هل هُجرتْ البتراء حقًا؟
فئة : ترجمات
هل هُجرتْ البتراء حقًا؟
مقدمة المترجم
نُشر هذا المقال الأصلي بلغته الإنجليزيَّة في موقع الأكاديميَّة البريطانيَّة The British Academy بتأريخ الثامن من شهر مايو (آيار) 2018. يُمكن للقارئ زيارة المقالة على رابط الأكاديميَّة([1]).
لعل سبب كتابة هذه المقالة القصيرة هو استياء عالمة الآثار الدكتورة ميكايلا سينيبالدي Micaela Sinibaldi هو استياؤها من "السرد المقبول على نحوٍ عام، حتى لدى بعض الباحثين، أنه مع تغيّر دور البتراء جنبًا إلى جنبٍ مع تغيّر الديناميكيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الأوسع؛ هُجرتْ المدينة تمامًا".
وحتى بعد كتباتها لهذه المقالة؛ ظل بعض الباحثين، أمثال الدكتور ديفيد كينغ David King، مصرًّا على اندثار مدينة البتراء بحلول أوائل القرن السابع الميلاديّ، كان الأنباط قد "غادروا البتراء". وأطلق على البتراء "مدينة الأشباح" و"المدينة الميتة"([2]).
قام المؤرخ دان غيبسون بالدفاع عن نتائج ميكايلا سينيبالدي، وقام بالرد على نظريَّة ديفيد كنغ في كتابه دع الحجارة تتكلم LET THE STONES SPEAK([3]).
وميكايلا سينيبالدي زميلة أبحاث فخريَّة في جامعة كارديف Cardiff University، وتشغل منصب نائب مدير معهد كينيون التابع لمجلس الأبحاث البريطانيَّة في بلاد الشام (CBRL) في القُدْس.
الاستنتاجات المعروضة هنا مُستمدة من دراستها لمنطقة البتراء في الأوقات اللاحقة، والتي تُسمى "مشروع البتراء المتأخر"، والذي يُعدّ مشروع البيضاء الإسلاميّ جزءًا لا يتجزأ منه. دُعم مشروع البتراء المتأخرة، الذي يستند إلى نتائج أطروحة دكتوراه؛ ناقشتها جامعة كارديف حول موضوع الأردن في العصر الصليبيّ، من قِبل جهاتٍ أخرى، مِن خلال تمويل من الأكاديميَّة البريطانيَّة من خلال زمالة بحثيَّة زائرة في معهد CBRL في عمّان، BIA.
نُشرت أجزاءٌ من نتائج مشروع البتراء في العصر الصليبيّ في كتاب العصر الصليبيّ Crusader period، وهو عبارةٌ عن سبعةٍ وعشرين مقالًا حول الأبحاث التأريخيَّة والأثريَّة الحديثة حول العصر الصليبيّ، والذي شارك في تحريره سينيبالدي. حظي إنتاج الكتاب وإصداراته الأربعة بدعمٍ سخي، من جهاتٍ أخرى، من الأكاديميَّة البريطانيَّة CBRL.
وفي الأخير، أُقدم هذه الترجمة العربيَّة لهذه المقالة التأسيسيَّة عن تأريخ مدينة البتراء العريقة التي جاءت في صفحات قليلة، والله الموفق.
[تمهيد]
في الحلقة الأولى من مسلسل الحضارات Civilisations على قناة بي بي سي الثانية BBC Two، استكشف سيمون شاما Simon Schama، زميل الأكاديميَّة البريطانيَّة، مدينةَ البتراء القديمة، حيث أظهرت أنظمة المياه المُعقدة التي صممها الأنباط، والتي ساعدتْ في تحويل البتراء إلى "مدينةِ حدائق" مُزدهرةٍ. شهدنا صعودها بسبب تجارة البخور، ثم تراجعها عندما جعلت طرق التجارة الجديدة البتراءَ غير ذاتِ أهميَّةٍ تجاريَّةٍ. لكن إلى أين ذهب سكان البتراء، هل هجروا المدينة حقًا؟
إدارة الأنباط الماهرة للمياه
البتراء (في المقدمة) ومدينة وادي موسى (في الخلفيَّة) على سفوح جبال الشرى (من الجنوب الغربيّ). الصورة: ميكايلا سينيبالدي
ازدهرتْ مدينة البتراء في العصر النبطيّ بفضل إدارة الأنباط الماهرة للمياه، والذين كانوا فخورين بها بشكلٍ واضح. قام نظام هيدروليكيّ مُتطور بتنظيم المياه وجمعها وجلبها إلى الوادي، ليستخدمها عشرات الآلاف من الناس. من أبرز أجزاء هذا النظام تحويل مدخل مياه الأمطار، التي تتدفق بشكلٍ طبيعيٍّ عبر السيق، وإيصالها إلى مركز المدينة؛ ليستخدمها الناس، مما سمح لهم باستخدام السيق بمثابة مدخلٍ للمدينة في أيّ وقت. واليوم، نظرًا لتدهور النظام، لا يزال السيق يتعرض من حينٍ آخر لفيضاناتٍ شديدة.
الفكرة السائدة على "هجران" البتراء
الوُعيرة، قلعة صليبيَّة تقع على مشارف وادي البتراء. تصوير: ميكايلا سينيبالدي
أكد السرد المقبول على نحوٍ عام، حتى لدى بعض الباحثين، أنه مع تغيّر دور البتراء جنبًا إلى جنبٍ مع تغيّر الديناميكيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الأوسع؛ هُجرتْ المدينة تمامًا، وظل تأريخها طي الكتمان التام بعد هذه اللحظة حتى أعاد بوركهارتBurckhardt اكتشافها عام 1812م. الحلقة الوحيدة التي كسرت هذه الحقبة الطويلة من الهجران في السرد هي عصر الصليبيين الذي استمر من خمسين إلى ستين عامًا في البتراء (1130/1140-1188)، والذي غالبًا ما يُذكر بوصفه زمن نهضةٍ، ولا تزال تشهد على ذلك عدة قلاع.
الاستيطان الفرنجيّ في العصر الصليبيّ
في العصر الصليبيّ، انجذب الفرنجة إلى منطقة البتراء؛ بسبب خصوبتها ووجود أعدادٍ كبيرةٍ مسيحيَّة، الذين شعروا أنهم ضروريون لإيجاد دعم سيطرتهم الاقتصاديَّة على المنطقة. كان اقتصادهم المحليّ يعتمد بشكلٍ رئيسٍ على الزراعة، وفي منطقة البتراء، أسسوا قلاعًا وقرى وسيطروا عليها.
بيد أنه من الواضح من المصادر الوثائقيَّة والأثريَّة أن الفرنجة ببساطة أدخلوا أنفسهم في اقتصادٍ مُزدهرٍ بالفعل، يعتمد على الزراعة الراسخة في هذه المناطق الخصبة. على الرغم من أن البتراء كانت مُزدهرةً؛ فإنها نادرًا ما ذُكرت في المصادر التأريخيَّة بعد العصر البيزنطيّ؛ لأنها كانت مجرد مدينةٍ إقليميَّةٍ.
صورة مُختلفة للحياة ما بعد الحضريَّة في البتراء
البتراء كما تبدو من أعلى جبال الشرى (من الشمال). تصوير: ميكايلا سينيبالدي
أثبت بحثي الأخير عن كامل الحقبة الإسلاميَّة في البتراء، بما في ذلك الحقبة الصليبيَّة، أن الصورة الدراميَّة للتخلي التام عن منطقة البتراء خاطئةً، وأنه كان من المُمكن إعادة بنائها على أساس أول بحثٍ مُعَمق في جميع المصادر التأريخيَّة والأثريَّة المتاحة، إعادة بناء صورةٍ مُختلفةٍ لصفحة تأريخ الحياة الحضريَّة في البتراء. كانت هذه الاستنتاجات نتيجةَ دراسةِ الخزف المحليّ وأساليب البناء مِن خلال عدة حفرياتٍ ومسوحاتٍ أثريَّة؛ مما سمح لي بالبدء في تحديد تواريخ للكمية الكبيرة من الخزف الموجودة داخل وادي البتراء وخارجه.
الانتقال التدريجيّ إلى المناطق الخصبة القريبة
البتراء كما نراها من أعلى جبال الشرى (من الشمال)، مع سفوح الجبال في المقدمة، وسهول البيضاء الخصبة في الوسط، وجبال البتراء في الخلفية. تصوير: ميكايلا سينيبالدي
بعد أن أصبح النظام الهيدروليكيّ المُتطور في حالةٍ سيئةً ببطء؛ انتقل معظم سكان وادي البتراء تدريجيًّا؛ لكن ليس بشكلٍ كاملٍ، إلى المناطق الخصبة القريبة، حيث يُمكنهم العثور على فُرصٍ أفضل للمياه والزراعة. استمروا في ممارسة الزراعة في عدة مناطق خصبةٍ تحت جبال الشرى، والتي كان بعضها مأهولًا بالسكان بالفعل خلال العصر النبطيّ، مثل وادي موسى، حيث لا تزال الزراعة تُمارس حتى اليوم.
أدلة أثريَّة على استمرار حياة البتراء وازدهارها طوال العصر الإسلاميّ
مِن خلال الخزف الذي يعود إلى العصر الإسلاميّ والذي قُمتُ بتحليله؛ يتضح أن بعض الناس كانوا يسكنون وادي البتراء على الدوام. كانوا يعيشون بشكلٍ رئيسٍ في المباني النبطيَّة المنحوتة في الصخر، والتي كانت بلا شك معزولةً بشكل أفضل من المنازل، وربما مارسوا الزراعة على مصاطب صغيرة داخل الوادي.
على بُعد مسافةٍ قصيرةٍ من الوادي، استمرت هذه الحياة الزراعيَّة دون أي فجواتٍ تُذكر؛ وهو ما أثبتته بوضوحٍ الحفريات في مدينة وادي موسى؛ تشهدت المنطقة سلسلةٌ مُتواصلةٌ من الاستيطان على الازدهار الزراعيّ للمنطقة والاستيطان طوال العصر الإسلاميّ بأكمله. مشروع البيضاء الإسلاميّ، المشروع الأثريّ الذي أُديره في البتراء، يدرس الموقع الذي يحتوي على الأدلة الأكثر شمولًا والتي يُمكن الوصول إليها للعصر الإسلاميّ في منطقة البتراء. هنا، نُوثِق قريةً زراعيَّةً كبيرةً؛ تضم مسجديْن، وهما أول ما نُقِبَ عنهما في منطقة البتراء.
"على بُعد مسافةٍ قصيرةٍ من الوادي، استمرت هذه الحياة الزراعيَّة دون أي فجواتٍ كبيرةٍ؛ كما أثبتت الحفريات في مدينة وادي موسى بوضوح".
لماذا هناك فهمٍ بشأن هجران البتراء؟
سوء الفهم الكبير، الذي كان يَنظر إلى البتراء تقليديًّا على أنها مدينةٌ مهجورةٌ تمامًا بعد العصر البيزنطيّ، نابعٌ من عدة عناصر: التركيز التقليديّ لعلماء الآثار على البقايا الاستثنائيَّة في وادي البتراء وقلة الاهتمام بمناطقها الداخليَّة وعلاقتها بالوادي نفسه؛ والأهميَّة الكبرى للحقبة النبطيَّة في المنطقة، مقارنةً بالحقبة التي تلتها؛ صعوبة تفسير الوثائق الأثريَّة المعنيَّة، وخاصةً الخزف؛ وأخيرًا وليس آخرًا، هناك سحرٌ خاصٌّ لرؤية البتراء بألوانها الدراميَّة، بالأبيض والأسود، للهجران الكامل وإعادة الاكتشاف المُفاجئ، يزرعها ذوقٌ استشراقيٌّ إلى حدٍّ ما.
باختصار، أدتْ الآثار الفريدة والاستثنائيَّة في وادي البتراء خلال العصر النبطيّ إلى طمس تدرّج التغييرات وجوانب الاستمراريَّة في أنماط الاستيطان التي عادةً ما تُميّز التأريخ أكثر بكثيرٍ من جوانب الاضطراب والتغييرات المفاجئة.
([1]) Did Petra's inhabitants really abandon the city? | The British Academy. تأريخ الزيارة 29 مايو (آيار) 2025م.
([2]) راجع مقالة كينغ، "مغالطة البتراء"، موقع أكاديميا، King, David A. “The Petra fallacy: Early mosques do face the Sacred Kaaba in Mecca but Dan Gibson doesn’t know how.” Academia.edu. Accessed July 6, 2022 https://www. academia.edu/37957366/KING_2018_The_Petra_fallacy_Early_mosques_do_face_the_Sa cred_Kaaba_in_Mecca_but_Dan_Gibson_doesnt_know_how.
([3]) دان غيبسون، دع الحجارة تتكلم، GIBSON, DAN, LET THE STONES SPEAK: Archaeology Challenges Islam, SASKATOON, CANADA, CANBOOKS PUBLISHERS (2023), p. 181f.