نقد مبكّر لدولة الرّفاه


فئة :  قراءات في كتب

نقد مبكّر لدولة الرّفاه

نقد مبكّر لدولة الرّفاه[1]:

قراءة في كتاب (دستور الحرية) لفريدريك هايك

رشيد أوراز

أصدر الاقتصادي النمساوي فريدريك أ. هايك (1899-1992)، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد (1974)، كتابه (دستور الحرية)[2] سنة (1961) عن منشورات جامعة شيكاغو[3]، التي عرفت، وتُعرف، منصةً فكرية لأتباع التيار الليبرالي في الولايات المتحدة الأمريكية. ويعدّ كتاب هايك هذا واحداً من المساهمات الفكرية المهمة والمتعددة التي أصدرها لتقديم نظريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الليبرالية. بالإضافة إلى كتيبه (الطريق إلى العبودية) الذي صدر عام (1944)، والذي كان له تأثير كبير في إعادة إحياء التقليد الليبرالي الكلاسيكي، ليس في أمريكا فحسب؛ ولكن على مستوى الغرب ككل. أصدر هايك ثلاثيته المعروفة (القانون والتشريع والحرية) على التوالي أعوام (1973 و1976 و1979)، وتعدُّ هذه المشاريع الفكرية إسهامات نظرية وتطبيقية في سبيل بلورة رؤيته لمجتمع حرّ.

وضع هايك كتابه (دستور الحرية) في ثلاثة أجزاء؛ يقدّم الجزء الأوّل (عنوانه: قيمة الحرية) أسساً فلسفية للمجتمع الحرّ من منظور هايك، ويفتح مواجهةً فكريةً مع من يرى أنهم أعداء هذا المجتمع. ويدرس الجزء الثاني (عنوانه: الحرية والقانون) تطوّر دولة الحقّ والقانون، التي تشكّل عماد المجتمع الحرّ. أمّا الجزء الثالث (عنوانه: الحرية في ظلّ دولة الرعاية الاجتماعية)، فيقدم دراسة لمواضيع مختلفة تعدّ إشكالات في ظلّ دولة الرعاية، ومنها الحماية الاجتماعية، والضرائب، والخدمات الصحية، والسكن، والتعمير، والموارد الطبيعية والتربية والتعليم، ويقدم من خلال الكتاب منظوره لهذه القضايا على ضوء الأفكار التي قدّمها وطوّرها في الجزأين الأول والثاني من كتابه هذا.

تعريف الحرية من منظور هايك

يعرّف هايك الحرية في كتابه بالحالة التي يتمّ فيها الحدّ، إلى أدنى درجة ممكنة، من ممارسة الإكراه على بعض الأشخاص من قبل أشخاصٍ آخرين[4]. ومن منظوره، إنّ أيّة سياسة للحرية يجب أن تستهدف تقليل الإكراه، أو تأثيراته الضارة، حتى لو لم تستطع إلغاءه تماماً[5]. ويُشير هايك إلى أن هذه الحرية تسمّى أيضاً «الحرية الفردية» أو «الحريّة الشخصية».

يحصر هايك الحرية في إطار علاقة الإنسان بالإنسان؛ فبالنسبة إليه لا يمكن أن نتحدث عن انتهاك حرية شخص إلا لما يقع ذلك من طرف شخص آخر، عن طريق الإكراه، ويقدّم مثالاً: «متسلق المرتفعات الذي يجد نفسه معلقاً عند منحدرٍ صعب، والذي لا يرى سوى طريقةٍ واحدةٍ لإنقاذ حياته، هو حرٌّ دون شك، مع أنه من الصعب أن نقول بأن لديه أيّ خيار. كما أن معظم الناس سيكون لا زال لديهم إحساسٌ كافٍ لكلمة «حرّ» ليدركوا أنه إذا سقط ذلك المتسلّق في صدع من الأرض، وأصبح غير قادرٍ على الخروج منه، فلا يمكن أن يُقال عنه بأنه «غير حر» إلّا مجازاً، والقولُ عنه بأنه أصبح «محروماً من الحرية»، أو «أصبح أسيراً»، هو استخدامٌ لهذه العبارات بمعنى مختلف عن المعنى الذي ينطبق على العلاقات الاجتماعية»[6].

من خلال هذا التعريف، يعيد هايك وضع مفهوم الحرية في سياقه الخاص، سياق يقتضي أن يكون الحديث عن الحرية أو غيابها محصوراً في إطار العلاقة التي تربط الأشخاص فيما بينهم. فانطلاقاً من خبرته بأن غياب الحرية يوظّف في سياقات خارج العلاقات الاجتماعية بين الأفراد، اختار هايك أن يعرّف الحرية على هذا النحو من منظوره مفكراً ليبرالياً كلاسيكياً. فالحرية من منظور هايك تفترض أن كل فرد له مجال خاص، وله، من ثمّ، الحقّ في التصرف فيه بحرية، ولا يمكن أن نتحدث عن الحرمان من الحرية إلا لما يتعرض هذا المجال الخاص لاعتداء من طرف شخص آخر، مادياً كان أم معنوياً.

كما يميّز هايك بين الحرية الفردية والحرية السياسية؛ فهذه الأخيرة في منظوره تعني «مشاركة الناس في اختيار حكوماتهم، وفي العملية التشريعية، وفي الرقابة على الإدارة»[7]. ولعلّ الحرية السياسية هي الأكثر استئثاراً بالبحث لدى المفكّرين الليبراليين الكلاسيكيين من جماعة هايك (أستاذه فون ميزس، وآخرون مثل الاقتصادي ميلتون فريدمان، والمفكر موراي روثبارد، والفيلسوفة آين راند، والفيلسوف كارل بوبر، وغيرهم من المفكرين الذين أعادوا إحياء المذهب الليبرالي الكلاسيكي خلال القرن العشرين). وبدءاً من عنوان الكتاب (دستور الحرية)، يظهر مدى طغيان النقاش حول «الحرية السياسية» على «الحرية الفردية»، أو «الحرية الميتافيزيقية» التي يعرفها هايك بـ«درجة توجه تصرفات الإنسان بإرادته المدروسة، وبتحليله المنطقي للأمور، وقناعته الدائمة، بدلاً من التصرف وفقاً لقرارٍ آني أو ظروف آنية»[8].

أمّا ربط الحرية بالقدرة المادية على الفعل، فهو تفسير خاطئ، بل مشؤوم كما جاء في كتابه هذا. فهذه مجرّد أحلام «أشخاصٍ كثيرين على شكل وهم بأنهم يستطيعون الطيران، وبأنهم تحرّروا من قوة الجاذبية، ويستطيعون الحركة «بحريّة كالطيور» إلى أي مكانٍ يشاؤون، أو أن لديهم القدرة على تغيير بيئتهم وفقاً لما يشاؤون»[9]. ففي نظر هايك يتمّ تشجيع الخلط بين تعريفه الحريةَ وهذا التعريف الأخير من طرف أنصار «الجدلية الاشتراكية» من أجل تدمير الحرية الفردية، التي تعدّ القيمة الأسمى، وتعويضها بـ«حرية جماعية» تنتهي بقمع الحريات، وتأسيس دول شمولية باسم حرية غير قابلة للتحقق.

أهمية الحرية والنظام التلقائي للتقدّم وللحضارة

يربط هايك ربطاً وثيقاً بين الحرية والحضارة؛ فالفرد الحرّ هو الفرد المؤهل لصناعة التقدّم والحضارة. والحضارة الغربية مدينة بتقدّمها لمبادئ الحرية[10] التي ألهمت الفرد في الغرب ليصنع تقدّمه؛ فمن دون حرية الإرادة والفعل لن يتمكّن الفرد من تحقيق التقدّم في أيّ مجال من مجالات الحياة الاجتماعية. وما «دستور الحرية» إلا دفاع عن هذه الحرية التي نشأت في الغرب، فلسفتها السياسية، وعن مؤسسات حكم القانون، ففي ظلّ حكم القانون تصبح الحرية مطلقة.

لكن رغم إطلاقيتها، الحرية، في منظور هايك، حرية مسؤولة. «فلا تعني الحرية أن الفرد يتمتّع بالاختيار فقط... بل يجب أن يتحمل عواقب أفعاله، وأن يحصل على المديح أو اللوم. فلا يمكن فصل الحرية والمسؤولية عن بعضهما البعض»[11]. ولا تقلّ المسؤولية الفردية عن مسؤولية الحكومة التي يحمّلها هايك مهمّة حماية الحرية الفردية. فالحكومات وجدت لهذا الغرض فقط، ولا غير. إن منح حقّ ممارسة الإكراه للحكومات هو لردع من يتعدّون على حرية الأفراد، وليس لانتهاكها. إنه إكراه لمنع الإكراه، وليس شرعنة للإكراه ضد حقوق الأفراد وحريّاتهم.

عن طريق تفاعل أفراد أحرار ينشأ نظام تلقائي؛ فـ«القوى التلقائية للمجتمع هي التي تجعل تقدمه ممكناً»[12]. ويعقد هايك مقارنة بين الماضي، حيث «كانت قوى النظام التلقائي قادرة، رغم العقبات، على فرض نفسها ضد القيود المنظمة للدولة»، والحاضر، حيث تساعد «وسائل التقنية السلطة على التحكّم». ويبدو هنا هايك متشائماً؛ إذ يتوقع أن تنهزم مقاومة قوى القانون التلقائي أمام سلطة الدولة الكاسحة، ونصل إلى «النقطة التي يمكن لقوى المجتمع المنظمة إكراهاً تدمير القوى التلقائية التي جعلت التقدّم ممكناً».[13]

وفي المجال الاقتصادي، يرى هايك أن حكومة ضعيفة تفعل ما لا يجب فعله قد تشلّ قوى السوق أكثر من حكومة تدخّلية في الشؤون الاقتصادية، إن كان عملها يقتصر على دعم القوى التلقائية للاقتصاد. ويشكّل هذا الحجّة التي يستعملها هايك للدفاع عن حريّة السوق والاقتصاد، وضرورة الحفاظ على الحكومة في الحد الأدنى من حيث الصلاحيات والحجم والقوة؛ لأن أيّ تدخل حكومي يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى زعزعة قوانين السوق، وعرقلة النمو والتقدّم، وهو الموضوع الذي سيفرد له جزءاً كاملاً من كتابه (الجزء الثالث).

مأزق دولة الرعاية

خصّص هايك الجزء الأخير من «دستور الحرية» لدراسة توافق دولة الرفاه مع تصوره لمجتمع حرٍّ، في فترة بدأت فيها بوادر تراجع الأنظمة الاشتراكية، وصعود شكل جديد من الدول سمّيت دولة الرفاه. سعى هايك لوضع المعايير التي يجب أن تحكم هذا النموذج كي تتوافق ومجتمع حرّ من أفراد أحرار ومستقلّين، ويتمتعّون بحرية الاختيار. وعالج هذا الجزء بعض القضايا الاقتصادية والاجتماعية المهمّة؛ منها «النقابات والتوظيف» و«الضمان الاجتماعي» و«الضرائب وإعادة التوزيع» و«الإطار النقدي» و«الإسكان وسياسة التعمير» و«الزراعة والموارد الطبيعية» و«التعليم والبحث العلمي»، في سبعة فصول.

يقدم هايك، من خلال هذه الفصول، نقداً شاملاً لدولة الرفاه الاجتماعي، ويقدّم بدائل لسياساتها. وقدم بدائل، على الخصوص، للسياسات الضريبية للدولة؛ حيث يعترض هايك على التمييز ضد الأغنياء، وينادي بالمساواة بين جميع الفئات، وينادي، في الآن ذاته، بخفض معدلات الضرائب؛ إذ يعترض على نسب الضرائب العالية.

ومن المواضيع المهمة الأخرى، التي ناقشها هايك في هذه الفصول، ما يتعلق بموضوع التضخّم والسياسات النقدية الحكومية. ففي نظر هايك، ورغم سعيها لمحاربة التضخّم، الحكومات هي التي تخلق التضخّم من خلال خياراتها السياسية[14]، وعلى رأسها مثلاً رفع الأجور إرضاءً للنقابات العمّالية. ويرى هايك في التضخم خطراً اقتصاديا كبيراً بآثار وخيمة، ويرى في السياسة النقدية الحكومية جوهر المشكلة المسبّبة للتضخّم.

كما خصّص هايك فصلاً مستقلّاً لموضوع «التعليم والبحث»، ويميّز بين مهام المدرسة ومهام الجامعة، فالأولى مهمتها توفير التعليم، أما الثانية فهي لتوفير البحث، وكلتاهما لتأهيل الرأسمال البشري. ويرى هايك في التعليم مساعداً للإنسان الحرّ على التقدّم، فلا تقدّم من دون حرية، كما أنه لا تقدّم من دون تعليم ومعرفة. ولكنّه، في الآن ذاته، يسجّل اعتراضات على التعليم العام الذي يسعى إلى تنميط الأفراد، مستدلّاً بالمقولة الشهيرة لجون ستيوارت مل، التي تقول إن «التعليم الحكومي العام هو مجرّد أداة لتشكيل الناس ليكونوا متشابهين تماماً»[15]، ويتفق على هذا أنصار المذهب الليبرالي الكلاسيكي، الذين يرون في التعليم العام تنميطاً للأفراد وقتلاً للمواهب الفردية التي يتوقّف عليها تطور الحضارة الإنسانية.

وملحقاً لـ«دستور الحرية» وضع هايك نصّاً مشهوراً له، يحمل عنوان: «لماذا لست محافظاً؟»، واشتهر هذا النص بشكل واسع لدى القرّاء، بل تُرجم منفصلاً عن الكتاب، ونُشر باعتباره نصّاً يحمل رأي هايك وموقفه من المحافظة السياسية. كان هايك يرى في المحافظة، ولا سيّما المحافظة البريطانية، عدوّاً حقيقياً للحرية، من خلال تفضيلها توسيعَ السياسات الحكومية، وترسيخَ ما حصلت عليها الحكومات السابقة من امتيازات ومساحات ضد حرية الفرد. وكان هايك، من ثمّ، يرى أن التمييز بين فلسفته السياسية والفلسفة المحافظة ضرورة فكرية وسياسية لا غنى عنها. ومن أجل ذلك ألحق هذا النص بكتابه هذا، الذي يحمل خلاصات فكره حول سلطات الحكومات وحرية الفرد، والعواقب الوخيمة لدولة الرفاه على حرية الفرد.

[1] - مجلة ألباب العدد 13

[2]  - تم الاعتماد في إعداد هذه المراجعة على الترجمة الفرنسية التالية:

- Hayek, F. A. (1994). La constitution de la liberté, trad. Raoul Audouin et Jacques Garello avec la collaboration de Guy Millière, Paris, Litec.

[3]- Hayek, F. A. (1961). The Constitution of Liberty, The University of Chicago.

[4] - Hayek, F. A. (1994), p 11

[5] - Ibidem.

[6]- Ibidem, p 12-13

[7] - Ibidem, p 13

[8] - Ibidem, p 15

[9]- Ibidem, p 16

[10] - Ibidem, p2

[11]- Ibidem, p 69

[12] - Ibidem, p 38

[13] - Ibidem.

[14] - Ibidem, p 295

[15]- Ibidem, p 375