منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة أنموذجا


فئة :  قراءات في كتب

منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: سورة البقرة أنموذجا

قراءة في كتاب "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم"

سورة البقرة أنموذجا

د. صابر مولاي أحمد / مؤسسة مؤمنون بلا حدود / الطبعة الأولى 2017 / 344 صفحة.


لقد بات واضحا أنّ الاشتغال على المفاهيم والتصوّرات وطرائق التأصيل للعقائد والمعاني بكيفية سرديّة روائيّة، مدفونة في أكوام التقليد الأعمى والغفلة وما تصرّمَ وباد من أضاليل وأباطيل وتهاويل، غذّت المخيال الجماعي - فانكمش الإبداع وتدنّى - ضرورة واقتضاء تستوجبه اللّحظة والآن، وإن استوعرناها في البدء.

ولعلّ إدراك دقائقها ببصيرة وتدبّرها، كما حاول "صابر مولاي أحمد" في كتابه "منهج التصديق والهيمنة في القرآن الكريم"، من شأنه أن يستدني الأعصم ويُجلي غيوب الواقعات، ويمهّد المسارب لمقاربات علميّة نقديّة صارمة، مقصودها التحرّر من عبء مضن ثقيل، يتمثّل في التفسير الموروث، إذ "لا ينبغي الوقوف في التعاطي مع الموضوع، عند ما قال به المفسّرون" (ص 22) والقراءة اللاهوتيّة التي تخلع التعالي والتقديس - دون الاستخفاف بـ"النصوص الدينية" أو الانفلات بالكليّة من الأطر الرمزيّة -. فليس لقدم العهد يُفضّل القائل ولا لحَدَثان العهد يُهتضم المصيب، بل ثمّة سبب أكثر خفاء.

فإذا أنت تأمّلت لحظة القرآن، علمت أنّها محيّرة، مربكة، مفعمة بالمعاني ومثقلة بالمضمرات، لما يحويه من قصص وتصوّرات، هلهلوا الصلة بها ثمّ قطعوها. ولو نحن أرخينا السمع للنصّ وتعقّلناه جيّدا لألفيناه متيحا لإمكانات متعدّدة للقراءة مستحثّا على التوسّل بمفاتيح تأويليّة متنوعة، فـ"المفردة القرآنية دقيقة من حيث الاستعمال اللغوي، واسعة المعنى والدلالة، ويزداد معناها اتساعا في صلة بعضها ببعضها الآخر، بشكل لا حدّ فيه للمعنى والدلالة من داخل السياق الكلي للقرآن" (ص 35). فانظر تجد الشأن التأويلي أو الهرمينوطيقي، قرين القول والخطاب، ثم انظر تجده مناط العبارات والعلامات مثوى الرموز والإشارات[1]، وذلك دليل هاد على أن علاقة القارئ بـ"النصّ"، إنمّا هي رحلة تتطلّب منه مجهودا تأويليا ومعرفة موسوعيّة وذوقا فنّيا حتى تحصل له المتعة[2].

وأنت إذا رددت نظرك أخذك الدّهش وتملكك العجب، فـ"تجلية مدلول العديد من المفردات القرآنية على ضوء البنائية القرآنية، بالحرص على تجلية المعاني الكلية من خلال تتبع جزئيات المعاني التي تصبّ وتجتمع فيما هو عام وكلي". (ص 49) يؤشر إلى أن المعنى وقع إجباره بواسطة التحوّل المجازي، ولم تعد الكلمات تلاوين معنى[3]، فكان شرخا عضالا كاسح التغلغل شديد الوطء.

وقد ضرب المؤلف على ذلك مثلا يتعلق باسم "الله" - فهو لم يكن مجهولا بتاتا لدى العرب الجاهليين، ولكن هذا الإيمان يشوبه الشرك، إلا أن كلمة "الله" اكتسبت في الحقل الدلالي القرآني المكانة المركزية العليا في التعبير عن وحدة الخالق - (ص 50). ها هنا بالذات سيتوضح ما المقصود بأن يكون القرآن مصدقا ومهيمنا على مصطلحات اللغة العربية، فوجه تصديقه على مفردات اللغة العربية يكمن في استعماله وتوظيفه لمفرداتها. أمّا وجه هيمنته على اللغة العربية، فيبدو من خلال استعماله الخاص والمتفرد لمفرداتها، وفقا لنظمه الخاص، إذ أخذت مفردات اللغة حمولات معرفية مفارقة عمّا كان متداولا في لغة الشعر (ص 50). وتبعا لهذا الطرح المنهجي، يتحدد موضوع هذا الكتاب، وما تخلل مفاصل إشكاليته من سؤالات عمّ: يعني منهج التصديق والهيمنة في القرآن؟ وما مقومات هذا المنهج؟ وما الغاية والقصد الكامن وراء الأخذ بهذا المنهج في فهم وتحليل ما جاء به القرآن في علاقته بما سبقه من الكتب؟ (ص 32). ويسارع "صابر مولاي أحمد" منذ البدء ليؤكد أنّ "هذا الموضوع ينتمي إلى حقل علم الأديان المقارن" (ص 32) وأننا في حاجة ماسّة إلى هذا العلم اليوم أكثر من ذي قبل، فـ"النصوص المؤسسة للديانات السماوية، تشكّل محور البناء الثقافي لمجمل الأمم والشعوب". (ص 32)

ولأن المؤلف يدرك أن هذا أمر حقيق أن تُعقد له المباحث والدراسات، يؤشر إلى أن هذا البحث ينهض على شقين؛ الأول نظري والثاني تطبيقي، ففي الشق النظري منه سعى إلى تحديد المفردات المؤسسة للموضوع والمرتبطة به، كما حاول تبيان الخصوصيات المنهجية التي يتصف بها الخطاب القرآني عن غيره، ممّا جعله كتابا مختصا بفعل التصديق والهيمنة (ص35). وليستبين المقصود أورد ما ذهب إليه ذاهبون من أننا أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التي أنزلها لأنبيائه، شهيدا عليها، حافظا لها (ص 102). فالتصديق يجعل من الدارس والباحث في مستوى لا مفرّ له من الاطلاع على ما يحتويه الكتاب المقدس. أما الهيمنة، فتجعله أمام مهمة البحث والغوص في السياقات الكلية من داخل القرآن (ص 111). أما الشق التطبيقي، فقد وقع اختياره في مستواه على "سورة البقرة" التي ناقشت أهل الكتاب، معتمدا على آلية المقارنة بين الآيات القرآنية وما هو وارد في أسفار العهد القديم (ص 36). كما أن مجمل الموضوعات التي عالجتها سورة البقرة تتعلق بالمفلحين والخاسرين من الناس جميعا (ص 205 - 206). كما أن "صابر مولاي أحمد" حاول في تتبع الموضوع المحوري الذي نظمت من خلاله موضوعات السورة، - موضوع الخلافة في الأرض - أن يبين ما يتضمّنه العهد القديم في الموضوع، وما قام به القرآن من مراجعات نقدية (ص 219).

في هذا المستوى بالذات، ستتجلّى أشكال متطرّفة للانسحاب من الدنيويّ تسلك مسالك النجاة في انتظار أن يتصالح العالم مع الله، وسيستبين أنّ فعل العنف ليس يكون مجرّد قوّة - إلا للقلة من العرفاء - بل تأثيرا في كل مرّة على أنفسنا وفي الأشياء وفي الآخرين. "في زمن نزول القرآن، الكثير من الموضوعات المختلف حولها" (ص 84). وإنه لأمر عظيم وخطب جسيم، ستؤكده تصاريف الأيام، وتقلبات الأزمنة. ومهما حاولنا إيجاد أسباق نظرية عـن - "مّا هو العنف؟ ـ فلن نفوز في النهاية إلاّ بما به تتقرّر حدّة ذلك السؤال وفرادته ما دام المشكل عند السابقين علينا غير ما أصبحنا نراه[4]. وقد يكون هذا الوجه الذي قرأ منه "صابر مولاي أحمد" الإشكال الذي يتطارحه الخطاب القرآني لحظة عرض حقائقه الإيمانية والإنسانية إزاء ما كان سائدا، آية على الطرافة والابتداع، إذ استبان "قول أهل الكتاب حول المسيح ابن مريم / كما يعد موضوع الخمر من بين الموضوعات التي تمّ الاختلاف حولها" (ص 84). فالخطاب خاضع لقوانين، بل لتنازع داخليّ غليظ، ونحن نتخوّف من توقّع وجود صراعات وانتصارات وجروح وعبوديّات عبر الكثير من الكلمات التي تقلّص استعمالها منذ زمن طويل من فظاظتها[5]. فبالرغم من أن التعدّد والتنوع في اللغة والثقافة واللون، يعد آية من أيات الله في خلقه (ص 138) فإن قدماء الفقهاء ومن سار على نهجهم، من مفسرين وغيرهم قد قسموا العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب (ص 134)؛ ذلك أن الإقرار بالتعددية الدينية ليس إقرارا من باب العبث، بل هو إقرار غائي ومقصدي، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتصف بالحرية والمسؤولية (ص 140).

وليس من ريب أنّه كان من آثار الدوغمائيّة أن استحوذ على العقول نموذج واحد من التفكير ضيّق آفاق التبصّر أيّما تضييق، وقلّص إمكانات التدبّر أيّما تقليص، رغم أن القرآن "ألحّ على النظر وتفعيل ملكات السمع، والبصر، والفؤاد" (ص 85). "إذ من خلال التدبر قد يرتقي الإنسان إلى فهم القرآن في كليته، ويدرك يقينا أنه نصّ واحد متكامل لا تعارض بين نصوصه وحقائقه" (ص 87). ولأن القرآن يشكّل وحدة بنائية، توقف "صابر مولاي أحمد" على ما يترتّب على هذا الأمر المنهجي من العمل على فهم مواضع القرآن، وفقا للسياق الكلي من داخله بدل الفهم التجزيئي" (ص 117). وليس المهمّ لغرضنا هيمنة أسطورة الأصل - حيث يتمّ عرض حبكة وحيدة - على الأذهان بقدر ما يكون تسريدها، على النقيض من ذلك، بدخولها فضاء جاذبيّة القصّة الكبرى، بل إن شئت فقل فضاء العالمية، مادام الحقل الدلالي للقرآن قد انتظم من خلال مفردة "الناس" وكذلك مفردة "الإنسان" (ص 135). وهكذا فعالمية الخطاب، إنما جاءت بمعنى كون القرآن يعد تعبيرا لغويا عن العالم (ص 117).

ولعلّ ما هو أبعد مدى وأعظم أثرا، إنّما هو النسج المدهش للحكايات الخوارقيّة العجائبيّة التي ابتكرت وسردت وانعرضت: "سورة الكهف"، "سورة يوسف" (ص 94 - 95) من أجل بعض التفسيرات والتأويلات، سيما أنه "يراد بلفظ التأويل، التفسير، وهو اصطلاح كثير من المفسرين (ص 93). كما أنّ لفظ التأويل يقتضي صرف اللفظ من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، إلى جانب أن التأويل هو باطن الشيء بدل ظاهره، وغير ذلك من المقاربات والأقوال (ص 99)، إلا أن الواضح أنّ النصّ ليس أكثر من متن قابل لتأويلات متعددة مختلفة، مشرع على احتمالات متنوعة. ذلك أن "صابر مولاي أحمد" ها هنا يذكّر بأن الباحثة المغربية "فريدة زمرد" خصّت هذا الموضوع بدراسة اصطلاحية شاملة، تحت عنوان: "مفهوم التأويل في القرآن الكريم، دراسة مصطلحية"، وقد خلصت إلى أن التأويل في الاصطلاح القرآني: هو ما يصير إليه القول، أو الفعل من عاقبة وتحقّق في عالمي الغيب والشهادة". (ص 94).

وليكن ابتداؤنا أبدا بتأكيد أنّ تلك إنما هي فضاءات ترابط وتلازم وتعالق، وإن شئت فقل "فضاءات تضايف"[6]؛ فالقيم والأفكار تبنى وتقوّض عبر خلخلات وانزياحات. وما كان قد احتجب عنّا من "حقائق" ستحكي صمتها المريب، وما كان يمكن أن يفقه، هذا الأمر العجيب المدهش، والذي ينطوي على حنين غامض، سوى نفر من الناس تراءى لهم في أفقه بهاء الإيمان، فلم يستطيعوا معه صبرا حالذاك.

قد يمكننا أن نفكّر إذن "إن مجهود الفهم لا ينطلق إلاّ متى أصبح النصّ غير مفهوم أعنى متى بات يحيل، على لحظة من اللّغة والأعراف بادت وانتهت وعلى سياق ذهني وروحي مستغلق على فهم الأجيال الجديدة، فكأنّما التّاويليّة هي التي تنوب عن هذا الفقد، وكأنّها لا تكون ممكنة إلاّ من رحم اللّافهم".[7]

وإنّه ليتسنى لنا أن نجزم أنّ وضع الخطاب[8] القرآني في السياق التاريخيّ للفعاليّة الاجتماعيّة والبشريّة التي يتوجه إليها، لسوف يستدعي مسبقا الإقرار بأنّ لمستقبل الخطاب الحقّ في فهمه على ضوء المعطيات الثقافيّة والتاريخيّة للحظة انبثاق الوحي وتنزّله[9].

وعلى الرغم من أنّه ليس بواجب أن نفصل مع ما سبق فصلا كلّيا، إلا أنه ليس ينبغي حسب "صابر مولاي أحمد" أن ننساق انسياقا مع ما يذهب إليه المستشرق "تور أندريه" من أنه لا شك في أنّ الأصول الكبرى للإسلام مستقاة من الديانتين اليهودية والمسيحية وهذه حقيقة لا يحتاج إثباتها إلى جهد كبير[10]. كما يورد ما قاله المستشرق "بروكلمان"، والذي يذهب فيه إلى أنه "ليس من شك في أنّ معرفته؛ أي الرسول، بمادة الكتاب المقدس كانت سطحية إلى أبعد الحدود وحافلة بالأخطاء، وقد يكون مدينا ببعض هذه الأخطاء للأساطير اليهودية، التي يحفل بها القصص التلمودي، ولكنه مدين بذلك دينا أكبر للمعلمين المسيحيين، الذين عرفوا بإنجيل الطفولة وبحديث أهل الكهف السبعة وحديث الإسكندر وغيره من الموضوعات التي تتوافر في كتب العصر الوسيط"[11]. ويتوقف الباحث عند كتاب "تاريخ القرآن" ليشير إلى إلى ما جاء على لسان "تيودور نولدكه" من أن "اطلاع محمد على اليهودية والمسيحية كان جيّدا إلى الحدّ الذي كان ممكنا في عصره في مكّة. وقد اعتمد على هذين الدينين إلى درجة أنّه نادرا ما توجد فكرة دينية في القرآن ليست مأخوذة عنهما. وكان يعلم أن للدينين كتبا مقدسة، فدعا أتباعهما - أهل الكتاب - ما عدا ذلك، كانت تصوّراته حول السياقات التاريخية في منتهى الغرابة. فقد توهّم أن اليهود والمسيحيين تلقوا من الله الوحي نفسه الذي تلقاه هو، لكنهم حرفوه، لهذا اعتقد بأن الله اختاره هو، النبي العربي، ليقرأ نصّ الوحي القديم مرة أخرى عن الألواح السماوية"[12].

وإنه لمنعرج خطير جدّا في مجرى التوحيديّة السامية، لأنّه أخرج العلاقة بالإله الحقّ عن سلالة الشعب "المختار" وتراثه؛ فمحمد نبيّ عربيّ يحاول ولوج واقتحام الذّاكرة وتسجيل شعبه في روحانيّة التوحيد، هذا الذي انقفل وانغلق. إنّه صراع مع المستحيل عنيد.

وللمزيد من توضيح هذه المسألة يفتش "صابر مولاي أحمد" عن إجابة في الفكر العربي المعاصر عن هكذا سؤال، فيعترضه ما قاله "محمد أركون" من أن "القرآن ظهر بعد التوراة والإنجيل من الناحية الزمنية، وبالتالي فهو يهضم هاتين اللحظتين من الوحي ويقدّم نفسه على أساس أنه آخر حلقة من تجليات الكتاب السماوي بين البشر"[13]. ومن البيّن حسب "الباحث" أن "أركون" لا ينظر إلى القرآن كونه يتميّز عن غيره من الكتب بخاصيّة التصديق والهيمنة، بل اكتفى بأن يعترف له بأنه يهضم ما قبله، والمشكلة المنهجية في تقدير "الباحث" ها هنا، تنطرح على شاكلة استفهامية: هل أن الهضمّ يتّصف بالنقل والتكرار أم هو هضم يتصف بالاسترجاع النقدي لما تمّ تحريفه وتبديله في الكتب السماوية؟ (ص 191). فـ "لا ريب أنه من المفيد جدا أن نقارن بين نص القرآن، ونص الإنجيل والتوراة، لكي نكتشف التشابهات والاختلافات، ولكن لا ينبغي أن ننظر إلى القرآن من خلال التأثيرات السابقة عليه فقط، وإنما ينبغي أن ننظر إليه من خلال خصوصيته وإبداعيته الذاتية"[14]. إذن يعترف "أركون" للقرآن بإبداعيته وابتكاريته وأصالته، لكن تميّزه هذا في نظره، لا يشفع له أن يكون مهيمنا ومصدقا لما قبله من الكتاب (ص 192).

وتلك أفكار وتجارب حاول "الباحث" عرضها واستنظامها - إلا أنه من المحتمل أن يحمل مفهوم الاستعادة على معنى النكوص وينسرب ما يفيد منطق الماضويّة، ورفض أن يَقرأ "الآخر" - بأدوات قراءة التاريخ في دراسة الأديان والنصوص الدينية، بآليات مغايرة - ما نعتقد أنه خاص بثقافتنا وتاريخنا. ولردّ هذا الانسراب - نحن نبين، أن هذه الأقوال في تقدير "الباحث" ناتجة عن عدم الوعي بالخصوصيات المنهجية التي اختصّ بها القرآن (ص 177)، وهو بالتالي يؤصل، في قول علمي متين، لمفهوم نقدي؛ أي يتحرّك ضمن سياق ما يطرأ عليه التاريخ. فإن نحن رمنا - الآن - ارتسام تحديد لمبدأ إعادة النظر هذه، وضّحنا أنّه ما به نكون قادرين على تعدّد القراءات، من جهة ما هي فعل تحويل وتبليغ ووطء أرض لم نجرؤ كثيرا على اقتحامها. وإلا كان في الأمر في تقدير "الباحث" قفز وتجاوز للخصوصيات المصاحبة لبنية أيّ نص ديني (ص 193). برهان ذلك تشديده على "أن كلّ معرفة تعتمد على معطيات أو معلومات معزولة تظلّ ناقصة. يجب موضعة المعارف والمعطيات داخل سياقها" (ص 183)، إذ القراءة التي تأخذ بالسياق، هي القراءة التي تخرج من الفهم المجزأ (ص 184).

ولا بدّ لنا أن نشير إلى أنّ هذه القراءات الممكنة لا تنعطي - على اعتبار أنّ الخطاب مقروء القارئ، أو مقول القول بتعبير المناطقة القدماء، وهو ذلك البناء نفسه وقد أصبح موضوعا لعمليّة إعادة البناء أي نصّا للقراءة[15] - بل إنّ انعطاءَها في ارتباط بمدى قدرتنا على "الحفر" للخروج من القراءة السائدة التي توجّهها مبادئ التاريخ التقليدي للأفكار مثل تقديم المضامين على الآليات الخطابيّة وتغليب القراءة السياسيّة للنص والتعامل مع اللغة بصفتها أداة محايدة لعرض المعاني والاكتفاء بتاريخويّة سطحيّة لتأطير الظرفيّة التي يتنزل فيها النصّ المقروء.[16]

وبما أنّ القراءات تتطابق مع الفترة التي كان بدأ يظهر فيها مجتمع ما قلقه، وقد أضاع مذاك كلّ علاقة بتراثه الديني[17]. فلتدركنّ أوّلا أنهم صرفوا في هذا السبيل عمرا عزيزا وعناء غير قليل. ولتدركنّ ثانيا أنّهم وجدوا أنّ الأمر قد استقرّ على قراءة له واحدة. ولتدركنّ ثالثا أنّهم أحبّوا أن يعيدوا النظر فيه. وبصفة أشد جلاء، فإنّي لميّال إلى القول إنّه بسبب غياب قوانين متّفق عليها لممارسة حقّ الاختلاف، يسعى كلّ خطاب إلى أن يتحوّل إلى سلطة ولو بالتحالف مع السلطة السياسيّة التي تتميز في مجتمعاتنا - كما ذهب الذاهبون - ببنيتها الديكتاتوريّة القمعيّة. لكن وربّ قائل يقول، ثمّة فارق بين الخطاب الذي يمارس سلطته بأدواته من حيث هو خطاب؛ أي بآليات الإقناع والحفز المعرفي، وهذا جزء أصيل من بنية الخطاب، أيّ خطاب، وبين خطاب يمارس سلطة مستمدّة من مصدر خارجي أي خارج بنيته كخطاب[18] وهو ما ينبغي التنبه إليه وتأكيده. وليكن منّا على بال أنّه كلّما اقترب الخطاب من سدّة السلطة السياسيّة ازدادت شهيّة القمع والتدمير عند ممثّليه، بيد أنّ سعينا إلى استفراغ إمكانات هذا القول قد دفعنا إلى استتباع مفاده أنّ كلّ خطاب، يحاول أن يمارس سلطة ما.

ولقد نعلم أنّه وبالرّغم من محاولات المؤسّسة الفقهيّة احتكار حقيقة اللّحظة الفاصلة بين القول الإلهيّ المفارق والقول البشريّ المحايث، بل ربّما رغم محاولاتها طمسها، إذ تودّ لو أنّ بينها وبينها أمدا بعيدا، عبر تنميط السلوك والإلهاء بمظاهر السائد وعنف السلطة وإغراءات الاستهلاك، فإنّ القراءة النقديّة تأبى إلاّ أن تقف عند انفتاحات للمعنى، الذي يتخلّله، في منتهى الكثافة. فحسبنا أن نقف عند مواضع التوتّر والقلق والتقاط إيقاعاته، ومخاضاته العسيرة، أمارة من أمارات النصّ وعلامة من علامات انبجاس الروح النقدي، دون استثناء أي نظام من أنظمة الحقيقة بحجة أنه إلهي منزّل، فجميع التراثات الدينية ينبغي أن تخضع لمنهجية النقد التاريخي[19]. لنجد أنفسنا أمام ثراء مغر وممكنات خلاص تاريخيّ لا يخفى.

ولقد ينبغي أن نشير إلى أنّنا سعينا، إلى تطارح إشكاليّات في ارتباط بـ"الكتاب"، وما تولّد عنه من مصطلحات ومفاهيم ومفردات، وإنشاء دعاو وصوغ مبادئ، وما يترتّب عنها من استتباعات. مكمّلا بعضها لبعض "فنحن اليوم في حاجة إلى دراسات وأبحاث تتجلى، من خلالها طبيعة التكامل المعرفي" (ص 328). وما يمكن أن يزيد في هذا الترابط، هو أن ينتظمها تساؤل واستشكال يتجلّى من خلال تأكيد فيوضات المعنى وغزارة الحقيقة و"تعدّد القراءات"، احتذاء بالمنهج الفكريّ المؤمن بالتعدّد والمضادّ للتقوقع والانغلاق، والذي يجمع بين التخصّصات على تنوّعها.

[1] انظر، فتحي إنقزو، معرفة المعروف، تحولات التأويلية، من شلايرماخر إلى ديلتاي، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2017، ص 12

[2] انظر، أمبرتو إيكو، اسم الوردة، نقله عن الإيطالية أحمد الصمعي، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، الطبعة الثانية 2016، ص 9

Umberto Eco, Nome Della Rosa, Milano, 1980

[3] التأويل، هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلّ ذلك بعادة لسان العرب في التّجوّز من تسمية الشيء بشبيهه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت في تعريف أصناف الكلام المجازي.

انظر، أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1983، ص 32

[4] انظر، ايمانويل كانط، نقد العقل العملي، تعريب وتقديم، ناجي العونلي، دار جداول للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2011، ص 16. (نحن ها هنا نستلهم تلك الفقرة التي تتحدث عن كانط لما صار يسأل عن الإمكان أو الامتناع الأقصى للفلسفة، حيالها، يخترع مقاما للتسآل لا عهد للفلسفة به من قبل ...).

- Kant E.,Critique de la raison pratique,Edité par F.Alquié ; traduit par L. Ferry et H. Wismann, Paris: Gallimard,1985,(Collection Bibliothèque de la pléiade).

[5] انظر، ميشال فوكو، نظام الخطاب، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1984. ص 8

"أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ومنتقى، ومنظم ومعاد توزيعه، من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها هو الحد من سلطاته ومخاطره والتحكّم في حدوثه المحتمل وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة". – انظ ر، ميشال فوكو، نظام الخطاب، المرجع هو هو، ص 9

[6] Michel Foucault, L’archéologie du savoir, Paris, Gallimard, 1969, p 270.

[7] انظر، جورج غوسدورف، أصول التأويلية، ترجمة فتحي إنقزو، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2018، ص ص 10/11

[8] كلمة خطاب، مصطلح لساني، يتميز عن نص وكلام وكتابة وغيرها بشمله لكل إنتاج ذهني، سواء كان نثرا أو شعرا، منطوقا أو مكتوبا، فرديا أو جماعيا، ذاتيا أو مؤسسيا، في حين أن المصطلحات الأخرى تقتصر على جانب واحد، وللخطاب منطق داخلي وارتباطات مؤسسية، فهو ليس ناتجا بالضرورة عن ذات فردية يعبر عنها أو يحمل معناها أو يحيل إليها، بل قد يكون خطاب مؤسّسة أو فترة زمنية أو فرع معرفي ما.

Michel Foucault, L’ordre du discours, Paris, Gallimard 1971.

ميشال فوكو، نظام الخطاب ( الدرس الافتتاحي الملقى في الكوليج دوفرانس في ثاني ديسمبر 1970)، ترجمة محمد سبيلا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1984. ص 9

[9] انظر، نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، بيروت، الطبعة الأولى 2014، ص 3

[10] انظر، عامر محمد أمين، المستشرقون والقرآن الكريم، دار الأمل، الأردن، ط1، 2004، ص 208.

[11] انظر، المرجع، هو هو، ص 209

[12] انظر، تيودور نولدكه، تاريخ القرآن، تعديل فريدريش شفالي، ترجمة جورج ثامر، منشورات الجمل، بغداد – العراق، ( د – ت )، 2008، ص 343

[13] انظر، محمد أركون، الهوامل والشوامل، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط1، 2010، ص 228

[14] المرجع، ن، ص 224

[15] النص رسالة من الكاتب إلى القارئ، فهو خطاب (...)، فالمعنى الذي يحمله النص في آن واحد، من إنتاج الكاتب والقارئ، الكاتب يريد أن يقدم فكرة أو وجهة نظر، (...) وهذا خطاب، والقارئ يتلقى هذه الفكرة أو الوجهة من النظر كما يستخلصها هو من النص وبالطريقة التي يختارها (...) وهذا تأويل للخطاب أو قراءة له. هناك إذن جانبان يكونان الخطاب، ما يقوله الكاتب وما يقرأه القارئ.

انظر، محمد عبد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، دار الطليعة، بيروت، الطبعة الثالثة، 1988، ص 8

[16] انظر، محمد الحداد، حفريات تأويلية، في الخطاب الإصلاحي العربي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2002، ص 5

[17] انظر، جيورجيو أغامبن، المنبوذ، السلطة السيادية والحياة العارية، ترجمة وتقديم وتعليق، عبدالعزيز العيادي، منشورات الجمل، بيروت، الطبعة الأولى 2017، ص ص101/ 102

Giorgio Agamben, Homo sacer, Le pouvoir souverain et la vie nue, tr,de l’italien par Marlène Raiola, L’ordre philosophique, Paris, Seuil, 1997

[18] انظر، نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، مؤمنون بلا حدود، بيروت، الطبعة الأولى 2014، ص6

[19] انظر/ محمد أركون، القرآن، من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ترجمة هاشم صالح، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 2012