هل تمثّل المساواة في الإرث بين الرجال والنساء ضرورة مجتمعية؟


فئة :  مقالات

هل تمثّل المساواة في الإرث بين الرجال والنساء ضرورة مجتمعية؟

هل تمثّل المساواة في الإرث بين الرجال والنساء

ضرورة مجتمعية؟[1]

بعد محاولات طويلة من حراك قاده المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، استطاعت تونس أن تنتزع الريادة في ميدان مكتسبات المرأة؛ حيث صادق مجلس الوزراء التونسي، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، بإشراف رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، على مشروع قانون الأحوال الشخصية، الذي يتضمن أحكاماً بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة.

وعلى الرغم من أنّ القرار لاقى ترحيباً من قبل المجتمع المدني والهيئات الحقوقية، ممّن اعتبروه انتصاراً لحقوق المرأة، فقد عارضته ورفضته جهات محافظة في تونس في مقدّمتها حركة النهضة.

وتُعدّ المساواة في الإرث من أكثر المسائل المثيرة للجدل عموماً في غالبية الدول العربية والإسلامية، التي تحتكم في قوانين الإرث إلى الشريعة الإسلامية التي تقوم على فكرة "للذكر مثل حظ الأنثيين".

وما بين احتجاجات في غير بقعة جغرافية تطالب بمزيد من المكتسبات للمرأة العربية، وما بين مؤيد ومعارض لقانون يساوي بين المرأة والرجل في الإرث يطالعنا سؤال: هل تمثّل المساواة في الإرث بين الرجال والنساء ضرورة مجتمعية؟ الذي أجاب عنه عدد من الباحثين والكتاب العرب، ممّن استطلعت مجلة "ذوات" آراءهم في عددها (53).

باحثون وكتاب عرب رأوا أنّ "دسترة" قانون المساواة بين الجنسين، بما في ذلك المساواة في الإرث هو "مطلب حقوقيّ وضرورة اجتماعيّة"، بل نقلة ضروريّة لتحديث المجتمع وتغيير العقليات الذّكوريّة، وتكريس مبدأ المساواة بين الجنسين على جميع المستويات، دون تأجيل أو تأثيم، فلا عدالة اجتماعيّة، برأيهم، في ظلّ قوانين تمييزيّة، ولا ديمقراطيّة منشودة دون مساواة فعليّة، فهي جسر عبور نحو ركب الحداثة.

في حين عدّ آخرون القضية أكبر من كونها قضية مساواة في الإرث، أو حتى ضرورة مجتمعية أم لا، بما أنّ المجتمع في الأساس لم يستوعب بشكل كامل ولحد اليوم مبدأ مقاربة النوع الاجتماعي، ولا يزال حبيس عقليات وسلوكيات كلاسيكية تعلي من قيمة الرجل وتكرس دونية المرأة.

ونوّهوا إلى أنّ الضرورة المجتمعية الأساسية هي "إحداث تغيير جوهري للثقافة الذكورية التي رسخت مبدأ التبعية والهيمنة للرجل على المرأة ويتم إنتاجها وإعادة إنتاجها بوعي أو بدون وعي داخل الأسرة وفي المدرسة والإعلام وفي باقي وسائط التنشئة الاجتماعية".

واعتبر بعضهم أنّ الدفاع عن المساواة في الإرث بين الجنسين "ليس ضرورة اجتماعية معزولة عن باقي القضايا الأخرى ذات الصلة، لاسيما في العمل وتفاوت الأجور والعوائق اللامرئية التي تحرم الناس من بلوغ مواقع المسؤولية".

ومن هنا، شدّدوا على ضرورة بذل مجهود استثنائي لتغيير كثير من مضامين البرامج التعليمية التي تساهم في بناء الصور النمطية حول المرأة والرجل لدى الأفراد، ومراقبة البرامج الإعلامية فيما يتعلق بالمناصفة والإنصاف والمساواة بين الذكور والإناث في جميع المجالات، فضلاً عن مراجعة القوانين بشكل تدريجي لتخليصها من رواسب التمييز الجنسي، لاسيما وأنها مرتبطة بالتشريعات الدينية بما يميزها من حساسية عاطفية وروحية واجتماعية.

وأوضح باحثون أنّ المساواة بين الجنسين "وأدها أصوليون تحت ثقافة ذكورية احتمت بمقولات دينية والنصّ القرآني منها براء، وأفرغها أصوليون جُدد من مضمونها بأن زجّوا بها في مسائل لا طائل من ورائها"، مشيرين إلى أنّنا -نحن العرب- "قدرنا أن نعيش دائماً بين أصوليتين؛ أصولية تراثية وأصولية حداثية، والحال أنّ طبيعة التاريخ تأبى الأصوليتين وتؤسّس لمنطق الجدل، جدل الإنسان الذي يفهم ماضيه دون أن يعيش فيه، ويفهم مستقبله دون أن يسير فيه بلا منهج."

على صعيد آخر، بدا بعض الباحثين "غير متفائلين" من حراك مساواة الرجل والمرأة بالإرث في الدول العربية والإسلامية، محيلين ذلك إلى أنّ قضايا الإصلاح "متشابكة ومتداخلة"، فلا يمكن الوصول إلى إصلاحات اجتماعية دون الوصول إلى إصلاحات معرفية في مناهج الدرس القرآني والتراثي، كذلك لا يُمكن إسقاط تجربة مجتمع عربي على آخر، فنحن أمام مسارات إصلاحية متباينة في المجتمعات العربية.

ونوّهوا إلى أنّ مسألة المساواة في الإرث لا يمكن أن تُطرح إلاّ في إطار حاضنة سياسية وثقافية تهيئ لها المناخ المناسب.

المساواة وأدها أصوليون

السّؤال، وفق نظر، الباحث التونسي يوسف الرحيمي، وإنْ بدا بسيطاً وواضحاً يطلب السّائل إجابة عن مسألة ما، فإنّه محمّلٌ، وفق قوله، بقضايا وإشكالات مسكوت عنها في مجتمعنا الرّاهن لا نظنّ الإجابة عنها هنا ممكنة بحكم ضيق المقام، إلاّ أنّه سؤال جريء إذا ما وضعناه في إطاره العام والخاص، وجرأة السؤال تكمن، بحسب الرحيمي، في أنّه "يحفر في قضايا تتقاطع فيها كثير من المستويات: ثقافي وسياسي واجتماعي واقتصادي..."

ويُقرّ الباحث بأنّ مسألة "المساواة بين الرجال والنساء في الإرث" تعدّ ضرورة مجتمعية في الوقت الرّاهن، فنحن نزعم أنّ حسْم هذه المسائل جسْر عبور نحو ركْب الحداثة وما تُمليه علينا إحراجات العصر من تقدّم ورقي.

غير أنّ الإشكال الأهمّ، وفق رأي الرحيمي، "ليس مجرّد إقرار ندّعيه ونمضي وليس من باب الترف الفكري الذي تعانيه كثير من النخب في عالمنا العربي"، وإنّما الإشكال هو "كيف نتطرّق إلى هذه المسائل بما يلائم العصر من جهة، وما يراعي خصوصية الذّات من جهة أخرى؛ لأنّ النّاظر في طبيعة الطّرح يلحظ أنّها غالباً ما كانت أحادية الجانب؛ فقدرنا نحن العرب أن نعيش دائماً بين أصوليتين؛ أصولية تراثية وأصولية حداثية، والحال أنّ طبيعة التاريخ تأبى الأصوليتين وتؤسّس لمنطق الجدل، جدل الإنسان الذي يفهم ماضيه دون أن يعيش فيه، ويفهم مستقبله دون أن يسير فيه بلا منهج."

ويوضح الباحث أنّ المساواة بين الجنسين "وأدها أصوليون تحت ثقافة ذكورية احتمت بمقولات دينية والنصّ القرآني منها براء، وأفرغها أصوليون جُدد من مضمونها بأنْ زجّوا بها في مسائل لا طائل من ورائها".

وينوّه الرحيمي إلى أنّ هذه المسألة لا يمكن أن تُطرح إلاّ في إطار "حاضنة سياسية وثقافية تهيئ لها المناخ المناسب"، متابعاً "ولعلّ تونس خير مثال على هذا باعتبار أنّ الواقع السياسي والثقافي الجديد إبان ثورة 2011 هو الذي أرسى مثل هذه المسائل، وحين نقول الواقع السياسي فنحن لا نقصد الأحزاب؛ لأنّ الكثير منها وفي خلفياتها النّظرية ترفض المساواة -وإنْ ادّعتها-، وإنّما الواقع السياسي بما هو دستور وقوانين جديدة تواكب روح العصر وتتفاعل معه".

قضايا الإصلاح متشابكة

وعلى الرغم من إقرار الباحث والأكاديمي المصري، عبدالباسط هيكل، بأنّه لا خلاف على معاناة المرأة العربية وافتقادها لأكثر الحقوق، وأهمية النضال المتواصل لتنال وجودها كشريكة تعيش في هذا المجتمع، لكنه بدا غير متفائل، مبرراً موقفه بأنّ ما نتحدث عنه من إصلاحات حقوقية إنّما هي نتيجة لمقدمات لمّا تتحقق في أغلب مجتمعاتنا العربية، فأوّل بوادر التطور الحضاري ومصداقية الإصلاح أن يسود الوعي المفاصل الحياتية في المجتمع؛ فوعي المجتمع وليس السلطة السياسية، هو الضمانة الحقيقية لقبول واستمرارية وتطوّر الإصلاحات.

ويزيد الباحث المتخصص في تحليل بنية الخطاب الديني، وأستاذ العلوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر، أنّ التغيير من أعلى قفز على واقع مجتمعي جامد فكرياً يهرب من تساؤلات واقعه وأزماته الآنية، يُؤسفني أن أقول جاهلي، ليس بالمفهوم القطبي التكفيري؛ بل بالمفهوم الحقيقي للكلمة قبل أن تُحرّفها الجماعات؛ فالجاهلية خضوع لسلطة الانفعال والاستسلام لقوة العاطفة دون الاحتكام إلى رزانة العقل وقوة المنطق ومن هنا يأتي التعصب؛ فالمجتمعات العربية قوامها عاطفة وانفعال لا يعرف العقلانية ولا يتقبل النقد ويهاب التغيير، فعدم العلم وانتفاء المعرفة ركيزة اساسية للاستلام لسطوة الانفعال والصوت المرتفع؛ لذا وعي المجتمع أن يعلم الحدود الفاصلة بين المقدس وغير المقدّس في الخطاب الديني، وأن يعرف أنّ آفاق الدلالة في اللسان العربي بها رحابة تأويلية تجعل مجالات الجزم واليقين محدودة، وأن يؤمن بأنّ إسلام الوحي وضع القواعد والقيم الكلية اللازمة لحفظ الوجود الإنساني، ثم ترك للمسلمين أمر الاجتهاد في التفاصيل لتغيّر الأزمنة والأمكنة وفق سنة الله تعالى في الحركة والتغيير، غير أنّ المتأخرين من المسلمين أرادوا تثبيت التفاصيل عند طرح القدامى، في محاولة لإيقاف الحركة والتغيير الزمني، ولما كان إيقاف الزمن عصيّاً عليهم أوقفوا عقولهم وقالوا هذا ديننا، وذاك خطابنا.

ويشدّد هيكل على أنّ قضايا الإصلاح "متشابكة ومتداخلة، فلا يمكننا الوصول إلى إصلاحات اجتماعية دون الوصول إلى إصلاحات معرفية في مناهج الدرس القرآني والتراثي، كذلك لا يُمكننا أن نُسقط تجربة مجتمع عربي على آخر فنحن أمام مسارات إصلاحية متباينة في المجتمعات العربية".

دسترة قانون المساواة بين الجنسين

في سياق إجابتها عن السؤال، تقول الباحثة التونسية هاجر المنصوري، إنّ البعض يرى أنّ المساواة في الإرث قضيّة وجب "تأجيل" طرحها راهناً، لما تعرفه المجتمعات العربيّة من أزمات اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة تستوجب حلّها بشكل عاجل وجدّيّ، دون الحاجة إلى افتعال قضايا أخرى تكون هذه المجتمعات بمنأى عنها في الوقت الحالي، في حين يذهب الرأي الآخر إلى أنّه لا ينبغي طرح المساواة في الإرث بين الجنسين إطلاقاً؛ ذلك أنّ مثل هذا المطلب "يتنافى" والتّشريعات الإسلاميّة التي نظّمت العلاقات بين الجنسين وأرستها على مبادئ ثابتة، بل ينال من المقدس باسم الحداثة والتطوّر والعولمة. ويرى هؤلاء، وفق المنصوري، أنّ المساواة الحقيقيّة بين الجنسين تنطلق أوّلاً؛ من الإنصاف بينهما في المجالات المهنيّة المختلفة، وثانياً؛ من تحسين ظروف عمل النّساء وضمان التّغطية الاجتماعيّة المناسبة لهنّ.

ولا يخفى عن أصحاب الرأيين، إن كان سهواً منهما أو قصداً، أنّ المطالبة بالمساواة بين الجنسين في الإرث، وإن كانت قديمة حديثة، فإنّها، بحسب الباحثة "تتنزّل في سياق راهن عربي أطاحت فيه بعض شعوب المنطقة العربيّة بأنظمة حكّامها الاستبداديّة؛ فاهتزّت عروش من تحت أصحابها، وتصدّرت حقوق الإنسان جميع الملفّات القانونيّة والحقوقيّة بعد أن انتهكت في هذه البلدان حقوق مواطنيها وحريّاتهم. فكانت الفرصة التاريخيّة متاحة لأن تطرح في هذه البلدان حقوق الإنسان وتناقش فيها بالنّظر في طبيعة هذه الحقوق الأساسيّة والحريّات العامّة وجملة التحديّات التنمويّة التي تحول دون تمتّع المواطن العربي بحقوقه الاقتصاديّة".

وتتابع الباحثة حديثها في أنّ هذا السياق يعبّر عن حقيقة التغيّر الاجتماعي الذي عرفته هذه البلدان العربيّة، وهو يرتكز حسب نظريّة عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين "Alain Touraine" على مجموع القيم والموارد الاجتماعيّة والاتّجاهات الثقافيّة للمجتمع التي تعدّ المحرّك لكلّ تغيّر مجتمعي ولا على موارده الماديّة، وإيديولوجيّته. فإذا ما ثارت هذه البلدان جميعها ضدّ انتهاك حقوق الإنسان وحريته جرّاء استبداد أنظمة حكّامها، فقد وجب عليها أن ترسي قيماً مجتمعيّة تقوم على مفاهيم الحريّة والمساواة بين جميع المواطنين والمواطنات على اختلاف جنسهم أو عرقهم أو لونهم إلخ..."

وقد وعي المجتمع المدني التونسي، وفق المنصوري، حقيقة هذا التغيّر المجتمعي، فأصدرت حكومته قانوناً أساسيّاً للقضاء على كلّ أشكال التمييز بين الجنسين الذي يعدّ نوعاً من أنواع العنف الرّمزي المسلّط ضد النساء. فتمّ تجريم العنف المادّي والاقتصادي الذي يكرّس ظاهرة الفقر والتهميش وحتّى الإقصاء، وينال من مبدأ تكافؤ الفرص بين الجنسين في الملكيّة، ويعدّ عدم التساوي في الميراث مظهراً من مظاهر هذا العنف.

وتخلص المنصوري، إلى أنّ "دسترة" قانون المساواة بين الجنسين، بما في ذلك المساواة في الإرث "مطلب حقوقيّ وضرورة اجتماعيّة"؛ بل "نقلة ضروريّة لتحديث المجتمع وتغيير العقليات الذّكوريّة وتكريس مبدأ المساواة بين الجنسين على جميع المستويات". وهو مطلب، بحسب المنصوري "لا يقتضي المساومات فيه إن بالتّأجيل أو بالتّأثيم؛ إذ لا عدالة اجتماعيّة في ظلّ قوانين تمييزيّة، ولا ديمقراطيّة منشودة دون مساواة فعليّة".

إحداث تغيير جوهري للثقافة الذكورية

من جانبه، يرى الباحث المغربي في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا يوسف باتوان، أنّ رد الاعتبار لحقوق المرأة يتطلب نوعاً مما يسمّيه "الحكمة المعرفية في التعاطي مع حقوق المرأة للوصول لنتائج إيجابية بدلاً من الدخول في صراعات ونقاشات فكرية لا تستفيد منها المرأة لحدود الساعة بأي شيء داخل المجتمع".

ويقول باتوان إنّ قضية المساواة في الإرث بين الرجال والنساء تعتبر من القضايا التي لقيت ولا تزال تلقى اهتماماً كبيراً وجدالاً حاداً داخل المجتمع بين مؤيد ومعارض باختلاف التخصصات والمرجعيات الفكرية. ولعلّ الإجابات السائدة ووجهات النظر المختلفة تكاد في مجملها تنحصر بين الرفض المطلق والتشكيك النسبي والقبول.

وعن رأيه، قال الباحث: أعتقد أنّ القضية أكبر من كونها قضية مساواة في الإرث، أو حتى ضرورة مجتمعية أم لا بما أنّ المجتمع في الأساس لم يستوعب بشكل كامل ولحد اليوم مبدأ مقاربة النوع الاجتماعي ولا يزال حبيس عقليات وسلوكيات كلاسيكية تعلي من قيمة الرجل وتكرس دونية المرأة. وحتى وإن سلّمنا جدلاً بأنّ المرأة أصبحت متساوية مع الرجل في الإرث فهذا لن ينعكس إيجاباً على القضية الأساسية، وهي المساواة بين الجنسين؛ لأن السؤال المطروح وكأنّه يعكس مبدأ رياضيات أو عملية حسابية تفيد القسمة على اثنين بين الرجل والمرأة في حقوق مادية تتعلق بالإرث، في حين أنّ القضية أعمق ومرتبطة أساساً بما هو نوعي وليس كيفياً، مرتبطة بتغيير عقليات وتصورات نمطية تحول دون تحقيق المساواة بين الجنسين وتكرس مبدأ التبعية للرجل؛ فالضرورة المجتمعية التي أراها أساسية هي العمل على إحداث تغيير جوهري للثقافة الذكورية التي رسخت مبدأ التبعية والهيمنة للرجل على المرأة ويتم إنتاجها وإعادة إنتاجها بوعي أو بدون وعي داخل الأسرة وفي المدرسة والإعلام وفي باقي وسائط التنشئة الاجتماعية. فالقفز على كل هذه المشاكل والمعيقات والحديث عن قضية المساواة في الإرث بين الجنسين هو في اعتقادي مجانب للصواب في الوقت الراهن، وليس فيه نوع من الحكمة والمعرفة العلمية الدقيقة لواقع وثقافة المجتمع.

ويتساءل باتوان مستنكراً: كيف لفرد لم يستوعب أدواره كرجل داخل الأسرة ولا يدرك معنى مفهوم الرجولة ومسؤولياته وأدواره كرجل تجاه المرأة أن يستوعب المساواة في الإرث!

ويتابع الباحث أنّ طبيعة التدين الشعبي داخل المجتمع والفهم الخاطئ للدين سيجعل من هذه القضية تبتعد كثيراً عن مضمونها الأساسي والحقوقي، لتصبح قضية صراع بين من يدافعون عن الشريعة الإسلامية، وبين من يدافع عن حقوق النساء وهو صراع لن تستفيد منه المرأة بأي شيء وسيكلفنا وقتاً طويلاً سيكون من الأجدر لنا استغلاله والعمل على قاعدة المجتمع وتفكيك كل التصورات الخاطئة عن المرأة ومحاولة فهمها وتفسيرها وإيجاد حلول لها وتنشئة المجتمع على مبدأ الحقوق والمساواة والاحترام والكرامة الإنسانية.

ويتساءل: ما جدوى أن تأخذ المرأة حقها كاملاً في الإرث مثل الرجل وفي المقابل ستجد نفسها داخل الأسرة وداخل المجتمع تعاني من هيمنة ذكورية تقيد كل طموحاتها كفرد فعال داخل المجتمع؟

الإرث قضية اجتماعية بالمقام الأول

أما الكاتبة والباحثة المصرية، رباب كمال، فترى أنّ الإرث "قضية اجتماعية بالمقام الأول، لكن لطالما تم التعامل مع قضية الإرث الإسلامي، كونها قضية دينية بحتة، ودعاة هذا الرأي استندوا إلى استحالة التغاضي عن آيات تقسيم الميراث (سورة النساء 7-12)، وهو نص اعتمد على التدقيق والتفصيل في نصيب كل فرد من أهل المتوفى على حسب درجات القرابة من جهة، وعلى حسب الجنس من جهة أخرى؛ أي إنّ الذكورة لعبت دوراً في تخصيص نصيب أكبر في بعض الحالات المذكورة تحديداً في حالة الأشقاء الذكور".

وتابعت الباحثة بأنّ النصوص الدينية التي جاءت تنظم اقتصاديات الأسرة أو العلاقة بين المرأة والرجل في الزواج؛ ربما كانت من النصوص الدينية التي حظيت بدفاع المشايخ والفقهاء على مدار سنوات في وجه الأصوات التي تعالت بالمطالبة بإعادة التفكير في الظرف المكاني والزماني الذي أدى إلى تشريع هذه النصوص في زمن النبوة.

وتشير كمال إلى أنّ النص القرآني "زاخر بنصوص تم تعطيلها بالفعل بسبب الانخراط في شكل المدنية الحديثة، ومنها آية الجزية على غير المسلمين وهي آية صريحة تم وقف العمل بها، لكن التشبث برفض أي تأويل لنصوص الإرث كان هو السمة الغالبة".

وتوضح الباحثة أنّ أقدم المطالبات بإعادة تأويل الرؤيا الخاصة بآيات الإرث في القرآن الكريم جاءت على لسان منصور فهمي عام 1913، من خلال كتاب "أحوال المرأة في الإسلام"، وفيها حاول فهمي تقديم رؤية اجتماعية عن الإرث، دون تقديس للماضي، فقال: "إنّ المرأة لم ترث لدى العرب قبل الإسلام؛ لأنها لم تشترك فعلياً في الغزوات، وهي مصدر الثروة حينذاك، وهنا كانت فكرة الإسلام الأدبية عن الميراث، فُمنحت المرأة جزءاً منه إما من عائلة أبيها أو زوجها خاصة".

لكنّ هذه الظروف التي شهدت النص القرآني في تقسيم الميراث اختلفت تماماً، وفق كمال التي تشير إلى أنّ "ما حدث في الجزيرة العربية قبل 1400 عام لا يمكن استنساخه في الألفية الثالثة ليناسب ظروف المجتمعات الحالية، فلم تعد الغزوات مصدراً للثروات؛ بل ُتعتبر في القانون الحديث غارات على الغير".

وتضيف الباحثة "لربما يجد هذا الطرح مشكلتين؛ أولاهما اتهامات التكفير، ثانياً: تعتمد قوانين الأحوال الشخصية على التشريع الإسلامي مما يجعل القانون الوضعي المدني مجرد اسم خالٍ من المضمون؛ لأنه لا يحتكم لظروف راهنة؛ بل يحتكم لظروف ماضوية وهذه إشكالية كبيرة في عقل المسلم المعاصر، وهو يناقش قضية الإرث".

وترى الباحثة أنّ "الفقهاء يتعاملون مع القضية على اعتبار أنّ المرأة جماد، فيعددون الحالات التي ترث فيها المرأة أكثر من الرجال، وهو طرح غير موضوعي؛ لأنّها ليست نفس المرأة، فالمرأة التي ترث نصف شقيقها لن تستفيد شيئاً كون امرأة أخرى بلا أشقاء ورثت أكثر من عمها أو خالها".

وتنوّه كمال إلى أنّ "مناقشة قضية الإرث بعيداً عن التطورات المجتمعية هو مربط الفرس، فهل نتخيل مثلاً إعادة الجزية أو سبي النساء في التشريعات الحديثة استناداً لنص قرآني؟"، متابعة "النصوص القرآنية بالتأكيد لن تتغير، لكن فصلها عن التشريع المدني بات ضرورياً وهذا ليس اعتداء على قداسة؛ بل فهم للتطورات المجتمعية؛ لأن ما لا يتطور يندثر".

إعادة النظر في أحكام المواريث

من جهته، يقول الكاتب السوري أنور السبيعي: لا شك أنّ الإسلام الذي جاء به النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، أحدث قفزة حقوقية على جميع الأصعدة، فأعطى للمرأة حقوقاً لم تكن لتحلم بها في ذلك العصر، ليس ذلك فحسب، بل إنّ تلك الحقوق قد جاءت على طبق من فضّة كما يقال، فلم يكن ذلك التطور نتيجة لمعاناة بشرية ممزوجة بالدماء والأشلاء، معاناة أجبرت المجتمعات في نهاية الأمر على التغيير، كما حدث مثلاً في النهضة الأوروبية.

ويرى السبيعي أنّ الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة كانت مرتبطة بظروف نسبية لا يمكن تعميمها ولا إطلاقها بأيّ حال من الأحوال.

ويستدرك الكاتب: نستطيع أن نفهم التفريق بين البشر في الميراث على أساس الجنس (حين /حيث) كان الرجل هو المسؤول الوحيد عن الإنفاق على العائلة، حين كانت الأعمال عضليّة لا يستطيعها إلّا الرجال.

ويتابع: نفهم جميع تلك المبررات التي أدت إلى التمييز بين المرأة والرجل في الميراث، ولكن ما نعجز عن فهمه هو استمرار تلك الأحكام في وقتنا الحالي بعد زوال أسبابها ومبرراتها؛ فالمرأة اليوم تنافس الرجل في جميع المجالات، تعمل مثله وتنفق مثله كأنّهم فرسيّ رهان، بل كم من عائلة تقوم المرأة بإعالتها، بينما يجلس الرجل في بيته عاطلاً عن العمل!

وينوّه السبيعي إلى "أننا حين ندعو إلى إعادة النظر في أحكام المواريث، فإننا لا نقصد بدعوتنا تلك إلى تعطيل آيات القرآن الكريم، بل ندعو إلى تفعيلها على المستوى المقاصديّ، فعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لم يقم بتعطيل آيات الكتاب الحكيم حين أوقف سهم المؤلّفة قلوبهم؛ بل قام بتفعيل مقصد تلك الآية وطبّق معانيها، وكذلك فعل، رضي الله عنه، في حكم قطع يد السارق أثناء المجاعة، أو حين أوقف توزيع الأراضي على المجاهدين مصادماً بذلك سنة رسول الله القطعية".

ويدعو السبيعي إلى ضرورة، الخروج "من حالة الانفصام في الشخصية، فلا يمكن لنا أن نجعل المرأة مخلوقاً ناقص الأهلية لا يستطيع السفر أو الزواج دون وليّ من الذكور، كائناً أدنى لا يستطيع أن يكون حاكماً أو قاضياً، لا يمكننا أن نقول كلّ ذلك ثمّ ندّعي أن ديننا هو دين العدل والمساواة، لا يمكننا أن نستنكر ما تقوم به داعش ونحن نقدّس ممارساتهاّ".

الازدواجية الثقافية والصورة النمطية للمرأة

وفي سياق متصل تقول الباحثة المغربية، هدى كريملي، إنّه كلما أثيرت مسألة الإرث في العالم الإسلامي، إلا واندلعت نقاشات عاصفة بين مؤيدين للمساواة بين الجنسين في الإرث ومعارضين لها، مع غلبة واضحة لهؤلاء الأخيرين نظراً لما أصبح يسمى "الصحوة الدينية" التي رفعت من مظاهر التدين لدى فئات واسعة من الناس، لاسيما الشباب المتعلم الذي يستغل وسائل التواصل الإلكترونية في تكثيف ردود فعله الرافضة لكل تغيير.

وترى الباحثة أنّ مقاومة القضاء على التمييز الجنسي في الإرث، من بين تمييزات عديدة أخرى في غير صالح النساء، مسألة ذات امتدادات متعددة؛ دينية وقانونية واجتماعية وثقافية واقتصادية وغيرها. كما أنّ الأمر مرتبط بمجموعة من الأعراف التي كانت، وما تزال، تحرم النساء بشكل كلي من الإرث لأسباب تاريخية لا مجال لذكرها. ويكفي أن نلقي نظرة على السجالات العنيفة التي تدور منذ مدة حول حق المرأة في الأراضي السلالية.

ومن بين أهم العوائق التي تبدو لي أنها تعترض إنهاء التمييز الجنسي ضد المرأة هو ترسخ الصورة النمطية حول المرأة في النسيج الثقافي المغربي والعربي الإسلامي عموماً: فالمرأة ما زالت صورتها مرتبطة بالبيت والأطفال، بمعنى بالداخل، رغم ما حققته من إنجازات على مستوى التعليم والعمل والمشاركة في الحياة السياسية والمدنية والمساهمة في الميزانيات المنزلية.

هذه الازدواجية الثقافية، إن لم نقل التناقض الثقافي، المتعلقة بحق المرأة في الإرث تندرج في إطار الترتيبات والتراتبات العامة بين الجنسين المتجذرة في العقل العربي الإسلامي، وفق رأي الباحثة التي تقول: صحيح أنّ تغيير هذه الصورة النمطية التي تهيمن على المخيلة الجنسية للمغاربة، مثلاً، يصعب تغييرها، لكن تغييرها ليس مستحيلاً. لذلك ينبغي اتخاذ مبادرات جريئة في مجال تصحيح التفاوتات العامة بين النساء والرجال التي أصبح الناس يعتبرونها شيئاً بديهيا؛ ذلك أنني أرى أنّ الدفاع عن المساواة في الإرث بين الجنسين ليس ضرورة اجتماعية معزولة عن باقي القضايا الأخرى ذات الصلة، لاسيما في العمل وتفاوت الأجور والعوائق اللامرئية التي تحرم الناس من بلوغ مواقع المسؤولية. لذا، فإن مراجعة القوانين المتعلقة بالإرث لا تنفصل عن مراجعة المكانة الدونية التي مازالت النساء تشغلنها في المجالين الخاص والعام بالمغرب.

وعلى هذا الأساس، يجب أولاً بذل مجهود استثنائي لتغيير كثير من مضامين البرامج التعليمية التي تساهم في بناء الصور النمطية حول المرأة والرجل لدى الأفراد، ومراقبة البرامج الإعلامية فيما يتعلق بالمناصفة والإنصاف والمساواة بين الذكور والإناث في جميع المجالات، ومراجعة القوانين بشكل تدريجي لتخليصها من رواسب التمييز الجنسي، لاسيما وأنها مرتبطة بالتشريعات الدينية بما يميزها من حساسية عاطفية وروحية واجتماعية. لكن ينبغي رغم هذه الحساسيات اتخاذ مبادرات قانونية إصلاحية نظراً لأن القانون في الغالب يشكل قاطرة التغيير في جميع المجتمعات.

[1]- مجلة ذوات العدد53