هلوسات الإسلاموي المتطرف (قراءة في كتاب رغبة هوجاء في التضحية)


فئة :  قراءات في كتب

هلوسات الإسلاموي المتطرف (قراءة في كتاب رغبة هوجاء في التضحية)

"رغبة هوجاء في التضحية، المسلم الأعلى" كتاب لفتحي بنسلامة المحلل النفسي وأستاذ علم النفس العلاجي، صدرت طبعته الفرنسية عن دار سويل (Seuil) الفرنسية عام 2016، وصدرت طبعة الكتاب بالعربية عام 2015، ترجمة الحسين سحبان الأستاذ المتخصص في الابستمولوجيا. الكتاب الصادر عن مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع يقع في 160 صفحة.

يطرح المؤلف في كتابه فكرة المسلم الأعلى، باعتبار الإسلاميين الراديكاليين أو الجذريين في خطابهم أسسوا لهوية انتمائية متعالية، وقوة دينية مغالية في التطرف قائمة على العودة إلى الأصول وتجدد الصلة بالمقدس، وعلى استرخاص التضحية بالنفس، واشتداد التضحية بها.

أولا- من هو المسلم الأعلى؟

يقصد المؤلف بالمسلم الأعلى، المثل الأعلى للمسلم الذي يزايد به المسلم على ذاته، ليزداد إسلاما فوق إسلامه، وهو سلوك لذات وقعت فريسة لوعاظ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذات تتهم بشكل مستمر بأسوأ الجرائم وبمصير العذاب وجهنم، ولذات مدعوة لأن تتماهى مع المسلم النموذجي ألا وهو النبي والسلف الصالح.

إن المسلم الأعلى يعبر عن الحالة الذهنية للمجذرين الإسلامويين، والتي تسيطر عليهم وساوس الإثم والتضحية، والمفروض في المسلم الأعلى أن يكفر عن ذنوبه وآثامه ويندم ويطهر؛ وذلك عن طريق سلك سلوكيات المسلم الأعلى. فالمتطرفون يظهرون سلوكيات العجرفة والتكبر في إيمانهم من خلال إظهار سمات عدة للجمهور كسماهٍ على الجبهة، والصلاة في الشارع، ولباس متميز، وإظهار الإكثار من الشعائر.[1]

ثانيا- الإسلاموية المتطرفة: اختراع من الإسلام

يعتبر المؤلف ظهور الإسلاموية في العالم الإسلامي واقعة تاريخية غيرت نظرة المسلمين لأنفسهم وللعالم. إنها اختراع للمسلمين انطلاقا من الإسلام، وهي طوباوية معادية للسياسة ضد الغرب، قوامها إخضاع الدين للسياسة، وهدفها قلب نموذج الحكم السياسي، ومحو السياسي وطمسه. ويعود المؤلف إلى أهم الأحداث المرتبطة بالإسلاموية المتطرفة لتأكيد هذه الفكرة؛ أساسا الثورة الإيرانية (1979)، وتأسيس إمارة "إسلامية" في أفغانستان (1996)، وإعلان "الدولة الإسلامية" (داعش) (2014)، إضافة إلى تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر (1992)، والإخوان المسلمين في مصر (2013)، وحركة النهضة في تونس (2014).

ويؤكد المؤلف أن مختلف هذه التجارب تظهر نزعة سيكولوجية طاغية نحو المسلم الأعلى، حيث السيادة لإله واحد، وهو الله، ولا وجود إلا لسياسة واحدة، وهي الدين الإسلامي.

ثالثا- التجذر خطر مرعب يهدد المجتمع

يميز المؤلف في القسم الأول بين التجذر(الأصولية) بكونه تهديدا، والتجذر بكونه عرضا مرضيا، حيث يخصص الفصل الأول للجانب الأول، والفصل الثاني للجانب الثاني.

إن التجذر ظل هامشيا في التداول إلى غاية أحداث 11 شتنبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث انطلاقا من هذه اللحظة تزايد تداوله، واعتبر محددا لتمييز هوية الأشخاص القادرين على ارتكاب أعمال العنف، وأدى ذلك إلى ميلاد الشخصية العالمية للمتطرف، كشخص غير مأمون وغير جدير بالأمان، كما أدى إلى تزايد الخطاب العالمي حول العنف والشباب، وتزايد الدراسات النظرية والمعرفية التي تحاول تمييز وتحديد خصائص: أفعال، أقوال، سلوك للشخصية المتطرفة من أجل مراقبتها.

إن المراقبة من أجل الأمن أفضت إلى عسكرة الحياة العادية، وتراجع دولة القانون لصالح دولة في حالة الطوارئ، كما أفضت إلى تزايد الخوف وعدم الإحساس بالأمن في الفضاءات العامة، إذ الإرهاب الأعمى إن لم ينفجر في المكان الذي يتواجد فيه الفرد، قد ينفجر في أماكن يتواجد فيه شخص نخشى عليه.

إن نشر الرعب هو ما نجحت فيه الحركات الإرهابية، لكن ليس فقط من خلال التفجيرات والأفعال الوحشية، ولكن أيضا من خلال الإرهاب الإعلامي، حيث الإرهابيون يسجلون أفعالهم الوحشية بالصوت والصورة، ويمسرحون أعمالهم الإرهابية، ويجعلونها في قطب التواصل بشكل فرجوي، هذا ما قدمته فلول القاعدة في العديد من الأماكن، وما تقدمه "داعش" وغيرها من الجماعات الإرهابية.

فارتكاب القتل والذبح والرجم وقطع الرؤوس ورفع شعار الله أكبر، من خلاله يحيل الإرهابيون على مسألتين أساسيتين: أولاهما أن الله يأمرهم بذلك، وتلك الأفعال الوحشية في سبيل الله؛ وثانيتهما أن لا أحد يمكن أن يحاسبهم سوى العدالة الإلهية.[2] وتحقق تلك المشاهد في الفضاء الإلكتروني الكثير من القبول والترحيب من طرف المجذرين.

وفي إطار تحليله للتجذر كظاهرة مهددة للبشر والمجتمع، يعود المؤلف إلى استحضار العديد من التحليلات المتميزة لظاهرة التجذر، ولا سيما الحديثة منها، وخاصة في فرنسا، حيث يعود إلى دراسة "فرهاد خوسروخافار"، الذي يؤكد أن التركيز على مفهوم التجذر في علم الاجتماع أتاح عوض الاهتمام بالجماعات الاهتمام بالأفراد، بذواتهم ومساراتهم وتفاعلاتهم داخل الجماعات التي ينخرطون فيها، والتي تقودهم إلى الانخراط في العنف.

كما يعود إلى أعمال الكاتبة إيزابيل صوميي (Isabelle Sommier) التي ترجع تكون التجذر إلى ترابط ثلاثة متغيرات وسيطة؛ وهي السياق الاجتماعي والإيديولوجي، والمسار الفردي والذاتي؛ وكذلك أعمال كزافييه كريتز (Xavier Gritties) الذي يرجع التجذر إلى الانخراط الفردي في "مذهب العمل الملموس المحفوف بمخاطر كبرى"، والأمر يعود أساسا إلى ثلاثة عوامل؛ العوامل المحرضة، والآليات المعرفية، والسيرورات التطورية لدى المنخرط في هذا العمل. ويعود كذلك إلى خلاصات جيل كيبل حول الجهاد في فرنسا الذي يعتبر التجذر لم يرق بعد إلى مرتبة المفهوم.

ويقر المؤلف بأن الأعمال السوسيولوجية هذه تستبعد البعد السيكولوجي في التجذر، باستثناء تنبيه خوسروخافار إلى الهشاشة السيكولوجية للمتجذر، حيث من خلال أبحاثه التي أجراها في السجن استخلص أن البعد النفسي المرضي يهم 40% من المجذرين المعتقلين، وتزيد النسبة أكثر من ذلك في بعض المجالات.

إذا كان هذا هو حال التجذر في الدراسات السوسيولوجية الفرنسية، فإن مفهوم التجذر لم يأخذ مكانته لدى المشتغلين بعلم النفس إلا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعقد أول لقاء بين السريريين النفسيين إلا في مارس 2015. وقد وظف مصطلح التجذر بحذر شديد في الكتاب الذي كان باكورة هذا اللقاء. فهناك تفاوت واضح في بداية الاهتمام بالتجذر بين السيوسيولوجي والسيكولوجي في فرنسا، يرجعه المؤلف إلى جملة من الأسباب أهمها؛ حذر المشتغلين بعلم النفس تجاه الظواهر الاجتماعية وتناولها من زاوية سيكولوجية، وتأخر ظهور العوارض المرضية الفردية للظواهر الاجتماعية.

بالإضافة إلى تناول التجذر في الدراسات الفكرية، يعرج الكاتب على استراتيجية الحكومات الفرنسية مع التجذر، هذه الاستراتيجية لم تأخذ طابعها العلني، إلا بعد أن اتخذ التجذر بعدا وبائيا معديا[3]، والذي كان نتيجة مباشرة لاستراتيجية الإرهابيين الموجهة للتراب الأوروبي التي كانت بدايتها منذ 2004 بنشر مصعب الزرقاوي لكتابه من 1600 صفحة، والتي تركز على التخلي عن "التنظيمات الجهوية ذات المراتب الهرمية لصالح شبكات دون قائد تقريبا ولا مركزية، وتستخدم الأنترنت وتتركز بصورة خاصة على الإرهاب الفردي، هدفها التحريض على التنافر بين المسلمين، وبين بلدان إقامتهم، وزعزعة استقرار أوروبا".[4]

وقد انطلقت مخططات الحكومة الفرنسية لمواجهة التجذر في أبريل 2014 مركزة على تحسيس الأسر بخطورة الانزلاق إلى التجذر، وخلق جهاز محلي في كل جهة هدفه التكفل بالأشخاص المرشحين للانتقال إلى التجذر العنيف، وتبني خطاب مضاد لخطاب التنظيمات الإرهابية، مع تكليف مصالح الاستعلامات بتحديد المجذرين والكشف عن مكانهم بالاعتماد على جملة من المؤشرات، وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى تزايد عدد الأفراد الذين تنطبق عليهم مؤشرات الاستعداد للتحول إلى مجذرين، حيث بلغ عددهم حوالي 1000 في يناير 2015، و4500 في يونيو من نفس السنة، و8250 سنة 2016، وهو ما يعني تزايد عدد المرشحين للجهاد من الشباب المنحدرين من مختلف الطبقات الاجتماعية، حيث 60% منهم ينتمون إلى الطبقات المتوسطة. و30% ينحدرون من الطبقات الفقيرة، و10% من الطبقات الميسورة.[5]

إن مثل هذه الاحصائيات وتزايد أرقام المرشحين للإرهاب تظهر صعوبة إيجاد ورسم بروفايل نموذجي للمجذر أو المرشح للانخراط في الإرهاب، ولكن أهم نقطة تقدمها هذه الإحصائيات حسب الكاتب هي أن ثلثي الجهاديين تتراوح أعمارهم بين 15 و25 سنة، وهو ما يعتبره الكاتب دليلا على أن نسبة مهمة من المجذرين تتألف من المراهقين؛ أي من "راشدين شباب يوجدون في منطقة القرار المؤجل، حيث يحتمل أن يتسم اجتياز المراهقة بالامتداد وبحالة أزمة مطولة".[6]

رابعا- الهلوسات النفسية للمجذرين

انطلاقا من مزاولته لعمله السريري في مستشفى عمومي فرنسي، يستخلص المؤلف جملة من الخلاصات على المستوى النفسي للمجذرين؛ أهمها أن المتبنين للإسلاموية المتطرفة هم أفراد تحكمهم رغبات لإعادة التجذر، أو استعجال التجذر في السماء، نظرا لغياب قدرتهم على تحقيق ذلك في الأرض، فصورتهم على أنفسهم ومستقبلهم الذي لا أفق له، ووضعهم الأسري، تجعل التجذر لديهم عرضا مرضيا نفسيا.

إن جل الشباب قبل تحولهم إلى مجذرين يعيشون ما يسمى "باكتئاب النقص" (نعت لعالم النفس الفرنسي فرنسيس باش)، حيث تتبلد الأحاسيس ويعيشون اللامبالاة والحط من قيمتهم، وعندما يتبنون الدين يحققون ذاتهم، فبالتالي يحققون سموهم وتعاليهم عن الواقع وعن الآخرين. إضافة إلى هذا النقص، فإن الشباب عندما يقبلون على المراهقة، وهي فترة يمكن أن تكون طويلة ومتأخرة، تصير لديهم بمثابة هاوية، لذلك فالذات عليها أن تقفز فوقها لتحقيق "الخلاص". ولتخطي ذلك، يجد الشباب التجذر في السماء حلّا ومتعة.

لذلك يمكن النظر إلى التجذر باعتباره عرضا مرضيا، حيث الهروب إلى التجذر "يمنح قسطا من الكينونة (العليا) لوجود محطم أو عرضة لخطر التحطيم".[7]

إن السياق الجغرافي -السياسي، والمشهد الاجتماعي والتشكل النفسي، والانخراط في مجموعة كلها متغيرات وسيطة تظهر التجذر، باعتباره عرضا مرضيا، باعتبار الأعراض المرضية لدى المراهقين تعكس النزاعات الاجتماعية؛ ذلك أن الكثير منهم يعتبر أن حلها يتم عن طريق الانخراط في التجذر، حيث يمكن علاج الأسرة والمجتمع والبشرية جميعا، ولاسيما أن فترة المراهقة أصبحت ممتدة في المجتمعات الحديثة على عكس المجتمعات التقليدية.

إن المؤلف يذهب إلى أن الانتقال الذاتي خلال فترة المراهقة تنفجر فيه المثل العليا للطفولة، ويضطر الفرد إلى البحث عن مثل عليا لتعويضها، ويقدم في هذا الإطار ثماني هلوسات يعيشها المجذر.

- شراهة للمثل العليا

أيّ تحطيم لمثل عليا وإعادة بناء مثل عليا أخرى، حيث في التحطيم يجد الفرد نفسه منهارا تائها، وفي إعادة البناء تهيمن على المراهق الحماسة والتهور في الأفكار، والرغبة في مغادرة المكان إلى عالم جديد، أو المشاركة في خلقه.

وهذه الشراهة للمثل العليا تأتي من رغبة الفرد لامتلاك ذاته (ملك لنفسه). هنا يمكن أن يظهر التجذر، باعتباره امتحانا وحلا لمشكلة العبور خلال فترة المراهقة، ولاسيما أن التنظيمات الجهادية والإسلامية المتطرفة تركز تحديدا على تعبئة هذه الفئة واستغلال هذا الانتقال.

والنتيجة تكون تنازل الفرد الذي يعيش فترة الانتقال عن فردانيته، والانخراط في جماعة، حيث تتشكل تشكلات نفسية جمعية: هلوسات مشتركة بين عدة أفراد، الإكثار من الطقوس، وطاعة عمياء. وفي الكثير من الحالات، يتم ذلك بالكثير من الجهل؛ فمارك تريفيديتس[8]، صرح في أكثر من مرة أمام وسائل الإعلام: "بأن بعض العائدين من مواقع المعارك، ممن استنطقناهم لا يعرفون الأركان الخمسة للإسلام".[9]

- العدالة المتعلقة بالهوية

إن عدالة الهوية تقوم على نظرية "المثال الإسلامي الأعلى الجريح"، الذي ألحق بالمسلمين في الماضي والحاضر، حيث تم ضياع مبدأ السيادة الإسلامية على يد الجماعة الإسلامية، مع إلغاء الخلافة، والتقطيع الاستعماري لآخر إمبراطورية إسلامية، وهي الإمبراطورية العثمانية. لذلك، فالانتماء إلى الجماعة يعد بمثابة خلق هوية جماعية من أجل القصاص لأنفسهم/ للمسلمين. هذا ما تشتغل عليه الجماعات الإرهابية، حيث الفرد يسخر ليصير منتقما للمثال الأعلى، أو للألوهية التي أهينت وانتهكت حرمتها.

- التكريم وبلوغ القدرة الكلية

إن إحساس الشباب بانعدام قيمتهم وبقدرهم المنحط، يتم استغلاله من طرف الجماعات الإسلامية المتطرفة، التي تلعب على وتر الإجحاف والضرر الذي لحقهم لإيهامهم بأنهم مختارون من الله لدفعهم إلى أن يصيروا مبعوثين في سبيل القضية والثأر لأنفسهم، وليكون الشباب فوق القانون باسم القانون الإلهي الأعلى.

- الندم والتطهير

تعتمد إيديولوجية التجذر الإسلامي على الندم والتطهير، فالهموم التي يعيشها الشباب في فترة المراهقة والإحساس بالتعاسة والندم، بالرغم من عدم ارتكابهم لأي جرم، توظفها الجماعات المتطرفة لتقديم التجذر بمثابة عفو، ووسيلة لإضفاء النبل على دوافعهم، فاعتداءات 13 نوفمبر في باريس، قدمت من طرف الجماعات المتطرفة بأنها موجهة إلى "عبدة أوثان في حفلة فساد" في باريس "عاصمة المنكر والفساد" ونفذت من طرف "مجموعة طلقت الحياة الدنيا".[10]

- تعهد فرد الجماعة بالإصلاح ضد الفرد المجتمعي

يظهر ذلك جليا، عندما يدفع الشاب في عمره 16 سنة إلى تسمية نفسه باسم جديد يبتدئ بـ "أبو فلان"؛ أي الانتقال من وضع الابن إلى وضع بكونه "الأب"، بالرغم من أنه ليس أبا لأحد، ومن ثم يصبح أصلا لذرية متخيلة.

- طقس الحد الفاصل بين الحياة والموت

في الوقت الذي يعيش فيه المراهقون صراعات لا واعية حول الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، يمطرهم الوعاظ بسلسلة طويلة من الأدعية والابتهالات حول الموت القريب، وأصناف عذاب القبر، وكل ذلك من أجل دفعهم إلى اعتناق التجذر لتجنب أنفسهم عذاباته، فالشهيد إلى الجنة، وهو ليس ميتا بل حي وخالد. إنها سياسة غريزة الموت التي تطبقها الجماعات المتطرفة.

- نظرية في الشر والتجديد

إن الخطاب الجهادي يركز على إقناع الشاب بأن العالم الديني الذي يعيش فيه عالم فاسد وقذر مليء بالأكاذيب، والانتماء إلى التجذر هو سبيل لتطهير العالم من المنافقين والقذرين والمسلمين المزيفين.

- تمام المعنى ويوم القيامة

يعتمد العرض الجهادي على لحظات لتحديد قيام الساعة ونهاية العالم، فالكثير من الشباب الجهاديين الذين التحقوا بسورية عبروا عن رغبتهم في المشاركة في نهاية العالم، وإعادة إقامة الخلافة كمؤشر لقيام الساعة.

إضافة إلى هذه الهلوسات، يمكن إضافة تلك الهلوسات المرتبطة بالجنس والمرأة عموما. وفي هذا الإطار، يعود المؤلف إلى مختلف النقاشات التي صاحبت فتوى إرضاع الكبير التي كانت في مايو 2007 من طرف جامعة الأزهر، سواء في العالم الإسلامي أو في وسائل التواصل الاجتماعي، سواء المستنكرة أو المرحبة، ويؤكد المؤلف أن هذه ليست الفتوى الوحيدة، بل قبل ذلك كانت هناك عدة فتاوى حول إرضاع الكبير بين المسلمين والمسيحيين، ويؤكد أن عددا كبيرا من مئات الآلاف من الفتاوى المنتشرة خاصة في الأنترنيت، تدور حول النساء والجنس، خاصة بعد غزو الإسلاموية المتطرفة لمجال الفتوى والهيمنة عليه، وبعد تزايد أعراض مرض الوسواس الديني القهري لدى الإسلامويين المتطرفين، أو المرشحين للانضمام إلى التطرف. وفتاوى هذه الجماعات المتطرفة تستهدف أساسا كبح المسلمين لغرائزهم أمام تزايد المغريات الاستهلاكية، فهي سلاح من أسلحة الإسلاموية المتطرفة لمواجهة قوانين الدولة الوطنية والمواثيق الكونية، وتركز على اعتبار المرأة عورة ومصدرا للإغراء، لذلك فمرمى فتوى إرضاع الكبير مثلا يتمثل في تحجيب المرأة "وحماية جماعة المؤمنين من المرأة، باعتبارها موضوعا جنسانيا كليا".[11]

خامسا- الثورة وتجاوز المسلم الأعلى

خروج الشباب دون أدعية ولا تراتيل خلال الانتفاضات التي عرفها العالم العربي ابتداء من دجنبر 2011، تقدم مؤشرات مهمة عن إمكانية تجاوز المسلم الأعلى الذي هيمن على الفضاء العام، وفي وسائل التواصل الاجتماعي بتعبئة من الحركات المتطرفة ووعاظها.

هذه الحركية للشباب التي استطاعت إسقاط أعتى الديكتاتوريين، والتي سوف تتواصل لسنوات طويلة، كشفت عن الطابع الوهمي لدعاوى الحركات الإسلاموية المتطرفة، ولاسيما بعد وصولها إلى السلطة في كل من تونس ومصر.

سادسا- ملاحظات

على الرغم من أهمية مقاربة التحليل النفسي للإرهابيين التي يمكن أن تكون مفيدة في تقديم معلومات لاستكشاف القوى المجتمعية المعادية للحضارة، وبالرغم من عودة المؤلف إلى أصول التحليل النفسي، ولاسيما لدى فرويد التي تعبر عن تمكنه من أدوات تحليل وتفكيك الأعراض النفسية للمجذرين، وتقديم استشهادات تاريخية وآنية تغري بالقراءة، إلا أنه يمكن تسجيل جملة من الملاحظات، أساسا:

- يؤكد الباحث في أكثر من صفحة أنه يعتمد في تحليله النفسي على ملاحظاته السريرية، لكن لا يشير في الكتاب إلى عدد الحالات التي فحصها، سواء المسلمين العاديين أو المتطرفين، وفي أي سياق وأية ظروف.

- بالرغم من وجاهة تحليله، فإن القول بأن شخصية المجذرين واحدة، تفتقد إلى الدقة، فكما هو معروف في التحليل النفسي، فإن التنشئة الأولى وطرائق التربية داخل الأسرة، والوسط الاجتماعي.. تلعب دورا مهما في تكوين شخصية الفرد، وفي بعض الأمراض النفسية التي يمكن أن تصيبه، فهل جميع المجذرين تلقوا نفس التنشئة الاجتماعية، خاصة الأولى؟ وهل شخصية المجذر الذي تربى في أسرة فرنسية في مدينة فرنسية أو بلجيكية، مثلها مثل شخصية المجذر الذي تربى في صغره في الجزائر أو المغرب قبل انتقال عائلته إلى هذه الديار، أو تربى في أسرة مسلمة في الضاحية الباريسية؟

إن الباحث لا يقدم لنا أجوبة مقنعة في هذا الإطار، وأكثر من ذلك، فهو ينفي بشكل مطلق تأثير هذه المرحلة على الأمراض والعوارض النفسية التي يمكن أن تصيب الشباب المجذر، ويتجاهل تأثير التنشئة الأولية.

- كما أن المؤلف لا يقدم أجوبة شافية حول لماذا ينضم بعض الشباب إلى الجماعات المتطرفة، ويتجه آخرون إلى الانحراف والإجرام، بالرغم من أنهم يواجهون نفس التساؤلات الوجودية حول المثل العليا والحياة والموت خلال فترة المراهقة؛ فهل الانحراف والإجرام يقدم شفاء لهذيان الشباب خلال هذه لفترة مثل ما تقدمه الجماعات الإرهابية.

- إن المؤلف يعتبر الربيع العربي، وما عرفه من تجربة سياسية لبعض الحركات الإسلامية وفشلها الواقعي، يعد بمثابة مؤشر على إمكانية تجاوز المسلم الأعلى. ولكن يتجاهل تماما أن العديد من الشبان الذين شاركوا في إسقاط الأنظمة في تونس ومصر، منتمون إلى الحركات الإسلامية، ومنها المتطرفة؛ فهؤلاء الشباب الذين يفترض حسب تحليل الكاتب أنهم متشبعون بفكرة المسلم الأعلى، لم يطرحوا مشاكل كثيرة أثناء إسقاط الأنظمة السياسية، وكانوا في صف واحد مع الشباب الآخرين.

- إن العوارض الذهنية المرضية للمجذر، هل هي حتمية لكل الشباب، أم لفئة منهم؟ وما هي المحددات الأخرى التي تحدد مسارا اجتماعيا لهؤلاء أو للآخرين؟ إن الكثير من الأسئلة المشابهة تبقى قائمة ولا يقدم المؤلف بشأنها ما يقنع القارئ في هذا الإطار.

إن المقاربة النفسية تعد مهمة، وقد تكون إضافة نوعية في تحليل الإرهاب والحركات الإسلاموية المتطرفة، لكن نعتقد أن الأمر يحتاج مزيدا من الحالات والأبحاث الدقيقة والمتأنية، كما يحتاج إلى تطبيق نفس المقترب في مجال جغرافي واسع، وليس الاقتصار على بعض الحالات السريرية في مستشفى واحد في فرنسا.

[1] فتحي بن سلامة، رغبة هوجاء في التضحية. المسلم الأعلى، ترجمة الحسين سحبان، مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2019، ص.96

[2] المرجع نفسه، ص.21

[3] المرجع نفسه، ص.31

[4] نفسه.

[5] إحصائيات قدمها مركز الوقاية من الانحرافات الطائفية المرتبطة بالإسلام 2014

[6] المرجع نفسه، ص.36

[7] المرجع نفسه، ص. 42

[8] أحد قضاة قطب مكافحة التطرف في باريس.

[9] المرجع نفسه، ص.55

[10] المرجع نفسه، ص.60

[11] المرجع نفسه، ص. 127