مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية


فئة :  قراءات في كتب

مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية

 قراءة في كتاب:

مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية

تأليف رقية العلواني وآخرين


كتاب مفهوم الآخر في اليهودية والمسيحية تأليف كل من د. رقية العلواني، الأب. د. كريستيان فانسين، أ. سمير مرقص، القس د. إكرام ألمعي، نشر دار الفكر دمشق، طبعة 2008، عدد صفحاته 267. ويضم هذا الكتاب أربعة أبحاث رئيسة؛ الأول "مفهوم الآخر لدى الجماعات اليهودية الحديثة"، الثاني "العلاقة بالآخر في الرؤية المسيحية"، الثالث "مفهوم الآخر في المسيحية المصرية الأرثوذكسية" الرابع "المسيحية الإنجيلية البروتستانتية والموقف من الآخر".

البحث الأول: "مفهوم الآخر لدى الجماعات اليهودية الحديثة" للدكتورة رقية العلواني (أستاذة الدراسات الإسلامية جامعة البحرين) تطرقت في بحثها إلى أربعة محاور رئيسة، المحور الأول يتمثل في مفهوم الجماعات اليهودية الحديثة وأثر الظرفية التاريخية في نشأتها وتطورها، وينقسم أعضاء هذه الجماعات اليهودية إلى عدة أقسام أساسية: إشكناز، وهم اليهود الذين يعيشون في العالم الغربي، وسفارديم الذين يعيشون في الشرق وأقطار العالم الإسلامي. وإلى جانب ذلك فإنّ هناك جماعات يهودية هامشية تتجاوز العد والحصر في القديم والحديث. وإجمالاً تضيف "العلواني" أنّ الجماعات اليهودية الحديثة جاءت كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة ردة فعل لحركة التنوير التي فرضت ثقافتها وتيارها في القرن الثامن عشر. ويعد موسى مندلزوهن (1786م) من رواد حركة التنوير اليهودية، فقد حمل على عاتقه نشر فكر التنوير بين صفوف اليهود القاطنين في المجتمعات الغربية، ونشر في كتابه الموسوم بالقدس أنّه لا يؤمن دينيًّا سوى بما يقره العقل ويقبله. وبينت "رقية العلواني" أنّه لا يزال التباين والاختلاف بين الجماعات اليهودية البالغ حد الصراع قائمًا في العصر الحاضر، فالأصوليون –على سبيل المثال- الذين يتمسكون بحرفية التوراة والتلمود يطالبون بأداء الشعائر التي لم يبق لها وجود في حياة كثير من العلمانيين اليهود، كما يطالبون بتطبيق أحكام السبت وقوانين الطعام وإلغاء صلاحيات الحاخامات الإصلاحيين. وأشارت أيضًا إلى أنّ المجتمع الصهيوني يشهد أزمات عديدة حول الهوية بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين.

المحور الثاني خصته الباحثة "للآخر: المفهوم والمصطلح"، إذ يشير اليهود إلى غير اليهود بكلمة "Gentiles" وهي كلمة من أصل لاتيني (gens) (gentilis) وضعت للإشارة إلى غير اليهود بصفة عامة، ويتضمن المصطلح مفهومًا يشير إلى نظرة دونية واحتقار لغير اليهود. وتؤكد الموسوعة اليهودية أنّ ما كتب في التوراة والتلمود حول الأغيار ممّا يحمل طابعًا سلبيًّا وعدوانيًّا إلى حد كبير، إنّما يتأتى من كون هؤلاء الأغيار هم من الوثنيين الذين وقفوا في وجه بني إسرائيل. وهكذا تتضح المحاولات المتواصلة من جانب الدراسات اليهودية الحديثة لتضييق مفهوم مصطلح "الآخر" أو "الأغيار" وتحديد دائرته في الوثنيين للتكيف مع ظروف تحتم على الجماعات اليهودية العيش في واقع يضم مختلف الأجناس والبشر. كما فرضت الرقابة الحكومية على اليهود في بعض الأحيان تضييق المجال الدلالي لبعض العبارات والكلمات التي تظهر عداء واضحًا للآخر، وخصوصًا من الوثنيين. ويرى الحاخام آجوس أنّ بعض الزعماء الدينيين اليهود يتداولون اليوم فيما بينهم مخطوطات تضم العبارات التي حذفتها الرقابة الحكومية، كما يعاد في إسرائيل طبع النسخة الأصلية من التلمود دون تعديل عليها.

وفي المحور الثالث عالجت الباحثة تشكيل صورة الآخر في النصوص التوراتية والتلمودية، وفي البداية قدمت تعريفًا للعهد القديم ومصداقيته في ضوء حركة نقد النصوص الكتابية، ثم انتقلت إلى صورة الآخر في التوراة، ففيما يتعلق بهذا الموضوع فقد وردت في التوراة عبارات عديدة تبين طبيعة النظرة إلى الآخر المختلف عن اليهودي المقدس في الأصل. وتعد فكرة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل عقيدة جوهرية عندهم، ويرى علماؤهم على اختلاف الجماعات التي ينتمون إليها أنّ الاختيار عقيدة أصلية عززتها نصوص التوراة، فقد جاء في سفر التثنية 7/6-8: "لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لهُ شَعْباً أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ 7ليْسَ مِنْ كَوْنِكُمْ أَكْثَرَ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ التَصَقَ الرَّبُّ بِكُمْ وَاخْتَارَكُمْ لأَنَّكُمْ أَقَلُّ مِنْ سَائِرِ الشُّعُوبِ. 8بَل مِنْ مَحَبَّةِ الرَّبِّ إِيَّاكُمْ وَحِفْظِهِ القَسَمَ الذِي أَقْسَمَ لآِبَائِكُمْ أَخْرَجَكُمُ الرَّبُّ بِيَدٍ شَدِيدَةٍ وَفَدَاكُمْ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ مَلِكِ مِصْرَ" كما جاء في سفر إشعياء 49/23 "بِالْوُجُوهِ إِلَى الأَرْضِ يَسْجُدُونَ لَكِ وَيَلْحَسُونَ غُبَارَ رِجْلَيْكِ فَتَعْلَمِينَ أَنِّي أَنَا الرَّبُّ الَّذِي لاَ يَخْزَى مُنْتَظِرُوهُ". وغير ذلك من النصوص. وعلى هذا يشكر اليهودي إلهه في كل الصلوات لاختياره الشعب اليهودي، وعند قراءة التوراة، يحمد الإله لاختياره هذا الشعب دون الشعوب الأخرى.

هذا فيما يخص صورة الآخر في التوراة أمّا التلمود فقد جاءت نظرته للآخر نظرة أكثر حدة من التوراة وفيما يلي بعض النصوص الواردة في التلمود - كما أوردتها الموسوعة اليهودية – حول الأغيار وكيفية تعامل اليهود معهم:

- اليهود هم البشر، أما غيرهم فهم ليسوا من البشر، بل وحوش وشياطين.

- المرأة الحامل من الأغيار ليست أفضل من الحيوان الحمل.

- أرواح غير اليهود جاءت من أرواح غير نقية تسمى خنازير.

وتعلق "رقية العلواني" على هذه النصوص قائلة: "والدراسة إذ أوردت تلك النصوص التوراتية والتلمودية لا تذهب إلى أنّ فكر الجماعات اليهودية تجاه الآخر تشكل من خلال تلك النصوص، بل تؤكد أهمية قراءتها من خلال سياقها التاريخي والاجتماعي بعيدًا عن المصادر الفكرية والأفكار التعميمية السائدة في قراءتنا لفكر الآخر".

وفي المحور الرابع والأخير بيّنت المؤلّفة كيف أسهمت الظرفية التاريخيّة في تشكيل صورة الآخر في ذهنيّة الجماعات اليهوديّة المختلفة، فقد تزعزع كثير من الأفكار النمطية الواردة حول الآخر مع ظهور حركة التنوير اليهودية التي حاولت تشجيع اليهود على الاندماج مع الآخر.

البحث الثاني: مفهوم الآخر في الرؤية المسيحية للأب كريستيان فان نيسبن (أستاذ الفلسفة كلية الدراسات الإنسانية واللاهوتية القاهرة)، يرى الأب كريستيان أنّ رؤية الكنائس المسيحية للآخر وللعلاقة بالآخر هي، في أساسها، واحدة مشتركة بين الجميع، وهي نابعة من الكتاب المقدس ومن أساسيات الدين المسيحي، ويضيف قائلاً: "نجد في سيرة المسيح أنّه عاش في المجتمع اليهودي ولكنّه، كل مرة من جديد، يكسر الحدود والحواجز التي يضعها الناس؛ ولذلك يرى القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس في شخص المسيح أنّه هو من هدم أحمد الحواجز بين الناس؛ أي العداوة، ويقول المسيح ذاته في التطويبات "طوبى للساعين للسلام فإنّهم أبناء الله يدعون" من يسعى للسلام بين المتخاصمين ويقوم بعمل المصالحة بين الأعداء، بين كل أنواع الناس الذين بينهم عداوة، ينظر بذلك انتماءه إلى الله ويعكس مباشرة موقف الله تعالى ذاته.

ونبه الأب كريستيان إلى أنّه إذا كان الكتاب المقدس هو الأساس في نظرة المسيحية إلى العلاقة بالآخر، فقد وصلت هذه النظرة مع بناء الكنيسة إلى أشكال متعددة من البلورة والترجمة لهذه الرؤية. ومنهم من ركز على قدسية كل إنسان من حيث هو إنسان.

بعد هذا تناول مفهوم الآخر في المسيحية الكاثوليكية وذلك من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) والذي صدرت بعده وثائق كنسية كثيرة في الكنيسة الكاثوليكية، من جهات مختلفة ومعبرة عن مواقف كثيرة، وتوجد أربعة مجمعيات يعتبر كل واحد منها جانبًا من النظرة إلى الآخر. وهذه النصوص هي:

أولاً: نص الدستور الرعوي والذي يعبر عن رؤية الكنيسة إلى الإنسان في علاقته بالإنسان الآخر وعلاقاته بالجماعات البشرية. ثم نظرة الكنيسة إلى تحقيق السلم لمصير الإنسان بحسب المجالات المختلفة: زواج، الحفاظ على السلام...

ثانيًا: النص الخاص بالحركة المسكونية، أي علاقات الكاثوليك بالمسيحيين الآخرين والسعي نحو إعادة الوحدة بين المسيحيين.

ثالثًا: الوثيقة الخاصة بعلاقات الكنيسة بالديانات غير المسيحية، أي العلاقات بالمؤمنين الآخرين.

ورابعًا: النص الخاص بالحرية الدينية والذي يبرز كيف يؤصل المجتمع الحق في الحرية الدينية واحترامها، ما لم يكن أمرًا بديهيًّا وواضحًا في كل العصور.

وختم المؤلّف بحثه بفكرة مهمة وهي قوله: إن أردنا أن نقدم رؤية مقارنة إلى نظرة الديانات التوحيدية إلى العلاقات بالآخر، ينبغي ألا تتحقق مثل هذه المقارنة من خلال بحث عن التعارض الموجود بين هذه الديانات، بل بالأحرى بالبحث عن التكامل الذي بين تلك الرؤى الخاصة بتلك الديانات.

البحث الثالث: مفهوم الآخر في المسيحية المصرية الأرثوذكسية لسمير مرقس (مستشار المركز القبطي للدراسات الاجتماعية بطريركية الأقباط الأرثوذكس) لقد تناول المؤلّف قضية الآخر من خلال ثلاثة محاور وهي:

- المسيحية المصرية الأرثوذكسية ومفهوم الآخر: تأسيس لاهوتي ويعتبر "مرقس" أنّ نقطة الانطلاق في المسيحية هي المحبة، والمحبة التي يقصدها هي محبة البذل والتضحية التي لا تنتظر أي مقابل، ويسمى هذا الحب AGAPE، تمييزًا عن حب الإيروس EROSحب الذات، كذلك حب الفيليا PHILIA أي الحب العاطفي. الحب -في نظر المسيحية - لم يعد مجرد (هوى عنيف) يتخذ من (الآخر) واسطة أو مناسبة لزيادة إحساسه بالحياة أو تحقيق أمله في السعادة، بل أصبح اتجاهًا غيريًّا ينحو نحو الآخر، لكي يعمل على خدمته ويسهم في تحقيق سعادته، ويشترك معه في تثبيت دعائم ملكوت الله على الأرض. إنّ المحبة المسيحية تتجاوز الحب المتمركز حول الذات (الايروس) بحسب الفكر اليوناني، فهي تلقائية غير مشروطة، فضلاً عن أنّها غيرية إثارية. وفي هذا المقام يوضح زكريا إبراهيم هذا الأمر فيقول "إنّ المحبة المسيحية AGAPE غير مسببة أو غير محددة ببواعث، وكيف أنّها إبداعية خلاقة" وينطلق هذا الحب من (الحياة الإلهية) حيث تستمد قوتها من الله، وتهب نفسها للآخرين بغض النظر عن: هل هم أخيار أم أشرار. واعتبر "مرقس" أنّه ما دام الإنسان خُلق من قِبل الله على أساس المحبة، فمن هذا الأساس يجب الانطلاق في التعامل مع الآخرين.

- المسيحية المصرية الأرثوذكسية ومفهوم الآخر: تأسيس كتابي لقضية الآخر كتابيًّا. انطلق "مرقس" من قصة بطلها المسيح نفسه، وقد جاء ذلك في إنجيل القديس لوقا 10/25-28 كالتالي: "وَإِذَا نَامُوسِيٌّ قَامَ يُجَرِّبُهُ قَائِلاً: «يَا مُعَلِّمُ وَقَالَ مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» 26فَقَالَ لَهُ: «مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي النَّامُوسِ. كَيْفَ تَقْرَأُ؟» 27فَأَجَابَ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». 28فَقَالَ لَهُ: «بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هَذَا فَتَحْيَا»". فمن خلال النص حسب "مرقس" نجد المسيح يؤكد على:

- المحبة جوهر الإيمان المسيحي.

- فعل المحبة الذي يمارسه الإنسان ينطلق في اتجاهين في علاقة جدلية: اتجاه نحو الله، واتجاه نحو القريب/ الآخر، لأنّه من غير المنطقي أن يزعم أحد أنّه يحب الله بغير أن يتجسد ذلك عمليًّا من خلال ممارسات ملموسة تجاه الآخرين.

- العلاقة مع الآخر لا حدود لها.

- المسيحية المصرية الأرثوذكسية ومفهوم الآخر: تأسيس تاريخي.

في هذا المحور تحدث المؤلّف عن مجيء المسيحية على يد القديس مرقس الرسول، وتطرق لموضوع الانفتاح على الجميع من دون حواجز من أي نوع؛ طبقية أو سياسية أو ثقافية، معتبرًا ذلك هو سمة المسيحية الوليدة، إذ لم تميز كذلك بين الحكام والمحكومين مثلما كان يحدث من قبل، بل أسست على أرض الواقع لمبدأ حب الإنسانية.

البحث الرابع: الإنجيلية البروتستانتية والموقف من الآخر للقس الدكتور إكرام لمعي (أستاذ مقارنة الأديان ورئيس قسم الإعلان والنشر بالكنيسة الإنجيلية في مصر).

بدأ المؤلّف بحثه بتعريفات لمجموعة من المصطلحات الدينية وبعض الشخصيات كمارتن لوثر وجون كالفن، ثم تناول موضوع مدارس تفسير الكتاب المقدس: كمدرسة التفسير الرمزي ثم التفسير الحرفي ثم التفسير التاريخي المعاصر الملتزم بالنص.

وبخصوص الآخر في التفسير الإنجيلي للكتاب المقدس يقول إكرام لمعي إنّ رؤية الإنجيلين المصريين للآخر تعتمد على فكر المسيح من الآخر. ليختم بحثه بمجموعة من الأسئلة المهمة والصعبة، ومن أمثلة هذه الأسئلة قوله: إذا كانت الأديان تتسم جميعًا بقبول الآخر، وأنّه لا يوجد دين أو مذهب يحض على كراهية الآخر المختلف في نصوصه الموحى بها، إذا لماذا قامت الحروب الدينية بين أتباع المذاهب المختلفة داخل الدين الواحد؟

وهكذا يكون الكتاب قد طرح قضية كبرى بل قضية الإنسانية جمعاء وهي العلاقة مع هذا الآخر سواء كان هذا الآخر داخل الدين الواحد مسلمًا شيعيًّا - سنيًّا أو مسيحيًّا أرثوذكسيًّا - كاثوليكيًّا، أو الآخر المختلف مذهبيًّا وعقديًّا عن غيره: يهودًا، مسيحيين، مسلمين، علمانيين،... وما أحوجنا اليوم قبل الغد إلى فتح علاقة وربطها مع الآخر بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه.