق الجوهري بين حرية الأقدمين وحرية المحدثين، فهل أبانت الفترة المعاصرة عن حصول هذا الفرق بين المجتمعين؟ وهل تم الانتقال فعلا من الحرية الأولى إلى الحرية الثانية، أم وقع انتكاس وفعلت قوى الارتكاس فعلها في التاريخ؟

لاحظ تودوروف، في حوار أجري معه[28]، أن مشروع الأنوار كان يتكون في مجمله من شقين: شق جمهوري وشق ليبرالي. وقد وجد هذان الشقان نقطة التقائهما فيما كتبه بنجامين كونسطان بخصوص "مبادئ السياسة"، ومقارنته بين "حرية الأقدمين وحرية المحدثين". ولأسباب تاريخية (الثورة الفرنسية، والمذاهب الاشتراكية التي ظهرت في القرن التاسع عشر)، انتصر الشق الجمهوري على الشق الليبرالي. وقد تعزز هذا الجانب الجمهوري في القرن العشرين بانتصاب الدولة بوصفها سلطة، بأجهزتها القمعية المختلفة، على حساب الفرد والمجتمع. وهناك من يغالي في تفسير ما آلت إليه الدول الأوروبية - بدءا من القرن التاسع عشر - حينما تحول معظمها إلى قوى استعمارية، ويرى أن الأسس الأيديولوجية للاستعمار توجد في مشروع الأنوار. يقول تودوروف عن مثل هذا التفسير المغالى فيه: "تؤكد الأنوار على وحدة النوع البشري، ومن ثم على كونية القيم. وبما أن الدول الأوروبية اقتنعت بكونها تحمل قيما عليا، فقد اعتقدت بأنها مخولة لنقل حضارتها إلى من هم أقل منها. ولكي يتيقنوا من إنجاح مهمتهم، فقد كان لزاما عليهم أن يحتلوا الأصقاع التي تقطنها تلك الشعوب"[29].

هذا ما حدث في الخارج، أما في الداخل فقد بدأ هامش الحرية يعرف نوعا من التراجع في اتجاه ما سماه بنجامين كونسطان "حرية الأقدمين"؛ أي الحرية الجماعية التي تسحق الفرد لحساب الجماعة، إذ عملت وسائل الإعلام والإشهار ووسائل الترفيه والتسلية.. على تنميط وعي الإنسان المعاصر الذي أصبح ذا بعد واحد كما بيّن ذلك ماركيوز، حيث أصبح الناس يفكرون بنفس الطريقة، ويستهلكون نفس البضاعة، ويمتلكون نفس القناعات.. وبذلك أصبحوا يتداولون أمورهم وقضاياهم داخل فضاء يشبه الأغورا (الساحة العمومية في المدينة اليونانية القديمة).

ومع العولمة وظهور الشركات العابرة للقارات، تحولت سلطة المال إلى قوة ضاغطة على الدول والشعوب، حيث أصبح امتلاك الأسهم في البورصات العالمية تتحكم فيه أياد خفية، وبات بيعها وشراؤها يتم من أقصى نقطة في المعمور إلى أقصاها في الطرف الآخر. وهكذا بدأت الأزمات المالية تعصف بقوت شعوب بأسرها، دون أن يكون للدولة أي حول أو قوة لرد قدَر اقتصادي يتحكم في خيوطه فاعلون افتراضيون. ويظهر أن الاتجاه العام للعولمة يسير - في أمريكا والاتحاد الأوروبي والاقتصادات الصاعدة في جنوب شرق آسيا - نحو تطبيق الشعار الذي رفعه بعض الساسة والاقتصاديين في الولايات المتحدة، ألا وهو: "الدولة هي المشكلة، والسوق هو الحل". وإذا ما ترسخ هذا الاتجاه، وطغى هذا الشعار، فسوف تتحقق نبوءة هيدجر بالفعل، أي أن هذا العصر سيحتاج إلى إله جديد لينقذه.

هل يعني هذا أن المبادئ التي شيد عليها عصر الأنوار مشروعه هي التي تحكمت في المصائر التي آل إليها القرنان التاسع عشر والعشرون، وما سوف يسفر عنه القرن الحادي والعشرون؟

لا نعتقد ذلك، لأن النصوص المؤسسة (فلسفية أو دينية) لا يمكنها أن تتنبأ بالنتائج التي قد تتمخض عن التعاليم والحكم والمبادئ العامة.. المتضمنة فيها. فالشرور التي قد تصيب العالم في فترات أو عصور بعينها، لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى الفضائل قبل خروجها من النصوص إلى الوقائع. فما علاقة الصهيونية مثلا بصحف إبراهيم وموسى؟ وما علاقة تعاليم المسيح بالكنيسة أو الحروب الصليبية؟ وما علاقة التعاليم القرآنية بالجماعات الإرهابية؟ وما علاقة الاشتراكية بالستالينية؟ وما علاقة النازية بالديمقراطية؟ والأمثلة لا تكاد تحصى، عن الهوة الشاسعة بين النص والواقع، بين النظرية والممارسة. وعادة ما يتم تفسير مثل هذه المفارقات بـ"الخيانة"، أعني خيانة النظرية إبان الممارسة؛ بيد أن لكل ممارسة سياقها، ولكل واقع خصوصيته. فليست النوايا المبثوثة في المبادئ والتعاليم والمواقف، هي وحدها التي تحدد مسارات الإنجاز والتطبيق والممارسة؛ بل هناك أيضا عوامل خارجية تنضاف لتأثيث المشهد: هناك المصالح، والميول، والرغبات، والإكراهات، والتوافقات، والتنازلات... وغيرها.

لقد كانت النوايا طيبة لدى المؤسسين الأوائل لفكر الأنوار، حينما تصدوا بمعاول النقد للأساطير والنبوءات ولسلطة المعتقدات والمذهبيات؛ بيد أنهم لم يكونوا على وعي بأنهم كانوا يهدمون صروح السرديات الكبرى بوصفها قلاعا حصينة للمعنى. ولما تهاوت تلك الصروح داخل الوعي الغربي، تبعها انهيار المعاني. فالمسار الذي اتخذه الوعي الغربي بعد عصر الأنوار انحاز إلى اتجاه دون آخر: انحاز إلى فكرة التقدم إلى حد رفعها إلى مقام الأسطورة، انحاز إلى مفهوم العقل إلى حد جعله مجرد قوة أداتية، انحاز إلى منطق العد والحساب والتكميم، فاحتقر بذلك منطق المعنى والخيال والعاطفة.

لم يعد هاهنا رابط يجمع الأنا بالغير، إذ انكمش كل فرد داخل قوقعة تحده وتحدده. وهذا ما دفع هابرماس إلى التفكير في طرح بديل للعقل الأداتي ألا وهو العقل التواصلي، بغية إخراج الفرد من تلك القوقعة التي حشر فيها حشرا. وذلك من خلال إعادة النظر في وظيفة "الفضاء العمومي"، وأخلاقيات النقاش، وأفعال الكلام...إلخ. فهل يجدي هذا نفعا في عصر يدار فيه النقاش العمومي بطريقة متحكم فيها، وموجهة من خلال مؤسسات إعلامية وسياسية؟ وفي عصر لا يسمح فيه بإنتاج الحقيقة وتوزيعها واستهلاكها، سوى من خلال تصريفها عبر قنوات جد مراقبة (علمية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية)، كما بين ذلك ميشيل فوكو بكثير من الإسهاب؟


 

[1] بيير بايل P.Bayle (1647 - 1706): ولد بيير بايل في بلدة Carla-le- Comte، وتدعى اليوم Carla-Bayle (فرنسا)، وتوفي بروتردام (هولندا). دخل المدرسة اليسوعية بتولوز سنة 1769، تحول إلى الكاثوليكية، غير أنه عاد مرة ثانية إلى البروتستانتية بعد مدة وجيزة (سبعة عشر شهرا). غادر إلى جنيف بصفته مرتدا، وبها درس علم اللاهوت والفلسفة. دخل فرنسا متخفيا ليشتغل بمدينة روان وباريس، تم تعيينه بأكاديمية سيدان مدرسا للفلسفة والتاريخ. بعد إغلاق الأكاديمية من طرف لويس الرابع عشر سنة 1681، هاجر بايل إلى هولندا، وهناك عين مدرسا للفلسفة والتاريخ في مدرسة روتردام الشهيرة. ترك بايل معجما تاريخيا ونقديا، بالإضافة إلى رسالته عن المذنّب، وكذا تعليقاته الفلسفية... وهي أعمال تنويرية خصصها لمحاربة الخرافات والاعتقادات المضادة للحرية والتسامح والسلم.

[2] برنار لوبوفيي فونطونيل B.B.Fontenelle (1657 - 1757): ولد بمدينة روان وتوفي بباريس، تتلمذ على يد اليسوعيين وتوفق في دراساته. في سنة 1691 أصبح عضوا بالأكاديمية الفرنسية، كما أصبح كاتبا دائما للأكاديمية الملكية للعلوم. أثناء الصراع الذي دار بين القدماء والمحدثين، انحاز فونطونيل للمحدثين، مما عرضه لنقد لاذع من طرف كل من راسين وبوالو. ترك فونطونونيل مؤلفات فلسفية منها: حوارات حول تعدد العوالم، الشك في نظام فيزياء العلل المؤقتة، تاريخ النبوءات. هذا بالإضافة إلى كتاباته المتنوعة في مجال العلم والمسرح والشعر والتاريخ.

[3] P.Bayle, Commentaire philosophique sur les lettres de St.Augustin, BNF, Gallica, 2007, 45-46

[4] Ibid, p.103

[5] الدوناتيون Donatistes هم جماعة دينية تنتسب إلي دونات Donat، وهو أسقف مسيحي عاش في القرن الرابع بشمال أفريقيا (أفريقيا الرومانية آنذاك). وقد اختلف هؤلاء مع الكنيسة بعد رفضهم لصلاحية القربان المقدس من طرف الأساقفة الذين خانوا مبادئ المسيحية، في أثناء فترة الاضطهاد الروماني بين سنتي 303 و 305 على يد الإمبراطور ديوقلتيان. في هذه الفترة العصيبة تمت مطالبة الأساقفة بتسليم النصوص المقدسة والرموز الدينية، وخوفا من العقاب استجاب بعض الأساقفة بينما راوغ البعض الآخر؛ في حين تميز موقف الدوناتيين بالرفض المطلق. أعقبت هذه السنوات فترة من التسامح في عهد الإمبراطور ماكسنس، حيث سادت حالة من السلم حوالي سنة 307. في هذا التاريخ ظهرت أولى الانشقاقات في صفوف المسيحيين، وبخاصة بعد عودة من سموا بالخونة traditores إلى الكنيسة من جديد (وعلى رأسهم باولوس الذي سبق له أن سلم الكتب المقدسة واستجاب للسلطات الرومانية في عهد الاضطهاد). سيشتد الصراع بين الطرفين، حيث سيتمكن دونات سنة 312 من حشد حوالي سبعين أسقفا لاختيار رئيس الكنيسة ضدا على الرئيس الذي انتخبه تيار المستسلمين والخونة. في السنة الموالية، انعقد مجمع مسكوني في روما أدان الدوناتيين؛ أي المنشقين عن الكنيسة في أفريقيا. بيد أن رد فعل هؤلاء كان قويا، واحتكموا إلى الإمبراطور قسطنطين لينعقد على إثر ذلك مجمع مسكوني بآرل سنة 314، والذي تبنى نفس قرار المجمع السابق. بعد ثلاث سنوات من هذا التاريخ، تحول هذا القرار إلى قانون؛ وبموجبه تم حل الجماعات الدوناتية وتم استصدار ممتلكاتها. صاحب تطبيق هذا القانون الكثير من أعمال العنف في قرطاج وفي المقاطعات الرومانية الأخرى في أفريقيا الشمالية، مما اضطر معه قسطنطين إلى تعليق تطبيق تلك العقوبات الزجرية حوالي سنة 321. وهكذا أصبح الدوناتيون يعتبرون أنفسهم "أبناء الشهداء" في مقابل "أبناء الخونة"، وعملوا على إعادة تعميد كل مسيحي قادم من خارج جماعتهم.

حوالي سنة 340 ظهرت حركة ثورية في المنطقة كان يقودها عمال زراعيون، طالبوا خلالها بإسقاط ديونهم وتحرير العبيد. وسرعان ما تحالف معهم الدوناتيون، وأيدوا مطالبهم. في هذه الأثناء أرسل الإمبراطور كونسطان الأول مبعوثين إلى أفريقيا الشمالية لتهدئة الأوضاع عن طريق توزيع المساعدات على الجماعات الغاضبة والطوائف الثائرة، غير أن الأسقف دونات رفض تلك المساعدات كما رفض أي تدخل في كنيسته من طرف السلطات الحاكمة. بعد انعقاد مجمع نيقية الشهير تصدت الأورثوذوكسية المسيحية لما اعتبرته تحريفا وهرطقة، بينما تراوحت سياسة الأباطرة بين المد والجزر. بعد وفاة زعيمها دونات ظلت الجماعات الدوناتية ملاذا للمقاومة ضد الأورثوذوكسية المسيحية، ومرت بفترات من التسامح وأخرى سادها الاضطهاد. بعد سنوات من ذلك (حوالي 395) سيتصدى القديس أوغسطين للجماعات الدوناتية، باعتبارها جماعات هرطوقية؛ أي مارقة عن الدين المسيحي الحقيقي، ويجيز استعمال العنف ضد أفرادها لإجبارهم على العودة إلى "الحظيرة" بوصفهم الخراف الذين قال عنهم المسيح: "أجبروهم على الدخول".

[6] P.Bayle, Commentaire.. p104

[7] Ibid, p. 105

[8] Ibid, p. 113

[9] T.Todorov, L’esprit des lumières, Robert Laffont, 2006, p.106

[10] B.B.Fontenelle, Digression sur les anciens et les modernes, BNF, Gallica, 2008, p.235

[11] Ibid, pp.235-236

[12] Ibid, pp.236

[13] Ibid, pp.236

[14] Todorov, L’ésprit des lumières.. p.110

[15] Ibid, p.110

[16] Ibid, p.112-113

[17] D.Diderot. Pensées philosophiques, Flammarion, 1972, p.35

[18] Ibid, pp.35-36

[19] Ibid, pp.35-36

[20] Ibid, p.43

[21] Condorcet, Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit humain, Flammarion, 1988, pp.265-266

[22] Ibid, p.277

[23] جون لوك: رسالة في التسامح، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة الشروق الدولية، 2011، ص ص 52-53

[24] Voltaire, Dictionnaire philosophique, Gallimard, 1994, p.494

[25] B.Constant, Ecrits politiques, Gallimard, 1997, p.129

[26] Ibid, p. 130

[27] Ibid, p. 594

[28] ENA, no 372, juin 2007

[29] Todorov, L’ésprit des lumières.. p.27