التفلسف تعلّمٌ للموت


فئة :  مقالات

التفلسف تعلّمٌ للموت

التفلسف تعلّمٌ للموت

يوسف هريمة

من منا لم يصدم بموت قريب، أو حبيب، أو صديق. أو لم تراوده أيضا فكرة الموت، وهواجسه، وقلقه الوجودي. ومن منا كذلك، من لا يواجه نفسه كل حين بسؤال: متى أغادر هذا الوجود؟، وكأن الحياة في نهاية المطاف هي استعداد للموت، وقبول بالبقاء مؤقتا في سجن هذا الوجود. أعتقد أن ليس هناك من لم يفعل ذلك، أو بالأحرى من لم يجبر على فعل ذلك. فالموت ليست أهميته فقط في مأساته وتراجيديته، بل إنه الضرورة الطبيعية، والحتمية التي تجعل حياة الناس كلها تحضيرا له. لكن داخل هذا الأفق لا يمكن للإنسان أن يقف عند الحدث، ليجعل منه المأساة الكبرى، واللحظة الفارقة في الحياة الإنسانية؛ لأنه ببساطة حينما نفكر في الموت، فإننا نفكر في الحياة تحديدا؛ أي إننا نحضر أنفسنا للحظات العيش المهمة قبل أن نعلن الرحيل. لماذا نحتاج أن نقول هذا الكلام؟ لأن النّاس تحتاج من يهدّئ روعها، يقلّص من هواجسها ومخاوفها، ويبثّ فيها الأمل للخلاص. لكنْ أمام كلّ تجربة فريدة هناك علامات استفهام شرسة ترفض الجواب واليقين. فما الحلّ إذن؟. الحلّ هو أنْ نعلم بأنّ الموت لن يفتقر إلى أسباب تبرِّر وجوده. ومهما وصل العلم، والطب من التقدم، والتطور، ومهما امتلك الإنسان من الوسائل فلنعلم كما قال الحلاق، إنّه: "حيثما وجد العلاج، ستنبثق أمراض أخرى". لهذا يمكننا أن نقول إن أهمّ شيءٍ في حدث الموت ليس هو الطُّقوس المرافقة له، ولا حتّى مأساويته وتراجيديته، بل إن أهمّ شيء فيه هو أنَّه يذكِّرنا في كلّ لحظة وحين بأنّه يجب علينا أنْ ننتهز الفرصة لنعيش.

التفلسف هو تعلم الموت:

قبل أن تقول إن الموت عنوان للبؤس، ونهاية المسار وهذا أمر مؤكّد، فكّر قليلا أيضا، وقل إن الموت يخلق رهاناتنا في هذه الحياة. على الأقل هناك شيء يمكننا أن نخسره، ويجب الحفاظ عليه قدر الإمكان، إنّها حياتنا. ماذا لو كنا خالدون؟ بالتأكيد ستكون حياتنا بلون آخر، وطعم مختلف، لن نعرف قيمة الأشياء ما دام ليس هناك احتمال لفقدانها. لن تكون لدينا الرغبة في معرفة ما نحن مقبلون عليه، أو مستعدون للتضحية من أجله أو التخلي عنه. كما أنك وأنت في عزلتك تشكو وحدتك، وتتأرجح بين الملل والسأم لا بد أن تسحب الحياة إليك، بدل أن تسحبك إليها. وتذكر دوما أن الخوف من الموت لا يلغيها أو يؤجلها. ولقد صدق ميشيل مافيزولي حينما قال: "ليس الموت من يمكننا تجاوزه، ولكنه ما ينبغي التوافق معه". من هنا تغدو الفلسفة في بعض جوانبها، إن لم نقل في كل جوانبها، تهييئا للكائن الإنساني، وتحضيرا له لتقبل وضعه الفاني، والتخفيف من هواجسه وقلقه الوجودي.

ولكي يتضح الأمر أكثر، يمكننا أن نعتمد على عبارة مونتين الشهيرة حينما يعرف الفلسفة والتفلسف، بأنه: "تعلم الموت" وكذلك المقولة المشهورة لسبينوزا بأن: "العاقل يموت أقل من المجنون". فهذه الأقوال وغيرها، تبين كيف كان فعل التفلسف عند العديد من الفلاسفة خارج فكرة الترف، والشهرة، والتعمق الزائف، والتصنع الذي يفرضه البعض بفعل صرامته الأكاديمية. لماذا؟، لأننا ندرك بشكل كبير بأن الخوف من الموت لا يحرمنا فقط من الاستمتاع بصفاء اللحظة، وراهنية الحدث، بل لأنه يجدد في تفكيرنا فكرة اللاعودة إلى حياة الوراء في مسار الأمور. هذه التجربة هي ما يهدد وجودنا النفسي، ويجعلنا أكثر هشاشة في مواجهة أعباء الحياة؛ أي إننا نستحضر الموت في قلب الحياة، موت الماضي، ولحظات الحنين، والشعور بالذنب، والأسف على انقضاء الزمن الجميل.

هنا تنبه الفلاسفة اليونانيون بأن المشكلة العويصة التي ترخي بظلالها على الكائن الإنساني هي التفكير في الماضي الذي لا يعود، أو الانشغال بالمستقبل المجهول. لهذا كانوا يؤكدون على فكرة محورية في تفكيرهم، وهي اللحظة الراهنة، فكل شيء ما عدا الحاضر وهمٌ وعذاب، فالماضي لم يعد موجودا، ولم يتبق منه سوى الذكرى والحنين. والمستقبل لا أحد يمكنه التكهن به؛ لأنه لم يوجد بعد. يؤكّد لوك فيري أنّ في أغلب تعاليم اليونايين الأوائل من الأبيقوريين والرّواقيين، وأيضا عن أرسطو والبوذيين والطاويين تأخذ فكرة السّعادة مركزية في العقل اليوناني القديم لمجموعة من الاعتبارات. ومفاد هذا النّمط في التفكير هو أنّ الإنسان مُطالبٌ لكي يحقِّق سعادته أو حياته الطيّبة، بالبحث عن التّناغم مع الكون؛ أي إنّ الرّوح الأصلية للعالم تكمُن في التّناسق؛ أيْ النّظام الذي هو في آن معا قويم وجميل، مما حدا باليونانين لتسميته بالكوسموس أيْ الكون. فلا شيء حسب نظرة الرّواقيين خاضع للعبث، أو اللّعب، أو اللّهو، بل كلّ شيء خاضع لنظام خاصّ يدل على عظيم الصّنعة. وما على المرء إلا أنْ يبحث عن ذاته داخل هذا النّظام، حتى يحسّ بالتّناغم بشكل أقوى، وبالتّالي يحقّق سعادته وحياته الطّيبة. إنّها نظرة إلى الكائن الإنساني على أنّه قطعة من السّرمد على وجه التّقريب؛ أي أجزاء من الكلّ الكوني الكبير. وبحسب هذا الرّؤية، فلن تفقدنا كما يقول فيري هذه الموت بالأساس إلا النّصيب الأتفه من وجودنا الفردي.

لكنْ لتحقيق هذا المبتغى، يجب تجنّب مجموعة من المحاذير التي تجعل من وجودنا مهدّدا في تحصيل سعادته أو هنائه. ولعلّ أهمّها فكرة الإفراط hybris ذلك الغرور المنفلت من كلّ قيد، والّذي يجعلنا نقدر أنفسنا اكثر مما نحن عليه. ويخرجنا من المنزلة التي أسندت إلينا، بل يجعلنا على هذا النّحو نهدّد بالقطع مع التّناغم الكوني المسمّى بالكوسموس. إضافة إلى ما سبق، فإنّ اليونانيين القدامي تنبّهوا من خلال تأمّلاتهم الفكرية والفلسفية أنّ تحصيل السّعادة أو الحياة الطيبة رهين بالانفصال التامّ عن هواجس الماضي أو المستقبل. فالماضي يمنعنا من الإقامة في الحاضر. إما لأنّه كان سعيدا فيشدّنا، أو حزينا فيغمرنا بالأحزان والآلام، وهو ما كان يسميه سبينوزا بـ "الأهواء الحزينة". فالحنين كما الأمل، والماضي كما المستقبل. كلاهما يثقلان كاهل الإنسان ويمنعانه من سعادته؛ لأنّ الماضي زال، والمستقبل لم يحن، وعلى حد تعبير سينيك: "فإنّنا من فرْط العيش في الماضي أو في المستقبل تعوزنا الحياة".

لهذا وأنت تبحث عن أسباب تعاستك، أو ما يمكن أنْ يكون مبرّرا لسعادتك، لا بدّ من المرور على مختصر إبكتيتوس ونصائحه؛ ذلك الكتاب الذي كان يحمله فريديريك الأكبر في كلّ حملاته العسكرية. فحتى لا يسكنك الخوف، ويصيبك الحزن تذكّر بقية الخصائص؛ أيْ إنّ كلّ ما تحبّه أو ترغب فيه، وتسعى للوصول إليه، أو تتمنّى الموت من أجله، لا بدّ أنْ تضيف لمواصفاته هذا السؤال: "ما هي طبيعة هذا الشّيء؟". فمثلاً إذا كنت شغوفاً بكوب فخّاري. قل لنفسك إنّه كوبٌ من الفخّار، ومن ثمّ فإذا تحطّم لن يتحطّم قلبك معه. وإذا كنت مولوعا بولدك أو زوجك. فقل إنّه كائن إنساني فانٍ. ومن ثمة إذا مات لم تمتْ رغبتك في مواصلة الحياة.

التعلق مأساة الوجود:

نتعلق بأشيائنا وأفكارنا وأقاربنا وأحبائنا دون أنْ ندري أنّ التعلّق هو إمساكٌ بخيط الوهم، أو هو المهمّة الصّعبة في انتظار فتح باب الجحيم. يخبرنا لوك فيري أنّه يجب علينا ونحن نحبّ أو نتعلّق فلا بد أنْ نتذكر بأنّنا نحب كائنات فانية أو مختلفة عنّا ليس ممنوحة لنا إلى الأبد. لهذا ما السيّء أنْ يقول أحدنا بصوت منخفض عند تقبيله ابنه أو من يتعلّق قلبه به: "غدا سيموت"... المقصود هنا ليس هو عدم الاكتراث بالأحبة أو الأصدقاء أو حتى الأفكار. إنّما يجب أخذ الحيطة من حالات التعلّق التي تنسينا أنْ لا شيء ثابت في هذا الوجود. غير هذا الفهم فهو تحضير الذّات لعذابات الحنين والرّجاء والفظيعة. لهذا فالحياة كلمةٌ مفرطة في البشاشة، لكنّها صعبة التحقّق. لماذا؟ يخبرنا فرناندو بيسوا بأنّ الحياة امتلكناها دون أنْ نعرف كيف، وسنفقدها دون أنْ نعرف متى. هنا مصدر القلق. لكنْ أمام كلّ هذا الضّجر، وهذا التَّعب، وهذا النَّفَس الطّويل من الشّكوى، والمظلومية لا شيء يتحقّق. ماذا يبقى باستطاعة الحكيم في هذا الزّمان سوى أنْ يطلب العطالة والراحة، وألا يُجبَر على التّفكير في العيش، إذ يكفي أنّه مجبرٌ على أنْ يعيش.

لكن على الرغم من معرفتنا المسبقة بمحدودية الكائن الإنساني، وفنائه، ومحدودية أفكارنا، وتاريخنا وأفكارنا، إلا أننا نأبى التسليم ونظل نتعلق بأشيائنا إلى الحد الذي يصعب فيه الانفصال؛ لأن أفكارنا ما لم نخضعها للتجربة والتطبيق تبقى مجرد أوهام تحتاج إلى تثبيت، من هنا يمكننا أن نفهم دعوة إبيكتيتوس، وهو يتحدث إلى مريده: "أقول لك إنك إذا فصلت هذه الملكة القائدة عن كل ما يلتصق بها بسبب الأهواء عن كل ما يتجاوز الحاضر، وعن كل الماضي، ستجعل من نفسك كما يقول أمبيدو كل كرة مدورة جيدة فخورة في فرح وحدتها. ستدرب نفسك على العيش فقط في اللحظة الراهنة؛ أي في الحاضر وسيكون بمقدورك قضاء كل الزمن الباقي حتى موتك دون اضطراب بنبل وبطريقة ممتعة لشيطانك الخاص".

ما معنى كل هذا الكلام، إن لم يكن هو أن الانتصارات التي تحققها الفلسفة في التخفيف من مسألة قلق الموت ليست بالأمر الهين. فموضوع العزاء الفلسفي ليس موضوعا للترف، ولا تكذيبا أو تجاوزا للواقع. إنه فقط إعادة تقديم وعرض المشاكل التي يواجهها الإنسان بأسلوب يقلل فيه من إمكانات الإصابة بالإحباط والشعور بالفشل، والألم. فمثلا كيف يمكن أن يجعل الإنسان من فقره أو وضعيته الاجتماعية المزرية أمرا محتملا وليس قدرا محتما؟

هنا تأتي الفلسفة لا كي تنقلك بوصفة سحرية من الفقر إلى الغنى، ولكن كي تقترح عليك عبر التفكير كيف تحول طاقتك من فقر إلى غنى. ولنأخذ مثالا على ذلك، حينما سئل سقراط عن كيف يمكن أن يصير الإنسان غنيا؟ أجاب: أن يكون فقيرا في الرغبات؛ فبدل أن يحقد المرء على الأغنياء، فليسعَ أن يكون واحدا منهم؛ هذا هو العزاء.