هل نشهد عودة الحروب الدينية؟


فئة :  ترجمات

هل نشهد عودة الحروب الدينية؟

هل نشهد عودة الحروب الدينية؟([1])

نظرة متحفظة حول خطاب الحروب

ترجمة: محمد الجرطي

منذ ما يقارب 25 سنة نشر المستشرق الفرنسي جيل كيبيل كتاباً بعنوان "انتقام الله: المسيحيون واليهود والمسلمون وإعادة فتح العالم"، وبيّن فيه، كيف، تغلغل النموذج الديني منذ سنة 1970 في سياق الحرب الباردة، وكيف أفسحت نهاية هذه الحرب المجال مفتوحاً لعودة الأديان.

اليوم، في الواقع، يبدو أن الأديان تشكل أحد العوامل الرئيسة للصراعات، في حين أن هذا الموضوع بدا ثانوياً وغير جوهري في سنوات الستينيات. ثمة عامل اَخر في هذه العودة الكبرى: مفهوم الحضارة الذي تم إحياؤه منذ نهاية التسعينيات؛ فالحضارات الكبرى التي تصطدم فيما بينها، حتى نعيد عبارة صموئيل هنتنغتون، غالباً ما يتم تحديدها من طرف الجيوسياسية على ضوء المعايير الدينية. في الفوضى العالمية الواضحة، هل نشهد عودة كبرى لما هو مكبوت ثقافياً ودينياً؟

قليلة هي الأعمال التي تتناول هذا الموضوع بطريقة مباشرة على المستوى العالمي، لكن سلسلة من التحليلات الأخيرة تساعد على مقاربة موضوع عودة الحروب الدينية. من الواجب في هذا الصدد أن نتعالى عن هذا الصدام، كما يدعونا إلى ذلك الباحث محمد علي الدرعاوي في معهد العلوم السياسية بباريس: "إن حقيقة الاختلافات الدينية والتاريخية مسألة لا يمكن إنكارها. ومع ذلك، أن نعاين هذه الاختلافات، فهذا لا يعني بالضرورة أن تكون محركاً لمواجهة واسعة النطاق، وتتحول إلى حروب دينية".

عودة الحروب الدينية

إن إلقاء نظرة بسيطة على خريطة الصراعات في العالم، تكشف عن علاقة واضحة تقريباً مع الأديان. إن "قوس الأزمات" يتعلق في الواقع بمحيط العالم الإسلامي. تشمل هذه الأزمات المواجهة بين الهندوس والمسلمين في الهند، والمسيحيين والمسلمين في إفريقيا الوسطى والغربية وحتى في قلب أوروبا مع الصراع بين الصرب الأرثوذكسيين والألبان المسلمين حول السيادة في كوسوفو.

ومع ذلك، ينبغي أن نكون حذرين من ميولنا الغربي في رؤية الدين مقترناً بالقتال الإسلامي. بالنسبة إلى بعض المراقبين، في الواقع، نشهد مواجهة بين الإسلام والمسيحية على نطاق واسع. باختصار، نشهد "إحياء" الحروب الصليبية والجهاد. إن هذا الجهاد الذي عاد للظهور من جديد يعرف انتشاراً في عدة أماكن رئيسة، حيث تشن الحركات الأصولية الحرب باسمه. هذا هو الحال في مالي وجميع أنحاء منطقة الساحل، انطلاقاً من المستنقع الليبي المتفجر. وبطبيعة الحال في سوريا والعراق مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وفي نيجيريا أيضاً مع جماعة بوكو حرام التي تحن إلى ذكريات الماضي مع سلطنة الهوسا. إن العامل الديني ليس دوماً محركا لهذه الصراعات الجديدة: يمنح العامل الديني بعداً جديداً لرواسب أكثر قدماً. وهكذا، فإن الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الوطني حصراً في سنوات الستينيات أصبح صراعاً دينياً بالنسبة إلى الحركات الراديكالية الدينية - سواء الإسرائيلية أو الفلسطينية من جهة أخرى. كان لهذا الصراع مخلفات حتى في أوروبا، حيث انتقل هذا المنطق: خلال الغارات المتتالية للهجوم الإسرائيلي على غزة في يوليوز 2014، فاستهدفت الأعمال التجارية التي يملكها اليهود أو المسيحيون في الشرق بشكل واضح من قبل مثيري الشغب.

تبدو جبهة الحروب الدينية الجديدة في كل مكان، وليس في أيّ مكان في الآن نفسه. إنها أكثر من حرب دينية، إننا نشهد فوضى "طائفية" على حد تعبير الباحث محمد علي الدرعاوي.

تجدر الإشارة بشكل خاص أن "هذه الحروب الدينية الجديدة" هي أيضاً حروب بين الأشقاء. في اليمن، تطالب الطائفة القبلية الشيعية الزيدية للحوثيين بإقامة الإمامة التي أدرجت بالقوة في شمال اليمن عام 1962، وتحارب السّنة بقدر ما تحارب إخوتها في نفس الدين. يعتقد الباحث أنطوان سفير في كتابه "الإسلام ضد الإسلام، حرب لا تنتهي بين السّنة والشيعة" أن هذا الانقسام هو مُولد لصراع أوسع بين "قوس شيعي" وعالم سّني راديكالي: لقد أُشعلت الحرب بين فرعي الإسلام الرئيسيين الآن، ولن تنطفئ جذوتها في الأمد القريب.

حروب مدرجة في سياقات أوسع

ومع ذلك، في أي مكان، لا تستند هذه الصراعات إلى الدين كسبب وحيد. في معظم الأحيان، إن العامل الديني لا يكون سوى وقود لتبرير منطق العداء الأوسع والأقدم. يكتب محمد علي الدرعاوي في مقالته في عام 2013: "هل يكفي العداء لفاعل متسلح بخطاب ديني أن يفضي إلى صراع ذي طبيعة طائفية؟ اليوم في إطار ثورات الربيع العربي، على الرغم من أن البعض لا يسارع إلى الإقرار بأن خطوط الصدع، التقسيم الرئيس الذي تنتظم حوله السياسة، له علاقة أيضاً بألوان طائفية، إن التحليل المعمق يسمح بإبراز جزء من التفسيرات المتعلقة بالحروب الدينية. والواقع، أننا لو نظرنا عن كثب إلى صراع الحروب الدينية لرأينا أن زعزعة استقرار ليبيا من طرف الجماعات الإسلاموية تكشف بشكل خاص عن عودة التشرذم الجغرافي والقبلي القديم الذي نجحت فقط ديكتاتورية القذافي في كبح جماحه؛ فالدولة تتكون من 99 ٪ من السكان السّنيين...

بعض الصراعات ذات البعد الديني القوي هي أيضاً صراعات اجتماعية واقتصادية. في مقالته في العدد الأول من مجلة "صراعات" بعنوان "صدام الأديان في إفريقيا" يعرض الباحث جيورجيني ديدييه بوضوح أن الحرب الأهلية في نيجيريا تقابل في ولاية جوس "البدو المسلمين" ضد "المزارعين المستقرين الذين تبنوا المسيحية". انقسام بين ساكنة بدوية وساكنة حضرية، نجد مثيلا لها في جميع أنحاء إفريقيا. يقدس الدين على هذا النحو التطلعات والصراعات القديمة التي يؤججها، رغم أنه ليس الأصل فيها. إن الدين أيضاً يقدم وعودا للمجاهدين بأن الله معهم - خير علاج ضد الخوف وطابع شرعي للموت وأيضاً محفز ضد التحفظ في ارتكاب الأفعال المريعة. في الواقع، إن الحروب الجديدة تُخاض أيضاً ضد الدول التي تُعتبر كافرة. يهاجم طالبان نظام كابول، رغم أنه مسلم؛ لأنه لا يستجيب لرؤيتهم الحرفية في تطبيق الشريعة والقرآن. تندرج هذه "الحروب الجديدة" أيضاً في منطق فشل الدول وظهور بؤر توتر مناسبة لتفجير أنشطة إجرامية، والصومال أبرز مثال على هذا النوع.

من بين أول الضحايا لهذه الحروب، هناك الأقليات بطبيعة الحال. تؤدي سيطرة الجماعات الأصولية على مناطق جغرافية معينة إلى اضطهاد الأقليات، وإلى فرض تدابير عنصرية ضدهم وأحياناً العمل على إبادتهم. تبرز أعمال داعش الوحشية ضد المسيحيين واليزيديين في شمال العراق أمثلة قاسية عن هذا النهج. يكتب الباحث جان فرانسوا كولوسيمو بنبرة حزينة في "أطلس الأديان" أنه "في القرن العشرين، تدهور بشكل تراجيدي مصير مسيحيي الشرق. نشهد اليوم تفاقم نزوحهم بشكل كبير لدرجة أننا نتخوف بشدة من اختفاء هذه الأقليات من الأراضي التي شهدوا فيها ظهور رسالة الإنجيل".

نموذج جديد من الصراع

تبرز أخيراً بعض الخصائص المشتركة لهذه "الحروب الدينية الجديدة". أولا، عدم تماثل هذه الحروب: معظم المقاتلين الذين يقولون بأنهم يتصرفون باسم الدين يفعلون ذلك باسم الإسلام. لماذا؟ بلا شك لأن المنطق الاجتماعي والسياسي للكثير من بلدان العالم الإسلامي هو الأكثر ملاءمة اليوم لترسيخ خطاب ديني يؤجج الصراع.

في العالم الإسلامي ليس هناك - أو لم تعد هناك - شرعية سياسية دون مرجعية إسلامية. يندرج بالتالي كل مشروع سياسي بالضرورة في خطاب ديني. في معظم الحالات، تتميز "الحروب الدينية الجديدة" بهجوم عدائي من قبل الجماعات الإسلامية الراديكالية (وليس دوماً هذا رأي الجماعات السّنية) وبدفاع من قبل الجماعات الأخرى (بطبيعة الحال، منها، المسلمون السّنة غير الراديكاليين أو الطوائف الأخرى)؛ حالة جمهورية إفريقيا الوسطى هي دلالة خاصة كما يؤكد ذلك الباحث ديدييه جورجيني في مجلة "صراعات". لكن في بعض الأحيان، يتم استخدام التطرف المفترض للإسلام من قبل جماعات دينية أخرى كذريعة: تشهد على هذه المسألة على سبيل المثال هجمات البوذيين ضد المسلمين في غرب بورما.

تبرز هذه الصراعات في الواقع صدام الرؤى المختلفة للعالم بشكل جذري. في أي مكان يتدخل فيه الغرب لمحاربة الحركات الجهادية، تندد هذه الأخيرة بالحروب الصليبية المسيحية في أرض المسلمين. هذا الخطاب هو تبرير ذاتي عميق؛ لأن الجهاد يُقدم باعتباره دفاعا عن النفس. يتم إخفاء البعد العلماني للسلوك الغربي - الذي تحفزه نزعة كونية للديمقراطية - مما يخلق سوء فهم عميق، وخاصة عندما يوظف زعماء مثل جورج بوش برعونة مصطلح "حملة صليبية".

باختصار، تظهر هذه الحروب بشكل خاص أن العلاقة بين العالمية والهوية لا تزال تثير الكثير من التساؤلات. تتميز الديانات التوحيدية العالمية الكبرى بنزوع عالمي، وتحافظ على ارتباط بالهوية في الآن نفسه إقليمي وقومي وقاري. هل ستكون المسيحية الخاسر الأكبر في هذه الحروب الجديدة؟ كما تلاحظ الباحثة جوزيفين بطاي في "أطلس الأديان": "على نحو متزايد، ينبع اضطهاد المسيحيين من جماعات متطرفة ومتعصبة (تكون الساكنة أيضاً في مجملها من بين ضحاياها، وتثير الكراهية وسط شريحة عريضة في المجتمع) مستقلة رسمياً عن السلطة السياسية. يصعب أحياناً على هذه السلطة السيطرة على هذه الجماعات ودحرها". في الواقع، يفتقر المسيحيون إلى القوة الخشنة. لا تستخدم أية دولة المسيحية علناً في خطاب قائم على الصراع، وثمة القليل جداً من الجماعات المسيحية المسلحة التي خاضت أعمالا شبيهة بأعمال نظرائهم من المسلمين - على الأقل منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية. وهكذا، هل سيعتمد المسيحيون على القوة الناعمة في مؤسساتهم الدينية، وعلى رأسها الكرسي الرسولي؟ في السياق الحالي، هذا رهان محفوف بالمخاطر.

[1] -Le retour des "guerres de religion" ? Regard distant sur une rhétorique guerrière, CLES - Comprendre Les Enjeux Stratégiques - Note hebdomadaire n°143 - 16 octobre 2014, Par Jean-François Fiorina